|
(1) ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية ... طفولته
مصطفى حقي
الحوار المتمدن-العدد: 1819 - 2007 / 2 / 7 - 11:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
( لمحة عن الكاتب علي الدشتي وأعماله في مطلع مقالنا- معجزة القرآن) الحوار المتمدن تاريخ10/12/2006) شحيحةٌ هي المعلومات عن طفولة النبي محمّد . فقد كان يتيم الأب والأم يعيش في كنف عمه أبي طالب ، طيب القلب قليل الثروة . ولكي يشغل وقته ويؤمن قوته ، فقد كُلّف بالخروج بإبل عمه أبي طالب وسواه إلى المرعى ، فكان يقضي معظم وقته وحيداً في الصحراء خارج مكّة . وبالنسبة لصبي مرهف وذكي، فإن تجربة سنوات عديدة في هذه المهنة لا بد أنها كانت أمرّ من العلقم . فمن الطبيعي أن يكون قد تساءل ما الذي أتى به إلى هذه الدنيا يتيم الأب لم يلبث أن فقد أمّه الفتية التي كان يمكن أن يتوجّه إليها طلباً للحب والحنان . ولا بد أن يكون قد تساءل عمّا دفع الأقدار العمياء لأن تخطف جدّه القوي والكريم وتحيله لاجئاً في بيت عمه . لقد كان عمّه طيباً ولطيفاً ، لكنّه كثير العيال ولا يقدر أن يوفر له الرعاية التي يتلقاها أبناء عمه وسواهم من الأطفال من مرتبتهم . أمّا أعمامه الآخرون ، مثل العبّاس وأبو لهب ، فكانوا يعيشون في دعةٍ لا يشغلهم أمره . أفكارٌ مثل هذه لابد أن تكون قد اعتملت في ذهنه خلال تلك السنوات من الأسى والضيق . وفي عزلة الصحراء القاحلة الرتيبة ، حيث تمطّ الإبل رقابها إلى أقصى مدى بحثاً عن شوكة أو ورقة عشب بين الصخور ، ما الذي يمكن أن يفعله المرء سوى أن يحزن ويستغرق في التأمل ؟ فالمحنة تنغص المرء وتجعله أشدّ وعياً بها وبآلامها ، خاصةً حين يُترك لنفسه دون أي شيء يصرف انتباهه أو يلهيه عنها . ولعلّنا لا نفارق الصواب إذ نرى أنّ أفكار هذا الصبي قد تحوّلت بمرور الوقت لتنصبّ على النظام الاجتماعي وتجد فيه مصدراً من مصادر تعاسته . فما يجعل بقية الصبيان من مرتبته وعمره يعيشون عيشة منعمة هو أن آباءهم ممّن يتولون أمر العناية بالكعبة . فهم يقومون على السقاية ، والرّفادة وسواها من حاجات الحجيج الذين يفدون إلى مكّة في كل عام لتأدية مناسك الحج عند الكعبة ، وقد حققوا أرباحاً طائلة من بيع البضائع التي كانوا يجلبونها من الشام بأثمانٍ غالية وشراء ما يجلبه الحجّاج بأسعار بخسة . وكانت مثل هذه التجارة هي مصدر رفاهية أبنائهم . وما الذي كان سيدفع تلك الكثرة من القبائل لتعزيز ثروة قريش وقوتها بالمجيء إلى الكعبة ؟ السبب هو أنّ الكعبة كانت تؤوي أوثاناً شهيرة وتشتمل على الحجر الأسود الذي يقدسه العرب . وكانت العرب تعتقد أنّ الطواف حول الكعبة كفيلٌ بجلب السعادة والنجاة وأنّ السعي بين التلّين القريبين ، الصّفا والمروة ، اللذين كان ينتصب على قمتهما صنمان آخران ، هو أمر ضروري لجعل الصلوات نافذة المفعول . كما كان على كل جماعة من الحجيج أن تهتف بتضرّعاتها إلى صنمها بينما هي تطوف حول الكعبة وتسعى بين الصّفا والمروة . لا بدأن تكون عين محمد النفّاذة وذكاؤه قد دفعاه ، في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره ، إلى أن يَشْرَع بالتساؤل عما إذا كان ثمّة قوة ما كامنة في الحجر الأسود وما إذا كان من الممكن أن يصدر أي فعل عن تلك الأصنام التي لا حياة فيها . ولعلّ شكوكه قد نشأت عن تجربته الشخصية . فليس من المُسْتَبعَد بأي حال من الأحوال أن يكون في لحظات حزنه وقلقه الروحي قد تقدّم للأوثان بتضرّعات تواقة راجيةٍ دون أن يقطف أية ثمار . ومما يدعم مثل هذه الفرضية تلك الآيات التي ترد في اثنتين من السور التي انهمرت من فمه بعد ثلاث عشرة سنة : ( والرُّجزَ فاهجر ) ( حيث فسّر النبي الرجز بالأوثان )- سورة المدثر الآية 5 – و ( وجدك ضالاّ فهدى ) سورة الضحى الآية 7 . بل إنّ من الصعب أن نصدق ألا يكون أشراف قريش أنفسهم قد تبيّنوا هذه الوقائع. فقد عاشوا بقرب الكعبة وأمكنهم أن يروا أنّ هذه الحجارة جامدة لا حراك فيها فلا تثصْدِرُ نعمةً ولا تبعث رحمة . وصَمْتُ القرشيين وعبادتهم اللات ، ومناة ، والعزى لايمكن أن يُفسّر بغير المصلحة الخاصة . وثمّة مثل فارسي يقول إنّ قداسة قدّيس تتوقف على حارس ضريحه. فلو فقد أشراف قريش حراسة الكعبة ، لكان ما يأتيهم منها قد توقّف وتدهورت تجارتهم المزدهرة مع الشام نظراً لتوقف الحجيج عن القدوم إلى مكة حيث يمكن للقرشيين أن يبيعوهم بأسعار مرتفعة ويشتروا منهم بأسعار رخيصة . ولا بدّ أن تكون ضروب القلق والإثارة قد هاجت في نفس محمّد الرؤيوية في تلك الأيام الطويلة التي قضاها في عزلته المتوحشة يراقب الإبل وهي تفتش عن طعامها الضئيل في الصحراء المسفوعة بالشمس . ولا بجد أن يكون اقتراب الغروب ، حين يكون عليه أن يجمع الإبل ويعيدها إلى البلدة ، قد أعاده إلى الواقع . حيث كان عليه أن ينادي الإبل ، ويحثـّها ويمنعها من الشرود ، كيما يعيدها إلى أصحابها في العشاء آمنة سليمة . وفي عتمة الليل كانت ضروب القلق والإثارة تفسح المجال للرؤى ، قبل أن تعاود مع شمس الصباح حين يؤوب إلى الصحراء الرتيبة . ولا بدّ أن تكون هذه الأشياء قد اتخذت هيئةً معينةً في أغوار عقله الباطن . فمثل هذه الشخصية الانطوائية المنكفئة على ذاتها ، والنزّاعة إلى التأمل والحلم ، دون أن يلهيها عن ذلك صخب اللذائذ المعتادة أوالحرمان منها ، ولا بدّ أن تغدو أشدّ انطوائيةً وانكفاءً كلما مرّت سنة جديدة تقضيها وحيدة في الصحراء . وعندها ، يمكن، فجأة ، أن يظهر شبح أو يُسْمَع اصطخاب الموج في بحرٍ مجهول . وبعد سنوات عديدة قُضِيَت على المنوال ذاته ، كان ثمّة تجربة جديدة تركت أثرها العميق على عقل محمّد . ففي الحادية عشرة من عمره اصطحبه عمّه أبو طالب في رحلة إلى الشام . وهناك كان له أن يرى عالماً مختلفاً أشدّ إشراقاً دون أي أمارة من أمارات الجهل ، والخرافة ، والخشونة الزائدة بين المكّيين . كان من قابلهم أشدّ تهذيباً . وكان الجوّ الاجتماعي أسعد ، والعادات القارّة أرفع وأرقى . ولا بدّ أن تكون هذه الملاحظات قد فاقمت الاضطراب في نفسه الباطنة . ولعلّه قد أدرك هناك لأول مرّة كم كان قومه بدائيين وأفجاجاً ومتعلّقين بالخرافة ؛ ولعلّه بدأ هناك أيضاً رغبته في أن يكون لقومه حلٌ أفضل ، ومجتمع أشدّ إنسانية وأقل تعلقاً بالخرافة . وليس معلوماً على وجه اليقين ما إذا كانت هذه الرحلة قد اشتملت على أوّل احتكاك له بأتباع الديانات التوحيدية ، ويبدو أنه كان آنئذٍ أصغر من أن يتحصّل على أي شيء من مثل هذا الاحتكاك؛غير أن هذه التجربة لابدّ أن تكون قد تركت أثرها على عقله الحاد والقلق. وتشير بعض الأخبار المتناقلة إلى أنه في الرحلة الثانية كان قد شبّ بما يكفي لأن يصغي بشوق إلى ما رُوي من روايات دينية . ليس عسيراً أن نتبيّن السبب في شحّ ما نعلمه عن طفولة النبي محمّد وشبابه. فلا شيء مهمّاً في حياة يتيم ترعرع في كنف عمه . كما أنه لم يتكشّف لأحد عمّا يكفي لأن تبقى لديه أيّة ذكرى عنه في تلك الفترة. ومعظم ما كُتب هنا لا يعدو أن يكون من باب التخمين القائم على نظرية مفادها أن العزلة ورتابة رعي الإبل اليومي في الصحراء كانتا كفيلتين بجعل صبيّ مثله شخصاً شديد التفحّص لدواخله ، ميالاً إلى التخيّل ، وصاحب رؤى . ولعلّ كثيراً من الآيات القرآنية التي جرت لاحقاً على شفتيه القلقتين أن تكون صدىً لتأملات شبابه وانطباعاته عن الطبيعة ومخلوقاتها . ومن الأمثلة على ذلك الآيات17- 20 من سورة الغاشية : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت* وإلى السماء كيف رُفِعَت * وإلى الجبال كيف نُصِبَت* وإلى الأرض كيف سُطِحَت) وتوفر دراسة السّور المكية إلماعات إلى نَفسٍ مفعمةٍ بالرؤى لدى شخص بعيدٍ عن مباهج الحياة المادية ومنصرف بكليته إلى صلةٍ حميمة مع نفسه ومع الطبيعة . كما تعبّر هذه السور أيضاً عن سخطٍ على أولئك المتفاخرين الهازئين مثل أبي لهب وأبي الأشد . ( من كتاب: 23 عاماً دراسة في الممارسة النبوية المحمدية ) ( الكــاتب: علي الدشتي وترجمة ثائر ديب وإصدار رابطة العقلانيين العرب )
#مصطفى_حقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لجوء الجار العراقي إلى سورية ونجدته واجب إنساني قبل القومي ؟
-
(3) ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية... ولادته
-
(2) ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية - ولادته
-
(1) ثلاثة وعشون عاماً في الممارسة النبوية - ولادته
-
الفاضلةgrce lady.....
-
العودة إلى الحنبلية وآراء بن تيمية في اتهام الشاب عبد الكريم
...
-
طريق الموت يحصد هذه المرة 26 قتيلاً و5جرحى...؟!
-
(4) ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية . الخلاصة
-
(3) ثلاثة وعشرون عاماًفي الممارسة النبوية. الخلاصة
-
هل الإسلام موجود في العراق ...؟
-
(2) ثلاثة وعسرون عاماً في الممارسة النبوية . الخلاصة
-
(1) ثلاثة وعشرون عاماً في الممارسة النبوية. الخلاصة
-
(3) السعي خلف الغنائم .....؟
-
اغتيال الصحفي التركي الأرمني هرانت دينك جريمة إرهابية ..؟
-
(2) السعي خلف الغنائم ....؟
-
ياقضاة مصر .. عبد الكريم سليمان(كريم عامر) شابٌ حرٌ متحمسٌ أ
...
-
(1) السعي خلف الغنائم ...؟
-
جنٌّ مسلمون يغتصبون منزلاً ويحرقونه من بالوعة ....؟
-
(4).... مابعد النبوّة ...الخلافة
-
(3).. ما بعد النبوّة .. الخلافة.
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|