(1 ـ 6) مفهوم الهوية بين التعميم والتخصيص
في كل مرة يتم التطرق لموضوع هوية الجماعات والشعوب وصفاتها الثقافية والنفسية التي تميزها بعها عن بعض، يتردد الاعتراض التالي : ( يجب عدم التعميم ، لكل فرد خصوصيته، ومن الخطأ وضع جميع ابناء الشعب الفلاني بسلة واحدة ). هذا الكلام صحيح عند الحديث عن صفات " القيمة" عن الأحسن والأسوء، لن هذا يقود الى العنصرية، والشعب الراقي والشعب الجاهل.. لكن عند الحديث عن صفات اجتماعية نفسية ثقافية حيادية خارج موضوع القيمة، مثلما هي الفروق التي تميز ثمرة التفاح عن ثمرة البرتقال، فأنه يصح الحديث عن "هوية" وطعم لكل شعب تميزه عن باقي الشعوب. مثلما تتميز الشعوب عن بعضها البعض بالصفات البدنية الشكلية من لون وملامح وحجم كذلك تتميز عن بعضها البعض بصفات اجتماعية ونفسية عديدة، ورثتها من التاريخ والبيئة والموقع الجغرافي.
بالحقيقة ان إشكالية التعميم والتخصيص لا تتعلق فقط بعلم الاجتماع وحده ، بل تتعلق بكل العلوم وبكل الظواهر ومجالات المعرفة مهما كانت. ان أي موضوع او ظاهرة لا بد ان يتضمن جانبين: عام وخاص. مثلا، ان كل إنسان يحتوي على (خصوصيات فردية ) تميزه عن باقي البشر من ناحية الشكل والطول والعمر والطباع والأفكار وغيرها من الصفات الشخصية. لكن كل إنسان، يجب ان يحتوي على صفات (عامة مشتركة) تجمعه مع باقي البشر بما يسمح باعتباره بشرا وليس حيوانا او نباتا.
هوية المرأة والرجل
في هذا السياق يمكن الاستشهاد بموضوع اكثر شهرة وتداولا، الا وهو مسألة هوية (المرأة والرجل). يلاحظ انه في كل مكان عند النقاش بهذا الموضوع فأن هنالك موقفان متطرفان يتواجهان ويتمحوران حول: (التعميم والتخصيص).
من ناحية، هنالك انصار المرأة الذين يرفضون تماما أي (تخصيص انثوي) عن وجود صفات نفسية وعقلية خاصة بين النساء تميزهن عن الرجال. يؤكد هؤلاء النسويون على(الخصوصية الفردية) النفسية والعقلية لكل امرأة على حدة. وهم بالتالي يعتبرون ان النساء مثل الرجال لهن خصوصيتهن الفردية الشخصية ولا يمكن الحكم عليهم بصورة مشتركة كجنس متميز عن جنس الذكور.
اما المحافظون الرافضون لحرية المرأة فأنهم يلجأون الى العكس تماما، إذ يؤكدون على الصفات الأنثوية(الخاصة جدا) التي تحملها كل النساء من دون اية تنوعات فردية شخصية تميز إمرأة عن اخرى. هذا يعني تبرير اطلاق الاحكام التبسيطية الشمولية ضدهن وتكريس التمييز والاضطهاد.
كما هو الحال بالنسبة لكل التعارضات الفكرية بين طرفين متطرفين، فأن (الحل الوسط) الجامع بين النقيضين هو الافضل: صحيح ان كل امرأة لها خصوصيتها الفردية التي تميزها عن كل النساء ، الا انه لكي يتم اعتبارها إمرأة ، من المنطقي جدا انها تحمل من الصفات البدنية والروحية ما يجمعها مع باقي النساء وما يميزها بالتالي عن جنس الرجال . مثلا يمكن القول ان هنالك بعض النساء اقوى عضليا من بعض الرجال، ولكن لو اخذنا مئة امرأة ومئة رجل، فأننا سنجد اغلبية الرجال اقوى عضليا من اغلبية النساء، مثلما يصح القول بأن الاغلبية الساحقة من النساء تحيظ وتحمل. هذه حقيقة واقعية متفق عليها في جميع الازمان والمجتمعات، ومعمول بها في كل المسابقات الرياضية.
كل هذه الصفات البدنية النسوية لا بد ان تكون مصحوبة ايضا بصفات نفسية وإجتماعية عامة وشاملة لمختلف الازمان والمجتمعات. هنالك تمايزات انثوية ذكورية لا تحصى: بين مشاعر الأمومة والأبوة.. في الموقف من الجنس.. في غلبة العاطفة او العقل.. في الميل الى الرقة او العنف.. وهكذا دواليك من الصفات النفسية التي لا يمكن فصلها عن الصفات البدنية والوظيفية التي تميز الجنسين والتي لها ميراثها النفسي المتراكم في كل انثى وذكر منذ إن وجدت الخليقة.
لكن الإعتراف بهذه(( الهوية)) المتميزة لكل من الذكر والأنثى، لا يعني ابدا القبول بمبدأ القيمة: الجنس الأفضل والأقوى والجنس الأسوء والأضعف.. التمايز المقصود هو التمايز ((التكاملي)) وليس التمايز ((التفاضلي)). فمثلا القول بأن المرأة تغلب عليها العاطفة لايعني بالضرورة انها اقل قيمة من الرجل. فلماذا هذا الإعتقاد(الفحولي) بأن العاطفة اقل قيمة من العقل؟ ان العقل وحده هو الآلة العديمة الحس والضمير، التي تدفع للربح والإستحواذ والعنف والجريمة والحروب، كذلك العاطفة وحدها هي المشاعر الجياشة الثملة المجنونة التي تؤدي الى الفقدان وإنعدام القدرة على تفهم الواقع والسيطرة عليه. الأثنان يتساويان في القيمة لأن كل منهما يحتاج الى الآخر لكي يتاوزن ويصبح ايجابيا ، أي كل صفة منهما تكمل الصفة الاخرى. هكذا بالنسبة لجميع الصفات الخاصة بالانوثة والذكورة، تكامل بدني مع تكامل روحي نفسي..
تجنب العنصرية والتعميم المطلق
ان الحوار الحقيقي بأي موضوع مهما كان، يفرض تلقائيا، شئنا ام ابينا، عملية التعميم والتخصيص: الجماعة الفلانية.. المنطقة الفلانية، النباتات الفلانية، الطيور الفلانية..الخ. لكن الحساسية تفرض نفسها خصوصا عند المواضيع المتعلقة بالجماعات الانسانية. أي كيفية تجنب إطلاق الاحكام الجزاف ضد الجماعة او الطائفة او الشعب الفلاني:( النساء هكذا ، العرب هكذا، الاوربيون هكذا، الفلاحون هكذا ، المسلمون هكذا .. الخ ) . نعم ان التعميم يمكن ان يبرر الاحكام الجزاف ويشجع النزعة العنصرية، لكن المشكلة انه ضروري من اجل التحليل والتمييز، والا فمن المستحيل ان يتم الحديث فقط عن الأفراد وحدهم وتجنب الحديث عن الجماعة.
لكن يمكن الحديث عن الجماعة مع تجنب اقصى الامكان الوقوع السهل في براثن الأحكام السهلة العنصرية والتقييمة، من خلال محاولة الإعتماد على الأحكام الموضوعية الحيادية المستندة على المبدأين التاليين:
اولاـ تجنب التأكيد فقط على محاسن الجماعة او عيوبها، بل يتوجب الأخذ بنظر الإعتبار بأن اية جماعة انسانية لها عيوبها ولها محاسنها التي تختلف عن عيوب ومحاسن الجماعات الاخرى.مثلا يقال عن السويسريين بانهم ضعيفين جدا بالاتصالات الشفهية وقدراتهم الكلامية مكبوتة، لكنهم بنفس الوقت يمتلكون قدرات عملية وتنفيذية كبيرة جدا تعوض ايجابيا عن النقص السابق. وهم ايضا مسالمون جدا ولا يميلون الى العنف البدني المباشر، ولكنهم ايضا غيرون ويمارسون اسلوب التجاهل والاستخفاف بالآخر بصورة تتجاوز احيانا تأثير العنف البدني.
ثانيا ـ تجنب الحكم المطلق على الفرد من خلال الحكم على جماعته. ان اية جماعة مهما اشترك افرادها بصفات معينة فأنهم من المحتم ان يتميزوا عن بعضهم بدرجة تأثير هذه الصفات على كل واحد منهم. مهما كانت الصفات العامة الجماعية واضحة وسائدة فأن هنالك دائما خصوصيات فردية تتميز عن الصفات السائدة بدرجات مختلفة. بصورة عامة ، في كل جماعة هنالك دائما حوالي ربع الأفراد يختلفون عن الثلاثة ارباع السائدين، تطبيقا للمقولة المعروفة : ((لكل قاعدة إستثناء)). أي ان كل قاعدة مهما كانت صارمة وصادقة فأنها لا تمثل الا ثلاثة ارباع الحقيقة، وهذا يشمل كل الافكار والمعتقدات والمواقف. لأن الحقيقة تظل ناقصة ودائمة الصيرورة مادامت الحياة مستمرة. يعني اننا مهما قلنا عن الشعب المصري طريف ويحب النكتة فأنك تجد جزءا من المصريين لا يميلون الى الطرافة وسلاسة اللسان.
نعم ان هوية الشيء فردا او جماعة لا تعني المطلق الكلي بل الغالب السائد.
الهوية الوطنية بين الفرد والجماعة
مفهوم (الهوية) مثل معظم مفاهيم العلوم الانسانية، هلامي وواسع يحتمل الكثير من المعاني والتفسيرات، وكثيرا ما يتم خلطه مع (الثقافة)، التي هي بالحقيقة تشكل جزءا من مفهوم الهوية وليس كله. ان افضل توضيح لهذا المفهوم هو مثال (الهوية الفردية) المعبر عنها من خلال بطاقة الهوية الرسمية التي تحمل عموما المعلومات التالية: إسم الشخص، إسم عائلته او لقبه، مكان وتاريخ ولادته، جنسه، حالته الزوجية، بالاضافة الى معلومات عديدة مختلفة مثل المهنة والحصيلة الدراسية والدين واللغة الأم والعلامات الفارقة والطول والوزن، وغيرها من المعلومات حسب النظام المتداول .
لو تمعنا في هذه المعلومات لوجدناها تتضمن شرطين: الوحدة الذاتية المكانية.. وكذلك الديمومة الزمانية.
الوحدة المكانية "الذاتية"
من المعروف ان كل المعلومات الواردة في البطاقة ماهي الا صفات او ميزات بدنية ومعنوية شخصية تتعلق بالفرد المعني كله وليس جزءا منه. انها صفات ( يتوحد) عبرها الفرد ويجتمع بكل مكونات كيانه باعتباره (شخص) أي فرد انساني واحد موحد ومتفرد عن كل البشر، بما في ذلك القريبون منه او المتشابهون معه.وهذه الصفات متداخلة من الناحيتين البدنية والمعنوية.
فلو اخذنا الناحية البدنية فنلاحظ ان الإنسان الواحد ينقسم بدنيا الى العديد من الاعضاء والاقسام وما لا يحصى من الخلايا، وكل عضو وخلية تتميز فيما بينها بشكلها وجوهرها ووظيفتها ، الا انها كلها تجتمع و"تتوحد" لتكون بدن الانسان وتشكيل الصفات التي تميز بدنه عن باقي ابدان البشر. ان الواحد مهما كان موحدا فانه يتكون من وحدات مختلفة، حتى الذرة المتناهية الصغر تتكون من وحدات عديدة مختلفة. لكن جميع الوحدات مهما تمايزت فانها تنسجم بوجودها وحركتها في داخل البدن الواحد الذي يجمعها.
كذلك من الناحية المعنوية ، فصحيح ايضا ان الانسان الواحد ينقسم معنويا او روحيا ( نفسيا وعقليا) الى العديد من الاتجاهات والقناعات الفكرية والميول النفسية والامزجة المختلفة حسب متغيرات عمره وظروفه ونوعية زمانه ومكانه، لكن كل هذه"الميول المتعددة" في الشخص الواحدة، مهما تمايزت فأنها تجتمع في "شخصية موحدة" متفردة ومتميزة عن كل شخصيات باقي البشر.
على اساس هذه الصفات البدنية والمعنوية الشخصية المتفردة، مثل الصوت والنظرات والحركات والمزاج والأفكار والسلوك والهيئة وغيرها من الصفات المعلومة وغير المعلومة، يمكن للناس ان يعرفوا هذا الشخص ويتعاملوا معه على انه فرد متميز ومسؤول عن ذاته. حتى التوائم، رغم ما لا يحصى من الروابط البدنية والمعنوية المشتركة بينهم، الا ان كل واحد منهم يحمل (هوية) بإسم وصفات تميزه عن شقيقه. وافضل توكيد على فردانية الانسان، وكل الموجدات ايضا، انه ليس هنالك شخصين في الارض كلها يتشابهان بالبصمات ، حتى التوائم . ان فردانية البصمات تعبير ساطع عن فردانية كل انسان!
ان هذه الذات الفردية المتوحدة والمتميزة عن غيرها لا تنكشف فرديتها الا عبر مقارنتها مع الذوات الاخرى. أي شخص يدرك بأنه بشر لأنه يشترك بصفات محددة مع باقي البشر تميزه عن غيره البشر. وهو يدرك بأنه رجل لأنه يشترك مع باقي الرجال بصفات بدنية ومعنوية تميزه عن النساء. على هذا المنوال فأن كل فرد انساني يحمل ما لا يحصى من الصفات التي تجمعه بأجزاء من البشرية وتميزه عن اجزاء اخرى، مثل الجنس واللغة والدين والمنطقة والمهنة والميول الفكرية والهوايات وغيرها الكثير من الصفات الثانوية والمهمة.
الديمومة الزمانية
ان الإعتراف بكينونة الفرد وتمايز شخصيته البدنية والمعنوية لا يتم فقط بالاعتماد على( لحظة) معينة، بل ايضا بالاعتماد على(ديمومة) زمانية تكشف عن ديمومة صفات هذه الوحدة الفردية. ان فلان الذي نعرفه كشخص متميز بإسمه وشكله وشخصيته، نعرف ايضا انه بجوهره ( هو دائما ) فلان نفسه ولا يمكن اعتباره شخصا آخر بعد كل يوم او كل فترة. مهما اثرت الظروف بالفرد وتعرض لمتغيرات بدنية ومعنوية، الا انه بالنسبة للجميع يبقى هو نفسه بإسمه وبدنه وصفاته الاساسية التي توحده مع ذاته وتميزه عن باقي البشر. صحيح ان الزمن والعمر والتجارب تضيف وتحذف الكثير من ناحية شكل ومحتوى الفرد، لكن مع هذا فأن هنالك شخصية واحدة مستمرة ودائمة في ذلك الفرد تجعله يحس بأنه (انا) واحدة ودائمة ومتميزة عن جميع البشر. الانسان مهما تغير فأن (بصماته) التي تميزه وتخلق فرديته، مستمرة ولن تتغير. على اساس هذه الشخصية الموحدة والمستمرة رغم المتغيرات يتميز كل انسان وتتكون صورته لدى الآخرين.
ان لكل شيء صفات اولية مستمرة وكذلك صفات ثانوية متغيرة. مثلا كل انسان يحس مثل الجميع بحالة الجوع التي تدفعه لتناول الغذاء، لكن كل فرد يختلف عن الآخرين بكمية الغذاء ونوعيته الذي يتناوله حسب ظروفه ورغباته الخاص به.
بهذا فأن مفهوم (الهوية) واسع وشامل لكل الخصوصيات، فردا او مجموعة. ان هوية الشيء تعني ( ماهيته) وشخصيته "الموحدة" و"الدائمة" التي تميزه عن باقي الهويات التي يتكون منها الوجود بكل معانيه.
مقالات في الهوية :
(2 ـ 6) مكونات الهوية الوطنية
ان موضوع الهوية الوطنية يفرض اسئلة كثيرة من اهمها: اين تكمن حدود الهوية .. هل ارض الوطن كافية وحدها لتشكيل (بدن) الهوية؟ ماذا نعتبر الهويات المحلية الدينية واللغوية والمناطقية، ثم ايضا الهويات المعتقدية والحزبية ذات الأبعاد ما فوق الوطنية مثل الحركات الأممية والدينية والقومية التي تتجاوز حدود الاوطان وقوانين الدول وتخلق نوعا من التضامن والتوحد بين الافراد يدفع احيانا الى اندلاع الحروب بين الشعب الواحد وحتى تقسيم الاوطان على اساس ديني او لغوي او ربما حزبي!
إذا كان بدن الانسان يشكل الوعاء المادي الذي يستوعب هويته وشخصيته الفردية، فأن لكل جماعة انسانية لها ايضا "بدنها" المشترك الذي يشكل الوعاء المادي الذي يستوعب هويتها الجماعية. ان هوية الجماعة الدينية او الحزبية او الثقافية او الرياضية تكمن في مؤسساتها وشبكاتها الترابطية الدينية او الحزبية. وان هوية الجماعة المهنية تكمن في مؤسساتها وتقاليدها ومصالحها المهنية. وعلى هذا المنوال يمكن الحديث عن كل الجماعات التي ينتمي افرادها الى "بدن" ديني او حزبي او مهني او رياضي ..الخ.
اذا صح الحديث عن"هوية جنسية" تميز الذكور عن الاناث، فأن هذه الهوية تكمن اساسا في الجسد نفسه، ولكن بمعناه التجريدي العام، والذي عبره يتم تقسيم البشر الى اناث وذكور. حول الإنقسام البدني يتشكل الإنقسام الروحي وما يعنيه من مفاهيم وسلوكيات وظروف اجتماعية واخلاقية وحتى قانونية تعمل كلها على تأكيد التمايز بين الجنسين وتشكيل هوية كل منهما.
ان هذا الإنقسام بين الجنسين مهما تنوع بين جماعة واخرى وبين زمن وآخر، الا انه يظل يتميز بالشمولية المكانية والزمانية. الرجل عبر كل الازمان والأماكن، ظل (رجلا) يحمل نفس الصفات الذكورية التي تميزه عن النساء. ان رجل العصر الحجري مهما اختلف عن رجل العصر الحالي، من النواحي العقلية والنفسية والحضارية فأنه يظل يحمل ما يكفي من الصفات البدنية والنفسية الاساسية التي تجعله يشترك بالصفات الذكورية الأساسية مع رجال العصر الحالي وجميع العصور.
نفس الشيء يصح قوله عن اية هوية اخرى، لتكن مهنية مثلا. الفلاح الصيني، مهما تميز ثقافيا ووطنيا ونفسيا عن فلاحي الأوطان الأخرى، فأنه يحمل ما يكفي من الصفات (المهنية) المشتركة معهم بما يسمح بتسميته بـ( فلاح ): العلاقة المباشرة بالأرض والنبات والمناخ والفضاء الواسع والبعد عن زحام المدينة وتعقيداتها، وغيرها من الظروف الفلاحية الخاصة، التي لا بد ان تخلق ميولا نفسية وثقافية وسلوكية مشتركة وعامة بين جميع الفلاحين في كل مكان وزمان. طبعا مع وجود التمايزات التفصيلية..
ارض الوطن هي بدن الهوية
اذا كان هنالك لكل هوية "بدن" يشكلها ويستوعبها ويعبر عنها، فان "بدن" الهوية الوطنية هي "ارض الوطن". مثلما بدن الانسان يتكون من خلايا تتجدد عبر موت بعضها وميلاد بعضها الآخر، كذلك خلايا الوطن هي افراد الشعب الذين يتجددون اجيالا بعد اجيال عبر سرمدية الموت والميلاد. مثلما "الهوية الفردية" واحدة ومستمرة مهما تجددت خلايا البدن وتنوعت المكونات واختلفت الشخصيات الداخلية وتناقضت ميولها وافكارها، فأن "الهوية الوطنية" كذلك واحدة ومستمرة مهما تجددت الأجيال وتنوعت المكونات واختلفت "الهويات الداخلية".
ان اية هوية وطنية هي حصيلة جمع نوعين من الهويات الداخلية، اولها الهويات الفردية، وثانيها الهويات المحلية. من الخطأ التنكر لجميع انواع الهوية، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن (الهوية الوطنية) هي اقوى انواع الهويات الجماعية، الدينية اللغوية والحزبية وغيرها. ان جميع الهويات الثانوية والمحلية تحتوي عادة على عامل واحد او بضعة عوامل غير ثابتة تابعة خصوصا لإرادة المجموعة نفسها، من اهمها العامل العاطفي والثقافي والمعتقدي، بينما الهوية الوطنية تجمع كل العوامل المادية والمعنوية.
الهويات الفردية
مثلما الفرد الانساني بكل اعضائه واقسامه يتكون من خلايا متميزة متفردة، كذالك اية مجموعة انسانية تتكون من افراد متميزين متفردين. ان اية هوية جماعية مهما كانت ومهما توحدت وتصلبت فأنها بالنتيجة تتكون من افراد. ان أي انسان تتكون شخصيته من لونين ممتزجين، احدهما "لونه الفردي" الخاص به أي بصماته التي لا تشبه أي بصمات ولا أي لون ، ثم "اللون الجماعي" المكتسب من الحياة والميراث والمؤثرات الاجتماعية المعاشة. لو اردنا تشبيه الأمر فأن أي مجتمع اشبه باللوحة المتكونة من العديد من الخلايا الصغيرة، وكل خلية في الاصل لها لونها الخاص بها، لكن هنالك فوق الجميع ثمة لون واحد شفاف يوحد اللوحة ويسمح بنفس الوقت بتمييز الوان الخلايا.
أي مجتمع يتميز بلون شكلي وخلقي ونفسي وفكري موحد، لكنه في التفصيل يتكون من افراد لكل منهم لونه وبصماته الخاصة. فمثلا كل امريكي له شخصيته التي تميزه عن باقي الأمريكيين، ولكن بنفس الوقت لابد انه يمتلك صفات عامة شكلية وبدنية وصوتية وعقلية ونفسية تجمعه مع باقي الأمريكيين وتميزه عن افراد الشعوب الأخرى. فلو اخذنا مثلا العامل الميزة اللغوية، فأن لكل فرد طريقته الخاصة بالكلام وصوته المتميز واسلوبه ولكنته الشخصية، ولكن هذا لا يمنع من ملاحظة ان جميع افراد مدينة او قرية او وطن يجتمعون بلكنة مشتركة وطريقة كلام وصوت واسلوب ومفردات وتعبيرات تميزهم عن باقي الجماعات.
الهويات المحلية
ان أي شعب في العالم مهما كان موحدا لغويا ودينيا، فأنه في كل الاحوال متنوع من ناحية الانقسام الجنسي والعائلي والاجيالي والمناطقي والمهني والطبقي والسياسي والفكري.
الهوية الوطنية مهما كانت متوحدة وصلبة فأنها لا بد ان تتشكل من العديد من الهويات المحلية المتنوعة : مناطقية ولغوية ودينية ومذهبية.. ولك كل هذه الهويات مهما تنوعت وتمايزت فأنها من المروض ان تجتمع بصفات روحية وعقلية ومعتقدية ومصلحية مشتركية تجعلها تشكل هوية وطنية كبرى.
بالنسبة لإشكالية الهويات الصغرى وعلاقتها بالهوية الوطنية الكبرى، هنالك ميلين متناقضين:
ـ الميل الذي يرفض الإعتراف بها ويعتبرها نقيضة للهوية الوطنية ويجب التنكر لها وقمعها.
ـ الميل الذي يبالغ بوجودها ويؤكد على تمايزها وحتى انفصالها عن باقي الهويات المحلية التي تتشكل منها هوية الوطن.
حسب ادارك النخب الوطنية الفعالة وتعاملها فأن هذه الهويات المحلية قد تكون عامل اثراء وتطوير كما يحصل عادة في الحقب الحضارية الكبرى، او قد تكون عامل انقسام وتناحر واضعاف كما يحصل في حقب الإنحطاط والإنتكاسات.
من المفروض انه مهما تنوعت هذه الفئات المحلية واختلفت وتناقضت مع بعضها البعض فأنها، شائت ام ابت، إن كانت حقا لأرض وتاريخ مشترك، لا بد ان تجتمع بقواسم ثقافية ونفسية وفكرية وسياسية ومصلحية تجمعها وتوحدها في هوية وطنية مشتركة تميزها عن هويات الشعوب الاخرى.
أن أي وطن يحتوي على عوامل مناخ وبيئة وطبيعة ومحيط ومؤسسات دولة، لها تأثير اعمق واطول على تكوين الانسان اكثر بكثير من الروابط العاطفية الدينية او الحزبية اواللغوية وغيرها.
ان الارمني اللبناني مهما تشابه لغويا وتعاطف تاريخيا مع الارمني في ارمينيا او في باقي العالم، فأنه نفسيا وثقافيا وسياسيا ومصلحيا يبقى اقرب الى اللبناني المسلم او المسيحي.
ان الاجنبي المقيم في غير بلده، مهما قرر التمسك ببلده الاصلي، فأنه لابد ان يتعرض يوميا وفي كل لحظة من تواجده لما يحصى من المؤثرات المناخية والجيولجية والثقافية والاجتماعية والنفسية التي تشده الى المجتمع الذي يقيم فيه وتميزه عن مجتمعه الاصلي. يكفي للتدليل على هذا معاينة الاشخاص المقيمين خارج بلدانهم. انهم مع الزمن، ومهما تمسكوا آيدلوجيا او دينيا، تراهم يكتسبون عادات البلد المضيف بقدرما يفقدون عادات بلدهم الاصلي. كلما مر الزمن وتعاقبت الاجيال قلت الصفات الوطنية الاصلية وحلت محلها الصفات الوطنية الجديدة.
إذا حصل ان فئة وطنية معينة فضلت الارتباط بالفئات الخارجية الشبيهة بها على حساب الارتباط بالفئات الوطنية، فأن هذا يدل على وجود ازمة وطنية شاملة. مثلا، أن المجموعة المسلمة الفرنسية عندما تشعر بغربتها عن المجتمع الفرنسي وارتباطها الاقوى مع مسلمي العالم، فأن هذا دليل على عدم حصولها على مكانتها الطبيعية التي تستحقها اجتماعيا وسياسيا. ان الزمن وإرادة النخب الفاعلة وسياسة الدولة، توفر الشروط الحاسمة لتجانس خصوصيات الجماعات الوطنية المختلفة وخلق القواسم المشتركة بينها مهما اختلفت.
مقالات في الهوية :
(3 ـ 6) الهوية الوطنية والإرادة الفعالة
هوية الشعوب لا تختلف عن هوية الأفراد، ايضا لها جانبها الطبيعي المادي وجانبها الثقافي السياسي الإرادي. تاريخ الهوية الوطنية ماهو الا حصيلة تشابك الشروط المادية والإرادية الخاصة بأي شعب. المقصود بالناحية المادية الأرض والطبيعة التي تميز كل وطن عن آخر، ومع مسيرة التاريخ تتكون خواص نفسية وعقلية معينة. اما الناحية الإرادية فتعني مدى وعي الناس ونخبهم الفاعلة بهذه الناحية المادية ومدى قدرتهم على تطويرها وإضفاء الوعي الوطني عليها. ان الوعي (الايدلوجية) لا يخلق الهوية بل يساهم بادراكها ثم تطويرها.
ان هوية الأشياء الجامدة وغير العاقلة عرضة لتأثيرات الظروف الطبيعة المحيطة. اما الإنسان فانه يتميز بإمتلالكه لما يسمى بـ(( الإرادة)) أي القدرة على مجابهة الظروف المحيطة وتطويعها حسب حاجته ورغباته. ان مصير الإنسان وتاريخه ما هو الا حصيلة الصراع والتعاون بين ظروفه الخارجية وإرادته الداخلية.
طبعا هذه الإرادة لا تمتلك القدرة المطلقة على نفي الظروف، إنما استخدامها لصالحها ام ضدها. هنالك الفرد الإيجابي الذي يتفهم حقيقة ظروفه والتكوين الطبيعي لهويته ويحاول ان يخلق الإرادة التي تتفهم وضعه وتطوعه لصالحه. وهنالك ايضا الفرد الذي يحاول ان يتنكر لوضعه المادي الطبيعي ويحاول بإرادته ان يصنع شخصية مناقضة لهذا الوضع.
هناك مثلا من يغير اسمه او يغير وطنه ولغته وينتمي تماما لهوية اخرى بإرداته او مجبر على ذلك. لنا امثلة على الأشخاص من ذوي البشرة السوداء الذين يجهدون ان يغيروا لونهم الى الأبيض، او الريفي الذي يقلد ابن المدينة، او الطفل الذي يقلد الكبار، او المرأة التي تقلد الرجل، او الشرقي الذي يقلد الغربي، او المغني المبتدء الذي يقلد صوت مغن مخضرم . كلها تذكر بحكاية الغراب الذي اراد ان يمشي مثل الحجل.. ففقد المشيتين وراح يعرج.
التجارب النفسية تتفق على ان المتغيرات التي يعيشها الفرد يجب ان تكون نابعة من ذاته وتحترم خصوصيته وصفاته الاساسية أي هويته الطبيعية الخاصة به، والا فأنه سيكون عرضة لإنمساخ شخصيته وتشوه نفسيته قد يؤدي به الى امراض خطيرة مثل إنفصام الشخصية وميول التدمير الذاتي.
فلو اخذنا مثال المجتمع الإسرائيلي، فأنه يعاني من ازدواجية حادة بين "هدف" وجوده و"واقع" وجوده: من ناحية فأن اسرائيل دولة ومجتمع قامت وتشكلت على اساس تمثيل حضارة ومصالح وعقلية المجتمعات الغربية، ومن ناحية ثانية فأن المجتمع الإسرائيلي هذا رغما عنه يعيش في واقع شرقي عربي ارضا وبيئة وسماءا ومحيطا وتاريخا وثقافة، بل ان حتى اختيار اللغة العبرية هو عامل اضافي في هذا السياق لأنها ليست لغة اوربية بل لغة شرقية سامية شقيقة للعربية. مشكلة اسرائيل ومقتلها يكمن في انها لم تتأسس على اساس توفر عوامل وميزات ارضية وتاريخية "بدنية" موحدة ومستمرة، بل على اساس توفر فقط العامل المعتقدي "الإرادي" المتشكل من تمازج الديانة اليهودية مع الآيدليوجية الإستعمارية الغربية. لهذا فأن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبل اسرائيل يكمن في تطور مجتمعها نفسه. لأنه مع مرور الزمن وتعاقب الاجيال والتطبع على الأرض والمناخ والمحيط الشرقي العربي، فأنهم رغما عنهم في طريقهم للتحول الى مجتمع شرقي"عربي" خالص. هذا الواقع لا بد ان يؤدي الى خلق هوة عقلية نفسية لا يمكن ردمها بين "الدور الغربي " لإسرائيل الذي تأسست على اساسه و"الواقع الشرقي" الذي تعيشه وتندمج به مع الزمن. ان تطور الزمن وتعريب او "شرقنة" المجتمع الإسرائيلي
سوف يخلق فجوة حضارية وعقلية وسياسية كبيرة، ليس ازاء المجتمعات الغربية فحسب، بل ازاء يهود الغرب الذين يشكلون الدعامة الصهيونية الكبرى. منذ سنوات بدأت بوادر هذا الشقاق بين يهود اسرائيل ويهود الغرب تظهر للعلن، وسوف تنكشف اكثر واكثر مع الزمن.
الإسس الطبيعية للهوية الوطنية
ان هوية أي شعب وخصوصياته الثقافية وميوله النفسية هي نتاج تراكم تاريخ طويل من التجارب الحياتية والميراثات والمؤثرات الخفية والعلنية. ان معظم اوطان العالم الحالي، وخصوصا تلك التي تمتلك ميراثا تاريخيا طويلا، تتمتع بشروط طبيعية جغرافية لعبت دورا حاسما وثابتا في تكوينها وديمومتها. ان تاريخ الهوية الوطنية ينتج عن تمازج عاملين متداخلين، اولهما داخلي ( الموضع ) والثاني خارجي(الموقع).
اولا، البيئة الداخلية (الموضع)
ان أي وطن يتكون من ارض وسماء . الارض تتكون من تضاريس مختلفة مثل الجبال والصحارى والسهول والانهار والغابات وغيرها . حتى التكوينات الجيولوجية للتربة تختلف عن وطن وآخر ، فهناك معادن مختلفة ، منها مثلا النفط . وطبيعة الارض هذه تتأثر وتؤثر بدورها بطبيعة السماء أي المؤثرات المناخ التابعة اساسا لموقع الوطن من ناحية خطوط الطول والعرض والمناطق المناخية المختلفة ، بالاضافة الى البقعة السماوية التي تطل على الوطن من ناحية تأثير النجوم وطبيعة الابراج. كل هذه المكونات الارضية والسماوية من خصوصيات جيولوجية وتضاريس ومناخ وكواكب، تؤثر في الانسان مثلما تؤثر في كل شيء حي من حيوان ونبات. أبسط الامثلة على هذا تنوع النباتات حسب الاوطان. تكاثر النخيل مثلا في العراق وتنوعه وخصوصياته التي تميز تمره عن كل تمور الاوطان الاخرى، لم يتأت فقط من المناخ الحار المعتدل وحده بل من كل هذه العوامل المشار اليها مثل طبيعة التربة الغرينية وطبيعة مياه دجلة والفرات وطبيعة الريح والغبار وتأثير الكواكب وعشرات الأسباب الرئيسية والثانوية التي تمنح تمر العراق صفات لا توجد في أي تمر آخر ابدا .
من المعروف ان وجود نهري دجلة والفرات في العراق والنيل في مصر قد لعب دورا حاسما في تكوين اولى الحضارات البشرية في التاريخ.
صحيح ان التطورات التكنولوجية في القرن الاخير قد خففت من تأثير الطبيعة، الا انه حتى الآن تبقى الغلبة الكبرى والحاسمة لهذه الطبيعة. رغم كل التطورات التكنولجية فأن كمية الامطار لا زالت نفسها ودرجة الحرارة كذلك وطبيعة التربة والمعادن الموجودة ووجود الانهار والجبار والصحارى والبحار . ان كل المكونات الاساسية للطبيعة لم تستطع ان تؤثر عليها الثورت التقنية حتى الآن. ان هذه الشروط الطبيعية (الموضوعية) لا زالت حتى الآن تتحكم بالانسان وتؤثر في طبيعة الشعوب وتميزها عن بعضها البعض.
ان عوامل البيئة لا تؤثر في الفرد وحاضره بل تتراكم تأثيراتها عبر ميراثات الأجيال. الانسان لا يخضع فقط للحاضر ومؤثراته بل هو خصوصا نتيجة الماضي وميراثاته البدنية والروحية. ان سلوك شعب ما وعقليته ونفسيته هي نتيجة اساسية لمؤثرات ميراثات الآلاف المؤلفة من السنين. حتى الفرد الذي يترك وطنه وينتقل الى وطن جديد، يكفي جيل واحد او جيلين حتى يكتسب الاحفاد صفات و(هوية) المجموعة الجديدة. ان العراقي الذي يعيش في بريطانيا مثلا، مهما اختلف بدنيا وروحيا عن الانكليز، فأنه محاط بما لا يحصى من المؤثرات الطبيعية والتقنية والتربوية التي تغير به وبأبنائه بصورة دائمة. يكفي جيل او جيلين حتى يصبح احفاد هذا العراقي انكليز تماما، وخصوصا إذا حدثت حالات زواج متنوعة. خلال جيلين او اوكثر سوف لن يتبقى من الميراث العراقي سوى بعض الذكريات والمشاعر والعادات الطريفة من طبخ وغيرها.
ان دور التضاريس في تحديد المجتمع امر معروف وواضح ، مثل الفروق الحياتية والثقافية والنفسية بين سكان الجبال او السهول او الصحارى او الغابات او الانهار او البحار. الأهم من هذا ان هذه التضاريس تلعب دورا حاسما في رسم حدود الغالبية العضمى من الاوطان وفصلها عن بعضها البعض. انكلترا مثلا جزيرة، فرنسا مفصولة عن باقي الاوطان بسلاسل جبال البيرنه والالب وجيرا والمحيط الاطلسي والبحر المتوسط ونهر الراين. ايران تحيطها السلاسل الجبلية وبحر الخزر والخليج. مصر محاطة بالبحر المتوسط وجبال النوبة وصحراء سيناء والبحر الاحمر وصحراء ليبيا.
ان هذه التضاريس لاتفصل بلد عن آخر بل يمكنها ان تفصل مجموعة بلدان عن المجاميع الاخرى، مثل التضاريس التي تفصل القارات عن بعضها البعض، او مثال العالم العربي الذي رغم احتوائه على تضاريس تفصل كل بلد عربي عن آخر الا ان هناك تضاريس حدودية اكبر تجمع هذه البلدان كمجموعة متميزة: البحر المتوسط يفصلها عن اوربا ، الصحراء الكبرى عن افريقا ، وجبال زاغاروس عن ايران وباقي آسيا ، وجبال طوروس عن القفقاس وبلاد الاناضول واروبا، ثم هناك الخليج العربي والمحيط الهندي جنوب وشرق الجزيرة العربية .
الفتح العربي الإسلامي رغم انه شمل اجزاء كبيرة من آسيا وافريقيا وكذلك اوربا، وتم نشر الإسلام في كل هذه الأصقاع، الا ان عملية التعريب لم تتم الا في العالم العربي الحالي، وهو نفسه العالم (السامي ـ الحامي) السابق. والسبب ليس له أي دخل بإرادة ما او عوامل عنصرية معينة، بل السبب يكمن فأن العنصر العربي وثقافته ولغته لا تناسب الا الشروط الطبيعية والمناخية للعالم العربي الحالي الذي تشكل الصحراء اكثر من 80% من اراضيه. عملية التعريب توقفت امام السلاسل الجبلية الآسيوية(زاغاروس وطوروس) وامام البحار والمحيطات، وامام الغابات الإفريقية. انها الحدود الطبيعية لهذا العالم العربي المترامي.
ليس بالصدفة ان الأساس اللغوي السابق الذي كان سائدا قبل العربية هو سامي في الهلال الخصيب والجزيرة وحامي في مصر وشمال افريقيا. من المتفق عليه من قبل علماء اللغة ان المجموعتين اللغوتين السامية والحامية قد تشكلتا من نفس الأساس وتجتمعان بالكثير من الخواص، بحيث انهما اعتبرتا مجموعة واحدة اطلق عليها:(السامية ـ الحامية) او (الأفرو ـ آسيوية). علما ان هذه العوائل اللغوية ليست لا تعني بالضرورة عائلة عرقية سلالية، بل عائلة ثقافية تجمع مختلف الأغراق والسلالات التي تتزاوج وتنصهر وتتوحد بتأثير عوامل الطبيعة والتاريخ. تاريخ المنطقة يكشف عن ما لا يحصى من الجماعات الآرية والتركستاتينة والأوربية والأفريقية التي حلت في العالم العربي (السامي الحامي) لكنها مع الزمن فقدت لغاتها الأصلية وتبنت اللغات السامية الحامية.
ان تنوع الطبيعة في داخل البلد الواحد يمكن ان تلعب دورا بتنوع المجتمع الواحد. مثلا ان الجماعات التركمانية منذ الفتح الاسلامي بدأت تستوطن في العراق في البصرة وبغداد وسامراء ، لكنها ذابت في السكان ولم يبقى لها أي اثر الا في مناطق شمال العراق إذ تمكنوا فيها من الحفاظ على تمايزهم بسبب طبيعة المنطقة شبه الجبلية المشابه لمناطقهم التركستانية الأصلية . لكن حفاظهم على لغتهم واسمهم لم يمنع من حملهم الكثير الكثير من الخصوصيات العراقية التي تجمعهم مع باقي العراقيين.
ثم ان هذه المكونات الطبيعية تختلف تأثيرت كل منها حسب تنوع الظروف ، فمثلا ان تأثيرات الانهار في اوربا تختلف عن تأثيرات الانهار في شرق المتوسط . بسبب كثرة الامطار فأن الانهار في اوربا لا تستخدم لسقي المزروعات بل للتنقل بعض الاحيان. لهذا فأن هذه الانهار لم تلعب أي دورا متميزا في تشكيل المجتمعات والحضارات لأنها لم تشكل شرطا اساسيا للحياة مثلما هو الحال مثلا في انهار دجلة والفرات والنيل والسند وغيرها. بل ان الكثير من الانهار الكبرى في اوربا لعبت دورا (تفريقيا ) معاكسا تماما للدور (التوحيدي) الذي لعبته انهار البلدان قليلة الأمطار: نهري دجلة والفرات يلعبان دورا في ربط التجمعات البشرية حولهما وتمازجها وتشابها وبالتالي توحدها ثقافيا وسياسيا، وخصوصا ان طبيعة النهرين تتطلب ادارة موحدة لتنظيم الري فيهما وللسيطرة على فيضانتهما . نفس الشيء بالنسبة للنيل. اما نهر الدانوب في وسط اوربا فأنه على العكس لعب دورا تفريقيا بين الجماعات حيث تعيش على ضفافه شعوب واوطان مختلفة مثل الهنغار والسلاف والجرمان. نفس الشيء نهر الراين الذي يفصل بين الجرمان واللاتين .
ثانيا،الجغرافيا المحيطة(الموقع)
اذا كان "الموضع" يعني الطبيعة الداخلية للوطن فأن "الموقع" يعني الطبيعة الخارجية التي تحيط بالوطن. ماهية المناطق والأوطان المحيطة بالبلد. بصورة عامة ان المناطق الحدودية عرضة لمؤثرات البلدان المجاورة. رغم تنامي وسائل الاتصالات والتنقل السريع، فأن العلاقة الحدودية تبقى هي المفضلة في التنقل والإتصال والتأثير، بالإضافة الى بقاء الميراثات المتراكمة في الشعور الجمعي والثقافة خلال آلاف الاعوام من الجوار.
ان بلد مثل فرنسا بحكم موقعه فأنه على ممر تاريخه جذب مختلف الجماعات والقوى الخارجية، من الشمال الجرمان والاسكندناف والانكلوساكسون، ومن الشرق السلت واللاتين ومن الجنوب الفينقيين والاغريق والعرب والبربر. وهذه التأثيرات الخارجية اثرت في طبيعة السكان وفي تكوينهم الحضاري وفي طبيعة الدولة الحاكمة. رغم المنافسة التاريخية بين الفرنسيين والالمان فأن هذا لم يمنع من ان يكون اسم فرنسا نفسه متأتي من اسم قبيلة جرمانية حكمت فرنسا في القرن العاشر اسمهم (الفرنج ـ أي الاحرار) .
ان منطقة المشرق العراقي الشامي هي افضل مثال لأهمية الموقع وتأثيره على طبيعة الشعب وتاريخه السياسي والحضاري. ان المشرق يقع في وسط الشرق الاوسط وحلقة وسط بين القارات التاريخية الثلاثة : آسيا وافريقيا واوربا . ولهذا فأن المشرق ظل طيل تاريخه عرضة لتأثيرات القوى الحضارية المختلفة المحيطة به: من الجنوب مصر وامتداها المغاربي والافريقي، ومن الشرق جبال الأكراد وايران وامتداها الآسيوي التركستاني، ومن الشمال القفقاس والاناضول والتأثيرات الحيثية والارمنية والبيزنطية والعثمانية، ومن الغرب البحر المتوسط والتأثيرات الاغريقية الاوربية، بالإضافة الى الجنوب الشرقي حيث الجزيرة العربية وتأثيرها المعروف. هذا الموقع اثر كثيرا في التكوين السكاني وتنوع اصولهم الأقوامية وجذورها الثقافية واللغوية والدينية. من ناحية، هنالك غنى ثقافي متميز وعمق حضاري لا يضاهى، ومن ناحية ثانية، توتر سياسي دائم بسبب الإجتياحات الخارجية المستمرة طيلة التاريخ.
مقالات في الهوية :
(4 ـ 6) العراق وخصوصيات الموضع والموقع
ان الطبيعة الجغرافية والمناخية للعراق لعبت دورا حاسما ليس في تاريخه بل حتى بتكوينه كوطن وبشر . كما يقال عن مصر انها ( هبة النيل ) فأن العراق(هبة الرافدين) فلولا دجلة والفرات لما وجد وطن اسمه العراق. كان من المؤكد ان يصبح جزءا من الاوطان المجاورة. كذلك الموقع الجغرافي للعراق كوادي خصيب ومفتوح الحدود في وسط قوى حضارية متنوعة وحتى متصارعة تعيش في هضاب شاسعة وسلاسل جبلية ظلت تدفع بالهجرات والغزات على ممر التاريخ وتؤثر بشكل حاسم في التكوين السكاني والثقافي للعراقيين وتؤثر على تكوين الدولة العراقية ووجودها وممارستها. وهنا لمحة سريعة عن طبيعة العاملين الداخلي والخارجي في تاريخ العراق: الموضع والموقع.
البيئة الداخلية (الموضع)
ان وجود العراق كان من وجود النهرين ، دجلة والفرات . وليس بالصدفة ان العراق في كل العصور وحتى في ظل سيطرة الدول الاجنبية ظل دائما كما هو حاليا ، ممتد من شمال نينوى حتى مصب النهرين في الخليج ، مع تقلبات طفيفة بالحدود مثل بلدان الارض . كل الحضارات التي قامت في العراق والجيوش التي غزته والاقوام التي استقرت فيه ، كلها كانت بسبب النهرين . بالاضافة لعطائهما وخلقهما الخصب والحياة ، فأنهما كانا ايضا سببا للدمار وخراب الحضارات وسقوط الدول وتبدل السلالات واللثقافات .
ان وجود (دولة موحدة) هو الأمر الاكبر الذي انتجه هذين النهرين. من اجل ان يستوطن الناس ويحافظوا على حياتهم وديمومة انتاج غذائهم وثروتهم، توجب عليهم قبل كل شيء تنظيم المصدر الأول لحياتهم ولإقتصادهم، أي النهرين العملاقين. مشكلة هذين النهرين ان تقلباتهما الحادة وفيضاناتهما الغدارة جعلت من الصعوبة التحكم بهما من منطقة محددة، بل يتوجب الأمر ادارة منظمة وحازمة للتحكم بالنهرين من الشمال حتى الجنوب. هذه الادارة طبعا هي الدولة المواحدة الواحدة. لهذا فأن حتى الدول الاجنبية، مثل الفرس والاغريق والاتراك، عندما تحتل العراق فأنها تفعل المستحيل لأن تحتله كله، او تتنازل عنه كلها، لأن التحكم بالنهرين كان يحتم ذلك. لهذا ان تاريخ العراق خلال اكثر من سبعة آلاف عام ، أي منذ فجر الحضارة وحتى الآن، يشهد على الحقيقة التالية:
ـ ان العراق من نينوى حتى خليج البصرة ظل دائما ( نعم دائما) موحدا حضاريا وسياسيا، حتى في ظل الإحتلالات الأجنبية. طيلة تاريخه المعروف ظل العراق موحدا ارضا وبشرا من الناحيتين الحضارية والسياسية. ان هذه الوحدة السياسية الحضارية لم تكن نتيجة ارادة معينة، قدرما هي نتيجة الشروط التوحيدية التي فرضتها ظروف الموضع والموقع. النهران الخالدان قد حتما وحدة بشرية وحضارية بحكم امتزاج الناس بالمعيشة حول النهرين. لقد ظل العراق الحالي من نينوى حتى الخليج دائما اما خاضعا لدولة وطنية واحدة، او لدولة اجنبية واحدة. وظل شعبه ايضا موحدا من الناحية اللغوية والثقافية والدينية ، نقول الاغلبية الساحقة من شعبه. حتى السلالات الاجنبية كانت تتبنى الحضارة العراقية. ليس هنالك شعوب عراقية بل شعب واحد بسلالات مختلفة.
ان أي ضعف او انقسام في الدولة يعني ضعف وخراب نظام الري وموت الزراعة وتهديد الفيضانات ومعها الطواعين وقبائل الرعاة والبدو. ان الدولة العراقية ظلت دائما بادارة مركزية موحدة تسيطر على شريان الحياة بسبب سيطرتها على النهرين وما يتبعهما من ثروات، حتى صار الملك مقدسا يستمد شرائعه من الرب كما تصوره شريعة حمورابي وكذلك الخلافة العباسية.
الجغرافية المحيطة (الموقع)
ان خصوصية العراق جعلته منذ فجر التاريخ موطن استقبال الهجرات والاجتياحات الخارجية التي سرعان ماتذوب به وتمتزج بسكانه وتتبنى حضارته وتغنيها. من ناحية هنالك النهران الكبيران (دجلة والفرات ) اللذان يشقان البلاد من الشمال حتى الجنوب مانحان الخصب والحياة ، ومن ناحية ثانية ان هذا الوادي الخصيب محاط من كل النواحي بأعظم الهضاب الجبلية والبوادي شبه الصحرواية التي ظلت طيلة التاريخ تبعث بالقبائل الرحل الجائعة وجيوشها الغازية. من الشمال جبال طوروس وبلاد ارمينيا والقفقاس وهضبة الاناضول، من الشرق جبال زاغاروس وهضبة ايران الممتدة حتى هضاب افغانستان وتركستان. من الغرب بادية الشام حتى ضفاف البحر المتوسط ومن الجنوب صحراء نجد وسواحل الخليج . عبر هضاب وجبال الشمال والشرق ظلت تنحدر الجماعات الآسيوية (القفقاسية والاناضولية والايرانية والكردية والتركستانية) ومن بوادي وصحارى الغرب والجنوب ظلت تأتي الجماعات السامية ـ العربية. طيلة ستة آلاف عام لم تتوقف الموجات الآسيوية والسامية عن القدوم الى بلاد الرافدين، سلما وحربا. كل موجة تأتي جالبة معها الجوع والخراب لتساهم مع (العامل الداخلي ـ الموضع) الطوفانات والطواعين بالقضاء على ما تبقى من حضارة محتضرة .
بعد ان يستقر هولاء الغزاة الرحل على ضفاف النهرين ويمتزجون بالسكان ويكتسبون تدريجا المدنية، يشرعون بالمساهمة ببناء حضارة جديدة تكمل ما بدأته الحضارة السابقة. بعد قرن او قرون من الشموخ والازدهار يبدأ الذبول والاحتضار يعم بالتدريج حتى تحل النهاية على يد موجة جديدة من القبائل الآسيوية والسامية التي تشرع كالجراد بنهش القرى والمدن وقطع الطرق بإنتظار الطوفان والطاعون للانقضاض على ما تبقى من الدولة. هكذا هو تاريخ العراق طيلة سبعة آلاف عام، دورة ازلية من البناء والهدم!
ان هذا الموقع الإستثنائي الذي جعل من العراق اشبه بواحة مفتوحة وسط بوادي وهضاب تعج بمختلف الشعوب المتنافسة، جعله منذ فجر التاريخ موطن استقبال الهجرات والاجتياحات الخارجية التي سرعان ماتذوب به وتمتزج بسكانه وتتبنى حضارته وتغنيها. لهذا صحت عن العراق تماما تلك المقول التي وصفته بـ(( بمقبرة البدو)) ليس بمعنى موتهم البدني، بل موتهم الإجتماعي الثقافي إذ ما ان يبلغوا العراق حتى يتحول هؤلاء الرعاة الرحل الى اناس مستقرين اما كمزارعين او كمدينيين. وقد عبرت (اسطورة كلكامش) عن هذه الحالة بصورة بارعة من خلال شخصية(انكيدو) المتوحش والذي يرمز الى الشعوب البدوية التي ينجذب بمفاتن الحضارة(البغي!) ويتذوق البيرة والخبز فيتخلى عن وحشيته وحريته ويصبح صديقا وتابعا لـ(كلكامش) ذلك الطاغية العراقي المتحضر الذي نصفه اله ونصف انسان. مع الزمن ينزلق انكيدو الطيب البريء في متاهات الحضارة واسئلتها الدينية العصية ومغامراتها الأخلاقية المهلكة حتى ينتهي الأمر بمقتله وندبه من قبل صديقه الوفي كلكامش. وهنالك العديد من الاساطير العراقية والمشرقية التي تعبر عن الألم والحنين لذكريات الأسلاف البدو الذين قتلتهم الحضارة، مثل اسطورة تموز وقابيل وهابيل وغيرها. بل حتى السنين القريبة كنا نسمع في المجتمع العراقي تتردد مثل هذه الحكايات التي تتأسف على فقدان شيم البداوة وقيمها الفروسية النبيلة التي قتلها الحضارة المغرية الغدارة!
لكي لا يفهم من كلامنا نوعا من التأكيد لنضرية علي الوردي الشهيرة عن صراع البداوة والحضارة في الشخصية العراقية، فأننا نشير الى اختلافنا الكبير عنه بأهم نقطة: انه يفهم البداوة بمعنى العرب والساميين أي قبائل بادية الشام والجزيرة العربية من الجنوب والغرب، بينما هو يتجاهل تماما البداوة الآسيوية من الشرق والشمال التي اثرت بمقدار متساوي على المجتمع العراقي ثقافيا وعرقيا وسياسيا.
ان أي دارس لخريطة العراق الحدودية ولتاريخه الطويل يلاحظ ان العراق لم يكن فقط عرضة مؤثرات البداوة القادمة من الحدود الغربية( بادية الشام والجزيرة العربية) ، هنالك ايضا مقابلها المؤثرات القادمة من الحدود الشرقية اولا ثم الشمالية اقل ، ثم الجنوبية اقلها . ان الحدود الشرقية قد لعبت دورا قد يفوق بتأثيره دور البدواة الغربية، خصوصا من النواحي السياسية والعسكرية وكذلك الأقوامية . على طول الحدود الشرقية تمتد سلسلة جبال زاغاروس المرتبطة بالهضبة الايرانية المتصلة بجبال وهضاب آسيا الوسطى التركستانية حتى حدود الصين والهند.
من هذه الحدود الجبلية الآسيوية ظلت الجماعات الكردية تهبط العراق وتشارك بتكوينه الأقوامي والحضاري منذ فجر التاريخ وحتى الوقت الحاضر . يكفي التذكير بدور (الكاشيون) الذين قدموا من هذه الجبال وشكلوا سلالة بابلية لثلاثة قرون ( ) ثم ذابوا واصبحوا جزءا من سكان العراق . اما في العصر العباسي فان الاكراد شاركوا بصورة فعالة في تكوين الجيوش العباسية وتكوين الامارات (الاتابكية )وحتى تقديم القادة المعروفين مثل (صلاح الدين الايوبي) . اما في العصورة الاخيرة فيمكن التذكير بمثال ( ) الامير الافيلي الذي اراد ان يصبح ملكا على العراق ، بالاضافة الى وجود الكثير من العراقيين الذين يعودون الى اصول كردية مستعربة . ويتضح الأمر في وجود الكثير من العناصر الكردية في النخبة العراقية المثقفة والعسكرية .
ومن الحدود الشرقية ايضا ظلت الاقوام الايرانية تمارس تأثيرا كبيرا على العراق ، خصوصا من الناحية السياسية العسكرية . ان أي نظرة سريعة لتاريخ العراق تكشف عن الحقب الطويلة التي ظلت فيها العراق محتلا من قبل الدول الايرانية ، ابتداءا بالميديين ثم الفرث ثم الاخمينيين ثم الساسانيين ، حيث يتجاوز مجموع فترات الاحتلال هذه الالف عام . وفي العصر العباسي بدأ الايرانيون يمارسون تأثيرات عسكرية سياسية مثل البويهيون وغيرهم . وفي الفترة العثمانية استمر الصفوييون وبعدهم القاجاريون ، حتى العصر الحالي .
ثم الاقوام التركستانية بالاضافة الى الهجرات التجارية والفردية من السند والهند. يكفي ان نتذكر ان ايران وحدها احتلت العراق ما يتجاوز الاحدى عشر قرن قبل الفتح العربي الاسلامي ، وانه بعد ثلاثة قرون فقط من تكوين الدولة العباسية بدأت الجماعات الآسيوية تمارس نفوذها السياسي والعسكري والاجتماعي على العراق :فرس ، سلاجقة ، تركمان ، بويهيون ، اكراد ، ثم مغول ثم تركمان ، حتى السيطرة العثمانية التي رغم وجودها في الاناضول الا انها تعود باصولها ايضا الى آسيا الوسطى .
اما من الشمال فأن حدود العراق تمس منطقة القفقاس حيث منبع دجلة والفرات وهي الآن بلاد ارمينا وآذربيجان وجيورجيا والشيشان وداغستان ، بالاضافة الى جنوب تركيا المقطون الا، بغالبية كردية . ان منطقة القفقاس هذه وبفسيفسها شعوبها مارست طيلة تاريخ العراق تأثيرا اثنيا من خلال الهجرات المسالمة والانحدار مع مجاري دجلة والفرات حتى الوادي الخصيب .
بالحقيقة ان كل تاريخ الحضارات في العالم عاش مثل هذه الدورة المعروفة: جماعات بدائية محاربة تهدم الحضارة ، ثم بعد الاستقرار تبني حضارة جديدة ، ثم تقضي عليها جماعات بدائية جديدة تكرر ما قامت به الجماعات السابقة.. لكن العراق عاش هذه الدورة بصورة مكررة ومكثفة الى درجة قصوى ومتطرفة بحيث اننا يمكننا الجزم بكل علمية وثقة بأن تاريخ العراق يكاد ان يكون الوحيد في العالم الذي احتوى على هذه العدد من الفترات والنتاجات والعواصم الحضارية : سومر وبابل ونينوى ، نتاج حضاري كثيف ومتميز خلال ما يقرب ثلاثة آلاف عام، ثم بعد شبه انقطاع حضاري دام اكثر من الف عام ، انفجرت نهضة حضارية جديدة مركزها العاصمة (بغداد) دامت ما يقرب الستة قرون .
مقالات في الهوية :
(5 ـ 6) اشكالية التنوع والتوحد في الهوية العراقية
ان تاريخ الامة العراقية يكشف لنا عن خاصية تتواجد في الكثير من امم الارض:(التنوع والتوحد). ان العراق من ناحية موحد بعامل بيئي حاسم وصارم متمثل بنهري دجلة والفرات حيث تنتشر القرى والمدن العراقية وهي على امتزاج وتوحد اقوامي وحضاري وسياسي طيلة التاريخ. لكن من ناحية ثانية ، ان هذه الوحدة الكلية التي فرضها النهرين تعاني من عوامل تفريقية مهمة وفعالة ،
ان العراق يظل من بين البلدان التي تتميز بازدواجية حادة ، فمن ناحية هنالك تنوع حاد في المناطق البيئية والاختلافات في المؤثرات الثقافية والاقوامية ، وفي الناحية المقابلة هنالك الوحدة الشديدة التي فرضها النهرين الخصبين الممتدين على طول العراق ويشكلان اساس وجوده ووحدته الاقتصادية والسياسية والحضارية والاقوامية .
ويمكن ملاحظة ان هنالك تنوعا دينيا ومذهبيا ولغويا (اقواميا وليس قوميا كما هو شائع خطأ) مرتبط بالانقسام البيئي المناطقي ، بين وسط وجنوب بغالبية عربية مسلمة شيعية، ثم شمال بغالبية مسلمة سنية وتنوع اقوامي عربي كردي تركماني وسرياني مسيحي . علما بان بغداد بحكم موقعها المتوسط والمحادد لكل المناطق فأنها اصبحت مركز تجمع كل المجتمعات البيئية العراقية المختلفة وهي مركز تمازج من كل النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية . يجب التذكير بأن هذا التوع البيئي (المذهبي ـ الاقوامي) قد لعب في تاريخ العراق دورا ايجابيا يتمثل بانبثاق وديمومة روح الحضارة والجدل والابداع لدى العراقيين ، وايضا دورا سلبيا يتمثل بروح الخلاف والتوتر والصراع السياسي والتبعية للخارج وانعزال الدولة عن الغالبية، (وهي امور سوف نعالجها في مواضيع قادمة).
ان هذه الفروق البيئية المناطقية موجودة في كل بلدان العالم ولكن بدرحات مختلفة، ويمكن القول بان العراق من ضمن الاوطان ذات درجات التنوع (البيئي ـ السكاني)العالية جدا. في مصر مثلا هنالك فرق واضح من كل النواحي التاريخية والسياسية والحضارية والاقوامية بين منطقة الجنوب(الصعيد) المتأثر بالوجود النوبي والافريقي والجماعات البدوية الصحراوية العابرة من الجزيرة العربية، ثم منطقة الشمال حيث الدلتا الواسعة الخصبة والتأثير العرقي والثقافي الشامي والبحر متوسطي. نفس الشيء مثلا بالنسبة لفرنسا وايطاليا ، حيث يكثر النمط الجرماني الاشقر في الشمال ونمط البحر المتوسط الاسمر في الجنوب.
بيئتي السهل والتضاريس
ان هذه البيئات العراقية المختلفة رغم توحدها الكلي المفروض من قبل النهرين الا انها تتميز بخصوصيات ثقافية واقوامية مختلفة. ان تأثير هذه البيئات المتنوعة على السكان يتخطى انتمائهم العرقي الاقوامي(اللغوي) ، إذ يلاحظ مثلا من ناحية اشكال الناس، انه حتى الناطقين بالعربية في الشمال يسود بينهم النمط القفقاسي للرأس الدائري المربع(مثلا نموذج صدام وطارق عزيز)، بينما سكان الوسط والجنوب يسود بينهم نمط البحر المتوسط حيث الرأس المستطيل مع وجود واضح للبشرة السمراء المتأثرة ببيئة الخليج والمحيط الهندي . يمكن تقسيم العراق الى بيئتين اساسيتين وكل منهما تنقسم الى عدة بيئات فرعية:
اولا، البيئة السهلية:
وهي تشتمل على كل الوسط والجنوب التشتمل أي جميع المحافظات العراقية ابتداء من بغداد حتى البصرة. وهي تتميز بوجود شبه وحدة سكانية من النواحي اللغوية والدينية والمذهبية ، حيث تسود اللغة العربية مع وجود محدود للغات السريانية والكردية والتركمانية وخصوصا في محافظة بغداد. ثم هنالك الدين الاسلامي بغالبية شيعية ، مع وجود سني واضح وكذلك مسيحي وصابئي. وتنقسم هذه البيئة السهلية الى الى عدة بيئات فرعية :
ـ بيئة شرق دجلة الوسطى والجنوبية ، وتشتمل عموما على محافظات ديالى والكوت والعمارة. وتتميز بالسهل الخصب الذي تتخلله الاهوار جنوبا ويأخذ هذا السهل بالارتفاع شرقا حيث جبال زاكاروس والهضبة الايرانية. سكان هذه البيئة عموما من العرب مع وجود كردي وتركماني في ديالى بالاضافة الى وجود افيلي واضح في الكوت واقل منه في العمارة . ويجتمع كل السكان بمختلف تنوعاتهم اللغوية على الدين الاسلامي والمذهب الشيعي مع وجود صابئي في الجنوب. علما ان هذه المنطقة الشرقية لها امتدادات سكانية وجغرافية واضحة في ايران حيث تعتبر منطقتي الاحواز وحلوان جزءا تاريخيا وبيئيا من بلاد النهرين، ولا زالت هنالك تشابهات سكانية واضحة عربية وافيلية بين العراق وايران.
ـ بيئة غرب الفرات: (محافظات الانبار والناصرية وبابل والديوانية السماوة)،حيث تمتزج الحياة الزراعية حول الفرات مع الحياة الرعوية لبادية الشام المحاذية. وهي ايضا تتميز بامتدادها في منطقة الفرات السورية حيث يتشابه السكان ويتداخلون من كل النواحي.
ـ بيئة البصرة: المتميزة بوجود شط العرب وسواحل الخليج مع تماس من الغرب مع صحراء الجزيرة العربية. وهي بيئة تجتمع فيها التأثيرات الصحرواية الغربية والخليج العربي والمحيط الهندي. يلاحظ مثلا كثرة اشكال الناس التي تميل الى السمرة الخليجية والمحيط الهندي.
ـ بيئة بغداد: المتميزة بموقعها في وسط العراق مما اهلها ان تكون مركو العراق السياسي والثقافي والسكاني حيث تجتمع فيها كل التنوعات العراقية الثقافية والسياسية والسكانية.
نقول ان هذه البيئات السالفة رغم خصوصيتها فانها تشترك بكونها اجزاء من بية سهلية واحدة، حيث تساعد السهول على "تسهيل" عملية الانسجام اللغوي والديني والسياسي بين السكان.
ثانيا ، البيئة الشمالية:
وتشتمل على كل المحافظات الشمالية أي الواقعة شمال بغداد. وهي عموما بيئة تتميز بكثرة التضاريس الجبلية وشبه الجبلية مما يساعد على تكوين نوعا من العزلة بين المناطق المختلفة، حيث تكثر التوعات اللغوية والدينية والسياسية. ثم ان هذه المنطقة محاطة بجبال زاغاروس شرقا وجبال طوروس والقفقاس شمالا، مما ادى الى التأثير على الخارجي على السكان وتعميق الخلافات الفئات اللغوية والدينية المتنوعة . وتنقسم هذه البيئة الشمالية بدورها الى بيئتين فرعيتين:
ـ البيئة شبه الجبلية: وتضم المناطق المحاذية والقريبة من دجلة وهي تكريت وكركوك والموصل مع مدينة اربيل واجزاء من دهوك. وتتميز هذه البيئة بتنوع واضح من النواحي اللغوية والدينية والمذهبية حيث يوجد التركمان والاكراد والسريان والعرب.
ـ البيئة الجبلية: وتضم محافظة السليمانية مع الاقسام الجبلية من محافظتي اربيل ودهوك. وتتميز هذه البيئة بوجود الجبال الشامخة المحاذية لكل من ايران وتركيا، وهي تكاد ان تكون متوحدة سكانيا بسيادة العنصر الكردي ، رغم الانقسام بين ناطقين بالسورانية ومذهب قادري في السليمانية وناطقين بالبهدنانية ومذهب نقشبندي في دهوك وكذلك اربيل. وهذا الانقسام اللغوي ـ المذهبي اساس الأنقسام السياسي التيارين القوميين.
ان هذا لاختلاف بين هاتين البيئتين العراقيتين ، التضاريسية والسهلية، لا يعود فقط الى الاختلاف بين البيئتين، بل ايضا الى اختلاف التأثير الحدودي المجاور. ان المنطقة الشمالية محاطة من الشرق والشمال والغرب باعظم تضاريس المنطقة ، من ناحية الشرق حيث جبال زاخاروس الممتدة الى الهضبة الايرانية وحتى بلاد تركستان ، ومن الشمال والغرب جبال طوروس الممتدة حتى القفقاس والهضبة الاناضولية حتى ارمينيا واليونان. ظلت المنطقة الشمالية العراقية اكثر من باقي العراق، عرضة لاجتياحات وصراعات ما لا يحصى من القبائل الرعوية الآرية والتركستانية والارمنية والاناضولية. ثم ان الصراع التاريخي الدائم بين اكبر قوتين عسكريتين في الشرق الاوسط( الايرانية والاناضلية) شمل دائما كل العراق ولكنه تركز فعليا ومباشرة في المنطقة الشمالية، منذ الفرس واليونان مرورا بالساسانيين والبيزنط حتى الصفوييين والعثمانميين ، وحتى الآن حيث المنافسة التقليدية بين ايران وتركيا لمد النفوذ في كل العراق ، ولكن على الاخص في شمال العراق. وتلعب هذه المنافسة الايرانية التركية دورا حاسمة في ديمومة المنافسة القائمة بين التيارت الكردية بالاضافة الى تأثيرها الواضح على الحركات التركمانية والعربية.
اشكالية البيئة والدولة
ان العراق مثل جميع البلدان ذات التنوع البيئي والتي عانت في تاريخها من انقسام الدولة بين مراكز مختلفة تكون عادة منقسمة بين شمالية وجنوبية. ولنا امثلى لا تحصى على هذه الحالة: الحروب الامريكية بين الشماليين والجنوبيين.. انقسام الدولة المصرية القديمة بين دولة شمالية ودولة جنوبية.. كذلك حالات ايران والصين وغيرها العديد من البلدان.
بالنسبة للعراق كذلك فان هذا التنوع البيئي ـ السكاني، قد اثر على طبيعة العقلية السياسية لقوى الطرفين الشمالي والجنوبي. ان الدولة العراقية القديمة ظلت تعاني من منافسة سياسية ثقافية بين الدولة البابلية التي قادتها سلالات من جنوب ووسط العراق والدولة الآشورية التي قادتها سلالات من الشمال. رغم ان الطرفين كانا يتكلمان بنفس اللغة الاكدية، بلهجتيها الآشورية والبابلية ( مثلما هو التمايز الآن بين اللهجتين الموصلية والبغدادية) ، ويكتبان ايضا بنفس الكتابة المسمارية ، ويعتنقان نفس الدين (عبادة النجوم مع اختلافات بسيطة في بعض اسماء الآلهة) ، ويعيشان في نفس الحضارة والثقافة والتقاليد ويتكونان من نفس المزيج السكاني . لكن المنافسة السياسية العسكرية ظلت بين الطرفين من اجل قيادة الدولة ، حتى ادت هذه المنافسة الى ضعف الدولة ثم السقوط النهائي لنينوى ثم بابل على يد الفرس في القرن السادس قبل الميلاد .
ان موقع بابل في الجنوب على الفرات القريب للتأثير الصحراوي ،بينما نينوى تقع على دجلة القريبة من التأثير الجبلي ، مما خلق تنافرا حادا بين العقلتين: . عقلية سكان الوسط والجنوب السهلية التي تميل عموما الى اللين والارتخاء والروح الخيالية والدينية. بينما العقلية الشمالية الجبلية وشبه الجبلية تميل الى الصرامة والحذر والروح العملية والحربية، وهذه هي خصوصيات دولة نينوى حيث عرفت الفترة التي استحوذت فيها السلالة الآشورية الشمالية على مقاليد الدولة العراقية بسيادة الروح العسكرية والتوسع السريع وانتشار النتاجات الفنية البطولية المتمثلة بالجداريات والتماثيل الحربية الشامخة التي تذكر بالنمط السوفيتي، بالاضافة انتشار عبادة الاله (آشور) اله الحرب والقوة. ليس صدفة انه في زمن الدولة العثمانية ظلت العناصر العراقية الشمالية هي المفضلة في الجيوش العثمانية. بعد هزيمة العثمانيين فان الرعيل الملكي الذي اسس الدولة العراقية الحديثة كانوا كلهم قاطبة من ابناء المنطقة الشمالية في الجيش العثماني وفيهم العرب والاكراد والتركمان، بل حتى الآثوريين كونوا لهم ما سمي بالجيش اللنبي. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن فان ابناء الشمال هم الذين يقودون الدولة العراقية.
ان سر نجاح الدولة العباسية وخصوصا في عصرها الاول ، ان النخب العباسية امتلكت سليقة العراقيين ومعرفتهم بتاريخ بلادهم ، وجهدت ان تمثل العراقيين كلهم في الدولة من خلال تأسيس عاصمة جديدة تكون وسطا بيئيا وحضاريا وسياسيا بين منطقتي العراق . ان بغداد، من ناحية تقع على دجلة وقريبة الى الشمال ونينوى ، ولكنها ايضا قريبة جدا من الفرات ومحاذية للجنوب وبابل. لهذا فأن جميع المحاولات قد فشلت باختيار عاصمة اخرى ، مثل الرقة وسامراء التي تميل اكثر الى الشمال وقبلها الهاشمية والكوفة التي تميل كثيرا الى الجنوب. حتى العثمانيين فضلوا الابقاء على بغداد كمركز لادارة كل العراق ،أي ولايتي الموصل والبصرة .
ويمكننا القول ضمن هذا السياق ، ان من اهم اسباب تشوه الدولة العراقية الحديثة انها لم تستطع حتى الآن ان تكرر تجربة الدولة العباسية الاولى: تمثيل العراقيين بجمع تنوعاتهم البيئية والفئوية. انها للاسف دولة وارثة للعقلية العثمانية الخارجية والاقلوية، حيث يسيطر على مقاليدها ابناء الشمال، وبالذات ابناء البيئة شبه الجبلية ، وبالذات ابناء المناطق العربية منها، وبالذات ابناء تكريت واقل منها الموصل.. نعم يمكننا القول مع بعض الخيال الطريف، ان الدولة العراقية الحالية هي نسخة مكررة من الدولة الآشورية، ولكنها نسخة مشوهة، لأنها لم ترث من الدولة الآشورية غير جوانبها السلبية المتمثلة بروح الحذر والعنف وحب المغامرة الطائشة. اما الجوانب الحضارية والوطنية التوحيدية التي كانت تتمتع بها تلك السلالة الآشورية الشمالية العظيمة، فان السلالة التكريتية، للاسف، قد إفقدتها تماما.
مقالات في الهوية :
(6 ـ 6) الهوية العراقية ومراحلها الخمسة
ان الهوية العراقية تتمتع بخاصيتي الهوية الأساسييتن: الوحدة المكانية والديمومة الزمانية. وهاتين الخاصيتين يمكن التأكد منها من خلال مراجعة تاريخ العراق. فلو تخطينا المرحلة السابقة للحضارة، فأنه من المتفق عليه ان العراق يعتبر من اول الأوطان الحضارية في التاريخ ، مع مصر. منذ الالف الرابع قبل الميلاد بدأ يقدم للحضارة الانسانية اولى النصوص الكتابية والدول والقوانين والأساطير والمكتشفات الفلكية والرياضية وغيرها الكثير. يمكن تقسيم تاريخ العراق الى المراحل الخمسة التالية :
اولا ـ المرحلة المسمارية (السومرية ـ الأكدية) :
اننا قد فضلنا تسميتها بالمرحلة المسمارية بدلا من التسميات التقسيمية العديدة الشائعة :(سومرية، اكدية، بابلية، آشورية، كلدانية) التي لم يتفق عليها المؤرخون حتى الآن . ان الكتابة المسمارية الصورية هي الخاصية الجامعة لتاريخ العراق القديم حتى سقوط بابل في القرن السادس قبل الميلاد وانتشار اللغة الآرامية سليلة الاكدية السابقة مع انتشار الكتابة الابجدية الفينقية(الحروفية) بدل المسمارية(الصورية). دامت هذه المرحلة المسمارية ما يقرب الثلاثة آلاف عام ، حيث بدأت بإنبثاق الحضارة السومرية في الجنوب في الالف الرابع قبل الميلاد ، واتخذت هذه الحضارة شكلها السياسي والثقافي المتكامل مع قيام الملك ( سرجون الاكدي ) الذي مثل بداية سيادة اللغة الساميةالاكدية وتوحيد الدويلات العراقية وتكوين اول دولة موحدة (2350ق.م ) على ارض الرافدين. مدينة بابل في وسط العراق لعبت دورا اساسيا كعاصمة حضارية كبرى لفترة الفي عام تعاقبت عليها الكثير من السلالات والدول . كذلك مدينة نينوى في الشمال التي قادتها السلالة الآشورية وقدمت الملك الشهير ( آشور بانيبال ) ، ولعبت نينوى دورا حضاريا وسياسيا مكملا ومنافسا لبابل . تخللت هذه الثلاثة آلاف عام الكثير من الحروب والمتغيرات السياسية وظلت كالعادة الجماعات الآسيوية والسامية دائمة الهجرة الى النهرين سلما وحربا: من الشرق حيث جبال زاغاروس ظل اسلاف الاكراد يهبطون، اولهم الغوتيون الذين اجتاحوا سومر، ثم الكاشيون الذين سيطروا على بابل لستة قرون وتبنوا حضارتها ولغتها . ومن الشمال الأرمني القفقاسي انحدر الحوريون والحيثيون والاوراريتيون.
اما من الغرب حيث هضبة الشام الممتدة حتى البحر المتوسط انحدرت الكثير من القبائل السامية السورية مثل العموريون الذين كونوا بابل وقدموا الملك الشهير (حمورابي ) ثم الآراميون الذين كونوا السلالة الكلدانية وملكها الشهير (نبوخذ نصر).
رغم هذه المتغيرات السياسية واجتياحات الاقوام الآسيوية والسامية المختلفة الا ان الوحدة اللغوية والدينية للعراقيين ظلت سائدة طيلة هذه القرون العديدة . لقد سادت اللغة الأكدية وهي من اول واقدم اللغات السامية المعروفة . لقد اتخذت هذه اللغة تكوينها الثقافي والكتابي من خلال استيعابها اللغة السومرية بما فيها من ثقافة ومعتقدات دينية والخط المسماري السومري. اصبحت الاكدية (بلهجتيها البابلية والآشورية ) لغة العراقيين الرسمية لما يزيد على الالفي عام، وخلفت لنا الآلاف المؤلفة من النصوص والوثائق الطينية التي سمحت لنا من معرفة كل شيء عن حياة العراقيين. وكما يعبر عن ذلك المؤرخ والعالم الفرنسي المعروف ( جان بوتيرو ) ، اننا نعرف عن حياة العراقيين في تلك الفترة اكثر من معرفتنا عن حياة الاوربيين خلال العصور الوسطى !! وهذا دليل على مدى تعلق العرقيين بالكتابة والكتاب، وهي خاصية ابدية يحملها العراقي حتى في فترات الكوارث والتشرد. بالاضافة الى اللغة الموحدة فأن هذه المرحلة تميزت ايضا بالدين الموحد السائد في الشمال والجنوب طيلة عشرات القرون . وهذا الدين العراقي قائم على اساس ( عبادة الكواكب ) وما تتضمنه من معتقدات واساطير والهة متعددة ممثلة للكواكب ومسؤولة عن حياة الانسان والطبيعة . وهذا الدين العراقي شكل اساس ( نظام الابراج وعلم التنجيم ).
هنالك صورة خاطئة فرضها المؤرخون التوراتيون على التاريخ العراقي(وكذلك التاريخ الشامي) توهم بوجود شعوب عديدة متلاحقة: اكدية وآشورية وكلدانية.. بينما الحقيقة انها لم تكن شعوب قدرما كانت سلالات. هل يصح الحديث عن الشعب(الأموي والعباسي) نعم ان الأكديين والآشوريين والكلدان سلالات، أما انها حملت اسماء عشائر مثل (الأكديين والكلدان)، او حملت تسمية طائفية مثل السلالة الآشورية تيمنا بالإله(آشور ـ عاشور) اله الحرب والفحولة والقوة، وهو مذكر عشتار الهة الإنوثة.
اما بالنسبة للسومريين فأن وجودهم لم يكن فقط في جنوب العراق كما يتصور الكثيرون. انهم في الجنوب من الناحية السياسية لأنهم تمكنوا هناك من بناء دويلاتهم. لكن كانوا سكانيا وحضاريا في كل انحاء العراق، حيث اثبتت الحفريات ذلك. ونحن نميل الى الفرضية التي تعتقد ان السومريون ليسوا شعبا مستقلا عن الساميين، وان اللغة السومرية لم تكن لغة شعب بل لغة مصطنعة مقدسة خاصة بطبقة الكهنوت. ومن المعروف ان الكثير من الطوائف الدينية المغلقة يصطنع رجال الكهنوت لغة خاصة بهم من اجل الحفاظ على اسرار الديانة. ان اللذي يؤكد بأن السومرية لغة دينية مصطنعة وليست لغة شعب متميز، بأنها بقيت طيلة الفي عام بعد نهاية ما يسمى بالحكم السومري، لغة مقدسة في بابل ونينوى، رغم سيادة اللغة الأكدية كلغة رسمية وشعبية.
ان هذه الديمومة ( الحضارية ـ اللغوية ـ الدينية ) لدى العراقيين متأتية من طبيعة ارض النهرين وقدرتها على هضم الاقوام الجديدة واستيعاب ثقافتها المختلفة وصهرها في روح ومياه النهرين الخالدين وحضارتهما الأصيلة.
ثانيا ـ المرحلة الآرامية ـ المسيحية :
بعد سقوط بابل عام ( 539 ق.م ) انتهت آخر الدول العراقية الوطنية واصبح النهرين ساحة صراع القوى العضمى : الايرانيون والاغريق والرومان ، حتى تمكن اخيرا الفرس الساسانيون من فرض سيطرتهم ابتداءا من القرن الثالث حتى القرن السابع ، حيث الفتح العربي الاسلامي . طيلة اكثر من ( 11 ) قرن ظل العراق محكوما من دول تختلف عنه دينيا ولغويا ، ورغم محاولات الايرانيون خلال قرون السيطرة من فرض لغتهم الفارسية وديانتهم الزرادشتية الا ان العراقيين ظلوا على ديانتهم البابلية ولغتهم الآرامية . منذ قبل الميلاد تمكنت اللغة الآرامية ان تصبحت لغة العراقيين السائدة وكذلك لغة سوريا ، والآرامية هذه بالحقيقة هي لغة سامية تكونت من التقاء اللغتين الاكدية العراقية والكنعانية السورية ( سوريا التاريخية تعني حاليا لبنان وفلسطين والاردن وسوريا ) .
بعد القرن الاول الميلادي بدأت المسيحية السورية الفلسطينية تنتشر في شمال النهرين وباقي العراق حتى اصبحت في القرن الثالث الميلادي ديانة الاغلبية الساحقة من السكان ، وانتشرت الكنائس والاديرة النسطورية من نينوى حتى الاحواز والبحرين وقطرايا ( امارة قطر الحالية ) . تميزت المسيحية العراقية منذ البداية بأنشقاقها عن الكنيسة البيزنطية وتبني مذهب ( نسطور ) الذي اصبح مذهب الكنيسة العراقية التي سميت رسيما بـ ( كنيسة بابل ) ، ولكن المؤرخون يسمونها ايضا بـ (كنيسة فارس) بأعتبار العراق كان خاضعا لفارس . مع هذه الاغلبية المسيحية النسطورية التي تضاهي حوالي 90 % من السكان ، مع اقليات من المذهب اليعقوبي السوري واليهود والصابئة ، بالاضافة الى الاتباع الديانة المانوية نسبة الى ( النبي ماني البابلي) الذي ظهر في القرن الثالث في جنوب العراق والف ستة كتب دينية بلغته السريانية العراقية. وقد مثل هذا الدين العقلية العراقية التي تميل الى التنوع ومزج الافكار المختلفة في قالب خصوصي اصيل . حيث مزجت ( المانوية ) بين الديانة البابلية والصابئية والمسيحية والروحانية الغنوصية السورية والمصرية مع مقتبسات مجوسية وبوذية وهندوسية . وتمكن هذا الدين ان يصبح عالميا منتشرا من حدود الصين حتى بلاد الغال (فرنسا ) . وقد تم اعدام ( النبي ماني ) من قبل الدولة الفارسية خوفا من اعادة امجاد بابل التي انتسب اليها هذه النبي البابلي . ولا زال اثر هذا الدين في التعبير الفرنسي والاوربي السائد ( manikaism) بمعنى الذي يميل الى تبني المواقف الحادة ( اسود او بيض ، خير او شر ) ، وربما هذه هي احدى الخصوصيات العراقية الدائمة !
ثالثا ـ المرحلة العربية ـ الاسلامية :
في اواسط القرن السابع خرجت الجيوش العربية الاسلامية من الجزيرة العربية واسقطت الامبراطورية الفارسية التي كانت تهيمن على العراق وايران واجزاء من افغانستان وآسيا التركستانية الوسطى . وتم كذلك طرد الدولة البيزنطية من سوريا ومصر ثم بلغت الجيوش الاسلامية شمال افريقيا وعبرت حتى اسبانيا . بالنسبة للعراق عندما دخلت الجيوش الاسلامية وجدت امامها حوالي سبعة ملاييين من السكان العراقيين باغلبيتهم الساحقة من المسيحيين مع اقليات من الصابئة واليهود والمانوية ، بالاضافة الى بعض المجوس من الاداريين والعسكريين الأيرانيين . وكانت لغة هؤلاء جميعهم هي اللغة السريانية العراقية ، التي سبق وإن سادت في الامبراطورية الفارسية واصبحت لغة الثقافة الاولى جاعلة من اللغة الفارسية البهلوية محصورة في البلاط ورجال الدين المجوس . لقد دخل الاسلام العراق على انه منقذ للناس من السيطرة الايرانية والاضطهاد الذين مارسه رجال الدين المجوس ضد الكنيسة العراقية والذي راح ضحيته مئات الآلاف من المسيحيين العراقيين. وتكمن قوة الاسلام انه منح الفرصة لشعوب البلدان المفتوحة بالتخلص من حالة التبعية والخضوع للقوى الاجنبية ، ومنح الفرصة للأشتراك بالحكم والشعور بالانتماء للدولة الاسلامية الحاكمة وذلك من خلال تبني الاسلام والتطوع في الجيوش الفاتحة والمشاركة في ادارات الدولة الجديدة والتمتع بالمغانم والمزايا العديدة . ان ترك السلطة العربية الاسلامية الباب مفتوحا لجميع ابناء البلدان المفتوحة من اجل الدخول في الاسلام والمشاركة بالحكم ، جعل الاغلبية الساحقة من هذه الشعوب تدخل الى الاسلام لتشارك في ادارة الدولة الجديدة ، بل حتى الاستحواذ عليها ، حيث تمكنت جميع الشعوب الاصلية بعد تبني الاسلام من السيطرة على فروع الدولة الاسلامية في اوطانها . بعد اقل من قرن من الفتح وما إن سقطت الدولة الاموية في دمشق حتى فقد العنصر القبائلي العربي الفاتح تمايزه العنصري والسياسي بعد ذوبان الاغلبية الساحقة من هؤلاء الفاتحين في ابناء الشعوب الاصلية من خلال التزاوج والاستقرار . هكذا تمكن المصريون والبربر والسوريون والعراقيون والايرانيون والتركستان والهنود والاسبان ، من تبني الاسلام والمشاركة الفعالة في صنع الحضارة الجديدة التي كان دينها هو الأسلام ولغتها هي العربية . بل حتى الجماعات التي لم تعتنق الاسلام وبقيت على يهوديتها ومسيحيتها تمكنت من لعب ادوارا حضارية وادارية وسياسية معروفة .
العراقيون والسوريون كانوا اكثر الشعوب التي تبنت العربية واستعربت اسرع من غيرها بسبب التجاور الجغرافي مع عرب الجزيرة العربية والاتصالات السكانية والحضارية المتواصلة منذ فجر التاريخ وانتماء الجميع الى عائلة اللغة السامية ، والتقارب الكبير بين اللغتين السريانية والعربية. ان سهولة الاستعراب لدى العراقيين سمحت لهم منذ بداية الفتح ان يشاركوا بصورة فعالة في صنع الحضارة العربية الاسلامية ، بل ان العراقيون هم من منح اللغة العربية نحوها وبلاغتها وتنقيطها وحركاتها من خلال ميراث لغتهم السريانية ، وبرزت في هذا المجال مدرستي الكوفة والبصرة . ومنذ القرن الثامن ، وبعد ثورات وتمردات لا تحصى تمكن العراقيون من تكوين الدولة العباسية وجعل عاصمتها في بغداد وسط العراق قرب (بابل ) عاصمتهم التاريخية التي لم ينسونها رغم خرابها قبل الف عام وبقيت حية في حكاياتهم واساطيرهم التي ادخلوها الى المسيحية ثم الى الأسلام . في بغداد قاد العراقيون اكبر واطول نهضة حضارية عالمية مازجين كعادتهم ما ورثوه من اسلافهم مع ميراثات الشعوب الاخرى من اغريقية وفارسية وهندية وشامية ومصرية وغيرها ، حتى اصبحت بغداد ، مثل سالفتها بابل ، عاصمة الارض التي تتفاعل فيها اللغات والاديان والافكار وتتزاوج بها جميع الاجناس البيضاء والصفراء والسوداء من تجار وعبيد ومرتزقة وطالبي علم ومغامرين حالمين .
رابعا ـ المرحلة المظلمة :
كالعادة تكررت دورة التاريخ ، وبدأت الجماعات الرعوية الآسيوية والبدوية السامية ( العربية ) تمارس دورها التخريبي مستغلة الانحطاط السياسي والروحي الذي بدأ يتغلغل في اوصال الدولة والمجتمع . تمكن الآسيويون التركستان خصوصا من لعب دورا مميزا لأنهم اكثر من باقي الشعوب ظلوا محافظين على طبيعتهم الرعوية المحاربة وسط سهول وهضاب آسيا الوسطى . يتوجب التنبيه الى ان هذه الجماعات التركستانية لم تلعب دورا تخريبيا اول الأمر بل دورا دفاعيا عن الدولة العباسية ازاء المخاطر الخارجية والداخلية. وقد ساهمت العناصر التركستانية بالنهضة الحضارية الاسلامية(العباسية) وبرزت اسماء كثيرة مثل الوزير المصلح الشهير (نظام الملك) بالاضافة الى اعلام تركستانية عديدة مثل البخاري والفارابي والبيروني وابن سينا والسرخسي وغيرهم الكثيرين. من المعروف ان العباسيون هم الذين جلبوا الجماعات التركستانية المحاربة واستعانوا بهم بعد إن فقد العنصر العربي روحه البدوية المحاربة وذاب كعادة من سبقه ، في رفاهية حضارة النهرين. وحتى هذه الموجات التركستانية كانت تواجه بنفس المصير المحتم ، فما إن تستقر سرعان ما تفقد روحها البدوية الحربية وتذوب في تلافيف الحضارة العراقية ، لتفسح المجال لموجة آسيوية جديدة ، تركستانية او كردية او ايرانية ، حتى بلغ هذا الاجتياح الآسيوي ذروته بالموجة المغولية التي سيطرت على آسيا واسقطت بغداد في القرن الثالث عشر على يد هولاكو . استمر الآسيويون يسيطرون على العراق حيث قام تيمورلنك مرة اخرى بتدمير بغداد في القرن الخامس عشر . واستمرت القبائل التركمانية بالسيطرة على العراق حتى تمكن العثمانيون ( تركيا الحالية ) من فرض سيطرتهم في القرن السادس عشر . ابتداءا من القرن السادس عشر تحول العراق الى ساحة صراع دامية بين الدولة العثمانية ( السنية ) والدولة الايرانية الصفوية ( الشيعية ) ، حتى تم طرد العثمانيين على يد الانكليز بعد الحرب العالمية الاولى. بهذه المناسبة يتوجب التأكيد بأننا لا نتفق ابدا مع الطرح العنصري الذي يعتقد ان تخلف المسلمين في هذه المرحلة يعود الى تخلف العنصر التركستاني. والرد على هذا : إذا كان التركستانيون هم سبب تخلف المسلمين في الدولة العثمانية.. طيب إذن ما هو سبب تخلف المسلمين في ايران التي ظلت دائما دولة مستقلة ومنافسة للعثمانيين؟! إن سبب التخلف ليس عنصريا ابدا، بل هي مرحلة بكاملها اشتركت بها مئات الظروف والاسباب. ثم ان التخلف كان عالميا إذ شمل الشعوب غير الاسلامية ، مثل الصين والهند وغيرها. اوربا وحدها، لاسباب كثيرة، نهضت من تخلفها القرنوسطي ودخلت عصر العلم والتصنيع.
خامسا، المرحلة الحديثة:
بعد حقبة الموات التي اندثرت خلالها الحياة والحضارة، بدأت الامة العراقية تولد من جديد في اوائل القرن العشرين وكان المخاض عند الحرب العالمية الاولى حيث لعب الجيش الانلكيزية دور القابلة التي لم تكتف باجراء عملية التوليد بل ارادت لقاء ذلك الاستيلاء على المولود وامتلاك ثرواته الموروثة وجعله خادما مطيعا لها مثلما فعلت بباقي مستعمراتها!! بعد ثورة شعبية عنيفة قام بها العراقيون ضد الاستعمار الانكليزي تأسست الدولة العراقية الحديثة عام (1920 ) التي جمعت الولايات العثمانية الثلاثة : بغداد والبصرة والموصل. وهذه الولايات الثلاثة تمثل بلاد النهرين كما انوجدت في التاريخ منذ القدم . علما بأن الجمع لم يكن عملية مصطنعة قام بها الانكليز كما يشيع القوميون بمختلف تنوعاتهم، وكذلك الأمميون والإسلاميون، لكي يبرروا فكرة تقسيم العراق وضم كل جزء منه الى الأمبراطوريات القومية والدينية والأممية التي يحلمون بتكوينها!
ان الانكليز خضعوا لواقع مفروض ومعترف به قبل قرون طويلة، ففي زمن الدولة العثمانية مثلا كان ولاة بغداد دائما هم المتحكمين رسميا وواقعيا بولايتي البصرة والموصل، وان محاولة ( داوود باشا ـ 1832) الشهيرة بتكوين دولة عراقية مستقلة عن العثمانيين لأكبر دليل على هذا .
تجدر الاشارة ان حدود العراق في هذه المرحلة المعاصرة قد خضعت لحالة تقلص كبيرة من جميع حدوده. فلو قارنا الحدود الحالية للعراق مع الحدود التاريخية لبلاد الرافدين في جميع مراحل التاريخ للاحظنا ان الكثير من مناطقه قد ضمت الى البلدان المجاورة: من الشرق (اجزاء من الاحوازـ عبادة والحويزة ـ وحلوان شرق الكوت) قد ضمت الى ايران. في الشمال مثل ماردين وغيرها قد ضمت الى تركيا. من الغرب هنالك منطقة الجزيرة السورية. ان هذه المناطق المعنية واضحة الارتباط بالعراق في الخارطة وفي التاريخ وكذلك في طبيعة السكان وثقافتهم التي تعتبر امتدادا للطبيعة العراقية. طبعا ان ذكر هذه الحقيقة التاريخية الجغرافية لا يجب ان لا يعتبر دعوة الى المطالبة بما يمكن تسميته بـ( العراق الاكبر)، بل على العكس يجب ان تكون عامل تقارب مع الشعوب المجاورة ، وان لا يتعدى الامر بكل بساطة عن ذكر حقيقة تاريخية. مثلا ان الحديث عن سكان الاحواز الذين يمتلكون الروح العراقية والتابعين لايران حاليا، يجب ان يكون عامل تقارب مع اخوتنا الايرانيين، كذلك ان يكون سكان الجزيرة السورية الذين يمتلكون ميراثا وروحا عراقية يجب ان يكون عامل تقارب وتفاهم مع اخوتنا السوريين. ان سرد كل هذا ما هو الا تذكير لاولئك القائلين بان (العراق بلد مصطنع) متناسين حقائق التاريخ والجغرافيا.