أشرف البطران
الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 23:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ثمة علاقة جدلية قائمة بين العلم والدين,وهذه الجدلية بينهما ليست بالشيء الجديد والطارئ بل هي قائمة منذ أمد بعيد. ولطالما كانت علاقة العلم بالدين موضع نقاش ونزاع بين العلماء والفلاسفة ورجال الدين.بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا,هل العلاقة بين العلم والدين هي في مضمونها وجوهرها علاقة تناقضيه اقصائية؟ بمعنى هل يمكن للعلم أن يلغي الدين ويحل محله؟ أم هما ينتظمان ضمن منهجين متباينين ليسا بالضرورة أن يكونا متناقضين.وللإجابة عن هذه التساؤلات,لا بد لنا أولا من الاستئناس بمفهوم العلم وخصائصه والبحث أركولوجيا في طبيعة علاقة مع الدين وفق صيرورة تطوره التاريخية
يقصد بالعلم في هذا البحث ما اصطلح عليه حديثا بالإنجليزية لفظ scienceوهو لفظ واسع وشامل ينضوي تحت لوائه عموم العلم الطبيعي والفيزيائي والاجتماعي,وهو بهذا المقتضى نشاط إنساني هادف ومنظم،يستند إلى أسلوب تفكير منهجي منضبط وحذر،يجمع بين الملاحظة الدقيقة والفروض المنطقية والإمكانات التجريبية.وعلى عكس العلم,ينظر إلى الدين على أنه أمر غيبي ميتافيزيقي,مبني على إيمان مطلق لا تساؤل فيه,بالتالي لا تخضع نصوصه القطّعية والثابتة لقواعد البحث العلمي, بمعنى أنه غير قابل للتجريب,فالمعرفة الدينية الناتجة عنه لا تلامس أدوات الحس والتجربة كما هو حال المعرفة العلمية التي تخضع مرارا وتكرارا لاختبارات تجريبية وتكذيبية بغية التحقق من صدقها قبل اعتمادها كمعارف موثوقه.
ضمن هذه الرؤية فقد انبثقت ثلاث مواقف متباينة من جانب العلماء فيما يخص طبيعة العلاقة بين العلم والدين.الموقف الأول والذي تتبناه الفلسفة المادية,فعلاقة الدين مع العلم من وجهة نظرها هي علاقة تناقضيه اقصائية,حيث يزعم أصحابها الذين يتبنون منهجاً عقلانياً أصولياً أن لا وجود لعالم آخر سوى العالم الفيزيائي المادي,فالمادة هي الحقيقة الوجودية المطلقة وبالعلم فقط وبمنهجه الصارم يمكن كشف أسرار هذا العالم وسبر أغواره, والاعتقاد بأن هنالك عالم آخر تصوري وغير منظور هي مجرد هلوسات ذهنية لا قيمة لها,فكما يرى فرويد " أن أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهما من أوهام الجماهير".كما تعتبر الفلسفة المادية أن أية محاوله للتقريب بين ما هو فيزيائي ولا فيزيائي هو سقوط سافر في الدوغمائية.
ثمة موقف آخر يعتبر أن كلا من العلم والدين ينتظمان ضمن منهجين متباينين لا مجال لمقارنة أو مقايسة أحدهما بالأخر فلكل منهما له حقله الخاص,فإذا كان مجال العلم هو الطبيعة وهدفه فيها إدراك وتعليل ظواهرها وكذا تحليل أطرها عبر الحس والعقل فإن مجال الدين هو الله وهدفه التقرب إليه عبر النصوص المقدسة التي نزل بها الوحي.في سياق هذا التصور فإن العلم والدين يتمظهران في شكلين مستقلين من أشكال الحياة,حياة فيزيائية قوامها العقل الإنساني وأخرى نفسية لا يتسع لها الوجود الفيزيائي وهي حياة المشاعر والتأمل الروحي والابتهال إلى الله.طالما أن العلم والدين بهذا التباين المنهجي سواء على صعيد اللغة أم الأهداف والطرائق, إذن فليس هنالك أي تناقض بينهما وإن كان فهو تناقض ظاهري سطحي راجع إلى الاختلاف في طبيعة كل منهما,فإذا كانت "العقائد الدينية هي محاولات لوضع التجربة الدينية البشرية في صيغة محددة"1 " فإن العقائد العلمية هي محاولات لوضع الحقائق التي تكتشفها الحواس في قوانين مقبولة".لكن يبقى الدين بالنسبة للعلم في هذا الإطار عاجزا على النهوض بمقتضياته وموجباته,فهو ليس وسيلة منهجية ومنطقية لإنتاج المعرفة العلمية ولا هو كتاب يتضمن أطروحات ونظريات علمية,بل هو وسيلة لتغذية الروح بأشياء غير معرفة تخضع لسلطان الغيبيات اللاهوتية وليس لسلطان العقل والتجربة الإنسانية,بالتالي لا سبيل لإخضاع أي منهما إلى حكم الآخر. فكما يرى ديفيد هيوم" إن كل منهما يستبعد الآخر فالدين ليس وسيلة للمعرفة بل هو نوع معقد من المشاعر فالمؤمنون ليس بمقدورهم تقديم أدلة مادية وحجج منطقية لإثبات إيمانهم الديني"
لكن في المقابل يواجه المشتغلون بالعلم جملة من الأسئلة الوجودية, التي عجز العلم بكل إمكانياته في الإجابة عنها,وهي في مجملها أسئلة عفوية وبسيطة غالبا ما تتردد على ألسن الصغار قبل الكبار,من قبيل ما هو أصل الكون ؟ وكيف بدأ؟ ومن أوجده؟ وما هي حدوده ؟ وإلى أين سينتهي؟وما هو مبرر وجودنا فيه؟ماذا سنكون؟ وإلى أين سنصل؟....الخ. فكما يرى تولستوي "إن العلم لا قيمة له,لأنه لا يجيب عن تساؤلاتنا,فالسؤال المهم عندنا ماذا سنصنع؟ وماذا سنصبح؟.إن أسئلة من هذا القبيل لا يمكن للعلم أن يجيب عليها إلا إذا ادخل الله في قلب أجوبتها.الأمر الذي دفع بالبعض إلى تبني رؤية توافقية بين العلم والدين,فكلاهما يكملان بعضهما البعض.فالعلم موضوعه جملة الحقائق والمعارف التي تقع تحت طائل الحس والمشاهدة وكذا التجربة التي يتمترس خلفها سؤال كيف الملح؟و بناء على إجابة سؤال الكيف يمكن صوغ القانون أو النظرية التي تعتبر اشتراط أساسي وضروري لتفسير كيفية عمل الظواهر الطبيعية والكونية.لكن هذه القوانين والنظريات لا تبرر في الحقيقة وجود الظواهر الكونية لأن ذلك يقع في إطار السؤال لماذا؟ الذي يجيب عنه الدين. "إن القانون الفيزيائي المتعلق بالجاذبية مثلاً لا يمكن أن يكون بذاته المسبب لحدوث ظاهرة التجاذب وبطريقة أخرى فيمكننا أن نسأل السؤال التالي: من الذي يجبر الأجرام السماوية على أن تتصرف وفقاً لقانون الجاذبية؟ إنه قطعاً ليس القانون ذاته لأن القانون يصف العلاقة ولا يتسبب فيها ""Keith ward
لذا لا غرابة في أن نجد علماء كبار أمثال جاليليو ومايكل فارادي واينشتاين في أن يكونوا عميقي التدين, ف نيوتن مثلا كان يعتبر نفسه نبياً وقضى ساعات طولية لفهم أسرار الطبيعة من داخل الكتاب المقدس, ويرى أينشتين أن حاجة الناس إلى الدين تماثل حاجتهم إلى العلم, وينظر إلى الرجل المتدين على أنه "تقي وورع بمعنى انه لا يشك في مغزى القوى فوق الطبيعة وأنه لا يمكن وجود تضاد بين الدين والعلم,فالعلم بلا دين أعرج والدين بلا علم أعمى".فعلاقة العلم مع الدين هي علاقة تبادلية يوجه فيها الدين العلم نحو الأخلاق والجمال فيما يمنع العلم الدين من النزوع نحو عالم البدع والأساطير والوثنية.
في التجربة الدينية الإسلامية في حد ذاتها لا يوجد تناقض بين العلم والدين,بل على العكس يعتبر العلم هو نوع من العبادة وواجب شرعي ديني يستحق الثناء والإثابة,فعلاقة العلم مع الدين الإسلامي هي علاقة عضوية لا فكاك لها, ويستند المسلمون إلى كثير من الإشارات التي وردت في القرآن الكريم والتي تدعوهم لانتهاج سبيل العلم في التعرف على الكون والطبيعة وبالتالي على الله, لكن فهم الكون والطبيعة وتعليل ظواهرها وتحليل أطرها لا يأتي عبر الروحانية التأملية المنعزلة عن منهج البحث والتجريب والتفكير العلمي الرصين,وهنا تكمن المشكلة,فالبعض يذهب بعيدا في تصوراته إلى حد اعتبار القرآن المصدر الوحيد للمعرفة وأن كل ما أنتجه البشر من نظريات وقوانين ومبادئ علمية عبر صيرورة وجودهم التاريخية متأطرة في سياق الآيات القرآنية على شكل رموز وإشارات,وما على الذي أوتي الحكمة إلا فك تلك الشيفرات والحصول من خلالها على "مجاميع علم الأولين والآخرين" فقد انتقد ابن رشد قديما هذه النظرة ودعا إلى ضرورة استقلال العلم عن العقيدة الإسلامية,كما رفض الدخول في حوارات علمية حول المعجزات على اعتبار أنها أمور تتخطى حدود الوعي والتجربة الإنسانية.وحديثا قوبلت نظرية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بانتقادات كثير من جانب العلماء والمفكرين المسلمين ومنهم سيد قطب الذي اعتبر في كتابه "في ظلال القرآن" أن من السذاجة تحميل القرآن ما ليس منه و لا يقصد به,فالقرآن ليس كتابا في الكيمياء والفيزياء والهندسة الفراغية بقدر ما هو كتاب هداية وتربية وإرشاد للعباد ولو أراد الله به أن يكون كتابا علميا لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات الله.ويذهب المفكر خليل شمشام بعيدا في نقدها إلى حد اعتبارها "مذهب تدميري" من شأنه أن يورث الأجيال عادة التمحور حول الذات والانغلاق الفكري والتقاعس عن مجاراة صيرورة التطور العلمي.كما أن إقحام القرآن كلام الله الذي لا يأته الباطل من بين يديه في تفسير قضايا علمية هي في الواقع من إفرازات عصر الحداثة وما بعدده,من شأنه أن يضع القرآن في موقف تعجيزي وليس إعجازي.فالقرآن لا بفرض نفسه بديلا عن العلم في تفسير مخرجاته,ومغزى وجود آيات ذات دلالات علمية هي في جوهرها دعوات للسعي في مناكب الأرض بحثا واستقصاءا,وليس المقصود بها أننا قادرون على استجلاء الحقائق والمعارف العلمية من بنية النص القرآني. قال تعالى" ""قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" العنكبوت.
#أشرف_البطران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟