|
قراءة في -الدين أفيون الشعب-*
شيار يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 2164 - 2008 / 1 / 18 - 08:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أندرو ماكْ-كينون**
ربما كانت عبارة ماركس "أفيون الشعب" أكثر كتاباته على الإطلاق اقتباساً؛ وربما كانت، لذلك، أكثرها إساءة فهم. من خلال العودة إلى المعاني المختلفة للأفيون في أواسط القرن التاسع عشر، يقوم أندرو ماك-كينون بزيارة تحليل ماركس للدين مجدداً، مقدّماً لنا طريقة لقراءة هذا المجاز أكثر اتساقاً مع منهج ماركس الجدلي. تقدم الدراسة أيضاً تحليلاً معدّلاً لعمل ماركس "نحو نقد لفلسفة الحق عند هيغل"، بالإضافة إلى اقتراحات حول كيف يمكن أن تساهم هذه القراءة الجديدة، المفتوحة النهاية أكثر، في تحليل ماركسي للمعتقدات والممارسات الدينية في زمن الرأسمالية المتأخرة.***
"الدين.. أفيون الشعب." هذه هي نقطة البداية في أغلب التحليلات الماركسية للدين ومقولة أساسية في الشروحات الكثيرة لكتابات ماركس عن الدين. بالنسبة لنا، يعني الأفيون اليوم شيئاً بسيطاً وواضحاً، وحتى حرفياً. نفكّر بالأفيون كمخدّر يقتل الألم، يشوّه الواقع، وتدمن عليه بعض النفوس الضعيفة. وحتى حين ينظر قارئوا "نحو نقد لفلسفة الحق عند هيغل: مقدمة"(1) إلى النص كشرح جدليّ للدين، فإن فهمهم تحكمه قراءة حرفية لهذا المجاز المركزي، و يتحول في المحصلة إلى شرح لاجدلي. إن حقيقة فهمنا لـ"أفيون"، حتى كمجاز، تُنسى من خلال "تكرارنا الطويل"، بتعبير أوتوول(2)، للعبارة في التحليلات الماركسية للدين. يكتب نيتشه أن المعنى الحقيقي لكلمة ما هو "معنى اعتاد عليه المرء بسبب الاستخدام المتكرر.. مجاز نُسيت طبيعته المجازية."(3) ويجادل فريدريك جيمسون أن "النصوص تأتينا دائماً كنصوص مقروءة سابقاً؛ نقرؤها من خلال طبقات مترسّبة من التأويلات السابقة، أو، إذا كان النص جديداً تماماً، من خلال عادات القراءة والتصنيفات المترسبة التي طوّرتها التقاليد التأويلية الموروثة."(4)
قليلة هي النصوص التي أتتنا "مقروءة سابقاً" أكثر من السطور الأولى لـ"نحو نقد لفلسفة الحق عند هيغل". لذلك، من أجل إعادة قراءة تحليل ماركس للدين في هذا النص، نحتاج قبل كل شيء إلى هزّ حقيقة فهمنا السابق لـ "أفيون الشعب"، وإلى الحفر عبر الطبقات المترسبة التي تراكمت منذ 1843. وإلا فإن قراءتنا للنص لن تعدو أن تكون تكراراً آخر لما نفهمه من أفيون.
في هذه الورقة، أبدأ بزعزعة استقرار فهمنا للأفيون بإلقاء نظرة سريعة على أوروبا في القرن التاسع عشر، وأقترح معاني مختلفة لكلمة "أفيون" في أواسط ذلك القرن. سيعطينا ذلك متسعاً لإعادة التفكير بالنص الأوسع الذي ترد فيه العبارة والتعامل معه بشكل جدلي، بما في ذلك المجاز الجدلي الذي يحتلّ موقع القلب في تحليل ماركس للدين.
في الوقت الذي يتمتع فيه التقليد الماركسي، والطريقة التي أوّل بها الأفيون، بأهمية في تعزيز فهم معجميّ للعبارة، فإن تاريخ الأفيون في أوروبا لا يقتصر على التقليد الماركسي. وقد شكّل هذا التاريخ الأوسع، في الواقع، الطريقة التي قرأ بها الماركسيون "أفيون الشعب". في بدايات القرن التاسع عشر، كان الأفيون في أوروبا يعتبر على نطاق واسع خيراً لا شكّ فيه. وكانت أهميته كدواء كبيرة في السنوات الأولى للقرن بحيث أن الناس آنذاك كانوا سيفهمون من "أفيون الشعب" شيئاً من قبيل "بنسلين الشعب". مع نهاية القرن، على أية حال، استُبدلت استخدامات الأفيون الطبّية بأدوية أخرى وواجه الأفيون، منذ ذلك الحين، أبْلَسة شرسة. بين هاتين الفترتين نحت ماركس الأفيون مجازاً له عن الدين.
"يتمتع الأفيون بمكانة عالية في الوقت الراهن، وهو أحد أكثر الأدوية البسيطة قيمةً": هكذا عبّرت الموسوعة البريطانية (الطبعة الأولى، 1771) عن المواقف والاعتقادات تجاه الأفيون في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر. الجرعات الصغيرة مفيدة طبياً؛ الجرعات المتوسطة يمكن أن تسمّم المرء بعض الشيء، وأن تجعله "جريئاً لا يهاب الخطر؛ وهو السبب الذي يجعل الأتراك يتناولونه قبل الذهاب إلى المعركة." (المصدر السابق). في عشرينات القرن التاسع عشر [1820-ات]، كان هناك في إنكلترا وحدها بين 16,000 و26,000 بائع أفيون غير منظّم.(5) ولأنه كان رخيصاً نسبياً، كان كل منزل إنكليزي يحتوي على "لودانوم" (مستحضر أفيون) في خزانته.(6). وكان استخدامه شائعاً لدرجة أن "الأفيون نفسه كان أفيون الشعب ."(7). إذن، كان "استخدام الأفيون في العقود الأولى من القرن عادياً تماماً.. لم تكن هناك.. مشكلة في ذلك."(8) في الواقع، لم يكن مفهوم الإدمان حتى قد تشكّل بعد.
بين ثلاثينات وخمسينات القرن التاسع عشر، تنامت المعارضة ضد استخدام الأفيون، ولا سيما من قبل حركات "الاعتدال" و "الصحة العامة" المتشكلة حديثاً. عُرضت المشكلة آنذاك على أنها قلق على طول العمر وتخدير الأطفال الرضّع، وكذلك الاستخدام الرفاهي للأفيون. وتبعت ذلك تحرّيات حكومية كان أشهرها تقرير إدوين تشادوِك لعام 1842 عن "حالة النظافة بين العمّال".(9) وبقدرة قادر، حوّل الأطباء وأنصارهم في حركات الاعتدال التسمم بالأفيون (الذي طالما اعتُقد بإمكانية حصوله مع الجرعات الزائدة) إلى وباء . لكن، رغم هذا الاستهجان الجديد، استمر الأفيون في أن يكون مقبولاً على نطاق واسع، فحتى ستينات القرن كان حوالي 20% من كل الأدوية المُباعة في إنكلترا معتمداً على الأفيون في تركيبته.(10)
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ضمّت حركات الاعتدال والصحة العامة والمعارِضة لتجارة الأفيون قواها إلى أخصائيي السُكْر. ومع تشكيل "نظام معرفي" جديد، بتعبير فوكو، جاء مفهوم الإدمان على الأفيون كحقيقة ذات مكوّن طبي وأخلاقي معاً.(11) فلم يمنح البرلمان الأطباء والصيادلة سلطة التحكم باستخدام الأفيون وحسب، بل دعا كذلك عام 1891 إلى وقف تجارة الأفيون "المتعذّر أخلاقياً الدفاع عنها"، ولو أن تجارة الأفيون الرسمية استمرت لعقدين آخرين، حتى اتفاقيات 1907 الدولية.(12)
إذن، ما الذي يمكن لكلمة "أفيون" أن تكون قد عنت عام 1843 لماركس وقرائه؟ تقوم المجازات عادة بالمقارنة بين شيئين بهدف تقديم طريقة جديدة للنظر إلى أحدهما أو كليهما. وعليه، فهي غير مستقرة، عائمة، ومتعددة الدلالة. بتعبير آخر، يحمل المجاز أكثر من معنى واحد، وهذه المعاني تتغير مع الزمن. يمنعنا ذلك، أولاً وقبل كل شيء، من إمكانية توصيف المعنى الوحيد لأي مجاز. أقترح هنا عدة دلالات محتملة لـ"أفيون" في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر*: الأفيون كان دواء (وإن كان دواء ذا مشاكل كثيرة مُكتشفة حديثاً)؛ كان مصدراً لأرباح كبيرة (الأمر الذي أثار الاعتراض والاحتجاج أيضاً)؛ وأخيراً، كان مصدراً لرؤى يوتوبية. سأفصّل أولاً في كل معنى من هذه المعاني وأترك التوسّع في أهميتها النظريّة إلى ما بعد.
كان التطبّب، وليس الترفيه أو الاستمتاع، هو الاستخدام الأكثر شيوعاً للأفيون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان الأفيون دواء ذا أهمية بالغة (ربما كانت أفضل مقارنة لأهميته في أربعينات ذلك القرن مع أهمية البنسلين في القرن العشرين). كان الأطباء والجرّاحون يصفون الأفيون لمرضاهم، بينما كان أفراد الطبقة العاملة (الذين كانوا نادراً ما يرون طبيباً) يستعملونه بأنفسهم.(13) كان الأفيون مسكّن ألم مهمّاً، لكنه كان يستخدم كذلك لمعالجة بعض الأمراض. بالنسبة لنا اليوم، نميّز على نحو روتيني بين هذين المظهرين المختلفين للأدوية؛ لكن، في ذلك الزمن، لم يكن أحد يجري مثل هذا التمييز. كان الأفيون يُوصف للإجهاد والاكتئاب، قلّة النوم، الروماتيزم، أمراض النساء ، الحمّى والسكّري (14)، كما كان يُعتبر موقِف نزيف مفيداً جداً. كان الأفيون يُستخدم كذلك كعلاج لكافة التهابات القصبات الهوائية، بما فيها ذات الرئة، الالتهاب الشُعَبي والسل. لكن أهم استخداماته كان كعلاج للإسهال والزُّحار والكوليرا. خلال فترات انتشار وباء الكوليرا في أوروبا في 1831-1832، ثم في 1849-1853، كان استخدامه "لا يُجارى تقريباً" كعلاج فعّال لهذا المرض القاتل.(15)
بالنسبة لماركس، كون الأفيون دواء مهماً كان شيئاً بديهياً، وهو نفسه استعمل الأفيون لمواجهة أمراضه المختلفة. فبالإضافة إلى أدوية أخرى كالكريوسوت [سائل زيتي يُستحضر بتقطير القطران] والزرنيخ، أصبح الاستخدام المنتظم للأفيون أكثر أهمية لتخليصه من الدمامل التي سبّبت له عناء كثيراً فيما بعد.(16)
في الوقت الذي كان فيه الأفيون دواء هاماً في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، لم يكن دواء بلا مشاكل اجتماعية . اثنتان من هذه المشاكل تبرزان أكثر من غيرها: الأولى قلق على نقاوة الأفيون في السوق والصيدلية وخزانة المنزل؛ والثانية كانت القلق على تخدير الرضّع .
كان الأفيون المغشوش باعثاً على القلق طوال القرن التاسع عشر، إذ كان يؤدي إلى جرعات غير منتظمة جداً، كما أن الأفيون المغشوش كثيراً ليس فعّالاً.(17) في حاشية في المجلد الأول من "رأس المال"، كتب ماركس: "من التقارير الأخيرة للجنة البرلمانية الخاصة بالغش في وسائل كسب الرزق، يجد المرء أن الغش، حتى في الأدوية، هو القاعدة وليس الاستثناء في إنكلترا. على سبيل المثال، أظهر فحص 34 عيّنة من الأفيون ابتيعت من صيدليات مختلفة في لندن أن 31 منها كانت مغشوشة بخلطها مع الخشخاش، طحين القمح، العلكة، الطين، الرمل وما إلى ذلك، وعدد منها لم يكن يحوي ذرة واحدة من المورفين."(18)
إن مكان ورود هذا النص، وسط مقطع عن ظروف الحمية الغذائية السيئة لدى الطبقات العاملة، في غاية الأهمية. فبافتراض الميل في المجتمع الرأسمالي إلى اتباع أية وسيلة ممكنة ركضاً وراء الربح، كان تجّار البرجوازية الصغيرة يغشّون المرضى ويحرمونهم من الدواء الذي هم في أشدّ الحاجة إليه.
في القرن التاسع عشر، كان استخدام الأدوية التي يدخل الأفيون في تركيبتها للأطفال شائعاً، وكانت هناك ماركات خاصة بالأطفال. تضم قائمة الأدوية التي كانت تباع آنذاك في إنكلترا: Godfrey’s Cordial ،Dalby’s Carminitive ،Daffy’s Elixir ،Atkinsons’s Infants Preservative ،Mrs. Winslow’s Soothing Syrop ،Slowe’s Infants Preservative ،Street’s Infant Quietness.(19) يشير الاسم الأخير (هدوء الشارع من الأطفال) إلى أحد الاستخدامات الشائعة لأكاسير الأفيون هذه. يكتب ماركس في الجزء الأول من "رأس المال": "... إن السبب الأساسي لارتفاع معدّلات الوفاة، عدا الأسباب المحلية، هو توظيف الأمهاب بعيداً عن منازلهن، والإهمال وسوء المعاملة الناتجين عن غيابهن، مثل التغذية غير الكافية، الغذاء غير المناسب وتناول المواد المخدّرة."(20)
وبينما يعتمد هذا المقطع بشكل أساسي على تقرير حكومي من عام 1861، كان إنغلز قد كتب عن تخدير الأطفال في "أوضاع الطبقات العاملة في إنكلترا" عام 1845، وكان الأمر قد بدأ يُنظر إليه كمشكلة اجتماعية منذ ثلاثينات القرن.(21) وخلافاً لكثير من المصلحين الليبراليين، لا يلقي ماركس وإنغلز باللوم على الأمهات السيئات أو جهل الطبقة العاملة حين يناقشان قضية تخدير الأطفال. أولاً، أجبرت مستويات المعيشة المتدنية بين الطبقات العاملة الأمهات على العمل في المصانع، تاركاتٍ أطفالهن في المنزل أو في رعاية جليس(ة) أطفال. وعُرف عن جلساء أطفال الطبقة العاملة استخدام أشربة يدخل في تركيبتها الأفيون لإبقاء الأطفال الكُثُر في رعايتهم هادئين.(22) ثانياً، بينما كان ماركس مهتماً للغش في الأفيون ركضاً وراء الربح، جادل أيضاً، هو وإنغلز، أن الصيادلة الذين يقودهم الربح كان يروّجون لاستخدامات غير ملائمة للأفيون للأطفال – كذلك من أجل الربح.
بالإضافة لاستخداماته وإساءات استخدامه كدواء في القرن التاسع عشر، كان للأفيون كذلك أهمية سياسية وثقافية. كان الأفيون سلعة في غاية الأهمية، وخاصة بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، بالإضافة لكونه سبباً في حربين تُعرفان بـ "حروب الأفيون". وأخيراً، كان للأفيون علاقة هامة بالحياة الثقافية والفكرية، كما يبدو جلياً في حياة وأعمال الشعراء الرومانسيين.
بالنسبة للإمبراطورية البريطانية مثلاً، كانت تجارة الأفيون عملاً مربحاً جداً، مولّدة سُبْع إجمالي إيرادات الحكومة الهندية البريطانية. وكانت هذه الترتيبات التجارية على درجة من الأهمية بحيث أن الجيش البريطاني خاض حربين ضد الحكومة الصينية للدفاع عنها. اندلعت الحرب الأولى عام 1839 وانتهت مع معاهدة نانكينغ عام 1842، العام الذي سبق نحت ماركس لعبارة "أفيون الشعب". خيضت الحرب الثانية بين عامي 1856 و1860، لكنّ كثيرين (بمن فيهم ماركس نفسه) كانوا قد توقّعوا اندلاعها قبل ذلك بسنوات عدّة. انصبّ جلّ اهتمام كتابات ماركس (وإنغلز) عن تجارة الأفيون وحروب الأفيون، والتي نُشر جميعها في صحيفة "نيويورك ديلي تريبيون"، انصبّ على الأفيون كمثال عن الإمبريالية الاقتصادية.
كثيراً ما كان يُدعى الصراع البريطاني-الصيني في عموم أوروبا بـ"حرب الأفيون"، كما كانت الحال في كتابات ماركس وإنغلز (23)؛ ومجرد قول "أفيون" في العام الذي تلا نهاية حرب الأفيون الأولى كان سيستحضر صوراً لصراع اجتماعي كبير. عام 1853، ذهب ماركس إلى حد القول إن ازدياد استخدام الأفيون في الصين كان السبب الرئيس لولادة حرب مناهضة للإمبريالية. ولم تفتْ ماركس السخرية إذ كتب "لا شكّ أن مناسبة اندلاع الحرب هذه وفّرتها المدفعية الإنكليزية، التي تريد فرض هذا العقار المنوّم الذي يُدعى أفيون على الصين."(24) ليس الأفيون، إذن، تعبيراً مجازياً عن الصراع وحسب، بل ويشير ضمناً إلى مجموعات متعارضة معينة، وخطابات مُعارضاتية [من معارضة] معينة متعلقة بتجارة الأفيون. يلاحظ ماركس أن تجارة واستخدام الأفيون في الصين كانا يُعتبران هرطقة من الناحية القانونية(25)، ليعني ذلك ضمناً أن معارضة استخدام الأفيون كانت على أساس ديني.
كان للأفيون كذلك مستخدمون من باب الترفيه. فكما كان الإيتر بالنسبة لويليام جيمس، والحشيش بالنسبة لوولتر بينجامين وإرنست بلوك، والـ إل إس دي في الستينات، منح الأفيون مثقفي القرن التاسع عشر لمحة من "واقع آخر". وانتشرت المعاني المرتبطة بهذه الرؤى في القرن التاسع عشر لدرجة يصعب معها تجاهل هذه المعاني. أبرزها حضوراً كانت رؤى الرومانسيين الإنكليز الذين كانوا يستخدمون الأفيون بكثرة: دي كوينسي، كولريدج، شيللي وبايرون. وكانت عادة أكل الأفيون لدى الأوّلَين معروفة كثيراً، فبينما يناقش ماركس في أماكن عدة كتابات دي كوينسي الاقتصادية، كان أكثر ما اشتهر به هذا في أنحاء أوروبا هو سيرته الذاتية التي حملت عنوان "اعترافات آكل أفيون إنكليزي" (1821).
أكثر ما يلفت الانتباه في الشعر الأفيونيّ الإلهام هذا هو رؤاه عن "اللاأمكنة" التي هي، في الوقت نفسه، "أمكنة خير" أو "أمكنة خيّرة"، ما يذكّرنا بإيتيمولوجيا القديس توماس مور المبتناة "يوتوبيا"(26). بالنسبة لـ رومانسيي الأفيون ، كانت رؤاهم "حاضرة" بشكل ملحوظ. يكتب م. هـ. أبرامز في دراسته المهمة عن شعراء الأفيون: "ليست هذه الأرض البديعة الظلَّ الهارب لحلم عاديّ، بل واقعاً مفعماً بالحيوية تماماً كالتجربة الواقعية."(27) لكن لا يسعنا الإنكار أن رؤى رومانسيي الأفيون غالباً ما كانت مبهمة وملغزة، وكانت رؤى عن مكان خيّر على نحو جزئي فقط. فقصيدة "قبلة خان" لكولريدج، على سبيل المثال، تحتوي على صور دمار وفوضى وحرب، وبعض رؤى دي كوينسي، ولا سيما القسم الثاني من "اعترافات"، تسيطر على المرء كالأشباح. تبقى هذه الرؤى غير مطوّرة، أو رؤى يوتوبية غير مكتملة بعد.
كان للأفيون تاريخ معقّد في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، حين نقرأ، نحن قراء القرن الواحد والعشرين، عبارة "أفيون الشعب"، نقرؤها بشكل بسيط وحرفي (ودون استثناءات تقريباً، سلبيّ) غريبٍ عن زمن مؤلفها. بتعبير آخر، نقرأ "أفيون" كأناس تعلموا أن يفكروا بالأفيون في عالم بات فيه تحريم استخدام الأفيون أمراً طبيعياً (تمت طَبْعَنته). بالموازاة بين الدين والأفيون، يلمح ماركس إلى سائر دلالات القرن التاسع عشر التي كانت كلمة الأفيون ستحملها لقرّائه آنذاك. وأيّ قراءة لـ "نحو نقد لفلسفة الحق عند هيغل" ينبغي عليها التعامل مع تعقيد هذا المجاز وتعارُضه.
ترجمها عن الإنكليزية شيار يوسف
ملاحظات المترجم
* جزء من ورقة بعنوان "قراءة أفيون الشعب : التعبير، الاحتجاج وجدلية الدين" التي قدّمها ماكْ-كينون في ندوة بعنوان "الماركسية والدين" عام 2005، ونُشرت في مجلة Critical Sociology الأمريكية، العدد 1/2 2005 (مجلد 31).
** أندرو ماكْ-كينون دكتور في النظرية الاجتماعية والدين، جامعة تورونتو، كندا.
*** زيادة في سوء الفهم، أو التحريف، تُرجمت العبارة إلى العربية مراراً وتكراراً "أفيون الشعوب". الأصل الألماني هو: Die Religion ... ist das Opium des Volkes، و Volkes تعني "شعب" أو "جماهير" وليس "شعوب". الجملة كاملةً هي: "الدين زفرة المقموع، قلبُ عالَمٍ لا قلب له، وروحُ أوضاعٍ عديمة الروح. إنه أفيون الشعب."
ملاحظات المؤلف
* سيكون تركيزي في المقاطع اللاحقة على بريطانيا، التي تتمتع بأهمية خاصة لعدد من الأسباب. أولاً، يأتي فهمنا للأفيون من لحظات لاحقة في تاريخ الأفيون هناك (هناك ظهرت الحركات المطالبة بحظر الأفيون). ثانياً، لعبت بريطانيا خلال القرن التاسع عشر دوراً أساسياً في إنتاج وتوزيع الأفيون على مستوى العالم، وكانت كذلك منتجاً رئيسياً لمعاني الأفيون التي استهلكت في بقية أنحاء القارة الأوروبية. أخيراً، عند مناقشة الأفيون، يتعامل ماركس (وإنغلز) في أكثر نقاشاتهما مع السياق الإنكليزي.
(1) ماركس، كارل، "مساهمة في فلسفة الحق عند هيغل". في توم بوتومور (ترجمة)، كارل ماركس: الكتابات المبكرة. ماكْ-غروو هِل، نيويورك. 1963 [1844].
(2) أوتوول، روجر، الدين: مقتربات سوسيولوجية كلاسيكية. ماكْ-غروو هِل، تورونتو. 1984.
(3) نيتشه، فريدريك، كتابات غير منشورة. مطبوعات جامعة ستانفورد، ستانفورد. 1995.
(4) جيمسون، فريدريك، اللاوعي السياسي: السرد كفعل رمزي اجتماعي. مطبوعات جامعة كورنيل، نيويورك. 1981.
(5) بيريدج، فيكتوريا و إدوارد غريفيثس، الأفيون والشعب. آلِن لين، لندن. 1980.
(6) بوتيل، بولا، الأفيون: تاريخ افتتان. بيرين، باريس. 1995.
(7) المصدر السابق.
(8) بيريدج، الأفيون والشعب. مصدر سابق.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق.
(12) بوتيل، الأفيون: تاريخ افتتان. سابق
(13) بيريدج، الأفيون والشعب. سابق.
(14) المصدر السابق.
(15) المصدر السابق.
(16) ماكْ-ليلان، ديفيد، كارل ماركس: حياته وفكره. هاربر آند روْ، نيويورك. 1973. أيضاً: رينو، فيليكس، "أمراض كارل ماركس" في ريفو أنتروبولوجيك (المجلة الأنثروبولوجية). العدد 43، 1933.
(17) بيريدج، الأفيون والشعب. سابق.
(18) ماركس، كارل، رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي (المجلد الأول). بترجمة صموئيل موور وإدوارد آفيلينغ. إنترناشيونال، نيويورك. 1967.
(19) بيريدج، الأفيون والشعب. سابق.
(20) ماركس، رأس المال. سابق.
(21) بيريدج، الأفيون والشعب. سابق.
(22) كارل ماركس وفريدريك إنغلز. الأعمال الكاملة. إنترناشيونال، نيويورك. 1975.
(23) المصدر السابق.
(24) المصدر السابق.
(25) المصدر السابق.
(26) غوو، جان جوزيه، "معبد اليوتوبيا". في: اقتصادات رمزية: بعد ماركس وفرويد. بترجمة ج. غيج. مطبوعة جامعة كورنيل، نيويورك. 1990.
تأتي كلمة "يوتوبيا" من كلمتي οὐ (لا) و τόπος (مكان) اليونانيتين، وبذلك تعني "لامكان"، أو من εὖ (جيد أو خيّر) و τόπος (مكان)، لتعني بذلك "مكان خيّر أو جيد". ولا شك أن توماس موور كان واعياً لهذا المعنى المزدوج حين أطلق الاسم على جزيرته الخيالية في روايته الشهيرة عام 1515 التي تحمل الاسم نفسه. - المترجم
(27) أبرامز، م. هـ.، حليب الفردوس: أثر رؤى الأفيون على أعمال دي كوينسي، كراب، فرانسيس، تومبسون وكولريدج. أوكتاغون، نيويورك. 1971. ------------ نشر هذا المقال في مجلة أصداء الإلكترونية: http://www.asdaa-magazine.org/opium_of_the_people.html
#شيار_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|