|
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – مُقدِّمة للسلسلة.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4916 - 2015 / 9 / 5 - 14:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – مُقدِّمة للسلسلة.
قادتني متابعاتي لما يجري في مساحات الحوار الإلكترونية على أنواعها: منتديات، فيسبوك، موقع الحوار، إلى الاستنتاج أن القارئ العربي في توجُّهَيْه ِ الديني و اللاديني ما زال بعيداً عن حقيقة أصول الأديان و مرامي مؤسِّسيها الأوائل، و أنُّه يراها من خلال ِ عدَّة ِ مصافي:
- الأولى: هي مصفاة ُ الصدق و الكذب. فاللاديني يُكذِّب و يُشكِّك و يبحث عن سوء النِّية و قصد الخداع في الدين، بينما نقيضُهُ الديني لا يرى في مُعتقدِه سوى الحق و الصدق، و يُنزِّه رموزَه و شخوصه عن كلِّ نقد ٍ أو فحص ٍ. و كلا المنهجين خاطئ، لأن الانطلاق َ من حُكم ٍ مسبق على الدين بأنه: كذب ٌ و تزوير، أو حق ٌّ و عدل، هو تجاهُل ٌ أو جهل ٌ بـِ الظروف الموضوعية التي أحاطت بتأسيس ِ الأديان، و بالبيئة ِ التي احتضنتها، و بالتفاعلات النفسية و العقلية للمؤسِّسين الأوائل و تراكمات مخزونهم الثقافي و الديني و تأثيرها على هذه التفاعلات و بمُنتجاتِها.
- الثانية: مصفاة ُ الخلفيِّة الحضارية ِ و الثقافية ِ للمُتلقي، و التي من خلالها تمرُّ المعاني في القوالب ِ الفكرية ِ المألوفة ِ فتخرجُ حاملة ً لمعاني ٍ جديدة غير ِ تلك َ التي حملتها الأديان ُ عند تأسيسها، و يصحُّ أن نقول َ أن هذه القوالب َ تراكمات ٌ تطوُّرية لتمازُج ِ الأدلجة الدينية مع الممارسات الشعبية و التخصيص ِ الفردي للمُعتقدات و الطقوس نتيجة َ دمجها من قبل الفرد ِ و المؤسسة في الحياة ِ العامَّة من جهة و في الوعي ِ الفكري الحديث من جِهة ٍ أُخرى، عبر الزمن انطلاقا ً من ظهور ِ الدين و حتى عصر ِ المُتلقيِّ له.
- الثالثة: مصفاة ُ المنفعة و التعظيم، و هي أن يحكم َ الشخص ُ على الدين من خلال ِ الفائدة التي تتحقَّق ُ للأول و تعود ُ عليه من الثاني. كأن يرى اللاديني أن الشرائع و الطقوس و العبادات لا تُقدِّم ُ أي َّ قيمة ٍ ملموسة ٍ للفرد فيقودَه ُ الاستنتاج ُ إلى دونية ِ الفكر الديني، أو كأن يرى الديني ُّ أن الراحة َ النفسيَّة َ المُتحصِّلة َ من العبادات تُعينُه على متاعب ِ الحياة ِ و همومها فُيعظِّم الدين و يرى في تلك الراحة ِ دليلا ً على عُلوِّ هذا الفكر ِ و تساميه. و ترتبط ُ هذه النقطة ُ بالتي قبلها بشكل ٍ مباشر لأن القوالب َ الفكريَّة َ المُعاصرة للمتلقي سوف تكون ُ الأداة َ التي يحكمُ بها على الدين بعد َ أن مرَّ من خلال ِ مصفاة ِ المنفعة، إننا هنا أمام َ مِصفاة ٌ مُركَّبة.
- الرابعة: مِصفاة ُ المؤسَّسة ِ الدينية، و هي أن يُحكم َ على الدين من خلال الأشخاص ِ و الرموز ِ و الجماعات ِ المؤسَّسَة ِ التي تنتمي إليه. و في هذه النقطة كلام ٌ كثير، فمن جهة ٍ علينا أن نعترف َ أن هؤلاء ِ الأشخاص و تلك الجماعات تقرأ ُ نصَّها منذ ُ أن تأسَّست و تبني فهمها و ممارساتها تباعا ً له و تأسيسا ً عليه، و بالتالي فهي مصدر ٌ جيّـِد ٌ للمعلومات عن مقاصد ِ النصوص و مراميها،،،
،،، أما من جِهة ٍ أُخرى فإن تعدُّد َ هذه الجماعات و اختلافها يُشكِّكُ بقوة ٍ في كونها مصدرا ً صادِقا ً للإخبار عن المقاصد و المرامي، فمقاصِدها و رؤاها مُتعدِّدة و مُتضارِبه و مُتناقِضة على الرغم من مرجِعِها النصي الواحد مما يعني أن النصَّ لا يُفهـَم ُ إلَّا من خلال ِ القارئ، و أن سطوة َ هذا القارئ هي مصدرُ قدسية ِ النص ِّ و هيبتِه ِ و دلالاته و أبعادِه ِ و معانيه، استتباعاتِه كاملة ً،،،
،،، مما يعني بالضرورة أن فحص َ المؤسسة ِ الدينية و الجماعات ِ المُنبثقة ِ عن الدين هو فحص ٌ لمؤسِّسين فرعين أكثر َ منه فحصا ً للدِّين ِ نفسه، و هنا مكمن ُ الخطر ِ و موضِع ُ الحذر ِ و جدوى مادَّة ِ التَّأنّـِي ِ و الفرز، و مبلغ ُ إما حُسن ِ التشخيص ِ و التفكيك أو سوئهِ ، حين َ رفع ِ طبقات ِ تراكُمات ِ الفهم ِ و التَّأويل ِ و الأدلجة ِ و الموروث ِ، عن النص، و الذين أتت بهم المؤسَّسات ُ و الجماعات، دون َ إهمال ٍ لهم أبدا ً، فهم في النهاية ِ أبناء ٌ لنصوصِهم شارحون َ لها، و يكون هذا بوضعِ النصِّ و شارحِه ِ و مؤسستِه ِ، و بيئته الحضارية و الثقافية و المعرفية مع الأبعاد ِ النفسية للمؤسسين الأوائل ِ الأصول ِ و ظروفهم الحياتية الاجتماعية و النفسية ِ و السياسية في ميزان ٍ له ُ كفَّات ٌ كثيرة لا كفَّتان ِ فقط، لتتوازن َ العوامل ُ المؤثِّرة بحسب ِ ما يجب ُ لِكُل ٍّ منها.
و لقد وصلنا في هذه ِ المُقدِّمة ِ المُوجزة إلى السؤال ِ الأهم: ما شأن ُ كل ِّ هذا في الفكر الأبوكاليبتي؟ و سيكون ُ الجواب أن المسيحية َ نشأت كمذهَب ٍ يهوديٍّ بحت، لم يكن يهدف ُ إلى الانفصال ِ عن الدين الأم، لكنَّه ُ كان مذهبا ً خاصَّا ً يرى أن العالم و من فيه قد أصبح َ في قبضة ِ قِوى الشر، و أن هذه القِوى ستنمو و تكبر ُ و تسيطِر ُ حتى تبلغ َ ذروة َ قوَّتها، و أنه لا يمكن ُ إيقافُها بأي ِّ فعل ِ أرضيٍّ كان، و لذلك فسيكون ُ انقلابُها و دمارُها فعلا ً إلهيَّا ً بحتا ً، و هذا الفعل ُ لا محالة َ قادم، بل إنَّه ُ مُتحقِّـق ٌ و حاصل ٌ في حياة ِ المؤسِّسين أنفسِهم كما توقعوا و خيَّب َ التاريخ ُ توقعاتِهم.
سأتصدى في هذه السلسلة لتقديم ِ المسيحية من خلال ِ تحليل ِ نصوصها في العهد ِ الجديد، بعد َ أن أعود َ بكِم من رحلة ٍ معكم إلى العهد القديم ِ الذي بُنيت عليه ِ النصوص ُ الجديدة، حتى أُثبت َ لكم ما ذهبت ُ إليه ِ من زعم ٍ سابق عن ماهية المسيحية ِ و منشئِها ومقصد ِ مؤسِّسيها و أهدافِهم، فاحصا ً التعاليم َ الأخلاقية َ الموجودة َ فيها وواضعا ً إياها في الإطار ِ الذي أراد مؤسِّسوها أن تكون فيه، ثم سنرى سويِّا ً الإطار الأخلاقي َّ المُعاصِر َ لها كيف تمت َ عملية ُ إعادة ِ تسيـِـقـِـهِ (أي وضعُهُ في سياق ٍ جديد)، و كيف يخدمُ هذا السياق ُ الجديد البُعد الإنساني و يتَّفِق ُ مع الثقافة ِ السلامية ِ للعلمانية في أكثر ِ المواضع و يُؤسِّس ُ بشكل ٍ جلي ٍّ لقبول ِ بذور ِ الفكر اللاديني الإنساني الجامع، كيف َ يفترق ُ عن هذا الفكر ِ في مواضِع َ أخرى، و بهذا نفهم ُ المسيحية َ حقَّا ً، بتجرُّد ِ الباحث و حيادِه.
و عليه أقدِّم ُ للقارئات ِ و القرَّاء ِ الكرام هذا التبويب َ البسيط، و الإطار َ العام و الخطوط َ العريضة لمحتويات ِ هذه السلسلة ِ:
- ما معنى الأبوكاليبتية. - ما هي ركائز ُ الأبوكاليبتية. - كيف نشأت الأبوكاليبتية و من هم أبرز ُ رموزِها في العهد القديم. - المناخ الفكري و السياسي الذي احتضن َ مؤسسي المسيحية الأوائل. - الدعوة الأبوكاليبتية لمؤسِّس المسيحية الأول: يسوع الناصري. - أثر الصَّـلب على تطور الفكر الديني عند تلاميذ يسوع. - بولس أبوكاليبتيا ً. - أثر الفكر البولسي على إحداث القطيعة مع اليهودية. - تطوُّر الفكر المسيحي الأبوكاليبتي بعد موت بولس من الأبوكاليبتية الأفقية إلى العامودية. - الأثر الكارثي لحقن ِ الفكر المسيحي في السياسة و إدارة الدولة في عهد قسطنطين و بعده. - إجبار الكنيسة على العودة إلى أصولها الأولى. - المسيحية المُعاصرة و إعادة تسيــِق الأخلاق الأبوكاليبتية اليسوعية. - مواضع: التقاء الأخلاق المسيحية المعاصرة مع، و افتراقُها عن، الفكر الإنساني. - المسيحية كأحد جذور الفكر العلماني الغربي.
أرجو اعتبار هذه المقدِّمة دعوة للقارئات و القراء الكرام لتقديم مقترحاتِهم عن التبويب و المحتوى، قبل أن أبدأ بتقديم السلسلة.
مع التقدير الوافر.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بوح في جدليات – 13 – لوسيفر.
-
قراءة من سفر التطور – 6 – من ال 1 إلى ال 3.
-
بوح في جدليات – 12 – عصفور ماريَّا.
-
قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.
-
قراءة في الوجود – 4 – بين وعي المادة و هدفها.
-
بوح في جدليات – 11 – في مديح ِ عشتار - نحن ُ الإنسان!ّ
-
قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند ا
...
-
بوح في جدليات – 10 – ثلاثة ُ أيام ٍ بعد.
-
قراءة في اللادينية – 5 – جذورُ: الإحيائية، الطوطم و التابو ف
...
-
قراءة من سفر التطور – 5 – من ال 24 إلى ال 23
-
قراءة من سفر التطور – 4 – من ال SIV إلى ال HIV
-
المرأة الفلسطينية – بين الأمومة و السياسة.
-
بوح في جدليات - 9 - ديك أسكليبيوس.
-
عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.
-
عمَّا بين النقد المُنفلت و نجاعة التأثير - 2
-
الفيلا في وسط الغابة –الياكيم، باراك، أوباما و التاريخ.
-
في نجوى معاذ
-
عمَّا بين النقد المُنفلت و نجاعة التأثير.
-
قراءة في القداسة - 3 - عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
-
ذات َ كأس ِ قهوة - 2
المزيد.....
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|