أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - ميسون ملك - عن الأطفال ذوى اللون الأزرق















المزيد.....


عن الأطفال ذوى اللون الأزرق


ميسون ملك

الحوار المتمدن-العدد: 5781 - 2018 / 2 / 8 - 03:50
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


اتجهنا بسيارة الأمم المتحدة البيضاء العالية إلى مطار إسلام أباد الخاص. كان الفجر مايزال يشقشق والجو باردا جدا . سرنا إلى الطائرة الصغيرة ذات حمولة العشرة أشخاص لتقلنا إلى مدينة مزار الشريف في أفغانستان.

جلست في كرسي قرب النافذة أطالع إسلام أباد الغارقة في الخضرة والجبال وهي تبتعد بالتدريج وبعد قليل مررنا فوق بيشاور حيث الحدود الباكستانية الأفغانية، كانت هذه أول مرة أتوجه بها إلى مدينة مزار الشريف التي سمعت الكثير عن مسجدها الذي يعتقد الأفغانيون أنه يضم جسد الحسين بن علي . قال لي زميل إنجليزي بشماتة أن المسجد تحفة معمارية وأن آلاف الحمائم تحيا في ساحته شاهقة الاتساع لكن النساء لايمكنهن بأمر من الطالبان، الاقتراب منه وأنني لن أستطيع رؤيته من الداخل. لم أرد عليه، فلقد تعودت على التعليقات اللئيمة من بعض زملائي في الأمم المتحدة والمنظمات الأجنبية غير الحكومية. عبرنا الحدود وككل مرة أطير فيها إلى أفغانستان أشعر بالدهشة للجمال الصعب عن الوصف لذلك البلد، أم تراني سقطتُ في عشقه وفي احترام البأس الذي يظهره أهله في مواجهة الموت والفقر والحرب والظلم ولا انسانية العالم فأصبحت أراه جميلا كالحلاج يهتف بقصائد حبه لله من فوق صليبه.

قطع أفكاري صديق عزيز من الحبشة يعمل معي اسمه فكاري. جاء من مقدمة الطائرة ليقدم لي شطيرة وكاسا من القهوة. كان الرجل مثلي، ثائرا على بعض "ذوي اللون الابيض" من العاملين معنا في الامم المتحدة ومثلي كان من الخوارج على أعرافها التي لاتنتمي بصلة للمبادىء التي أسست عليها. تعبير "اللون الأبيض" تقنن في لغات العالم عندما احتلت الدول الاوربية القارات القديمة وقسمت البشر إلى صنفين: الجنس الأبيض القادم من دول الشمال والجنس " الملون" الذي يعيش في آسيا وإفريقيا. كان فكاري يكركر بصوت عال و يقول لي : على الطالبان أن يعرفوا أن اللون الأسود يكسب صاحبه روحا بيضاء وأن يسمحوا لنا بعمل شىء مفيد للناس رغم كوننا نعمل في الأمم المتحدة التي لا يثقون بها، فأرد : توقف عن عنصريتك الإفريقية ياصديقي. أنت لاتصلح للعمل في هذه المؤسسة التي تنادي، نظريا على الأقل، بالمساواة بين البشر. ثم أغمزه بعيني مداعبة وأكمل: الأرواح البيضاء لاتقتصر على الأفارقة ياصديقي ثم كيف تجرؤ أن تكلمني هكذا وأنا الأخرى بيضاء ؟ تعلو ضحكته ويرد عليّ: مهما بلغت درجة بياضك فأنت لست منهم ياصديقتي. أنت بيضاء من آسيا وقد يكون دمك اختلط بدم هندي أو إفريقي أو إندونيسي. كيف عرفتَ أن دمي العربي اختلط بدم آخر؟ أساله ضاحكة وأخبره بأن جدة جدي لأمي كانت هندية! يهتف فكاري : أهذه قصة أخرى من تأليفك ياشهرزاد العراقية؟ فأرد عليه بجية لا يارجل . هذه قصة حقيقية من تاريخي . دعني أحدثك بها.

كان لوالد جدي صديق هندي يسافر للقائه في الهند مرة في السنة ليشتري منه بضائع لبغداد والبصرة . وفي إحدى سفرياته سمع صوتا رخيما في حوش دارشريكه . سأل عن صاحبة الصوت فقيل له أنها أخت صديقه وشريكه. سقط جدي الأكبر في حب ذات الصوت الرخيم عملا بالقول العربي الشهير "والأذن تعشق قبل العين أحيانا" فطلب يدها من أخيها الذي لم يتردد بالموافقة على الزيجة.

حمل جدي، مع بضاعته، زوجته الهندية على سفينة وجاء بها إلى بغداد قبل قرن ونصف. طالما حلمت بها وأنا صغيرة: صبية هندية جميلة بضفيرة طويلة وساري بلون الفيروزتزوجت رجلا لاتتكلم لغته وجاءت من حضن أهلها الى بيت يضم أبوين وأبناءهما الثلاث وزوجاتهم واحفادهم . عندما كانت امي تحدثني عنها أشعر بحزن غريب يخيم على وأتساءل: أيّ ظلم تحملته جدتنا الهندية تلك ؟ كيف اقتلعوها من وطنها وأهلها وكل ما تعرف ونقلوها إلى بلد لاتعرف بشرا فيه غير ذلك الرجل الذي لا تتواصل معه إلا بلغة اللمس؟ وعندما سألت جدي ذات يوم إن كانت جدته الهندية سعيدة في بغداد أجابني بالإيجاب. كيف تعرف أنها كانت سعيدة ؟ سألت. ربت على رأسي وقال أن علي أن أتوقف عن الأسئلة ذات الأجوبة المستحيلة. لم يثنيني رده فعاودت سؤاله هل أحبت جدك؟ ضحك وأجابني بأن الحب بين الازواج في ذلك الزمان لم يكن مطلوبا. ثم أردف: كنا نعرف فقط نه أحب صوتها ولطالما طلب منها أن تغني لنا بالهندية التي لم نكن نفهمها وقد دللها كثيرا ولم يتزوج غيرها. هل أخذها فيما بعد لرؤية اهلها ؟ سألته. أبدا. رد عليّ وشىء مثل حزن في صوته: كانت في الخامسة عشرة عندما جاءت إلى بغداد ولم تغادرها بعد ذلك حتى توفيت.

هاهي قصة أخرى من الف ليلة وليلة ولكنها حقيقية هذه المرة. يعلق فكاري ثم يضيف وتعبيره جاد جدا: الآن أفهم من أين جاء إحساسك العالي بالظلم الواقع على النساء . هي جدتك الهندية التي نقلته لجيناتك. أرد عليه: أما يكفيني ماعرفت عن نساء العراق أثناء حصار " المجتمع الدولي " لهن ولاطفالهن لأشعر لبقية العمر بالظلم الواقع على النساء ؟

2-

أشرب قهوتي وأبدأ بالتفكير في العمل الذي ينتظرني. عليّ أن أزور مخيمين للاجئين الأفغان الهاربين من الجفاف والقتال وأن أتعرف على احتياجاتهم لمواصلة العيش لحين يقضي الله أمرا كان مفعولا. كانت هذه المرة الاولى التي أقوم بها بزيارة مخيم لللاجئين. فجأة ضربني تعبير اللاجئين الأفغان.

طوال حياتي كان تعبير اللاجئين مرتبطا باللاجئين الفلسطينيين . مامعنى أن يكون المرء لاجئا؟ لاجئا إلى ماذا وإلى أين؟ لاجئا إلى مجهول لا يعرفه ولاينتمي إليه ولاتربطه به أيما علاقة؟ تساءلت كيف تتغير كيمياء المرء عندما يقتلع مما توطن فيه وسكن إليه وعاشه ؟ وأي خوف أسود ذاك الذي يملأه عندما يجد نفسه مجردا من أي اداة للعيش إلا جسده؟ توالت علي أسئلة لم تخطر لي من قبل. كانت التداعيات المرتبطة بتعبير لاجيء في الماضي هي خيمة وطفل يحمل أكياس الاونروا وحنظلة في لوحات ناجي العلي ودموع طالما سكبناها جميعا على ضياع أرض اللبن والعسل وغضب عربي على إسرائيل أصبح جلدا ثانيا فوق جلدنا الأصلي فلم نعد نشعر به حقا. اكتشفت أنني لم أفكر من قبل بشكل عميق بفكرة اللجوء رغم كثرة ماسمعت وقرأت عن اللاجئين الفلسطينيين. خطر لي أنني أيضا لاجئة بشكل من الأشكال؛ فمنذ عشرين عاما هاجرنا إلى مصر أنا وأسرتي الصغيرة وكان علينا كل عام أن نستخرج تصريح إقامة كي نكون " لاجئيين رسميين". شعرت بارتباك شديد وخرجت من الطائرة المتجهة إلى مزار الشريف وعدت إلى بغداد. الزمن اّخر السبعينات وثمة إشارات الى أن حياة أسرتنا الصغيرة لن تكون بخير فيما يلي من أعوام. كان قرار الهجرة من العراق خنجرا في الكبد.

ضحكنا على أنفسنا وقلنا أنه قرار مؤقت وسنعود ولكن هجرتنا، كالفلسطينيين القابعين في مخيماتهم منذ ستين عاما، أصبحت الواقع الوحيد الذي نعرف. مالفرق بين اللاجئ والمهاجر؟ تساءلت. بدا لي السؤال صعبا للغاية. هل لدى المهاجر درجة للخيار أكبر من اللاجيء؟ هل لديه أدوات أكثر للعيش الكريم لأنه لا يحيا في خيمة ولا ينتظر كل شهر "صدقات المانحين الدوليين"؟ هل كنا لاجئين إلى مصر أم مهاجرين إليها؟ لا أعرف. ربما لأن القاهرة احتضنتنا بحنان لا يوصف ودلّلنا ناسُها حتى ماعادت غربتنا هاجسا يوميا. فقط في المطار أو عندما نذهب إلى مجمع التحرير لتجديد تصريح إقاماتنا أتذكر أنني لست في وطني حقا.
أيضا عندما ينهمر المطر وأشم رائحة الأرض فأعرف أنني لست في بغداد.
لارائحة لدى العراقيين مثل رائحة بغداد بعد المطر.

2-

عندما أعلن الطيار "شدوا أحزمة المقاعد فالطائرة بدأت هبوطها" عدت من بغداد والقاهرة إلى أفغانستان.

أتطلع من شباك الطائرة.. مطار مزار الشريف أصغر من مطار كابل. يأتيني فكاري ليحمل عني أمتعتي وننزل سوية من الطائرة. وفي الطريق إلى "بيت الأمم المتحدة " في مزار الشريف نعود إلى القرون الوسطى مثل كل مرة أطأ فيها أرضا أفغانية. البيوت مسورة بأسوار شاهقة والشوارع ترابية وصاخبة يملؤها رجال بلحىً وسراويلَ وعمائمَ بيضاء أو سوداء وأطفال حليقو الرؤؤس بطاقيات مطرزة يتراكضون بين باعة يقفون بجانب عربات خشبية ملونة تختلط فوقها الخضر بأدوات المطبخ والملابس والجوارب والبطاطين ودكاكين صغيرة مظلمة بعض الشىء ذات كوَى متعددة مفروشة بالسجاد والكليم؛ يتربع في مداخلها أصحابها بينها مخابز تزهو بلوحات الخبز الأفغاني المطّرز.. بالسمسم ورائحة شواء شهية ترتفع من مكان ما ثم يظهر فجاة برقع سماوي اللون يغطي تماما جسد امراة تسير بسرعة ولايبدو منها الا كف يدها وهي تمسك بيد صبي او صبية ذات شعر أشقر أو أحمر.

نصل إلى "بيت الامم المتحدة ". منزل كبير قديم البناء مزود بكل مايحتاجه فندق عصري من تسهيلات وخدمات. نعود ثانية إلى القرن العشرين. أضع حقيبتي الصغيرة في الغرفة وأخرج برفقة عمر، مرافقي وصديقي ومترجمي الأفغاني، لنتمشى في الحديقة ونناقش برنامج عملنا في الغد. المنزل محاط بحديقة هائلة الحجم هُندِست على الطريقة الإسلامية بسواقٍ للماء تلتف حول الشجر وأحواض جوري في زواياها وفي وسط الحديقة نافورة حولها جلسة من القيشاني الأزرق . نقابل بستانيا طاعنا في السن.. نحييه فيرد السلام دون أن ينظر إلينا ويواصل تقليمه لشجرة فستق عتيقة. طلبت من عمر أن يساله إن كان يعرف عمر هذه الدار رائعة الجمال فأخبرنا أن الدار قد بنيت منذ حوالي خمسين عاما وأنها كانت لتاجر قماش باعها ثم هاجر إلى أمريكا أثناء حرب " المجاهدين" . أصابني جمال المكان والسكينة التي تنبعث منه وتساءلت كيف هان على صاحبه أن يتخلى عن هذه الحديقة التي تشبه فردوسا؟ ثم تذكرت. أي سؤال سخيف هذا؟ ألم أترك ، أنا أيضا، أمي ودجلة والنخيل وبيتنا وحديقتنا. كيف هان علي ذلك؟

أسمع عمر يكرر للبستاني كلمة بغداد وهو يشير إليّ. ينزل البستاني من شجرته ويحدق في وجهي بدهشة وهو يكرر اسم بغداد. لا أفهم. يخبرني عمر أنه ذكر له أني بغدادية وأن الرجل لايصدق عينيه. يهتف البستاني بلكنة أفغانية: بغداد هرون الرشيد؟ ابتسمُ بشىء من حزن وأهزرأسي إيجابا فيقول "خدا يحفز بغداد من أمريكا! " ثم يغادر شجرته ويهرع نحو حوض ورد يقطف منه باقة جوري ويزنرها بالريحان ويقدمها لي وحنان شديد يغمر وجهه ثم يطلب من عمر أن يترجم لي أن الجوري في بغداد التي سمع عن حدائقها في ألف ليلة وليلة أجمل من هذا الورد بالتاكيد ولكنه يرجو أن أتقبل منه باقة ورده الأفغاني. تداهمني رغبة حادة في البكاء وأترجى دمعي أن يكون عصيّا فأنا لا أريد أن أفسد فرحة هذا الأفغاني العجوز بمقابلة بغدادية من عاصمة هرون الرشيد. كانت أمريكا "والمجتمع الدولي" حينذاك يحاصران الناس في وطني والأطفال يموتون بالآلاف.

أضع يدي على صدري وأحني رأسي على الطريقة الأفغانية وأقول للبستاني. " تشكر أغا".

تلك الليلة كانت رائحة الريحان والورد الجوري تملا غرفتي. وكان وجه البستاني الأفغاني وصوته وهو يهتف باسم مدينتي بزهو هو آخر مارأيته قبل أن أغفو.

3-

صباح اليوم التالي غادرنا بيت الامم المتحدة في السيارات العالية البيضاء إلى معسكر اللاجئين الذي يقع على جبل قريب من مزار الشريف. كان الطريق موحشا لا أثر لحياة فيه. دخلتنا وحشة الطريق فساد الصمت بيننا حتى بدت لنا من بعيد بنايتين قديمتين تبدو عليهما آثار قصف سابق. توقفت بنا السيارة بالقرب من مدخل البناية الأولى التي شرح عمرأنها كانت ثكنة للجيش السوفيتي يوما ما. كان بابها مفتوحا وشبابيكها مقفلة بالطابوق. توجهنا نحوها. على المدخل تجمع رجال حول رجل عجوز يبكي بحرقة. سألهم عمر عن سبب بكائه فقالوا لنا انه فقد حفيديه وأنهم يتهياؤون لدفنهما اليوم.

ندخل إلى الملجأ. الظلمة ورائحة اجساد وعرق تغرقنا وبرد قارص يدخل عظامي. يشرح عمر. الملجا لا كهرباء فيه والناس لايمتلكون مايستطيعون به شراء شموع وليس هناك في البرية حوله خشب ينفع للوقود. نلج الغرفة الأولى . الظلمة شديدة ولثوان لا أكاد أرى ثم تتضح الرؤية بالتدريج فأشهد مجموعة نساء يجلسن ملتصقات بجدران الغرفة حول جثتين صغيرتين مغطيتان ببطانية كالحة رصاصية اللون. أطلب من عمر ان يستفسر عن الأم فيشير إلى امراة تسند ظهرها للجدار. كانت كأنما ترتدي قناعا يابانيا لا أثر لتعبيرعليه. يسألها إن كان الولدان قد أصيبا بمرض فترد عليه وهي تنظر إلى الحائط أمامها لا بل توفيا من البرد والجوع.

انتقل الى الغرفة الثانية ، واذْ أدخلها أسمع الصمت العميق في المبنى . لاضجيج في هذا البناية التي تضم ثلاثين عائلة مهاجرة. تخرج بهدوء من ذاكرتي معرفة تنبئني بأن اليأس العميق قد يصيب الناس بالخرس. أواجه عائلة ثانية وصبيا في حضن أمه يرتعش بشدة . لاأسال هذه المرة إن كان الصبي مريضا فأنا ايضا أرتعش من البرد رغم معطفي الثقيل. يرفع الصبي عيناه وينظر ناحيتنا فأكتشف أن وجهه، كوجه الأم الثكلى، خال من التعبير. عند الجدار الأيمن يجلس ثلاثة أطفال وأيديهم فوق صدورهم وهم يرتعشون أيضا. يخترقني فجأة خجل شديد من ملابسي الثقيلة وأشعر برغبة عنيفة في الهرب من المكان ولكنني التفت إلى عمر وأسأله إن كان قد لاحظ أن وجوه الأطفال وأيديهم وأقدامهم زرقاء تماما.
هز عمر رأسه بالإيجاب.

خلال عملي زرت الكثير من بلدان الله. شاهدت أطفالا بيض وأطفالا سود وأطفالا سمر واطفالا يميلون غلى اللون الاصفر لكنني لم أشهد أبدا أطفالا بلون أزرق.

أنهينا زيارتنا للعنابر. خرجنا من الناحية الثانية من المعسكر فشاهدنا رجالا يجلسون أمام أحجار تحتها قليل من نار وعليها قدر نحاسي كبير. وقفت بعيدا عنهم وطلبت من عمر أن يسالهم ماذا يطبخون. سارالرجل نحوهم. وفتح غطاء القدر ليرى مابداخله ثم توجه ناحيتي وهو في غاية الشحوب. مابك ياعمر؟ هتفت. لم يرد علي. كانت شفتاه ترتعشان بشدة. احترمت صمته. سرنا إلى حيث تقف سيارة الأمم المتحدة الحديثة ذات الإطارات العالية والعلم الازرق فوجدنا حولها حوالي ثلاثين طفلا من ذوي اللون الازرق في مختلف الأعمار. كان سائقنا يتحدث معهم. نظروا إلينا وسأل أحدهم إن كنا قد جئنا لهم بطعام فأجابهم سائقنا بالنفي.

بمجرد صعودنا للسيارة سألت عمر : لماذا تتسم وجوه الأطفال باللون الأزرق. أترى لذلك علاقة بما يأكلون؟ أدار الرجل وجهه ناحية النافذة وللمرة الثانية لم يرد. وفجاة رفع هذا الصديق الأفغاني الحساس، شديد الكبرياء، يديه إلى وجهه وأجهش بالبكاء. لم ننبس بحرف، السائق وأنا. أخرج عمر منديله ومسح دموعه ثم همس بصوت مختنق: آسف جدا ماشهدت اليوم كان أسوأ ماشهدت منذ حرب المجاهدين. سكان هذا المعسكر سيموتون فردا فردا خلال أسابيع. تسألينني عن الأطفال ذوي اللون الازرق؟ ألم تشعري بالصقيع العالق في الهواء ؟ أتعرفين ماذا كان الرجال يطبخون؟ كانوا يطبخون شوربة من اشواك جمعوها من هذا المكان المقفر.

في طريق العودة كانت روحي ترتدي قناعا يابانيا. فقط كنت أرى، كما في مسرح اللا معقول وجوها وأيد وأقدام لأطفال ذوي لون ازرق وقدورا نحاسية تطبخ فيها شوربة شوك. وعندما وصلنا بيت الأمم المتحدة ودخلناه حرك الضوء والخشب الذي يحترق في المدفاة القديمة في مدخل الدار ورائحة الخبز الحارالحياة داخلي كانما كنت تحت تاثير مخدر قوي أفيق للتو منه.

تحاشيت النظر في عيني عمر وأنا أخبره أنني ذاهبة إلى غرفتي لأرتاح وأنني لن ( أصاحبه .. أرافقه )على الغداء.

4-

لم يكن مسموحا لنا، كموظفين في الامم المتحدة، التجول في المدن الأفغانية لأسباب أمنية وكان علينا الاستئذان ممن يسمونهم ضباط الأمن في المؤسسة لزيارة أي مكان. ولم نكن نستطيع التسوق، اذ ان الأسواق الافغانية آنذاك لم تكن تقدم للغرباء الا السجاد والكليم الذي لم ينقطع إنتاجهما خلال كل الحروب التي عانى منها الأفغان لأن اغلبيتها من صنع النساء . ولكل هذه الأسباب فإن معظمنا لم يكن يحمل نقودا كثيرة معه.

فتحت حقيبة يدي فوجدت فيها ثمانين دولارا. هرعت إلى غرفة فكاري وسألته كم معه من نقود. مابك...؟ يسالني. لاأرد وأكرر سؤالي. يبحث فكاري في جيب سترته. يعد نقوده. سبعين دولارا. مددت يدي وخطفت منه النقود ثم طلبت منه أن ننزل سوية إلى غرفة الطعام وبعدها ساقص عليه قصة يومي . في غرفة الطعام جلس خمسة موظفين يتناولون ماابدعته يد الطباخ الافغاني الذي كان يعمل في البيت. سأظل أذكر لبقية العمر تلك المائدة التي يتوسطها طبق الرز الكابلي بالجزر والزبيب واللوز والهال والقرفة وماء الورد. جلست مع فكاري وزملائي وأخذتهم معي إلى حكايتي عن المعسكر ثم طلبت منهم التبرع بشىء مما يحملون من نقود لأنني سأقوم غدا بزيارة ثانية للموقع ويمكنني ان أحمل بعض الأطعمة، من خلال التبرعات ، إلى سكانه.

نظر إليّ أحدهم وقال بصلافة. أولا لايحق للموظفين أن يجمعوا تبرعات لأي كان. العمل الانساني تقوم به مؤسساتنا لا الأفراد. ثانيا ماذا ستفعل تبرعاتنا لهؤلا الناس؟ ستكون مجرد قطرة في بحر . هز الجميع رؤؤسوهم موافقين وواصلوا تناول الرز الكابلي بالجزر وماء الورد والزبيب واللوز. فارقني النطق، لكن فكاري، المشاكش دائما، رد على الرجل. أيها الأخ هؤلاء بشريكادون يفارقوا الحياة الآن، ومالم ننس الإجراءات شديدة البيروقراطية لفي مؤسساتنا ونسارع بنجدة مهما كانت فانهم سيموتون فعلا. ثم ألا تدرك، باعتبارك موظفا ضليعا في القواعد الوظيفية، كم من الوقت يمضي في العادة مابين كتابة تقريرعن هذا المعسكر لحين اتخاذ قرارات بشأنه ؟ كنت أعتقد أن أيا منا إنسان قبل أن يكون موظفا غير أنني اكتشف أن بعضنا يغير أولوياته عندما ينضم الى الأمم المتحدة، ثم نهض بصخب وغادر. علق زميلنا "الأبيض" بأن فكاري من جماعة خالف تعرف ونظر ناحيتي.

غادرت غرفة الطعام دون أن أنبس بحرف فوجدت فكاري قرب المدفاة الرخامية التي يتوهج وقودها ويلقي ألوانا برتقالية عليه. بدا وجهه الوسيم غاضبا كوجه عطيل. رفع الرجل رأسه وقال لي قومي معي لنتحدى الإجراءات السقيمة لهذه البيروقراطية العريقة ونذهب إلى السوق ونشتري بما لدينا من نقود مانستطيع لتأخذينه معك غدا. نظرت إليه بدهشة وتسألت إن كان جادا فأمسك بمرفقي وقال لي دعينا نذهب الآن قبل حلول المساء وسنأخذ عمر معنا لا ليترجم لنا فقط ولكن ليدلنا، وهو الأفغاني، على سوقٍ للمواد الغذائية.

تسلل ثلاثتنا مثل لصوص. وجدنا السائق الذي أخذنا إلى المخيم في الصباح عند مدخل الدار. حدثه عمر بالأفغانية وعندما انتهى كان السائق يخرج من جيب سرواله مفاتيح سيارة الأمم المتحدة ويدعونا لركوبها. يقول لنا عمر، الذي رأيته مبتسما لأول مرة منذ الصباح بان سيد أغا سيشاركنا في جريمتنا ويأخذنا إلى السوق.

ولأول مرة منذ صباح ذلك اليوم ابتسمْتُ.
في السوق اكتشفنا أن المئة والخمسين دولاراً يمكن أن تشتري مالم نحلم به في أجمل أحلامنا! اشترينا خمسين كيسا كبيرا وطلبنا من البائع أن يضع لنا في كل كيس ثلاث كيلوات من الدقيق ومثلها من العدس ومثلها من البطاطس ومثلها من السكر والشاي إضافة إلى زجاجتي زيت. نسيت أثناء عملية الشراء والتكييس ماشهدت صباح اليوم. كنت متحمسة كطفلة نزقة وأنا أشرف على رجال أفغان أشدّاء يوزعون ما اشتريناه على الأكياس لأضمن أنها متشابهة المحتويات، وبين الحين والآخر كنت أنظربفرح نحو فكاري وعمر وسيد أغا الذين كانوا يشرحون للبائع أين ستذهب هذه " البضاعة" وأن عليه ان يحتفظ بها للصباح حيث سنمر عليه ونحن في طريقنا للمعسكر.

5-

حملنا أكياسنا صبيحة اليوم التالي وعدنا إلى المعسكر وعندما انتهينا من تسليمها لسكانه تذكرت ماقاله زميلي الأبيض عن أن مانفعله ليس إلا قطرة في بحر .فكرت. لن يكفيهم ماجلبناه لأكثر من أسبوعين. سألت عمرإن كان يعتقد أن ما فعلناه مجرد عبث؟ هذا سؤال لا أعرف الإجابة عليه ياجان . رد عليّ: نحن نعطيهم سمكة لأننا لانملك صنارة. لا المانحون الدوليون يرغبون بصرف منحهم على صنارات ولا الطالبان، ثم نظر الى المبنى وناسه بأسى عميق وأردف: أنظري إليهم. إنهم يحلمون بتناول شوربة عدس بدلاٍ عن شوربة الشوك غدا!

طوال طريق عودتنا كنت أفكر بما يمكن أن نقوم به غير كتابة تقرير عن الأحوال المعيشية لسكان المعسكروانتظار قراربيروقراطية عريقة. عدت لغرفتي وفتحت حاسوبي وصورت كتابة ،كمصور بارع، حالة سكان المعسكر ثم أضفت أسطراُ عن زملائي الذين كانوا يتناولون بشهية الرز الكابلي المطبوخ بماء الورد واللوز والزبيب وهم يؤكدون انني لااستطيع الخروج عن قواعدها شديدة الوضوح. وصفت أيضا ماذا فعلت المائة وخمسين دولارا لسكان المعسكر ثم بعثت ماكتبت بالبريد الالكتروني الى كافة العاملين معي في برنامج الأمم المتحدة في أفغانستان.
لم أدرك حينها ماذا كنت أفعل!

سرَتْ القصةُ مثلَ نارٍ في هشيم. تلقفها الزملاء الأفغان الذين كانوا يعملون معنا كموظفين محليين وأرسلوها الى كافة انحاء المعمورة وخلال يومين قامت القيامة في المركز الرئيسي للامم المتحدة في نيويورك وتوالت التليفونات من مسؤولين كبار وهم يتساءلون ماذا يفعل موظفوها في أفغانستان إذا كان اللاجئون يموتون من البرد وتناول شوربة الشوك؟ أما عندما وصلت القصة إلى الإعلام الغربي وتم نشرها، فقد انصب غضب زملائي علىّ هذه المراة القادمة من بغداد المحاصرة والتي ارتكبت جريمة "الشفافية" و كشف مالا ينبغي أن يُكشَف!
"هل تطمحين أن تصبحي الأم تيريزا العراقية ؟ " قال لي أحدهم بسخرية وأنا عائدة إلى مكتبي ذات يوم. رددت عليه بلؤم : ليتني أحوز هذا الشرف لكن الكثير من الوقت قد فات عليّ لأسير على خطاها . ثم أدرت ظهري وسرت.

خلال الأسابيع التي تلت نشر القصة انهالت علينا رسائل الكترونية وتبرعات من كل انحاء العالم. نساء ورجال وأطفال قرأوا القصة وقرروا أن يفعلوا مايستطيعون من أجل بشر يموتون من البرد والجوع.
وزّعنا التبرعات على معسكرات في أماكن أخرى في افغانستان بالإضافة إلى معسكر مزار الشريف. وذات يوم دخلت الى مكتب فكاري وابتسامة كبيرة على وجهي وبيدي رسالة من طفل أمريكي "أبيض" يذكر فيها أنه طلب من والدته أن ترسل مصروفه للأشهر الستة القادمة للأطفال ذوي اللون الأزرق في أفغانستان ويرجو ان نخصص تبرعه لشراء جوارب سميكة لهم. بعد أن أكمل فكاري قراءة الرسالة سالته: هل تصدق الآن أن الأرواح البيضاء لاتقتصر على الأفارقة والآسيويين ياصديقي؟
بعدها بأشهر انتهت فترة عملي في أفغانستان. زرت للمرة الأخيرة مدينة مزار الشريف. وأثناء تلك الزيارة وصلتني دعوة من محافظ المنطقة الطالباني لزيارته في مكتبه. كان غريبا أن أستلم مثل تلك الدعوة لكنني طلبت موافقة مسؤلي الوظيفي للقيام بها بصحبة عمر.
كان المحافظ شابا طالبانيا طويلا غاية في الوسامة رغم لحيته الكثة وعمامته السوداء . أبتسمُ في داخلي وأنا أنظرإلى عينيه الرماديتين وأفكر أن الجمال لايفرق بين الطوائف أوالأديان أو الطبقات وأن شابا طالبانيا يمكن أن يبهرني بوسامته. طلب المحافظ من عمر بأدب جم أن يخبرني أنهم ممتنون جدا لما قمنا. بدا الرجل في غاية الخجل وهو يقول ذلك. اجبته بأنني سأظل دوما أشكر الأقدار التي اتاحت لي ان أزور المعسكر 160 في مزار الشريف وأن أفغانستان جعلتني أكثر إنسانية وربما حكمة أيضا. صمت المحافظ لثوان ثم قال لعمر: أبلغ السيدة العراقية أنها مدعوة لزيارة مسجد مزار الشريف والصلاة فيه إن شاءت.

شكرت المحافظ وودعته. توجهنا مباشرة إلى المسجد. دخلت الساحة التي يملؤها شجر عريق ومئات من الحمائم البيضاء التي تلهو بساحته وفوق قبابه الزرقاء. جاءتني فجأة قباب الكاظمية وجامع الكيلاني و كربلاء. دخلت للغرفة التي تضم الضريح وجلست على سجادة حمراء أفغانية في إحدى زواياها.
ثم انهمرت دموعي. وتسلل للروح منها صفاء لم أعرفه منذ دهر.

عندما غادرتُ المسجد، كانت بعض غيوم تملأ السماء والشمس تستعد للرحيل والأشجار تلتمع والحمام يعود إلى دياره. وفي باحة المسجد كان رجال يتوضأون استعدادا لصلاة العصر. وكنت ما أزال أسْبحُ في نهر من صفاء ويغمرني يقين أن مزار الشريف ستظل تحتل غرفة في الروح، مهما حييت.



#ميسون_ملك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- دبي بأحدث صور للفيضانات مع استمرار الجهود لليوم الرابع بعد ا ...
- الكويت.. فيديو مداهمة مزرعة ماريغوانا بعملية أمنية لمكافحة ا ...
- عفو عام في عيد استقلال زيمبابوي بإطلاق سراح آلاف السجناء بين ...
- -هآرتس-: الجيش الإسرائيلي يبني موقعين استيطانيين عند ممر نتس ...
- الدفاع الصينية تؤكد أهمية الدعم المعلوماتي للجيش لتحقيق الان ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /20.04.2024/ ...
- ??مباشر: إيران تتوعد بالرد على -أقصى مستوى- إذا تصرفت إسرائي ...
- صحيفة: سياسيو حماس يفكرون في الخروج من قطر
- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...


المزيد.....

- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
- كارل ماركس: حول الهجرة / ديفد إل. ويلسون


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - ميسون ملك - عن الأطفال ذوى اللون الأزرق