|
نزار قباني وقصيدة النثر
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1881 - 2007 / 4 / 10 - 11:31
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عن دار النشر الفرنسية Actes Sud، وبالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، أصدر المؤرخ والناقد والناشر السوري الصديق فاروق مردم بك كتاباً صغير الحجم (94 صفحة) ثمين المحتوى هو "أنطولوجيا الشعر العربي المعاصر"، للفتيان هذه المرّة، مزيّناً برسوم من التشكيلي الجزائري رشيد قريشي. والمختارات، ثنائية اللغة، تضمّ قصائد من جورج شحادة، محمد ديب، نزار قباني، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، كاتب ياسين، أدونيس، سعدي يوسف، محمد الماغوط، أحمد عبد المعطي حجازي، أنسي الحاج، سميح القاسم، أمل دنقل، عبد اللطيف اللعبي، محمود درويش، عباس بيضون، قاسم حداد، محمد بنيس، ومحمد الصغير أولاد أحمد. وكما كانت الحال في مختارات سابقة ثنائية اللغة ("قصائد من الشعر العربي"، 1999، التي ضمّت مزيجاً من القديم والحديث؛ و"الشعر الأندلسي"، 2006، برسوم من قريشي أيضاً)، لم يقتصر ذكاء اختيار القصائد على اعتماد أفضل المعايير لتمثيل خصوصية الشعراء الأسلوبية فحسب، بل كذلك على ترسيم أكبر مقدار ممكن من التفاصيل صورة الجمالية لمشهد الشعر العربي في هذه الحقبة أو تلك. وأمّا في المختارات الجديدة فإنّ الذكاء القديم انطوى هذه المرّة على مفاجأة خاصة، مباغتة بقدر ما هي جسورة: أنّ قصيدة نزار قباني ليست عمودية ولا تفعيلية، بل... قصيدة نثر! و"درس في الرسم" قصيدة فاتنة حقاً، تقوم على حوارية بين فتى وأبيه حول سلسلة رسومات تنتهي إلى مفارقات نقيضة (يطلب الابن من الأب أن يرسم عصفوراً فيرسم مربعاً عليه قفل وقضبان، والبحر يصبح دائرة سوداء، وسنبلة القمح تصير مسدساً، إلى أن يطلب الابن سماع قصيدة فتسقط من الأب دمعة، لأنّ "الكلمة والدمعة شقيقتان"، و"القصيدة العربية ليست سوى دمعة تخرج من بين الأصابع"). وأمّا مفارقة الختام فهي التالية: "يضع ابني أقلامه وعلبة ألوانه أمامي/ ويطلب منّي أن أرسم له وطناً/ تهتزّ الفرشاة في يدي/ وأسقط باكياً...". مبعث المفاجأة أنّ نزار قباني (1923 ـ 1998) شاعر عمود وتفعيلة أساساً، وهو في الشكلين مجرّب متمرّس وصانع ماهر ومعلّم كبير، وقصائده النثرية لا توضع محلّ مقارنة مع قصائده الموزونة، من باب إنصاف شعريته وليس التقليل من قيمة وسيط النثر. ولكنّ قباني كان، وصار أشدّ خلال العقدين الأخيرين من حياته، ديمقراطياً في موقفه من أشكال الكتابة الشعرية: القصيدة الحرّة اجتهاد في نظره، وكذلك قصيدة التفعيلة و«القصيدة الدائرية» وقصيدة النثر، هذه التي «لا يجوز لنا أن نطلق الرصاص عليها بتهمة الخيانة العظمى، أو بحجة أنها تقول كلاماً ليس له سند أو شبيه في كتب الأولين. إن من مصلحة القصيدة العربية أن تترك باب الاجتهاد مفتوحاً. وإلا تحوّلت إلى قصيدة فاشستية. أو إلى قصيدة من الخشب»، كما جاء في تقديمه لكتاب محي الدين صبحي "الكون الشعري عند نزار قباني"، 1982. ولأنه صانع الشعر الماهر، فقد استشعر الأنواء والأعاصير والعواصف، أو مجرّد سوء الأحوال الجوية، في "جمهورية الشعر" كما كان يحلو له أن يقول، فأحسن تحصين بيته: «إنني لم أتوقف لحظة من اللحظات عن تغيير جلدي. إنني أعيش دائماً في حالة حذر وخوف من الآتي. إنني أشعر دائماً أنني أقف على أرض لا ثبات لها، وأن خيول الشعر تركض من حولي بالمئات (...) آخر تجربة لي كانت «مائة رسالة حب»، وفيه تركت مواقعي القديمة لأخرج إلى برهة قصيدة النثر، حيث السماء أرحب، والحرية تقطف بالأصابع»، كما جاء في حوار مع منير العكش يعود إلى أواخر السبعينيات. وبعد مجموعته «مئة رسالة حب»، 1970، أفرج قباني عن طائفة أخرى من قصائد النثر، في مجموعته «كل عام وأنت حبيبتي»، 1978، ثم ضمّ قصائد نثر متفرّقة في مجموعات أخرى. مدهش، مع ذلك، أن تلك السماء التي يشير إليها لم تكن رحبة معه دائماً، كما كانت حالها مع سواه من شعراء قصيدة النثر المتمرسين، حتى أن بعض قصائدة النثرية بدت ببرودة الصقيع، والجملة الاستعارية فيها بلغت مستوى مفاجئاً من الفقر التعبيري والمجازي معاً. وهكذا، لم يكن مألوفاً أن رسّام الكلام، الفصيح الرشيق الأنيق المباغت الطليق، يمكن أن يكتب التالي: "كلّ عام وأنت حبيبتي/ أقولها لكِ بكلّ بساطة/ كما يقرأ طفل صلاته قبل النوم/ وكما يقف عصفور على سنبلة قمح/ فتزداد الأزاهير المشغولة على ثوبك الأبيض زهرة ". وعشرات النماذج التي كتبها في هذا الخيار الشعري ظلّت في معظمها تحوم على حافّة غائمة بين الشعر والنثر المُشَعرَن والقول المجازي الصرف، ولم ترْقَ إلى مستوى قصيدة النثر في نماذجها العربية المتقدمة. لا أستطيع الجزم حول دوافع فاروق مردم بك في اختيار قصيدة نثر من قبّاني، وما إذا كانت فتنة هذه القصيدة تحديداً قد شدّته أوّلاً، او أنه أراد أيضاً التشديد على تعدّدية الأشكال الشعرية فضرب هذا المثال المفاجىء، أو شاء لـ "درس في الرسم" أن تمثّل هذين الاعتبارين معاً، وسواهما. أستطيع، في المقابل، الجزم بأنّ المفاجأة كانت في ناظري بهيجة تماماً، و... ضربة معلّم!
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيلوسي في دمشق: تطبيل خلف أضغاث أحلام
-
انحطاط كريستوفر هتشنز
-
شام ألفة الإدلبي
-
إيلي فيزل وصناعة الهولوكوست: الكلّ وحوش خارج الشرنقة
-
ضباع الشام
-
بوش في أمريكا اللاتينة: فشل ليس بحاجة إلى شرور اليسار
-
هل هذه فلسطين؟
-
خدّام والبعثيون في 8 آذار: اختلاط المنادي بالمنادى عليه
-
الوطن والشركاء
-
محكمة لاهاي والإبادة الجماعية: النظام عاجز والمفهوم قاصر
-
-كليو مصر- و-ليز باترا-
-
التطوّر الأحدث في عقيدة بوش: ديمقراطية أجهزة المخابرات
-
البريق الأفرو أمريكي
-
بوتين في هجاء أمريكا: النافخ في قربة مثقوبة
-
ترانيم الاستيطان
-
القيادات الفلسطينية في مكة المكرمة: وماذا عن القدس الشريف؟
-
يونيسكو العمّ سام
-
أمريكا الراهنة: إمبراطورية ردّ الصاع، أم الجمهورية الإمبريال
...
-
فيلم أمريكي سوري... قصير
-
عباس بين قبلة أولمرت وتقطيبة الأسد: العبرة في طهران
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|