صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1374 - 2005 / 11 / 10 - 10:16
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
اذكر منذ ثلاثين عاماً لقطة تلفزيونية صغيرة "للسيّد النائب" صدام حسين, حين كان يزور معملاً, اضنه كان للنسيج في بغداد, حين وقف قرب عامل عربي يسأله عن حاله وحال العمال العرب في المعمل.( أرجو أولاً ان لايفهم من مثالي هذا اي تعصب ضد العمال العرب اطلاقاً).
العامل العربي قال للسيد النائب:
- كويس, بس كان احسن.
- ليش جان احسن؟ تسائل النائب ببعض التوتر
- سيدي, صاروا يعاملونا مثل العراقيين!
لا اذكر كيف استمر الحديث لكني اذكر ان "السيد النائب" تنرفز للموقف المحرج الذي وضعه فيه العامل المصري البسيط بغير قصد طبعاً. فهنا يشتكي شخص من غير اهل البلد لأنه صار يعامل كأهل البلد!
لو حدث هذا في اوروبا, او اية بلاد لها أبسط احترام لشعبها, لقامت الدنيا ولم تقعد. لكن تلك العجيبة حدثت في بلاد العجائب فلم تثر إنتباه احد!
ففي بلاد العجائب يكون المواطن ادنى الناس, فيجب ان يبقى يشعر في داخله انه ادنى من الاخرين في الخارج وفي بلاده ايضا, لأنه ان لم يفعل, سيصبح مشاكساً ويطالب بحقوق مساوية للاخرين, وهذا مرفوض تماماً.
اشهر اجراءات الايحاء بالدونية في عراق صدام كان اجبار الاهل على دفع "ثمن رصاصات" قتيلهم الذي تعدمه الحكومة, لاعطائهم الاحساس المهين للغاية بأنهم ساهموا في قتله, وانهم رضخوا لمشيئة قاتله.
تجري هذه الأيام محاكمة روبرتو, الجندي الامريكي الذي قتل اثنين من زملائه, ويتعرض الى احتمال حكم بالاعدام. اما زميله الجندي الاخر الذي احرق بدبابته عائلة صديقي لطيف*, فمعفي من المساءلة! فروبرتو قتل امريكان, اما زميله فلم يقتل الا عراقيين!
لعل العراقي لم يشعر في بلاده خلال مئات السنين الماضية بغير ذلك الاحساس بالدونية, الا ربما لبضعة سنين لايمكن ان يكون لها تأثير طويل المدى ان وجدت. من الطبيعي اذن ان يسري الاحساس بالدونية فينا من جيل الى جيل, ويغور عميقاً الى العظام فيصعب على العقل تصحيحه! انظروا الى عراقي من عامة الناس حين يطلب منه ان يتكلم في مكان عام او امام التلفزيون. نحن نخسر في هذا الإمتحان امام جميع شعوب الارض, اغنيائها وفقرائها , متطوريها ومتوحشيها بلا استثناء!
من اكثر الممارسات انتشاراً في السجون في كل مكان, ما يعرف بـ "تليين السجين", وتتمثل بالسعي الى تحطيم روح السجناء وتثبيت احساسهم بتفاهة قيمتهم, خاصة عندما يتعلق الامر بموقف سياسي يأمل السجانون فيه اجبار السجين على تقديم معلومات يرفض تقديمها. ذلك ان رفضه يتأسس على قيمه الانسانية التي يضعها لنفسه, والتي يخجل من التنازل عنها. فأن ازيلت القيمة التي يضعها السجين لنفسه, لم يعد له مبرر لتحمل التعذيب فيتعترف.
الاحساس بالدونية يدخل عميقاً فيصبح معتاداً ولا يعود المرء يحس به. ولكي يفعل ذلك فهو بحاجة عادة الى محفز خارجي, كأن يأتي شخص من خارج المكان, او يسافر الى الخارج بنفسه, او يقرأ كتاباً قيماً.
كمثل للأول: اصطحبت إبن خالتي الذي جاء لزيارتنا الى بغداد من مدينة صغيرة الى فرن الصمون صباحاً لنشتري. وقفت سيارة شرطة امام الفرن ونزل منها شرطي واراد ان يأخذ صموناً دون ان يقف في الصف. بهت ابن خالتي واعترض, وتحول الموقف الى مشادة ووصلت الى مركز الشرطة ولم تخلص إلا بالشافعات. أبن خالتي قال لي مستغرباً ومستهجناً: يعني انتم في بغداد لاتمانعون ان يأتي احد ويأخذ دوركم؟
وكمثل للثاني: مرة كنت اداعب طفل صديقي الهولندي فاحتضنته من ظهره مقيداً يديه, فقال لي راجياً ان لا افعل ذلك لأن الطفل يشعر هكذا بالضعف وعدم الأمان!
أما بالنسبة للكتاب, فأول كاتب اثار بقوة احساسي بأننا تخلينا في اعماق انفسنا عن الاحساس بالمساواة كان الكاتب اليهودي الامريكي العظيم نعوم جومسكي. فحين سألوه ان كان قصف اميركا لافغانستان مقبولاً قال: إن كنا نعطي الحق لأنفسنا في قصف افغانستان, على اساس ان ضرب برجي التجارة جاء منها, فيجب ان نعطي الحق لنيكاراغوا في ان تقصفنا! كان جومسكي يشير الى اعمال تخريبية ضخمة في نيكاراغوا في الثمانينات, ادانت بها المحكمة الدولية الولايات المتحدة وأمرتها بدفع تعويضات, لكن الاخيرة اهملت الامر.
حين تقرأ مثل هذا الكلام, فأنك تبتسم مستغرباً قليلاً, واول ما يتبادر الى ذهنك هو أن الرجل يبالغ جداً ويغرق في المثالية, اذ يطالب بحق "نيكاراغوا" الصغيرة, بقصف "الولايات المتحدة" ذاتها! لكنك وبعد ان تبحث في ذهنك عن ما يؤيد استنكارك لمبالغته, ويبرر استغرابك مقارنته, فلا تجد اي سبب عادل لذلك, عندئذ, تشعر كم هو عميق احساسك بالدونية, وانت تضن نفسك المثقف المعتز بنفسه, الرافض للتميز والمنتبه لكل شاردة وواردة.
يكرر جومسكي مقارناته التناظرية التي لاترحم هذه في كل كتاباته واحاديثه, فأن قرأت له او استمعت له, احسست ان العدوى اصابتك, فصارت تلك المقارنات اول ما يخطر ببالك وأنت تقرأ خبراً او تصريحاً, وتحس انك امتلكت سلاحاً فتاكاً لتقييم الاحداث والانتباه الى المغالطات والتجاوزات والمراوغات التي يحاول القوي بها دائماً ان يفرض على الاضعف احساساً بالدونية, ويوحي له بأن الكيل بمكيالين امر طبيعي لايتعارض مع العدالة.
حين تم تثبيت مسوّدة الدستور, بغير رضى الكثيرين, قرأت خبراً بأن السفير زلماي كان "يطمئن العراقيين الرافضين للدستور الى امكانية تغييره!"
حين قرأت هذا قفزت خميرة جومسكي المقارنة الى رأسي وتساءلت: "ماذا لو طمأن سفير العراق في اميركا الشعب الامريكي الرافض لوثيقة ما الى ان بأمكانه تغييرها مستقبلاً؟" لاشك ان الكثير من الامريكان سيفتح فاه مستغرباً, وان الحكومة الامريكية ستوصل سعادة سفيرنا الى اقرب مصح عقلي, لأن مثل هذا التصريح ليس من اختصاص السفير اطلاقاً, لكن الحكومة العراقية لم تفتح فمها, بل ربما هزت رأسها موافقة! صحيح ان لا العراق ولا نيكاراغوا بحجم وقوة اميركا, لكن المفروض أنهما كذلك في سيادتهما وأمام القانون الدولي.
المصاب بالاحساس بالدونية يتنازل عن حقوقه بسهولة اكبر ويتهرب من مواجهة الحقائق التي تدعوه للدفاع عنها. تعلم العراقي (ربما اكثر من غيره) ان يتقبل الاهانة بالتربية, ثم بالمدرسة ثم بالخدمة العسكرية بالنسبة للبنين, ودكتاتورية الذكور في البيت بالنسبة للبنات, ثم في العمل من قبل رئيسه.
لنبدأ في الطفولة: في ورقة اعلانية في مركز طبي للاطفال في هولندا قرأت عدة نصائح للاهل أذكر منها واحدة على وجه الخصوص: تحدث للطفل عندما تخرج معه. لاتقده من يده فقط, بل اخبره عن المكان الذي ستذهبون اليه وأعط كلامه اهتماماً وجدية. أين ذلك منا في العراق وغيره؟
طفلة عراقية في مركز اللاجئين كانت في الليل تبكي خوفاً من المدرسة التي ستبدأ غداً وستذهب اليها لأول مرة في هولندا. في اليوم التالي بعد الظهر, ينتعش وجه "هدى" وهي تقول بسعادة عظيمة: "هنا ما يضربون! كل واحد يحجي وية اللاخ وما يضربون! في الايام التالية كنت ارى هدى تقف منذ الصباح الباكر في انتضار موعد المدرسة وهي تقفز مرحاً.
في المدرسة العراقية, تسيطر تريبة "فارس الصف" كما يسميها صاحبي الفنان نديم الكوفي, والتي يتقدم فيها طالب واحد على انه الممتاز, والباقي لا دور لهم الا ملئ خلفية اللوحة.
بالمقارنة مع اوروبا, فأن المتفوق فيها في المدرسة يعامل افضل قليلاً ولكن لايعطى كل تلك الاهمية ولا يكون ذلك على حساب شعور الاخرين اطلاقاً, وان ابدى ما يدل على غروره واستصغاره لرفاقه, فأنه يوقف عند حده.
ليست كل عمليات الايحاء بالدونية واضحة ومباشرة. فمثلاً الطريقة التي كان يتكلم بها الرئيس في التلفزيون, ثم صارت سياسة مقصودة شملت مذيعي الاخبار. فهؤلاء يمثلون وجه الحكومة, ولذا اوصتهم الحكومة على ما يبدوا بالصرامة والوجه القاسي المهين لمشاهده. فلست اذكر ان مذيعاً للاخبار ابتسم يوماً في تلفزيون العراق منذ الثمانينات وحتى النهاية.
الام تشبعت بالشعور بالدونية, توحي به الى ابنتها, فالشعور بالدونية يتوارث عن طريق التربية, والمدير لايفوت فرصة ليلقن درساً قاسياً لمن يتجرأ على "وضع رأسه برأسه", اي ان يساويه. فالايحاء بالتفوق للذات هو الوجه الاخر للايحاء بالدونية للمقابل.
وفي الدين نجد فكرة "العلوية" عند الشيعة, تثبت فكرة الدونية عند الغالبية العظمى من الناس. أما لدى السنة, فرغم ان الموضوع اقل انتشاراً لكنه اكثر حدة حينما يتواجد. ففي التكيات رأيت الناس يزحفون على ركبهم العارية وهم يقتربون من الشيخ ليقدموا له النقود. والمؤمنين من اليهود يصدّقون بأنهم فوق الاخرين لأنهم من "شعب الله المختار", فلا يسمح لاحد من خارج النسل اليهودي ان يصبح يهوديا, واما في المسيحية فالبابا الذي نصّب تواً خاطب الناس قائلاً بأنه يراهم "خرافاً ضالة" وأنه جاء ليرشدهم الى الطريق في الصحراء.
أما في السياسة, فالملوك والنبلاء والاغنياء اعتمدوا تماماً على الاحساس بالدونية لرعاياهم لاستمرار استغلالهم لهم, ومعظمهم راضين. وحيثما وجدت الاستعمار وجد الأيحاء بالدونية سوقاً رائجة: فيكتب كاتب في الحوار المتمدن ان مسؤولاً تركياً قال في الثلاثينات من القرن العشرين: "على الاكراد ان يرضوا بالعيش كخدم لنا", وما اقربها الى عبارة موشي ديان حين قال: "على العرب ان يرضوا بالعيش كالكلاب او ان يرحلوا."
أختتم مقالي هذا بمقارنة حادثين بينهما نصف قرن. الأولى لأخي الذي جاء الى هولندا لاجئاً فحدثنا عن مدرس في جامعة بغداد, كلية الهندسة, القسم المدني, قال لطلابه مرة, يمتدح نفسه وصعوبة اسئلته في الامتحان القادم مفتخراً, ان خيّرهم لن يحصل فيه على 30 بالمئة!
مقابل ذلك وعلى عكس تربية "فارس الصف" اذكر حادثة وقعت لي في الصف الأول الابتدائي, (كانت مدرسة العزيزية في الرمادي ان لم اكن مخطئاً) اي قبل 45 عاماً, واضن اني لا اذكر من تلك الفترة غير هذه القصة: صباح يوم فوجئنا, نحن الشطار, بالأستاذ يوسف, معلمنا, وهو يقول : يا طلاب, آني البارحة غلطت, واعطيتكم واجب المفروض ان اعطيه لكم اليوم. يعني اللي ما حالّين الواجب اليوم, هم الشطار!
سرت في الصف فرحة بين "الشطار الجدد" وشعروا بالفخر ربما لأول مرة في حياتهم المدرسية, بل راحوا يعاكسونا, نحن "الكسالى" لأننا عملنا الواجب. حاول الأستاذ يوسف بالطبع ان يوظف هذه الفرحة وهذا الاعتزاز بالنفس وافهمهم ان هذا الامر لهذا اليوم فقط, وانهم ان ارادوا ان يستمروا شطاراً فعليهم ان يحلوا الواجب مستقبلاً. لقد حاول الأستاذ يوسف ان يكسر هذا الاحساس بالدونية لدى طلابه بفكرة عبقرية ولا اعلم الى اي مدى نجح في ذلك, لكنها كانت محاولة رائعة.
استاذ أخي الجامعي كان يتلذذ بتحطيم نفسية حتى طلابه الجيدين لينتج حاقدين على المجتمع, أما استاذي يوسف فكان بلا شك يسهر مفكراً كيف يعيد الثقة حتى لطلابه الكسالى ليصنع منهم بشراً سعداء مسعدين!
*
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=20255
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟