لبنان: نظام الحلقة المفرغة والاغلبية الظرفية
باسم شيت
2007 / 2 / 2 - 11:37
شغب التباريس والورقة المشتركة ما بين التيار الوطني الحر وحزب الله، يحمل كلّ منهما الكثير من الدلالات السياسية المباشرة على تشكّل الساحة السياسية اللبنانية، ويرسمان أيضا خارطة القوى السياسية المسيطرة.
التركيبة الطائفية، وكما يتلذذ البعض بتسميتها "الصيغة اللبنانية"، ليست سوى دائرة مفرغة من الأزمات. فالتوافق الطائفي لا يتوافق مع التغييرات في المجتمع، فهو محكوم بالتأزّم كلّما حدث تغيير ديموغرافي أو اجتماعي بارز. كما أنه يسقط خيارات ودينامية سياسية/طائفية تفشل دائماً في إنتاج أغلبية ديمقراطية تستطيع الحكم، لأنها لا يفرز سوى التوافق بين أغلبيات نسبية، تكون فعاليته محدودة بإدارة الأزمة، وليس بحلّها.
المشكلة الأكبر التي تواجه إعادة التوازن لهذه التركيبة، هو تضعضع قوى 14 آذار و"الأكثرية" النيابية. بعد الثورة الديمقراطية المزعومة، والتي سمّاها البيت الأبيض "ثورة الأرز"، كانت أمام قوى 14 آذار فرص تاريخية لكسر التركيبة وإنشاء نظام جديد بإمكانه التخفيف من "توازن الرعب" القائم بين الطوائف اللبنانية.
لكن، دعونا لا ننسى أن 14 آذار هو، بذاته، تركيبة طائفية من معظم الاحزاب والقوى التي شاركت في الحرب اللبنانية الأخيرة، وهي لا تستطيع أن تكسر القالب الذي أنتجها لأنه يتعارض ووجودها السياسي. التناقض هنا هو بين حقيقتها الفعلية والدور التي أرادت أن تلعبه. ربما ظن جنبلاط أن التقمص هو وسيلة ناجعة للعمل السياسي. فإحدى الإشكاليات المؤسسة لثورة الأرز كانت في محاولة الميليشيات أن تكون هي الحل "المدني".
لا مصلحة مباشرة ولا تاريخية لهذه القوى في بناء الديمقراطية في لبنان، بل كانت الظروف الإقليمية والعالمية تخوّلهم استلام زمام السلطة والالتحاق بالمشروع الديمقراطي الأميركي-الأوروبي. اغتيال الحريري لم يكن سوى السبب المباشر، لكن قوى 14 آذار كانت تتحضر منذ التمديد للحود.
عدم وجود هذه المصلحة الديمقراطية، وكونها ليست سوى مصلحة ظرفية لاستلام الحكم وضع تلك القوى أمام واقع السياسة اللبنانية. لم ينتبه جنبلاط وغيره من المفكرين الثوريين كـ"سمير جعجع" و"الشيخ سعد" أن لبنان ليس أوكرانيا. تناسوا أنهم لو كانوا يريدون فعلاً إحداث ثورة ديمقراطية، كان عليهم، على الأقل، القيام بإصلاحات ديمقراطية، ولو شكلية، للمحافظة على قيادتهم للثورة. زعامتهم للثورة كانت ظرفية. ارتأى حينها الثوار الثلاث أنهم قد يستطيعون إنتاج ثورتهم الديمقراطية من خلال استغلال النظام الطائفي. لم يفطنوا إلى أن الطائفة هي شكل غير ديمقراطي، فكانت الوسيلة هي الفعل المدمر للهدف. ومن هنا بدأت الاخطاء المتتالية.
الخطاء الأول كان التخلي عن معركة "إسقاط لحود" بعد وصفه برأس النظام الأمني. البطريرك عارض معركة إسقاطه. فكيف يقفون ضد "الزعيم الروحي للطائفة المارونية" وهم يستغلّون ذلك المنصب للتعبئة الطائفية؟ لم تدرك القيادات الفذّة أن الرأي العام الشعبي كان مع إسقاط لحود، بغض النظر عن موقف البطريرك. ظهر الخطر الأوّل للديمقراطية بالخروج عن السيرورة الطائفية. خاف الثوار وتراجعوا عن المعركة، فكانت الهزيمة الأولى.
هذا لا يعني أن إسقاط لحّود كان ليمثّل انتهاء النظام الأمني، لكنه كان سيأتي بعد سقوط الحكومة و"المقعد السني"، لتصبح هناك إمكانية لإسقاط "المقعد الشيعي". هذه العملية المثلّثة كانت ستؤدّي إلى ضرب الصيغة التوافقية.
الخطأ الثاني كان تراجع الثوار مجدداً عن فرصة تاريخية أخرى لكسر منظومة الطوائف، كانت سنحت لصياغة قانون انتخابات يلغي الطائفية السياسية ويخفّض سن الاقتراع الى 18 سنة. مجدداً، رفض البطريرك وغيره من "القوى الروحية" هذه المطالب، وهي أيضاً مطالب شعبية تم التعبير عنها بشكل جدي في السنوات التي تلت اتفاق الطائف. هنا أيضاً كان بإمكانهم إفراغ المنظومة الطائفية من محتواها الشعبي، وإنشاء قطبية غير طائفية على الساحة السياسية المحلية. ولكن، كيف لهم ان يفعلوا ذلك وهم الطائفيون؟
الخطأ الثالث كان التحالفات الظرفية مع أخصامهم في السياسة، كالتيار الوطني الحر وحزب الله، وإن خرج التيار عنها. هذه التحالفات أوضحت للرأي العام أن الثورة لم تكن تريد تغيير النظام، بأي شكل، ولم تكن سوى صراعاً على الحكم ضمن توافق طائفي أراد الثوار إبقائه لأنه يبرر بقائهم.
هذه الأخطاء وضعت الشارع اللبناني مجدداً أمام فرض الواقع السياسي ذاته الذي كان موجوداً أثناء الوصاية السورية. عادت الطوائف والأغلبيات النسبية، وبرهنت الساحة السياسة أنه ليس هناك من أغلبية فعلية، بل أغلبية ظرفية تتمتع بها في الوقت الحالي قوى 14 آذار. إدراك "الثوار" لهذا الأمر جاء متأخراً. فاستطاع حزب الله والتيار الوطني الحر استعادة زخمهما والاستفادة من أخطاء منافسيهم. تمكّنوا من إعادة رسم الأغلبيات. وكما قال "عون"، فإن 14 آذار يمثل ثلث الشارع اللبناني، وهو (عون) يمثل الثلث الثاني، وحزب الله الثلث الثالث، ووافقه حزب الله.
هنا بدأت تتواصل الخطوط السياسية بين التيار الوطني الحر وحزب الله. من خلال اتفاقهما على تلك الحقيقة (النسبية) سيمكّنون من فرض شروط أقوى على الفريق الأول. يعلم الفريقان أن الأحداث تحتّم أن يكون الحل من خلال خيارين: إمّا اتفاق طائف جديد يحدد أطر إدارة أزمة الطائفية السياسية في لبنان، وإمّا ثورة مضادة قد تتحول إلى أعمال عنفية.
في ظل هذا التوجه، كانت قوى 14 آذار تتخبط يميناً ويساراً بفعل تطرّف الخيارات السياسية لبعض زعمائها وعدم وحدة صفها. هنا، خرجت مجدداً عن الموقف العام الذي لم يقتنع بالسياسة الانتقامية الجنبلاطية، وخاف الناس من نشوء حرب أهلية أخرى.
الحرب بدأت، وإن لم تأخذ شكلاً عسكرياً شاملاً، واكتفت بأعمال عنف في بعض المناطق والضواحي. بدأت، ودامت، وهي الآن تشارف على نهايتها. وكما تعلّمنا من حروبنا السابقة، نهايتها ستكون الأمرّ والأسوأ عندما تتحول إلى حرب الميليشيات على المواطنين.
يقول ماركس أن التاريخ يكرر نفسه، في المرة الاولى كمصيبة، وفي المرة الثانية كمهزلة. الحرب الأهلية حدثت في عام 1860 في جبل لبنان، كرر التاريخ نفسه للمرة الاولى كمصيبة في حرب الـ75، والآن يعيد نفسه للمرّة الثانية: المهزلة.
بعد تلك الأخطاء المتكررة، أراد الثوار إعادة التاريخ إلى الوراء: إعادة إحياء تجمّع ساحة الشهداء (مخيّم الحرية)، والمطالبة بإقالة لحود. لكن هذا المطلب خرج عن إطاره التاريخي والسياسي. سنحت لهم الفرصة ولم يستغلوها فخسروها، ومحاولة إعادة هذه الفرصة إلى الحياة عبّر عن ضعف سياسي وغياب الإستراتيجية، مما أفقدهم زخمهم الشعبي.
في هذه الظروف جاءت حادثة التباريس يوم الأحد 5 شباط، وكانت صفعة للحكومة والأغلبية النيابية، وأصبحت تهدد وحدتهم. أثبتت مجدداً ظرفية تلك الأكثرية، وأن التوافق الطائفي ما زال يحكم، وأثبتت أيضا عجز الحكومة، خاصة قوى 14 آذار، عن إدارة البلاد سياسياً وأمنياً.
جاء التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر ليفرض مجدداً مبدأ التوافقية، أي تحديد الخيارات على أساس توافق بين أغلبيات نسبية، وإنتاج معاهدة جديدة لإدارة الأزمة. لكن قوة التفاهم ليست فقط في الدلالات السياسية، بل أيضاً في الشكل. حصل التفاهم بعد سلسلة من اللقائات التي جمعت لجاناً عُيّنت من قبل الطرفين. الشكل من التفاهم السياسي جاء ليرد على الفوضى والتكسّر في قوى 14 آذار في السياسة وفي الشكل. استطاع استمالة الشارع اللبناني، خاصّة الشارعين الشيعي والمسيحي. ففي استفتاء قام به مركز بيروت للأبحاث والمعلومات، جاء في النتائج أن 77% من المسيحيين يرون مصلحة وطنية في لقاء عون وحزب الله.
الأوراق ما تزال مفتوحة، وكذلك الخيارات السياسية للأقطاب الثلاث. ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله تمثل مسودة أولية لاتفاق طائف جديد، ومن هنا كان تأكيد الطرفين على أن الورقة هي دعوة مفتوحة للحوار، أي أنها تدعو قوى الأغلبية في 14 آذار لأن تنتج معها عقداً جديداً لإدارة الأزمة.
توقيت الاتفاق حشر الأغلبية النيابية في موقع ضعف. وبدأ يرسم، إلى حد ما، شكل مرحلة جديدة للتنظيم السياسي والحزبي في لبنان. التيار الوطني الحر وحزب الله حزبان منظّمان، ولديهما توجهات إيديولوجية وسياسية تعطيهما وضوحاً أكثر في مواقفهما، مما يطمئن الرأي العام. بالإضافة إلى أن الحزبين نشآ في المدن وهما أكثر استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية.
السيناريو الأكثر ترجيحاً قد يكون إعادة صياغة وثيقة طائف جديدة تواكب التغيرات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية في لبنان. لكن الخطر يبقى في "شطح" آخر لقوى 14 آذار، نحو التمرّد المتهور في السياسة، الذي قد يقابله احتدام وامكانية ظهور صراعات ذات طابع عنفي، من داخل السلطة ومن خارجها.في الحالتين، ستكون حرباً تشنّها الطبقة الحاكمة على المدنيين. أفضل نتائجها سيكون عقد جديد بين الطوائف، يجدد الأزمة ولا يلغيها.
المذنب هنا، والمسؤول عن هذه الأزمة هي الطبقة السياسية التي تحكم البلد منذ الخمسينيات، والمسؤول المباشر هي الحكومة والمجلس النيابي الحالي. لن يكون الحلّ سوى باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكّرة على أساس التمثيل النسبي غير الطائفي، أي إلغاء الطائفية السياسية، لأنها خرجت من النفوس وتحوّلت إلى سلاح يهدد سلامة المواطنين اللبنانيين وغير اللبنانيين.
الذين هم في السلطة اليوم لن يقوموا بهذا التغيير، لأنه ينتقص من سلطتهم. لذا، علينا، كدعاة للديمقراطية وكدعاة للعلمانية، أن نشكّل حركة تستطيع أن تفرض هذه التغييرات، لا أن نلتحق بمشروع طائفة أو تحالف فوقي لمجموعة طوائف. لن يكون هناك حلّ سوى التخلص من النظام الطائفي برمّته، لأنه يعني التخلص من توازن الرعب، وإرساء ديمقراطية حقيقية، تمثّل إرادة اللبنانيين، لا إرادة بعض من تسلّط بقوّة السلاح أو المال أو التابو الديني.