الهوية الطبقية للسلطة الفلسطينية 2
حافظ عليوي
2007 / 3 / 2 - 12:19
" الانعكاسات الاقتصادية - الاجتماعية لاتفاقات اوسلو في ضوء سياسة السلطة "
والان ، الى أي مدى كانت سياسة البيروقراطية المتنفذة في م . ت . ف تعبر . عن مصالح وطموحات البرجوازية الوطنية الفلسطينية ، والى أي مدى كانت التنازلات التي اقدمت عليها البيروقراطية التي كانت تهيمن علىالقرار السياسي والاداري والمالي في المنظمة وتعكس ميول البرجوازية الوطنية الفلسطينية سواء في الوطن المحتل ام في الشتات ؟ ان اول ما يجب التأكيد عليه هو ذلك الاختلاف الواسع في الجذور الطبقية وفي مسار التشكل الطبقي لكل منهما . فالجذور الطبقية للبيروقراطية الفلسطينية بمعناها الواسع تجد تعبيرها في البرجوازية الصغيرة والمتوسطة اللاجئة التي تبلور تشكلها الطبقي في سياق نمو وتضخم الاجهزة التنظيمية والعسكرية والادارية في م . ت . ف وفي سياق هذه العملية تشكلت الشريحة العليا التي اخذت تجمع بين ايديها وتحتكر سلطة القرار السياسي والاداري والمالي في بيئة غير منتجة او في بيئة مقطوعة الصلة عن حركة الانتاج في المجتمع . ويسبب من هذا المنشأ الطبقي من ناحية ومن مسار صعودها وتشكلها كشريحة بيروقراطية مهيمنة على مركز القرار ، فقد كانت تؤثر التسلط في علاقاتها ليس فقط في اطار الائتلاف الوطني العريض في م . ت . ف بل وفي علاقاتها بالبرجوازية الوطنية سواء في الوطن المحتل ام في الشتات ، التي تختلف في المنشأ وفي مسار التشكل عن البرجوازية البيروقراطية المتنفذة . ومن هنا سادت العلاقة بين هذه الشريحة البيروقراطية وبين البرجوازية الوطنية الفلسطينية تجاذب انطوى على تناقض مركب . فمن جهة كانت البرجوازية الوطنية في الداخل تنفر في سياساتها وممارسات البيروقراطية المهيمنة في م . ت . ف ، ولكنها ، من الجهة الاخرى ، كانت تبحث لنفسها عن موقع شراكة معها في المشروع الوطني الذي ناضلت تحت لوائه للتخلص من الاحتلال ، الذي يشكل قيدا على طموحها في الاستقلال وطموحها في التطور في الاقتصادي المستقل .
لا شك ان شرائح هذه البرجوازية الوطنية كانت بحكم مصالحها تحمل نشاطها ميولا مختلطة تقف احيانا على مسافة متساوية بين البيروقراطية الفلسطينية وبين النظام في الاردن . غير ان تصاعد حركة النضال الوطني قد دفع بهذه الشرائح نحو الانسجام اكثر فأكثر مع مشروع التحرر الوطني من الاحتلال ، الامر الذي ساهم في احداث درجة اعلى من التجانس السياسي في صفوفها وفي موقفها من البيروقراطية وعلاقتها معها . دون شك كانت البرجوازية الفلسطينية في الضفة والقطاع اشد تماسكا في الموقف من مشاريع التسوية الامريكية – الاسرائيلية من البيروقراطية المتنفذة م . ت . ف ليس فقط بسبب معاناتها اليومية من الاحتلال ، الذي كان ولا زال يضع قيودا واسعة في وجه تطورها المستقل ، بل وكذلك لانها كانت تدرك ان مصالحها بالذات ترتبط بنوع التسوية ومضمونها .
ولذا كانت البرجوازية الوطنية في الارض المحتلة تمارس سياسة نقدية نحو السياسة التفاوضية للقيادة المتنفذة في م . ت . ف دون ان تحاول اعتراض طريقها او الاشتباك معها بسبب من ضعف تكوينها وتراجع دورها في الحركة الجماهيرية المناهضة للاحتلال ، خاصة بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية ، لا بل ان هذه البرجوازية كانت تسعى للبحث عن قواسم مشتركة مع القيادة المتنفذة في م . ت . ف في الموقف من الانتفاضة في ذات الوقت الذي كانت تمارس فيه سياسة نقدية لتنازلاتها على طاولة المفاوضات . في الجوهر لم يكن موقف البرجوازية الوطنية في الضفة والقطاع يختلف عن موقف بيروقراطية المنظمة من الانتفاضة ، ولهذا فقد اضاعت هذه البرجوازية على نفسها دورا مؤثرا في رسم الصورة مستقبلها في العملية التفاوضية وما انبثق عنها من نتائج في اتفاق اوسلو وما تبعها من اتفاقات وبخاصة اتفاق باريس الاقتصادي ، التي شكلت طعنة مؤلمة للغاية لطموحات البرجوازية الوطنية في التحرر وفي التطور المستقل .
وكما شكلت هذه الاتفاقيات طعنة لطموحات البرجوازية الوطنية في الداخل ، فقد اصابت بصدمة حقيقية البرجوازية " الوطنية " الفلسطينية في الخارج . فقد عاشت هذه البرجوازية " الوطنية " ولا زالت في ظل طموح التحرر من ازدواجية وضعها في بلدان الشتات . فهي من جهة جزء من الطبقة البرجوازية في هذه البلدان تتبنى قيمها ومفاهيمها عن الرأسمالية واقتصاد السوق ، ولكنها بسبب من انتمائها السياسي الوطني ليست جزءا من الطبقة الحاكمة ، اوهي تجد نفسها على هامش الطبقة الحاكمة ، حيث ان ابواب مشاركتها في السلطة السياسية غالبا ما تكون موصدة او شبكة موصدة . لقد جاءت الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها من حكومة اسرائيل بما فيها اتفاقيات باريس الاقتصادية لتحجيم طوحاتها بأن تلعب دورا في الحياة السياسية والاقتصادية في الضفة والقطاع ولتلقى بظلال من التوتر على علاقاتها مع الشريحة العليا لبيروقراطية م . ت . ف التي تحولت الى سلطة لا تملك من الصلاحيات غير تلك التي تحيلها اليها سلطات الاحتلال وفقا للاتفاقيات الموقعة .
بعد هذا يطرح نفسه السؤال التالي : سلطة ومصالح من تمثل الشريحة البيروقراطية العليا التي انتقلت الى موقع السلطة في مناطق الحكم الذاتي في الضفة والقطاع ؟ وهل تعبر السلطة الجديدة عن مصالح وطموحات البرجوازية الوطنية الفلسطينية في الوطن المحتل والشتات ؟ في الاجابة على هذا نثبت ابتداءا على مايلي : في الواقع ان هناك اندماجا كاملا بين البيروقراطية و الكومبرادور في الوطن وخارجه بدأ قبل اوسلو بنشاطات سواء من خلال المؤسسة " م . ت . ف " او كأشخاص . وتعزز هذا المنحى بعد العودة الى الوطن وانغماس هذه الشريحة البيروقراطية في نشاطات الرأسمالية الطفيلية التي اضحت تشكل الجانب الرئيسي من نشاطها حيث التركيز على امتصاص خيرات المجتمع اكثر من الاسهام في انتاجها ان التمايز بين البيروقراطية وبين رأس المال الطفيلي معدوم ، والبيروقراطية هي قمة النشاط الكمبرادوري والطفيلي ، حيث ثمة اندماج بين هذه الشرائح وليس مجرد ائتلاف . وفي هذا الاطار هناك تطور في نمط الدور الرأسمالي لهذه " التركيبة " البيروقراطية يجعلها في قلب الشريحة الكمبرادورية – الطفيلية . بعد هذا ننتقل الى التالي : على المستوى السياس يالوطني لم يقدم مشروع الترتيبات الانتقالية انجازا يمكن ان يلبي طموح البرجوازية الوطنية في التحرر من الاحتلال او تحرير السوق الوطني ولو نسبيا من التبعية للاقتصاد الاسرائيلي . فقد شكلت الترتيبات الانتقالية في الجوهر اعادة تنظيم للاحتلال من خلال تمزيق الضفة الغربية الى مناطق تحت السيطرة الاسرائيلية اما بشكل مباشر كما حال المناطق الريفية او بشكل غير مباشر كما حال مناطق المدن ، التي تحولت الى معازل تستطيع سلطات الاحتلال شل الحركة فيها بما في ذلك الحركة الاقتصادية وفقا لسياساتها ومتطلباتها الامنية . اما على المستوى الاقتصادي فقد كرس مشروع التسوية الانتقالية ، وخاصة من خلال اتفاق باريس الاقتصادي ، الاساس لتحكم اسرائيل بالسياسة النقدية والمالية وحركة السوق في كل من الضفة والقطاع ، وابقت على الاساس الذي يؤدي الى استمرار التشوهات والاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد الفلسطيني لجهة مفاقمة ضعف القدرة الانتاجية في جميع القطاعات الصناعية والزراعية وقطاعات الخدمات كذلك .
وفي التطبيق العملي خضع انسياب السلع الفلسطينية الى الاسواق الاسرائيلية بقيود واسعة تخضع لمتطلبات اسرائيل الامنية كما تخضع لاجراءات الحصار ليس فقط في الضفة والقطاع من ناحية اسرائيل ومن ناحية ثانية ، بل وبين الضفة والقطاع وكذلك بين مناطق الضفة الغربية ذاتها . الى جانب هذا فقد جاء تحكم اسرائيل في السياسة النقدية والمالية وفقا للاتفاقيات الموقعة وسوء ادارة السلطة الجديدة للاقتصاد الوطني ولمؤسسات الجهاز المصرفي في اطار الصلاحيات التي احتالتها لها هذه الاتفاقيات ليجعل من الجهاز المصرفي في ظل حالة عدم الاستقرار مصدرا لاستنزاف ودائع المواطنين ولعمليات تهريبها الى الخارج بكل ما يترتب على ذلك من خيبة امل البرجوازية الوطنية في السلطة وسياساتها الاقتصادية . فالجهاز المصرفي الذي تشكل من البنوك التجارية ومؤسسات الصرافة فضلا عن سلطة النقد الفلسطينية ، التي يفترض بها ان تقوم في حدود صلاحياتها المقلصة بدور نسبي في الرقابة والاشراف على نشاط البنوك التجارية ، لم يقدم لنشاط البرجوازية الوطنية في الصناعة او الزراعة او قطاع الخدمات تسهيلات تذكر وقد اضعف مع السياسة الاقتصادية للسلطة فرص هذه البرجوازية للنهوض بأوضاع مؤسساتها .
لا شك ان عدم الاستقرار السياسي والغموض الذي يكتنف مسيرة التسوية السياسية يلعبان دورا في زيادة مخاوف البرجوازية الوطنية من أي توسع في نشاطها الاقتصادي ، والى جانب هذا فإن السياسة الاقتصادية للسلطة لا تفتح الابواب لها لممارسة نشاطها بحوافز تدفعها للتغلب على بعض مخاوفها . فهذه السلطة ، التي اعتادت في حياة المنفى التصرف بالاموال العامة للسيطرة على اجهزة ومؤسسات وادارة المنظمة لم تغير في الجوهر من سياستها ، رغم التغير النوعي الذي وقع في تحولها من بيروقراطية لاجئة الى اخرى حاكمة " وان تحت السيطرة الاسرائيلية " في مجتمع طبقي منتج ، تختلف دورة الحياة الاقتصادية فيه عن تلك التي عاشها " مجتمع " الاجهزة ومؤسسات الادارات في المنفى .
وعلى اساس من هذا ، فقد تنامى الشعور لدى البرجوازية الوطنية في الضفة والقطاع بخيبة الامل من سياسة السلطة الجديدة ، التي نقلت معها الى الوطن تقاليد متخلفة في الادارة السياسية وادارة الاقتصاد الوطني . وقد ازدادت خيبة الامل هذه في ظل سلسلة من الممارسات السياسية والاجتماعية – الاقتصادية . فعلى المستوى السياسي جاء احكام قبضة السلطة على الغالبية الساحقة لمقاعد المجلس الفلسطيني " التشريعي " ليعكس الفجوة بينها وبين السلطة الجديدة ويعكس مناخا سائدا في صفوفها حول الطبيعة غير الديمقراطية للسلطة الجديدة . وعلى مستوى المشاركة في ادارة الاقتصاد الوطني جاء سلوك السلطة يبدد لها الآمال بفرص الافلات او التحرر النسبي من قيود الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع حكومة اسرائيل ، كما جاء انحياز السلطة في سياستها الاقتصادية لاكثر شرائح البرجوازية تخلفا فسادا ليبدد لديها طموح بفرص التطور والنمو بالرغم من قيود الاتفاقيات التي فرضتها اسرائيل على الجانب الفلسطيني .
فما ان اخذت الشريحة البيروقراطية المتنفذة في م . ت . ف وتمارس سيطرتها في اطار ما تم نقله لها من صلاحيات وفقا للاتفاقيات الموقعة حتى بدأت تتحكم بادارة الحياة الاقتصادية على النحو الذي يسمح لها ولاجهزتها باحكام سيطرتها على المجتمع دون ان تعطي اهتماما لاحتياجات ومتطلبات تطوره الاجتماعي – الاقتصادي . فقد وفرت لها الاتفاقيات موارد مالية من مصادر مختلفة كالضرائب المباشرة واربعة انواع من الضرائب عبر اسرائيل " كضريبة الاستيراد على السلع المستوردة عبر اسرائيل وضريبة القيمة المضافة على المشتريات من اسرائيل والرسوم على اسعار الوقود والسجائر والكحول وغيرها وضريبة الدخل للعمال الفلسطينيين العاملين في المشاريع الاسرائيلية " ، هذا الى جانب مساعدات الدول المانحة . وبدلا من توجيه هذه الموارد المالية لتطوير مشاريع البنية التحتية التي دمرها الاحتلال وغيرها من المشاريع الاستثمارية في قطاعات الانتاج وبعض القطاعات الاساسية في الخدمات وفتح الابواب امام البرجوازية الوطنية للمشاركة في هذه العملية ، فقد لجأت السلطة الى بناء جهاز اداري اخذ يتضخم دون توقف ويستهلك هذه الموارد المالية .
وهكذا تحولت السلطة الى رب العمل الاكبر في المجتمع وتحولت دورة رأس المال الى دورة ضعيفة الانتاج فاقمت من مشكلة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الوطني وعمقت ارتباطه بالاسواق الاسرائيلية . وبسبب تبديد الموارد المالية المتاحة للشعب الفلسطيني على نفقات جارية لجهاز اداري متضخم وفي اطار هيمنة الاحتلال واجراءاته " غلق ، حصار " والاتفاقيات الاقتصادية المجحفة ، تراجعت فرص النمو والتطور وتدهور مستويات المعيشة ولم يعد ممكنا حتى الحفاظ على معدل دخل الفرد كما كان عام 1993 ، فمن اجل الحفاظ على معدل دخل الفرد كما كان عام 1993 ، كان على السلطة استثمار نحو 30% من الناتج القومي الاجمالي او ما يعادل مليار دولار سنويا في مشاريع البنى التحتية والاساسية التي تساعد الاقتصاد الوطني على النهوض . وفي حالة التوجه لنمو سنوي في دخل الفرد بنسبة 2% بقد كان ذلك يتطلب استثمار نحو 40% من الناتج القومي الاجمالي ، أي نحو 1.4 مليار دولار ، اما في حالة التوجه لنمو سنوي في دخل الفرد يتجاوز 5% فقد كان ذلك يتطلب استثمار نحو 65% من الناتج القومي الاجمالي ، أي نحو 2 مليار دولار سنويا . غير ان سياسة اقتصادية كهذه بعيدة تماما عن توجهات السلطة بسبب تكوينها كبيروقراطية ذات طابع برجوازي مندمجة بنشاطها مع الفئات البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية والتي لاهم لها غير مراكمة الثروة في ظل وتحت حماية بيروقراطية السلطة ومشاركتها باعتبارها قمة النشاط الكومبرادوري والطفيلي .
ولم تكتف السلطة الجديدة بوضع يدها على الموارد المالية للشعب الفلسطيني ، والتي تستحوذ عليها من الضرائب والرسوم والجمارك ومساعدات الدول المانحة والقروض ، بل هي تسعى من خلال النشاط المشترك مع فئات البرجوازية الطفيلية بما فيه تلك التي تستوطن ادارات واجهزة السلطة ، لاقامة احتكارات على مقاسها تمكنها من السيطرة اكثر فأكثر على الاموال العامة ونهبها من خلال احتكار استيراد الوقود والطحين والحديد واللحوم والاصباغ ومواد البناء والاسمنت والسجائر وغيرها من السلع ، حتى باتت تسيطر ، بالتعاون مع برجوازية طفيلية قديمة نمت في ظل الاحتلال واخرى جديدة من صنعها هي ، على اكثر من ثلاثين مؤسسة احتكارية تعمل في الضفة والقطاع .
ان سياسية كهذه تستفز البرجوازية الوطنية العاملة في المشاريع الصناعية والزراعية وعدد من مشاريع الخدمات لانها تضع قيودا في وجه تطورها ، هذا التطور الذي راهنت عليه رغم موقفها النقدي من الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع حكومة اسرائيل وخاصة اتفاق باريس الاقتصادي ثم ما لبثت بعد معايشتها لسياسة السلطة ان ادركت ان رهانها كان مجرد اوهام بددتها املاءات الاتفاقيات وسياسة الحصار والخنق الاقتصادي الاسرائيلي فضلا من سياسة السلطة وسوء وادارتها وفسادها .
يتبع .. (3)
مع التحية ..