أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)















المزيد.....


السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3621 - 2012 / 1 / 28 - 20:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



من أكبر وأهم وأخطر القضايا التي تمثل جدلا واسعا في الساحة الفكرية الإسلامية وتصيب أول ما تصيب قلب هذا الدين نفسه هي قضية ما يسمى (السنة) أو ما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من أحاديث ومرويات خارج القرآن الكريم.

هذه القضية الهامة والخطيرة التي لم يستطع مذهب من المذاهب ولا فرقة من الفرق ولا تيار من التيارات الدينية المنتسبة إلى الإسلام حسم (مشروعيتها، وصدقيتها، وثبوتها) منذ العقود الأولى للإسلام وحتى هذه اللحظة، ولا زالت الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام تشكل عائقا كبيرا في توحيد صفوف المسلمين الفكرية والمذهبية والفقهية على مدار التاريخ الإسلامي كله وحتى هذه اللحظة.

فقد عمل الخلاف حول (شرعية وضبط وصدق وثبوت) الأحاديث المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام على تمزيق الصف الإسلامي منذ قرون طويلة، فتفرق المسلمون خلافا فيها وعليها إلى مئات الفرق والطوائف، وما زالوا حتى هذه اللحظة، فلم تستطع فرقة من الفرق أو طائفة من الطوائف أن تنجو من عثرات ومآزق فكرية كبيرة وخطيرة بسبب عدم الاتفاق على (شرعية وضبط وصدق وثبوت) الأحاديث ومدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالقرآن الكريم.

فبعض الفرق اشترطت لصحة هذه الأحاديث أن يكون السند الناقل لهذه الأحاديث صحيحا، كفرقتي (السنة والشيعة) مع اشتراط (الشيعة) اتصال السند بأهل بيت النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهم: (علي بن أبي طالب، وزوجه فاطمة بنت رسول الله، وابنيهما الحسن والحسين، وبقية الأئمة من ذرية الحسين بن علي) وأتباع الأئمة من المحدثين والفقهاء، وانقسمت الفرقتان إلى مذاهب عدة كل مذهب اشترط شروطا مغايرة للمذهب الآخر في قبول بعض الأحاديث ورفض البعض الآخر، حيث أوقفت جميع المذاهب صحة الحديث من عدم صحته على معايير محددة للثقة في إيمان وضبط وعدالة وأمانة جميع رجال الإسناد، إلا أن كلا من السنة والشيعة اختلفا حول تلك المعايير، وهي: (الثقة، والإيمان، والضبط، والصدق، والعدالة) في راوي الحديث، فالسنة مثلا لا يقبلون بحديث يوجد في سنده رجل ينتمي للمذهب (الشيعي، أو المعتزلي، أو الجهمي، أو القدري)، أو أي مذهب آخر غير مذهب (أهل السنة والجماعة)، ويعتبرونه غير موثوق به لانتمائه لفرقة ضالة مبتدعة _على حد قولهم_، وكذلك الشيعة يفعلون، فهم يعتبرون أن أي رجل من رجال الإسناد ينتمي إلى مذهب السنة هو (ناصبي)، أي من النواصب الذين ناصبوا العداء لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. حتى أصبحت صحة وسلامة السند فقط وفق معايير الطائفتين هو الأساس والأصل لقبول الحديث أو رفضه، دون الالتفات إلى متن الحديث أو نصه، ومدى ارتباط هذا المتن أو ذلك النص بالقرآن الكريم أو عدم ارتباطه به، وهكذا ظل الوضع حتى يومنا هذا.

ثم ظهرت في العقود الأخيرة دعوات من قبل بعض أدعياء (الحداثة والتنوير) الذين تأثروا وابتلعوا (الفكر الفلسفي والثقافي الغربي)، وعَلُقَ بأمعائهم فلم يستطيعوا أن يتقيؤه وما استطاعوا له هضما، من الذين نادوا بتنقية التراث الحديثي والفقهي والتاريخي، ونادوا باستبعاد الأحاديث والموضوعات والمسائل الفقهية واعتبروا أنها لا تتفق مع (الواقع والعقل والمنطق)، -على حد قولهم- دون أن يخبرونا باتفاق الأحاديث مع: (واقع من؟، وعقل من؟، ومنطق من؟)، وطالبوا باعتبار كل هذا تراثا تاريخيا له ما له وعليه ما عليه، وأن الزمان قد تغير والأوضاع قد تبدلت، فما كان يصلح للماضي لم يعد يصلح للحاضر، ولم تكن دعوتهم تلك مصوبة تجاه كتب (الأحاديث، والتراث، والتاريخ) فحسب، بل انسحبت تلك الدعوة كذلك إلى نصوص (القرآن الكريم) كذلك بدعوى أن (القرآن الكريم) به الكثير من النصوص التي تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة الآن للتطبيق أو للعمل بها، وفق فهمهم هم لتلك النصوص.

ثم ظهر في السنوات القليلة الماضية فكر من يسمون بـ (القرآنيين)، والقرآنيون كما يعلم كثيرون ليسوا سواء، فهم فرق ومجموعات شتى متباينة وشيع متناثرة، لا تكاد تجد شخصين اثنين من بين المنتمين لأفكار القرآنيين سواء من مفكريهم أو من تابعي أفكارهم على اختلافهم وتنوعهم وتباينهم يتفقا على حكم واحد أو مسألة واحدة أو مدلول واحد أو فهم واحد لآية واحدة من آيات القرآن الكريم، بالضبط كما هي الحال في مذاهب فرقتي السنة والشيعة، وينطبق عليهم بالضبط المثل العربي: (وداوتني بالتي كانت هي الداء)، وكل منهم يدعي أنه معه الحق ومن سواه فهو الباطل، وكل حزب بما لديهم فرحون.

ومن أشهر وأبرز الأسماء في الإعلام وعلى شبكة (الإنترنت) من رموز الفكر القرآني: (رشاد خليفة، بن نور صالح، أحمد صبحي منصور، محمد شحرور، نيازي عز الدين، سمير خليل إبراهيم حسن، إبراهيم بن نبي، عبد الفتاح عساكر، عدنان الرفاعي، جمال البنا، أحمد ماهر)، وفي رأيي ومن خلال متابعاتي وقراءاتي لكتابات (القرآنيين) وأفكارهم المختلفة منذ عام 1995م رأيت أن القرآنيين وجل المنتسبين والمناصرين والتابعين لهم هم إما من حَسَنِي النية بقصد الدفاع عن الإسلام في مواجهة الهجمة الشرسة التي تستهدف الإسلام نفسه كدين في كتابات المستشرقين والملحدين _وفيما بعد_ في القنوات والمواقع النصرانية والإلحادية التي تهاجم الإسلام بشراسة وتنتقده بضراوة، وإما من المتألمين من سياط القنوات والمواقع النصرانية والإلحادية التي تهاجم الإسلام بشراسة وتنتقده بضراوة، حيث تستخدم هذه الكتابات وتلك المواقع والقنوات كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام، ومحاكمتها وإظهارها في صورة فجة مسيئة وكأن هذه الأحاديث تصادم (الإنسانية والعقل والمنطق والحق والأخلاق)، على حد زعمهم ووفق قراءتهم وعلى حد فهمهم هم لنصوص هذه الأحاديث.

فهؤلاء وأولئك حين اشتدت عليهم سياط النقد الموجه إلى الإسلام ورسوله وقرآنه وتراثه ورجاله الأوائل في تلك المواقع، ولم يتمكنوا من مواجهتها أو الرد عليها أو تفنيدها أو إعادة قراءتها وفهمها من جديد بشكل علمي موضوعي جاد ونزيه، وكانت سببا في إيلامهم مما شاهدوه وقرءوه في تلك المواقع. لم يجدوا لهم مهربا ولا ملجئا ولا ملاذا سوى (فكر القرآنيين)، الذي تبرأ فيه أصحابه وأنكروا فيه ما ورد في التاريخ الإسلامي كله منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وحتى عصرنا الحالي، وتبرءوا وأنكروا فيه كل ما نُسِب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال مما ورد فيما يسمى بـ (كتب السنة والتراث) وغسلوا أيديهم منه تماما، حيث رأوا أن كثيرا مما جاء فيه يتصادم مع القرآن الكريم ويسيء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته ويسيء إلى الدين الإسلامي بشكل عام.

فوجدوا أن أفضل وسيلة للدفاع في مواجهة هذه الهجمة الضارية الشرسة هي الهروب والتبرؤ والإنكار والاستسلام بشكل فج ومقيت لنظرية المؤامرة (اللعينة)، تلك النظرية الشيطانية التي تسيطر على عقول وتفكير الأمة حتى أصابتها بالصرع والهوس والجنون، تلك النظرية الإبليسية التي يقول معتنقوها والمهووسون بها أن هناك (أصابع خفيفة) و(أجندات) (يهودية نصرانية إسرائيلية كتابية سبأية بابلية جهنمية) قامت بعد وفاة الرسول بالتآمر على الإسلام، وقامت بدس وتزييف وتزوير وتلفيق واختلاق واختراع كل كتب التراث الإسلامي من (سيرة، وتفاسير، وكتب أحاديث، وكتب تاريخية)، إلا أن الشيء الوحيد في نظر هؤلاء الذي أفلت ولم تطله هذه الأصابع والأجندات وتلك المؤامرة اللعينة (إياها) هو (القرآن الكريم)، فلماذا (القرآن الكريم) بمفرده هو الشيء الوحيد الذي نجا من كل هذا التآمر والتواطؤ التاريخي الأممي العالمي الشيطاني الجهنمي الخفي المندس ولم يلحقه التزوير والدس والتلفيق والاختراق والتزييف كما حدث لبقية التراث الإسلامي؟؟، سرعان ما سيجيبنا هؤلاء بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). هكذا سيكون ردهم.
وعلى أية حال سيكون لنا وقفة متأنية في الفصول القادمة مع هذه الآية ومناقشتها في ضوء استشهاد القرآنيين بها لإثبات نظرية المؤامرة اللعينة (إياها) على التاريخ والتراث الإسلامي كله ما عدا (القرآن الكريم).

فالقرآنيون بكل تجمعاتهم وأفرادهم آثروا (السكينة وراحة البال) فقاموا بإنكار كل ما نسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أحاديث ومرويات، بحجة أنها مكذوبة على الرسول ومدسوسة عليه، وأنها من الإسرائيليات التي دسها وافتراها أهل الكتاب من اليهود والنصارى على الرسول لتشويه الإسلام وتشويه رسالته ودينه ورجاله، وقالوا لا دين ولا شريعة سوى ما جاء به القرآن الكريم، فكانت نظرتهم إلى الأحاديث نظرة مغايرة لكل من سبقهم، فقد أتي القرآنيون ومن سار على نهجهم بنيان الحديث من قواعده، ولم يقبلوا منه حلوه أو مره صحيحه أو سقيمه، ولم يبقوا منه على شاردة ولم يذروا فيه واردة، وأعدوا كل ما نسب إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال، هي محض اختلاق وكذب وتدليس عليه، واعتبروا أن الدين والشريعة هو ما جاء فقط بين دفتي المصحف، وكل ما عداه فهو باطل وشرع من عند الناس وأديان أرضية مختلقة ما أنزل الله بها من سلطان، بل والمدهش في الأمر أنهم اعتبروا كل من استقى حكما دينيا أو فقهيا من الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام اعتبروا عمله بمثابة من أشرك بالله في الاتباع أو التشريع أو طاعة غير الله، على اعتبار أنه يتبع دينا وتشريعا من دون الله.

وكل تيار من هذه التيارات سواء كان شيعيا أو سنيا أو قرآنيا لم يخل من مآزق فكرية لم يستطع إيجاد حل لها أو الفكاك منها حتى هذه اللحظة، فالتيار السني والتيار الشيعي حين اشترطا صحة السند فقط لنسبة الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أوقعهما ذلك في الكثير من المآزق الفكرية، منها على سبيل المثال ما يراه منتقدوهم تعارض كثير من الأحاديث معارضة صريحة للقرآن الكريم، وتعارض الروايات كذلك وتناقضها مع بعضها البعض، ناهيك عن كثير من الروايات التي يراها البعض تتعارض مع العقل والمنطق السليم كما يراها منتقدوهم هكذا. مما حدا بالفقهاء في التيارين على مر العصور للقيام بمحاولات دائبة للتوفيق بين القرآن والأحاديث من جهة، وبين الأحاديث والأخرى المتعارضة من جهة أخرى ولكن دون جدوى.

أما التيار القرآني وكل من دار في فلكه من مجموعات أو أفراد فلم ينج هو الآخر من مآزق فكرية كبيرة أوقعته في كثير من الحرج، وذلك حين رفض وأنكر وكذب كل ما نسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أحاديث دون استثناء، ومن أكبر وأخطر المآزق الفكرية التي وقع فيها التيار القرآني كانت فريضة الصلاة وغيرها من العبادات والنسك وكثير من الأحكام والتشريعات والحدود، فالصلاة كما يعلم القاصي والداني بهيئتها الحالية وعددها وعدد ركعاتها وأوقاتها وكيفيتها وهيئتها وصفة ركوعها وسجودها وما يقال فيها من تلاوة قرآن وترديد أذكار وتسابيح وغيرها لم يرد بها نص واحد في القرآن الكريم، مما أوقع القوم في مآزق لم يستطيعوا الفكاك منها، مما حدا بهم إلى اللجوء مرة أخرى ليس إلى الأحاديث لرتق هذا الخرق الكبير، بل عادوا إلى التوارث والقول إما بالتواتر العملي والانتشار وفعل أهل مكة وما توارثوه من ملة إبراهيم لإثبات صحة الصلاة بهيئتها وكيفيتها الحالية، مع أنهم يقررون في أدبياتهم أنه لا دين ولا شرع على الإطلاق إلا ما ورد في القرآن الكريم فحسب، لأن مصادر التراث جميعها سواء أحاديث أو تواتر قولي أو عملي أو ما توارثه أهل مكة من ملة إبراهيم وغيرها وفق منهاج وفكر القرآنيين هي مصادر ظنية بشرية أرضية جاءت بها أديان أرضية مبتدعة _على حد زعمهم_ مما يتناقض مع ما ذهبوا إليه وقرروه في أدبياتهم.

وهذا المأزق الذي وقع فيه القرآنيون حدا بالبعض الآخر من القرآنيين إلى القول بأن الصلوات هي ثلاثة فروض فقط، وهي ما ورد ذكرها أو الإشارة إليها في القرآن الكريم (الفجر، المغرب، العشاء) وقالوا إن صلاتي (الظهر، والعصر) مكذوبتان، وقد وقع هؤلاء في مآزق أيضا وهي كيفية الصلوات الثلاث وما يقال فيهما وهيئة السجود والركوع والقيام، وهل يقرأ فيها القرآن أم لا؟. وخرج علينا تيار قرآني ثالث أنكر جميع الصلوات بالهيئة الحالية والتي تعارف الناس عليها منذ قرون طويلة وادعى أنها شيء آخر سوى ما يفعله الناس اليوم، ولسنا في هذه الدراسة معنيين بمناقشة موضوع الصلاة وكيفياتها وهيئتها وهل هناك صلاة أم لا؟، إنما الذي يعنينا في المقام الأول هو هل هناك وحي في غير القرآن الكريم، وبالتحديد في الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام تحوي دينا وشرعا أوحى الله به إلى النبي محمد وأمر بتبليغه للناس أم لا؟.

ولا تزال قضية حجية السنة محل صراع وجدل دائم ومستمر بين التيارات الدينية المختلفة من جهة وبين بعض التيارات الأخرى التي تنكر حجية السنة من جهة أخرى، والملفت في الأمر أن أحدا من الطرفين لم يستطع إثبات رأيه بحجة قوية وبراهين دامغة، وكل ما قام طرف بتقديم براهين وأدلة في إثبات مذهبه ودحض براهين وأدلة مخالفه قام الطرف الآخر بدحض ما قام خصمه بتقديمه من حجج وبراهين، وهكذا دون الوصول إلى كلمة سواء في هذه القضية الهامة والخطيرة وذات الحساسية المفرطة لدى عموم المسلمين.

وفي هذه الدراسة أقوم بمناقشة آراء كلا التيارين المختلفين المثبت للسنة والمنكر لها ومحاولة الوصول إلى قول فصل في هذا الموضوع، حيث قمت بتوضيح ومناقشة وتحليل وجهتي النظر المختلفتين وتبيين أدلة وبراهين كلا الطرفين ثم محاولة الوصول إلى كلمة سواء، لحسم هذا الجدل حول هذا الموضوع، وقد اعتمدت في دراستي على نصوص القرآن الكريم التي يستند إليها كلا الخصمين في إثبات رأيه وما ذهب إليه في هذه القضية الخطيرة.

وما أريد قوله هنا قبل تناول بقية الفصول أن هذا الموضوع قضية إثبات حجية السنة أو دحضها أصبحت مادة خصبة للمزايدة والتداول الإعلامي في معظم وسائل الإعلام وذلك لجذب وجلب أكبر عدد من الجمهور وجذب وجلب أكبر عدد من الإعلانات التجارية، فقد عودنا القائمون على وسائل الإعلام كل فترة من الزمن أنهم يقومون بإثارة عاصفة من الهياج والثورة والتنابذ والحروب الإعلامية والحوارات والمناظرات حول حجية السنة وهل هي مصدر للتشريع الديني ووحي من الله كالقرآن الكريم أم لا؟؟، وهل هي محض افتراءات وأكاذيب ومدسوسات تم دسها عبر العصور الإسلامية المختلفة وتم نسبتها زورا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟؟، ومما لا يخفى على أحد أن الرابح الوحيد في هذه الحرب المستعرة هم القائمون على وسائل الإعلام، ومما لا يخفى على أحد أن الخاسر الوحيد في هذه الحرب المستعرة هم البسطاء من الناس الذين تذهب معتقداتهم وقناعاتهم الدينية قربانا لتلك الحرب التي تندلع من حين لآخر. أما الطرفان المختصمان في هذه القضية المؤيد لها والمعارض فلم يربح ولم يخسر أي منهما، وذلك لأنه لم يتم حسم هذه القضية بطريقة علمية منهجية سليمة للوصول إلى كلمة سواء فيها، وبعد كل زوبعة تهدأ العاصفة شيئا فشيئا حتى تخفت تماما على أن تعاود الهبوب من جديد ثم تنتهي إلى لا شيء وهكذا دواليك.

والملفت للنظر كذلك في هذه القضية أن المعالجة الإعلامية لم تكن أبدا غايتها الوصول لحقيقة ما حول هذه القضية بقدر ما كانت دوما غايتها الإثارة وإشاعة الفوضى الفكرية وشغل الناس وإلهائهم عن مشاغلهم الحياتية ومشاكلهم اليومية كما هي عادة الإعلام المصري (المنحط) في معالجة كثير من القضايا المشابهة. وعلى الجانب الآخر كذلك وجد دعاة الإعلام الديني في هذه القضية مادة دسمة للترويج لأفكارهم من خلالها، فالثورة التي يقودها دعاة الإعلام الديني على منكري السنة هي في الأساس ثورة للحفاظ على ثبات أفكارهم واستمرارها فهم يرون في الدعوة إلى إنكار السنة دعوة إلى هدم مناهجهم وأفكارهم ودعواتهم، لأن أفكارهم وعقائدهم ومناهجهم ودعواتهم تقوم في الأساس على السنة فلو تم هدم السنة وإنكارها وتم إثبات ذلك والبرهنة عليه لأغلقت في وجوههم كل أبواب الرزق التي يرتزق منها دعاة الإعلام الديني جميعهم، فالحفاظ على السنة والدفاع عنها من قبل دعاة الإعلام الديني هي مسألة وجود أو فناء مسألة حياة أو موت مسألة أكون أو لا أكون، وأكاد أجزم أن ما يثير حفيظة دعاة الإعلام الديني وما يجعلهم في هذه الثورة المستعرة ضد كل من يحاول توجيه أي نقد للسنة هو عدم قدرة دعاة الإعلام الديني على ضبط أدلتهم وبراهينهم ضبطا علميا سليما يستطيعون من خلاله رد ودحض حجج وبراهين منكري السنة، فلذلك يثورون ويستنفرون كل أسلحتهم المشروعة وغير المشروعة للدفاع عن سبب وجودهم وبقائهم، وكذلك أكاد أجزم أن منكري السنة لم يستطيعوا ضبط براهينهم وحججهم في إنكار السنة ضبطا علميا سليما، والأمر في نهاية المطاف يعود للعصبية والطائفية والأهواء والمزايدة والمتاجرة بأي شيء، حتى ولو كانت السلعة المعروضة في هذا المزاد هي الدين.

وهكذا لم يقدم أي تيار إسلامي منذ قرون طويلة وحتى يومنا هذا حلولا عملية علمية موضوعية ممنهجة مقنعة ومشبعة على صواب ما ذهب إليه حول قبوله أو رفضه لما نسب إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام من أحاديث ومرويات، ومن هنا رأيت أن أكتب في هذا الموضوع كمحاولة متواضعة مني إضافة إلى المحاولات الكثيرة التي سبقتني والتي ستأتي فيما بعد لنقاش هذه القضية، وكمساهمة للتوصل إلى حلول عملية علمية موضوعية قد تلقى قبولا واستحسانا لدى بعض الناس، وقد تجد رفضا وردا لدى آخرين في هذه القضية الخطيرة والهامة والذي تمس أول ما تمس أساس وصلب ووجود هذا الدين ذاته.

فمن هنا رأيت أن الموضوع خطير جدا وهام جدا وليس بهذا التبسيط الذي يتناوله به البعض، فعدم حسم هذا الموضوع بطرق علمية موضوعية، سيجعل الأمر يتمدد إلى أن يأت الدور على القرآن نفسه والإسلام كدين، وأنا هنا لا أقول بخطأ البعض وصواب البعض الآخر، وإنما أعرض الموضوع للمناقشة العلمية الموضوعية الجادة بعيدا عن التمذهب وبعيدا الانتصار لتيار على حساب الآخر وبعيدا عن التكلف والرجم بالغيب. وإن من أشد الأمور خطرا على مستقبل هذا الدين ومستقبل هذه الأمة عدم حسم مثل تلك القضايا الهامة والخطيرة، والأخطر من هذا كله وقف مثل تلك القضايا على آراء مذهب بعينه أو جماعة بعينها أو شخص بعينه.

فمن خلال متابعاتي لهذه القضية رأيت أن كل من تناول هذه القضية قد تناولها من المحاور التالية:
_ صحة سند الحديث (عدالة راوي الحديث).
_ اتفاق الحديث أو اختلافه مع القرآن.
_ تجاوز الحديث واعتبار القرآن فقط هو الدين والشريعة.
_ تجاوز الأحاديث التي لا تتفق مع العقل والمنطق والتطور المجتمعي.

وعلى حد علمي ومن خلال متابعاتي لم أعثر على أي تيار أو مذهب يخرج عن هذه المسائل الأربعة، وعلى حد علمي كذلك رأيت أن هناك بعض المسائل الأساسية التي لم يتطرق لها أحد من قبل بالدراسة والبحث والنظر والتفكر حول ما نسب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام من أحاديث، ورأيت أن أعرضها في هذه الدراسة علها تلقى اهتماما من البعض لإعادة النظر فيما يعتقدون، وبرأيي الشخصي إن حسم مثل هذه المسائل لن يكون إلا بالبحث الجاد والدراسة الموضوعية العلمية المحايدة، وهذا قد يوصلنا في نهاية المطاف إلى حلول علمية عملية موضوعية حول هذا الأمر الهام والكبير والخطير.

في الفصول القادمة من هذه الدراسة سوف أتناول فيها ما أحدثه الاختلاف حول قضية شرعية (السنة) من نزاع وخلاف واختلاف وتفرق وتشرذم بين عموم المسلمين على مدار قرون الإسلام جميعها، وكيف أن هذه القضية قد ساهمت بشكل كبير في تمزيق المسلمين إلى شيع وفرق وأحزاب متنابزة ومتناحرة، وكذلك سوف أعرض أثر هذا الاختلاف على واقع المسلمين الحالي، وسوف أتناول فكر القرآنيين بالنقد والتحليل والمناقشة ومحاولة البحث في الجذور التاريخية لنشأة هذا الفكر ومنبعه ومن أين أتى؟ وكيف انبثق وتطور تاريخيا إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن في عصرنا الحالي، وكذلك سوف يكون لنا وقفة حول تاريخية نقد التراث الحديثي والمرويات ومحاولات وتجارب الإصلاح الديني والفكري منذ القرن الأول للإسلام، وهل كانت منذ القرون الأولى للإسلام محاولات لتنقية التراث الحديثي والفقهي والديني والفكري؟، أم أن المحاولات النقدية والإصلاحية بدأت في العقود المتأخرة فحسب؟، وسوف نتحدث كذلك عن الوحي، وهل الله لم يوح لرسوله سوى القرآن فقط؟، وهل أوحى إليه بما يسمى (السنة)؟ وهل الحكمة هي السنة؟ وهل الحكمة غير القرآن؟ وما هي الحكمة؟ وما هي السنة؟ وهل أطلق الله أو رسوله على أقواله وأفعاله مسمى (السنة)؟ وما مدلول وحقيقة قوله تعالي: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)؟ وهل يقصد بهذه الآية (القرآن الكريم) فقط؟ أم يقصد بها القرآن وشيئا آخر مع القرآن؟ وهل توجد نصوص قطعية محكمة في القرآن الكريم تثبت بصورة يقينية حاسمة أن الله أوحى إلى الرسول دينا وعلما سوى القرآن الكريم أم لا توجد؟ وما الفرق بين الخبر (المتواتر) وخبر (الآحاد)؟ وهل بالفعل خبر (الآحاد) هو خبر ظني مشكوك في ثبوته؟، وهل الخبر (المتواتر) هو خبر يقيني قطعي؟، وما الفرق بين خبر (القرآن الكريم) وأخبار أحاديث النبي وأفعاله؟، وغيرها من المسائل والقضايا والأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في الفصول القادمة بشكل علمي وموضوعي محايد.

والله الموفق وهو يهدي إلى سواء السبيل.

(للحديث بقية في الفصل الثاني).


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إطلالات قصيرة على واقع المشهد المصري الحالي
- لماذا بصق المصريون في وجوه نخبهم وإعلامييهم؟
- شيفونية المصريين
- (توفيق عكاشة) نموذج معبر عن حقيقة الشخصية المصرية
- من ينقذ المصريين من أنفسهم؟
- من حق (فاطمة خير الدين) أن تكون عاهرة وتفتخر
- أما أنا فأقول لكم
- ما لا يقال ولن يقال حول الصراع الإسلامي المسيحي في مصر
- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) رد على: علال البسيط
- تعليقات على مقال أم قداس في كنيسة؟
- (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا)
- الرجل هو من استعبد المرأة والرجل هو من حررها
- علاقة الغرب العلماني المتحضر بالحاكم العربي
- هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟
- الحرية كذبة كبرى
- هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟
- وماذا بعد سقوط حسني مبارك ومحاكمته؟
- المواقيت الصحيحة للإفطار والسحور
- لا دية لأسر شهداء 25 يناير
- النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الثاني


المزيد.....




- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...
- من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال ...
- الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت ...
- تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ ...
- استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
- 82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)