حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2060 - 2007 / 10 / 6 - 02:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أغلب الناس ,وهذا ما تحفظه الكتب الدينية أيضاً, يظن الصلاة ليست إلا تعبير عن الخضوع لله ممزوج بالشكر على نعمه , فهل هذا صحيح ؟. و نعلم أن الأديان كلها قائمة على مبدأ أساسه أن الصلة بين الله والإنسان صلة روحانية بعمق يجعل هناك تناقضا بين التعبير بالجسم عن الخضوع بالروح!. في حين ان الصلاة بكل مؤسساتها خاضعة لإستجابة الجسم من الأفعال والأقوال . مادامت الأديان قد إتفقت على ان تجعل الإنسان روحا وجسدا يلتقيان لزمن هو الحياة ثم يفترقان في وقفة الموت ويعودان للإلتقاء في زمن البعث.
فهل الجسد يقود الروح ؟. أم الروح تقود الجسد ؟. الاديان لا تجيب.
لو سلمنا بالنظرية الدينية التي تجعل حياة الإنسان عرض لصراع المنع و الإباحة, هذا المشهد الأزلي الذي أداه آدم وحواء عند ثمرة شجرة الخلد, ويفترض أننا نؤديه اليوم في حياتنا بصورٍ هي أكثر تعقيداً تحت تأثير رغباتنا الكامنة التي تحتم علينا إفراز دوافع نفوسنا الحقيقية بما نسميه السلوك او الاعمال الإنسانية " احسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يميز الله الخبيث من الطيب ". لنتذكر الحديث القدسي الذي نقل ما قاله الملك جبريل بعد أن كلفه الله زيارة كل من الجنة والنار " فقال في النار ما أظن أحداً يسمع بها ويدخلها فلما زراها وقد حفت بالشهوات قال ما أظن أحداً ناجٍ منها , وقال في الجنة ما أظن أحداً يسمع بها إلا ويدخلها فلما حفت بما تكره النفس قال ما أظن أحداً يدخلها " ودلالة الحديث تفيد ضعف عزيمة الإنسان مقارنة بما هو مكلف بالامتناع عنه . خصوصاً وأن صراعه ضد المنع , الحرام , يخضع لدافعين الأول نوايا النفس ورغباتها الكامنة (...إن النفس لأمارة بالسوء ), والثاني هو احتياجات الجسد التي لا يمكن تلبيتها دائماً بالمباح أو أن تلبيتها بالممنوع أسهل وأيسر. فنحن إذا أما صراع أحد طرفيه لديه مقومات أفضل (... الماسك على دينه كالماسك على الجمر ). مما يتطلب وسائل أكثر من مجرد العلم بالنهي والجزاء المترتب عن عدم الالتزام به ليصبح السلوك الإنساني مراعياً لذلك النهي, فالثواب متمثلاً بالجنة مؤجل , فيما الحرام تجنى متعه فوراً .
بهذا التمهيد يكون الحرام أوفر حظاً في الفعل الإنساني, لهذا كان لابد من مساند لتعين الإنسان على السلوك السوي الذي تفترضه الأديان. و الإنسان في قضية المنع والإباحة ليس أكثر من سلوك, سواء أكان هذا السلوك صريحاً ظهر بفعل أو كان رغبة دفينة عاجزة عن تصوير نفسها على أرض الواقع . والسلوك , في كلا الحالين , يحتاج إلى محاكمة عقلية كونه قرار بالإقدام أو الامتناع , أي أنه مفاضلة بين خيارات . هذه المحاكمة تتم بآلية تبدأ بتجميع أوليات من تفاصيل الحدث ودراسة الإمكانات المتاحة لتحقيق ما تلح به الرغبات الكامنة مع الأخذ بعين الاعتبار ما هو ممكن الحصول على أرض الواقع بضغط من الأخلاق والمحيط دون أن نهمل النزوع الفطري للإيمان والحب . فالمحاكمة العقلية أشبه بإثبات نظرية, وللدقة, أشبه بتبرير نظرية , تتداخل فيها مقومات الواقع ودوافع الرفض والقبول بقصد إنشاء جديد لهذا الواقع . وقضية الإثبات دائماً تستند إلى مسلمات فلا يمكن البدء من الصفر مع كل برهان . فكما أن المتوازيان لا يلتقيان مسلم بها لا يتم إثباتها في كل مرة بل يستند إليها تلقائياً في الرياضيات , كذلك البراهين النفسية لها مسلمات, مع الفارق, ففي البراهين النفسية لا تكون كل المسلمات صحيحة بل معظمها موروث وقد تكون صحتها متوهمة (... قالوا هذا ما وجدنا عليه آباءنا ... ). فهؤلاء, آباءنا, كانوا بدورهم بشرا كما الأصوليون اليوم واصرارهم على رفض الحداثة. ولكن المسلمات النفسية تصبح مقبولة بحكم الطبع الإنساني الذي يقدس الأثر وهذا يفسر العصبية المذهبية في الأديان جميعاً . نحن ولاشك نتفق أن كل تصرف مهما صغر أو كبر يحتاج إلى هذه المحاكمة, ولكن التكرار هو الذي يجعل العقل يتخذ قراراً سريعاً تجاه ما سبق مناقشته أو نوقش بصورة قريبة أو بأبعاد مقاربة, فيما يتردد محتاجا إلى فترة كمون فكري أطول في معالجته أمور أخرى جديدة لم يسبق له إدارة محاكمتها العقلية. من هنا يكون القرار الذي يحدد منحى السلوك, سواء بفعل إيجابي أو سلبي , مرهون بتلك المسلمات . وبما أن الإنسان في قضايا الثواب و العقاب سلوك , يمكننا القول أن الإنسان مرهون بتلك المسلمات . لهذا تعمل جميع النظريات الاجتماعية على خلق تلك المسلمات في عقول من تبشر بينهم وهي , هذه الطريقة , مستقاة من التجارب الإنسانية وخصوصاً الوجدانية منها , فالتاريخ يؤكد أن إعادة زلزلة المسلمات ليس بالقضية السهلة تماما كما ان إنشائها ليس بالأمر الهين.
أما كيف تخلق الصلاة تلك المسلمات في وجدان الإنسان فنستعين بمثال هو ذكر النهوض من النوم كما جاء في التراث الاسلامي ( سبحان الله وبحمد , الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا ) .لا شك أن هذا لا يدخل ضمن الفعل المنطقي لمن لا يزال في حالة نعاس و لم تستيقظ جوارحه بعد إلى الحد الذي يجعله يتخذ قراراً بالترداد. وسبق أن شرحنا أن كل سلوك ينتج عن قرار وكل قرار يحتاج إلى محاكمة عقلية. لنضع هذه النقطة جانبا لبضعة سطور على ان نعود اليها مستكملين الصورة.
لننتقل إلى حالة الإنسان وهو نائم ونناقش قضية الحلم, فإذا كان الناعس مشكوكٌ بأهليته للقرار فإن النائم مرفوع عنه التكليف بحكم انتفاء الإرادة. وعليه, نعرف الحلم : بأنه بحث عقلي خلال النوم متحرر من ضوابط المحيط , ولكنه لا يرقى إلى درجة المحاكمة العقلية كونه لا ينتهي إلى قرار , لانتفاء الإرادة , تقوده الرواسب التي هي الصور المتلقات خلال النهار والشهوات والالحاحات الجسدية الكيميائية. ولا يستبعد أحدنا أن يحلم بإتيانه للأذكار الدينية, ونفسر ذلك بأن الإعمال المتوالي للعقل بفكرة الذكر عند الصحو جعل القرار مسلمة أكيدة مترسبة في العقل . وما صح عليه وهو نائم يصح عليه وهو بدرجة أعلى من الوعي , أي وهو ناعس أو شبه نائم . لقد جاء القرار من الأعماق ولم ينطلق من الوعي التواصلي, كونه مطموس بالنعاس أوالنوم, اي من الوعي المختزن .أي أن الفرد هنا قام بمحاكمة عقلية قادته إلى قرار , وهو رغبة التلفظ بالحمد عند الصحو , وكرر الإقرار بذلك في مدة زمنية , عدة ليالي , حتى صار هذا القرار مسلمة عقلية انقاد إليها الفعل رغم أن العقل غير واعٍ تماماً كونه في حال نعاس. اي ان أن السلوك الإنساني إذا لم يجد قراراً, اما تحت ضغط الدهشة او الحالة البدنية او او .. انقاد بالمسلمات المتوافرة. وكذلك الصلاة فكثرة تدريب الجوارح عليها بكل تفاصيلها تجعل الأعماق منقادة إلى مراد التدريب ولو بشكل جزئي . وهذا يفسر أن يكون للصلاة مراحل ( الأذان – النية- الوضوء - التوجه إلى المساجد – انتظار الإقامة – رص الصفوف – تتبع الإمام – قراءة القرآن – التسبيح بعد انقضاء السجدات ) دون ان ننسى أثر الإمتداد الزمني في خلق هذا الأثر. فإذا أراد الإنسان أن يتخذ قراراً أسسه على تلك المسلمات فهي قادته في لحظات اللاوعي مستعيضا بها عن القرار الواعي الناتج عن المحاكمة العقلية, كونها كما شرحنا, قرارات سابقة مختزنة في وجدان الفرد. ولنستمع لحديث القائل (... من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ... ) فلماذا تم رفض الصلاة عن مرتكب الفحشاء والمنكر ما دامت للشكر والخضوع ؟. وكلاهما, اي المنتهي والمستمر في فحشه, يؤدي الصلاة لنفس الغرض الا وهو الشكر والإقرار بعظمة الله؟. أليس ممن يفعلون الفحشاء شاكر ممتن ؟. أو ليس ممن يأتون المنكر مقر بعظمة الله تعالى ؟. ومن أمثلة العاصي المتدين أبو محجن وقصته في القادسية ليست بخافية على أحد, والنظر إلى من حولنا يقودنا إلى كثيرين يفعلون المنكر وفقا للتهذيب الديني, ما لم نقل كلنا, وهم مقرون بوحدانية الله عارفون بنعمه, وليس سلوكهم سوى عجز لا إنكار. فأبو نواس سكير يصوم رمضان وشهير قوله ( رمضان ولى هاتها يا ساقي). فالصلاة ليست للشكر فقط وإلا لما رفضت من العاصي. إذ تم رفضها لأن الغرض منها إنشاء مسلمات في العقل , ميزان أخلاقي ينسجم ومجمل الأحكام الدينية للإستدلال به عن معالجة المعطيات رغبة في الوصول الى القرار. وعليه, وما دامت لم تصل بقوة أثرها إلى درجة إنشاء مسلمات في عقل مرتكب الفحشاء أو المنكر تقوده للامتناع أو تؤنبه بعد إتيان الفعل الممنوع فلا صلاة له, وهنا مغزى الحديث. أي سقط أجره كون الأجر بالغرض والغرض هو إنشاء تلك المسلمة ولو كان الغرض منها محصور بالشكر والإقرار بالعظمة لما أسقط الأجر كون الشكر والعبودية فعل يأتيه العاصي أيضاً. فالإعداد المستمر والمتكرر يمكن الأديان من إرساء قاعدة في البعد البعيد للإنسان تجعل أحكامه خاضعة لهذا الفهم بتغيب للنقاش العقلاني الواعي الذي يستدل ب في قراره على المعطيات والخيارات والمصلحة, اي استسلام للموروث. وهذه هي الصلاة وهذا هو دورها في توجيه قرار المتدين . أي أنها ليست قصد بذاتها ( تخصيص وقت للطاعة وأداء مشاعر ) بل هي وسيلة لغاية أكبر ألا وهي إنشاء مسلمات في العقل الإنساني لتكون مؤسسة قائمة بذاتها تحدد أطر القرارات التي يمكن أن تنشأ عن المحاكمة العقلية فيصبح السلوك منقاد بها حتى تصبح هي الموجه الوحيد الذي ينقل الإنسان من طبعه السابق إلى صفته الجديدة كمؤمن بهذا الدين . اي ان الصلاة في النهاية غرضها اعادة تخليق الفرد كعنصر في جماعة جديدة النشوء.
هذا الفعل, التخليق الجديد, وجد في المراجع النازية ووجد في سلوكيات القبائل المغولية والتترية, واليوم تفعل اسرائيل ذلك مع مجنديها خصوصا من ابناء العاهرات اللاتي يقدمن للترفيه عن جنودهم. فلكل جماعة يشعر مؤسسها بغياب العناصر المشتركة بين افرادها او قلة تاثير تلك العناصر يحاول ايجاد عناصر مشترك جديدة بين افرادها عبر خلق عادات جديدة تلغي القديمة منها او على اقل تقدير تحجمها. القبائل التترية والمغولية كانت كما القبائل العربية مقتتلة فيما بينها ولذا عمل قادتهم على خلق رياضات حربية للتنافس والتدريب الغت بالتدريج العادات القبلية الخاصة الى عادات جامعة للعرق او القومية. بل ان كل الجماعات البشرية التي تفوقت عسكريا في فترة من تاريخها, ونسب العامة ذلك التفوق الى عوامل مستقاة من الدعاية الاعلامية المبثوثة من قبل المؤسسين, هي تفوقت بفعل الدفع الجديد الذي حصل من تجمع الأشتات عبر خلق حالة مسلمات وطقوس جديدة. الامر اشبه بمجموعة سواقي تسير متناثرة تروي الارض وكل منها يتعرض لاشعة الشمس من مسطحها الخاص مع ما يعني هذا من ماء مهدور بالتبخر او فاقد لقدرة الجريان الطويل بفعل انخفاض المنسوب فيقوم رجل مفكر بجر تلك السواقي الى مجرى اعمق وهو بذلك يحقق امرين معا : الاول خفض مساحة السطح الملامس للهواء واشعة الشمس, اي خفض معدل التبخر. والثاني رفع مستوى المنسوب وتفعيل قدرة التدفق فيصب المجرى الجديد قادر على السير مسافة اطول ويصبح بالامكان لأشجار اكثر تعميرا ان تنمو على اطراف النهر بدلا من العلائق الصغيرة. هذا ما فعله الاسلام في القبائل العربية وهذا ما جعل الامبراطورية الاموية قادرة على الامتداد من الصين الى جنوب فرنسا. لقد توحدت السواقي في نهر واحد. انها نفس الطريقة التي صنع فيها بيسمارك المانية وجوج واشنطن الولايات المتحدة. خلق الانا له طريقين : اما خلق الاخر, العدو, او تغير الطقوس الى طقس جديد. يبدو ان الاديان ومؤسسيها بحكم ما في نفوسهم من خير اختاروا الطريق الثاني .
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟