يختلف العراقيون في موقفهم من الديمقراطية ونظرتهم المستقبلية إلى الحكم بعد صدام. فمنهم المتحمس إلى الديمقراطية إلى حد أنه يريدها أن تبدأ بعد سقوط النظام مباشرة دون المرور بالفترة الإنتقالية وإلا فانه يعتبر الحكم القادم بيد الأمريكان وما حصل هو تبديل ديكتاتورية بديكتاتورية أخرى أو حكم أجنبي. وعلى الطرف الآخر من المعادلة، هناك موقف يعادي الديمقراطية إلى حد أنه يعتقد أن مجرد ذكرها خطأ لأنها من الأفكار الأوربية المستورة، غريبة على ديننا وعاداتنا وثقافتنا وتقاليدنا العربية الإسلامية الأصيلة!!. ولو أردنا أن نكون موضوعيين ومنصفين ونأخذ ظروف بلادنا في نظر الاعتبار، فإن الحقيقة تقع في مكان ما بين هذين الموقفين المتباعدين.
مناقشتي هذه تتوجه إلى الجماعة الأولى لأنه من الصعوبة بمكان إقناع الجماعة الثانية المعادية للديمقراطية. فهؤلاء يعيشون خارج الزمن ولا توجد بيننا لغة مشتركة نتفاهم بها للوصول إلى قناعة.
بداية، أود القول إلى أن هناك مشكلة تواجه البشر عموماً ولعلها سبب سخطهم الدائم في الحياة وهي أنهم دائماً يتوقعون تحقيق أكثر من الممكن high-expectation . وهذه النزعة مفرطة عندنا نحن العراقيين، وخاصة في القضايا السياسية وبالأخص في المسألة الديمقراطية لدى أنصارها. أقول ذلك لأني أقرأ هذه الأيام ما يكتبه بعض الكتاب الأفاضل أو من خلال مناقشاتي مع بعض الأصدقاء حول الحكم بعد سقوط النظام الفاشي في العراق. فهناك من يريد تشكيل حكومة ديمقراطية منتخبة من الشعب بعد سقوط النظام مباشرة. ويريدها تماماً على غرار ديمقراطية الدول الغربية في السويد وبريطانيا مثلاً من اليوم الأول دون المرور بمرحلة انتقالية أو أي تحضير لها ودون أن يسأل نفسه: هل الظروف العراقية بعد صدام مباشرة تشبه ظروف الدول الأوربية المستقرة؟
إن القفز على المراحل يؤدي إلى السقوط والإستعجال يؤدي إلى إجهاض المشروع الديمقراطي. فالشعب العراقي لم تتوفر له الفرصة لممارسة الديمقراطية في جميع مراحل تاريخه إضافة إلى حجم الخراب الإقتصادي والبشري وتفشي الجريمة والفقر وتفتيت النسيج الإجتماعي، الإرث الثقيل الذي سيتركه النظام الفاشي البائد. فالعراق يعيش الآن حالة من الإنحطاط السياسي والذي يصاحبه عادة انهيار فكري وما قامت به السلطة كذباً بما يسمى ب"الحملة الإيمانية" في نشر الأفكار الغيبية والخرافات وتشريد المثقفين ومحاربة الفكر التنويري، مما خلق وضعاً فكرياً متردياً وانتشار الخرافة والغيبيات بين العامة. هذه المشكلة تحتاج إلى معالجة وحملة توعية مكثفة من قبل المثقفين المتنورين الذين بدورهم يحتاجون إلى حرية التعبير والتفكير والنشر والشفافية واستقلال وحرية الصحافة واستثمار كافة وسائل الإعلام لنشر الفكر التنويري والقضاء على الفكر السلفي والخرافي المتخلف.
نعم كان هناك ما يشبه نظام ديمقراطي في العراق الملكي (دستور وانتخابات وبرلمان) ولكن السلطات كانت تزيف الديمقراطية ومؤسساتها مما أعطتها سمعة سيئة ووفرت الأجواء للأحزاب السياسية باللجوء إلى العنف لإجراء التغيير. وقد بلغ الظلم في عهد صدام حسين مبلغاً لا يقبل المقارنة مع أي عهد آخر. إن شعباً عانى كل هذه المظالم وتدمير بنيته الإقتصادية والإجتماعية خلال ما يقارب أربعة عقود، ليس من السهل عليه الإنتقال إلى الديمقراطية مباشرة بعد التحرير دون المرور بفترة إنتقالية. إن هذه الفترة الإنتقالية ضرورية جداً لمعالجة التركة الثقيلة التي ترثها السلطة القادمة والتي تحتاج إلى معالجة مركزة.
ومن جهة أخرى، هناك البعض في الإدارة الأمريكية وبعض الكتاب االغربيين وأغلب الإعلاميين العرب وحتى بعض العراقيين من ذوي الميول الإستبدادية، يعتمدون على خلو تاريخ العراق من الديمقراطية وتعاقب الحكومات المستبدة، إضافة إلى تعدد مكونات الشعب الأثنية والدينية، فيتخذونها ذريعة لتبرير حرمان شعبنا من إقامة نظامه الديمقراطي والإدعاء بأن الديمقراطية غير ممكنة في العراق. لذلك يقولون أن العراق كان دائماً يحتاج إلى رجل قوي يحكمه بالقبضة الحديدية ليحافظ على وحدته الوطنية بالقوة. إن هذه النظرة لئيمة وظالمة بحق شعبنا وغير صحيحة ومرفوضة جملة وتفصيلاً.
فبالنسبة لكون الشعب لم يجرب الديمقراطية من قبل، لا يعني أنه لا يستحقها ويجب أن لا يحاول ممارستها، فالعراقيون لم ينفردوا بهذه الحالة، إذ بدأت الشعوب الغربية العريقة في الديمقراطية من الصفر وواجهوا الصعاب والمقاومة أول الأمر في تطبيقها إلى أن صارت جزءاً من تراثهم وتربيتهم وتقاليدهم. أما كون الشعب العراقي متعدد القوميات والأديان، فهذا السبب هو بحد ذاته يدعو إلى الديمقراطية وليس العكس. لأن النظام الديمقراطي هو الكفيل بحل المشاكل والخلافات وتحقيق الحقوق وتحديد الواجبات لجميع مكونات الشعب دون أي تمييز وبذلك تتحقق الوحدة الوطنية على أسس كونكريتية صلبة وليست على أرضية رملية هشة. فالحكومات المتعاقبة التي صادرت الحريات وفرضت "الوحدة الوطنية" بالقوة مزقت هذه الوحدة وأدخلت العراق في نفق مظلم من الحروب الداخلية.
الفترة الإنتقالية
الفترة الإنتقالية هي الفترة الممتدة من سقوط النظام الفاشي إلى الإنتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة الديمقراطية المنبثقة عن البرلمان. تحتاج السلطة المؤقتة في الفترة الإنتقالية أن تكون في حالة سباق مع الزمن وتركز جهودها لمعالجة الأمراض الإجتماعية والإقتصادية والبدأ بالأولويات التي لها علاقة بحياة الناس مثل تأمين الخدمات الصحية والغذائية والتعليم والتثقيف والأمن والإستقرار والتأهيل وبناء مؤسسات السلطة والإدارة وتوفير الخدمات الإجتماعية والماء والطاقة....الخ.
ويمكن في الفترة الإنتقالية، المباشرة بممارسة الديمقراطية على مستوى المجتمع المدني بإعادة بناء المنظمات المهنية والاتحادات والنقابات والبدء باختيار قياداتها عن طريق إنتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف جهات قضائية. كذلك يمكن إجراء انتخابات بلدية وإدارات محلية خلال هذه الفترة. وبذلك يمكن تحضير الناس تدريجياً لخوض الإنتخابات البرلمانية.
وخلال هذه الفترة تقوم الأحزاب والمنظمات السياسية بإعادة تنظيم تشكيلاتها والإعلان عن نفسها وبرامجها. فنتوقع أن تحصل إعادة إصطفاف القوى والتحام العديد من التنظيمات الصغيرة المتشابهة في الرؤى والأفكار لتتحد فيما بينها مكونة أحزاباً لها ثقلها. وفي نفس الوقت تقوم هذه الأحزاب بتحضير الرأي العام العراقي وتقديم برامجها السياسية و تعريف نفسها وقياداتها إلى الشعب لتتعرف الجماهير على الأحزاب ويكون هناك تصور واضح لدى الناس عن هذه الأحزاب وقياداتها وبرامجها السياسية. وبذلك يمكن حث الخطى نحو إجراء إنتخابات برلمانية عامة وتشكيل الحكومة الشرعية الديمقراطية المنتخبة في الوقت المناسب وتحت إشراف جهات دولية لتحصل الحكومة القادمة على مصداقية الشعب والعالم.
هل تكتمل الديمقراطية؟
الديمقراطية بإختصار معناها تحقيق حقوق الشعب في حكم نفسه بنفسه وتوسيع صلاحياته في الحكم. ويؤكد أحد الفلاسفة أنه يجب التعامل مع الديمقراطية كتعاملنا مع الدواء. لا تعطي جرعة عالية فوق الجرعة العلاجية وإلا تقتل المريض! وهكذا بدأت الديمقراطية بحقوق بسيطة ونمت مع نضال الجماهير وتنامي وعيها إلى أن بلغت مرحلة متطورة في الدول الغربية في الوقت الحاضر. وما بلغته الديمقراطية اليوم في هذه البلدان، ليست نهاية المطاف، بل ستتوسع هذه الحقوق بلا نهاية. بمعنى آخر، لم تلد الديمقراطية كاملة في هذه البلدان في مرحلة واحدة، بل ولدت ناقصة وأخذت تنمو مع الزمن. فالديمقراطية عملية مستمرة دون انقطاع في نيل الأفراد والمجتمع لحقوقهم. فهذه بريطانيا التي تعتبر قلعة الديمقراطية لم تنل المرأة فيها حقها في التصويت والترشيح للبرلمان إلا في العشرينات من القرن الماضي. والجدير بالذكر أن القانون الأساسي (الدستور) العراقي أقر حقوق المرأة السياسية منذ صدوره عام 1925 دون أي معارضة تذكر. لذلك لا نتوقع أي معارضة في العراق الديمقراطي ضد دخول المرأة البرلمان كتلك التي تواجهها الحركة الديمقراطية في الكويت مثلاً.
متطلبات الديمقراطية
ومن شروط نجاح الديمقراطية في مجتمع ما هو توفر روح التسامح والقبول بالتعايش السلمي مع من نختلف معهم، أي إقرار حق الإختلاف. ولكن هذا التسامح لا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها. بل يحتاج إلى درجة عالية من الوعي والتطور الإجتماعي ليبلغ الناس مستوى عالياً في قبول الآخر المختلف. وهذا يحتاج إلى وقت وحملة توعية مكثفة ومستمرة بهذا الإتجاه مع ممارسة نوع من الديمقراطية في نفس الوقت. فالديمقراطية هي من الأمور التي يتعلمها الشعب بالممارسة والتثقيف في آن واحد وليس بالتثقيف وحده, فهناك حقوق إنسانية تقرها المجتمعات المتطورة، ولكن هذه الحقوق ذاتها تعتبر غير مشروعة في مجتمعات أخرى بحيث مجرد الحديث عنها يعتبر تجاوزاً على المقدسات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قبل سنوات طالبت النائبة الإيرانية فائزة رفسنجاني ( إبنة الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني) ببعض الحقوق للمرأة في بلادها. فخرجت مظاهرات نسائية صاخبة ضدها يطالبن بطردها من البرلمان!!
وقد أصدر الزعيم عبدالكريم قاسم قانون الأحوال الشخصية الذي ساوى بموجبه بين المرأة والرجل في حقوق الإرث والشهادة في المحاكم.. فثار عليه رجال الدين وساهم هذا القانون بدرجة وأخرى في إسقاط حكومة 14 تموز وأجهضت المسيرة. في الوقت الذي نرى فيه المجتمعات الغربية بلغت مرحلة متطورة من روح التسامح إلى حد أنها تتعايش حتى مع مختلف أنواع الشذوذ طالما لا يشكل ذلك تجاوزاً على حقوق الآخرين. ولم تتحقق هذه الحقوق في هذه البلدان المتطورة إلا في وقت متأخر وذلك نتيجة لنضال الجماهير في نيل حقوقها الديمقراطية وعندها يتقدم أحد النواب بطرح مشروع قانون على البرلمان وتتم مناقشته من قبل الرأي العام في وسائل الإعلام وأخيراً في البرلمان ويتم التصويت عليه إما برفضه أو التصويت لصالحه فيصبح المشروع قانوناً دون أن تتعرض الحكومة أو أي حزب أو مسؤول إلى تهمة الزندقة أو الخروج على الأعراف والتقاليد.
ما هي علاقة كل ما تقدم بمرحلة بعد صدام؟
يكون العراق في الأشهر الأولى بلداً محتلاً من قبل القوات الأمريكية والبريطانية. وهذا واقع مفروض علينا يجب التعاطي معه بروح واقعية وتجييره لصالح شعبنا. والنظام الصدامي هو وحده المسؤول الأول والأخير عن هذا الإحتلال وليس الشعب العراقي أو معارضته الوطنية أو الحكومة التي تلي سقوط النظام. وقد أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير مراراً وتكراراً، انهم يسعون لقيام نظام ديمقراطي في عراق موحد ذو سيادة كاملة يحكمه أبناؤه والثروات النفطية هي ملك العراقيين أنفسهم وسوف تستثمر وارداتها لبناء العراق. وليس هناك أي مبرر لعدم تصديق هذه التصريحات والتأكيدات إلا من قبل أولئك المصابين بذهنية المؤامرة والكراهية المتأصلة ضد الغرب، تلك الكراهية والعقلية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.
وعليه أرى من الضروري تقدير ظروف المرحلة الصعبة التي تمر بها بلادنا والتي تحتاج إلى توحيد الصفوف والتعاون مع الدول التي ساهمت في تحرير العراق من النظام الفاشي بروح من المسؤولية العالية. وأن نترك خلافاتنا السياسية والحزبية والآيدويولوجية جانباً ونبدي حرصنا أمام العالم على مصلحة شعبنا لبناء عراق ديمقراطي موحد. وهذا يحتاج إلى وقت لمعالجة ما أوجده النظام خلال أربعة عقود من الظلم والدمار.
كذلك من المفيد التحذير من إطلاق تصريحات غير مسؤولة من قبل بعض السياسيين بأنهم سيقفون ضد الإحتلال الأمريكي و"سيحررون" العراق بطريقتهم الخاصة وقواهم الذاتية!!. إنهم بذلك يعملون على إطالة محنة شعبنا وخلق نوع جديد من الصراع الضار بيننا وبين من يريد مساعدتنا. لعلنا محظوظون أن تكون الدولة العظمى تقف إلى جانبنا لحماية بلادنا من الطامعين في ثرواتنا وسيادتنا، مستغلين الظروف الصعبة التي نمر بها. نأمل من قادتنا أن يدركوا متطلبات المرحلة ويقدروا الظروف الحالية الصعبة ويعملوا وفق فن الممكن لصالح العراق وشعبه واستخلاص الدروس والعبر من الماضي. ولغة المكابرة والعنجهية لا تخدم قضيتنا بل تدخلنا مرة أخرى في نفق مظلم آخر وقد نال شعبنا بما فيه الكفاية من المظالم. وقد آن له أن ينال حقوقه ويبدأ حياة جديدة في طريق التقدم والرفاه والإستقرار والديمقراطية بخطى متزنة ودون القفز على المراحل.
(عن صحيفة "بغداد" اللندنية)