ربما ستفتح عليَ هذه المقالة أبواب الجحيم وخاصة من قبل العسكريين العراقيين الساخطين على حل الجيش، ولكن هذا لا يهم، طالما أعتقد بصحة ما أقوله، ودون الإدعاء باحتكار الحقيقة التي تشبه الهرم، لها عدة وجوه وأنا أصف الوجه الذي أراه. لقد تطرق لهذا الموضوع العديد من الكتاب الأفاضل وأغلبهم من غير العراقيين وضد حل الجيش لأسباب مختلفة. إذ يعتقد هؤلاء السادة أنه لولا إقدام بول بريمر، الحاكم المدني لقوات التحالف في بغداد، على حل الجيش لما حصلت أعمال عنف بعد سقوط النظام البعثي الصدامي ولكان بالإمكان استخدام هذا الجيش في الحفاظ على الأمن والإستقرار. أعتقد أن هذا الرأي مفرط في التبسيطية وغير صحيح لأسباب عديدة سأذكرها أدناه.
أولا، يجب الإشارة إلى إن إصدار أمر خطير كحل الجيش تعداده في حدود نصف مليون، ليس من صلاحية الحاكم المدني في العراق ما لم يكن قد اتخذ القرار في البيت الأبيض مسبقاً وقبل سقوط النظام بمدة طويلة وبعد مشاورات مع أقطاب المعارضة العراقية السابقة والذين يشكلون الآن مجلس الحكم الإنتقالي.
ثانياً، لم يكن اعتبار حل الجيش السبب في انفجار أعمال الإرهاب في العراق بعد سقوط النظام، لأن هذه الأعمال حصلت قبل صدور قرار حل الجيش الذي تم بعد فترة من السقوط ولم يقم الجيش بمواجهة العنف إن لم يكن مساهماً فيه.
كما يعتقد البعض إن حل الجيش قد أدى إلى ترك ما يقارب 400000 عراقي بدون رواتب. وهذا الوضع يدفعهم للانضمام إلى ما يسمى بمقاومة الإحتلال، وهذا غير صحيح. فالأنباء تؤكد أن جميع الضباط الذين أحيلوا على التقاعد يستلمون الآن رواتب تعادل عدة مرات ما كانوا يستلمونه وهم في الخدمة. أما الجنود وأغلبهم من المكلفين فكانوا ينتظرون التسريح على أحر من الجمر كما هو معروف عن الجندي المكلف، فلا يمكن اعتبارهم أنهم ظلموا بتسريحهم. وهم أيضاً يستلمون رواتب أكثر مما كانوا في الخدمة، إضافة إلى أن أغلبهم حصل أو سيحصل على عمل كأي جندي مسرح.
نبذة تاريخية
من المعروف أن الجيش العراقي قد تأسس حتى قبل ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921. فجميع الضباط الذين ساهموا في تأسيسه، كانوا من خرجي الأكاديمية العسكرية التركية في إسطنبول وخدموا في الجيش العثماني. كما كان أغلب هؤلاء سياسيين، نظموا جمعيات سياسية سرية مثل جمعية العهد ونادي المثنى يحملون اتجاهات عروبية قبل الحرب العالمية الأولى. أي كان الضباط المؤسسون مسيسين من البداية ومنهم جعفر العسكري ونوري السعيد وياسين الهاشمي وغيرهم كثير أطلق عليهم فيما بعد بالضباط الشريفيين، نسبة إلى الشريف حسين بن علي، شريف مكة، وقد وبلغ عددهم حوالي 300 ضابط. وساهم هؤلاء في الثورة العربية بقيادة الشريف حسين يوم 10 حزيران 1916، ثم انضموا إلى الأمير فيصل في سوريا. وبعد سقوط المملكة السورية على يد الجيش الفرنسي في واقعة ميسلون، عاد هؤلاء الضباط إلى العراق ومن ثم انضموا إلى فيصل ثانية وساهموا معه في تأسيس المملكة العراقية والجيش العراقي.
وكانت المملكة العراقية وبتأثير من الإنكليز، قد تبنت ذات السياسة العثمانية في التمييز الطائفي والعرقي في العراق. فاعتمدت على الطائفة السنية العربية على حساب الأقوام والمذاهب الأخرى. وهكذا نشأ الجيش العراقي مسيساً منذ ولادته. ونتيجة لذلك، كان معظم رؤساء الحكومات المتعاقبة والوزراء من العسكريين. والمعروف أن الجنرال نوري السعيد ترأس الحكومة 14 مرة.
ونتيجة لتسييس الضباط العسكريين، لعب الجيش العراقي دوراً أساسياً في عدم الإستقرار السياسي وفشل المشروع الديمقراطي. فأول إنقلاب عسكري حصل في العالم العربي كان في العراق عام 1936 على يد الفريق بكر صدقي والذي تم القضاء عليه في انقلاب مضاد بعد ستة أشهر، بدأ بإغتياله في الموصل وهو في طريقه إلى تركيا. ثم حصل انقلاب ثالث قام به العقداء الأربعة في مايس 1941 الذي عرف بحركة رشيد عالي الكيلاني وانتهى بإعادة احتلال العراق من قبل القوات البريطانية وإعدام الضباط الإنقلابيين وإعادة الوصي الأمير عبدالإله إلى العرش. ثم تتالت المحاولات الإنقلابية العسكرية، أغلبها باءت بالفشل إلى أن انفجرت ثورة 14 تموز/يوليو 1958 على أيدي العسكر وبتأييد الأحزاب السياسية، والتي أسقطت النظام الملكي وأسست الجمهورية. ثم استمرت الإنقلابات العسكرية في العهد الجمهوري وكان آخرها عام 1968 الذي أعاد البعثيين إلى السلطة ثانية.
الإستنتاج
وبهذا الإستعراض السريع لتاريخ الجيش العراقي، يمكن الوصول إلى استنتاجين: الأول، أن ثورة 14 تموز/يوليو 1958 لم تكن السبب في تسييس العسكر وتدشين مرحلة الإنقلابات العسكرية كما يعتقد البعض، بل كانت نتيجة لهذا التسيس منذ التأسيس. وقد حاول الزعيم عبدالكريم قاسم، قائد الثورة، معالجة هذه المشكلة وذلك بعزل الجيش عن السياسة فرفع شعار (الجيش فوق الميول والإتجاهات) إلا إنه فشل بذلك، لأن المرحلة كانت مشوبة بالعنف والصراعات الدموية بين التيارات السياسية، اليسارية والقومية. وأغلب الضباط كانوا منتمين إلى أحزاب سياسية وخاصة إلى التيار القومي العروبي. وقضى هؤلاء على عبدالكريم قاسم وحكومته في إنقلابهم الدموي يوم 8 شباط 1963.
الإستنتاج الثاني والمبني على الإستنتاج الأول وهو أن هذا الجيش المسيَّس لعب دوراً أساسياً في عدم الإستقرار السياسي في العراق وكان سبباً للقطيعة مع التطور السلمي التدريجي الذي بدأه الملك فيصل الأول حتى وفاته عام 1933. فراح الجيش يتدخل في السياسة ويقوم بإنقلابات عسكرية الأمر الذي حرم الشعب العراقي من الإستقرار السياسي والنمو الطبيعي وتحقيق الديمقراطية.
ولما اغتصب البعثيون السلطة ثانية عن طريق إتقلاب عسكري عام 1968، ارتكبوا خطيئة أخرى بحق الجيش ألا وهو أدلجته أي فرض الآيديولوجية القومية البعثية على جميع منتسبيه وطرد أو سجن أو قتل كل من يشك في ولائه لحزب البعث الحاكم وقيادته المتمثلة في شخص صدام حسين. فكان الجيش عبارة عن حزب سياسي إضافة إلى مهمته العسكرية. كما عمل النظام البعثي على منح امتيازات كبيرة للضباط العسكريين بحيث صاروا ينظرون إلى المدنيين نظرة دونية يخامرهم الشعور بالتعالي عليهم بأنهم أسمى من بقية أبناء الشعب. فمثلاً كان يحق للعسكريين عدم الوقوف في الطابور( queue) في شراء أي مادة أمام محلات البيع. وكذلك كان له الأولوية في امتلاك الأراضي والعقارات والسيارات وغيرها مع تمتعهم بامتيازات مادية ومعنوية عالية.
ورغم أن شعار الجيش هو الدفاع عن حدود الوطن، إلا إنه كان طوال تاريخه ومنذ تأسيسه، قد استخدم لحماية الحكومات المتعاقبة في جميع مراحل تاريخ الدولة العراقية الحديثة سواء في العهد الملكي، ضرب الآشوريين وتمردات العشائر العربية والحركات الكردية، أو في العهد الجمهوري بضرب الجماهير بالكيمياوي كما حصل ضد الأكراد في حلبجة وحملات الأنفال أو ضد عرب الأهوار وقمع الإنتفاضة الشعبية عام 1991، إضافة إلى إستخدام الجيش في شن الحروب على دول الجوار. وهذا لا يعني أن ليس هناك ضباط غير مسيّسين ومخلصين للشعب والوطن، ولكن كيف يمكن التمييز بين هؤلاء وغيرهم من المؤدلجين والموالين للبعث وبهذه العجالة وفي هذه الظروف العاصفة؟
من هنا نعرف أن الجيش العراقي القديم المسيَّس والمؤدلج بآيدولوجية البعث الفاشية، لا يمكن الوثوق منه والاطمئنان إليه في الحفاظ على أمن واستقرار البلاد وضمان عدم الانقضاض على الحكومة المدنية واحترام الديمقراطية. فبقاء الجيش القديم يعني استمرار خطر الإنقلابات العسكرية معلقاً على رقبة الحكومة الديمقراطية كسيف ديموقليس. فلا يمكن الجمع بين جيش مسيس وحكومة ديمقراطية. ولهذا فالعراق الجديد يحتاج إلى تغيير جذري لكل شيء وخاصة في بناء قوات مسلحة جديدة ومتحررة في حالة قطيعة تامة مع العقلية الإنقلابية والسياسية والآيدولوجية القديمة، يتعهد فيها الضابط على احترام القيم الديمقراطية وحماية أمن المواطن وسلامته وكرامته والدفاع عن حدود الوطن من العدوان الخارجي وعدم التدخل بالسياسة مطلقاً. وهذا لا يتم إلا بتشكيل جيش حديث يتثقف أفراده وفق القيم الحضارية الديمقراطية الجديدة كما هو حاصل الآن.