المركزية الديمقراطية
رياض الشرايطي
2025 / 4 / 16 - 18:11
المركزيّة والديمقراطيّة
فبين المركز والانقسام، بين الإرادة الجماعيّة وتشتّت القرار ، في الحاجة إلى مساءلة العلاقة بين المركزيّة والدّيمقراطيّة .
فمنذ نشأة الفكر الماركسي، شكّلت العلاقة بين المركزيّة والدّيمقراطيّة إحدى أعقد المسائل النّظرية والتّنظيمية، وأكثرها جدليّة داخل الحركات الثّورية. فهي علاقة تنطوي على توتّر دائم بين الحاجة إلى وحدة الإرادة والعمل، وبين ضرورة احترام التعدّد والاختلاف، وهي أيضا علاقة تتراوح بين مفاهيم التّنظيم والانضباط من جهة، ومفاهيم المشاركة والرّقابة من جهة أخرى. ليست المسألة، إذا، مجرد مسألة تقنيّة إداريّة داخل الأحزاب أو النّقابات، بل هي جوهر سياسيّ يطال أسس التصوّر الماركسي للتّاريخ، وللعلاقات الاجتماعيّة، وللصّراع الطّبقي نفسه.
يطرح هذا الإشكال سؤالا مركزيا: كيف يمكن للثّورة ، باعتبارها فعلا جماعيا يسعى إلى تغيير جذري في بنية المجتمع ، أن تُدار دون أن تنزلق نحو البيروقراطيّة؟ كيف يمكن للتنظيمات الثّورية أن تبني قيادة موحّدة وصلبة دون أن تُسكت القاعدة أو تُقصيها؟ وهل يمكن فعلا أن تتعايش الدّيمقراطية بمعناها الحيّ والفعليّ، مع مركزيّة القرار والانضباط الحزبي دون أن يُضحى بأحد الطرفين؟
يبدو هذا السؤال أكثر حدّة اليوم، في ظلّ ما نشهده من أزمات عميقة داخل اليسار العالمي والعربي تحديدا: تصدعات تنظيميّة، صراعات داخليّة، غياب الرّؤية الموحّدة، وعجز مزمن عن التأثير في الواقع أو قيادة الجماهير. لقد صار من الواضح أنّ غياب وضوح تنظيمي وفكري حول العلاقة بين الدّيمقراطية والمركزيّة، يؤدّي إمّا إلى تكرار نماذج تسلّطية قديمة ترتدي قناع المركزيّة الدّيمقراطية، أو إلى تشتّت عفوي ينتهي بانهيار أيّ مشروع سياسي جاد. والحال أن هذا التذبذب بين قطبي النقيض ، الاستبداد التنظيمي والفوضى الدّيمقراطية ، لا يخدم إلا قوى النّظام الرّأسمالي.
ولعلّ ما يزيد الطّين بلّة، هو ما لحق بمفهوم "المركزيّة الدّيمقراطية" نفسه من تحريف وتشويه، خاصة بعد التّجربة السوفياتية البيروقراطيّة التي حوّلت هذا المبدأ إلى أداة طاعة وخضوع مطلق. وهذا ما جعل كثيرا من الحركات اليسارية في العقود الأخيرة تنفر من هذا المفهوم، أو تتعامل معه كأثر من الماضي، متناسين أن أصله النّضالي الثّوري ، كما طوّره لينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ ، كان موجها لتعزيز المشاركة الجماعية، وتمكين القواعد الشعبية من الفعل والتنظيم، لا لخنقها أو تهميشها.
من جهة أخرى، لا بد من مساءلة هذا المفهوم في ضوء التحديات الراهنة، لا فقط كتراث نظري، بل كممارسة حيّة تواجه واقعيا أزمات التنظيم والنضال والتمثيل داخل الأحزاب الثورية، كما في المنظمات النقابية والجماهيرية. فهل ما زالت المركزية الديمقراطية صالحة لتنظيم العمل السياسي في زمن الإعلام الرقمي، والفردانية النيوليبرالية، والانفجار الهوياتي؟ وكيف يمكن إعادة بنائها من جديد، دون الوقوع في بيروقراطية الماضي أو في تفاهة الليبرالية الجديدة؟.
تُطرح هذه الأسئلة بإلحاح خاص في السياق العربي، حيث تعاني الأحزاب العمالية واليسارية من أمراض تنظيمية مزمنة: قيادات جامدة، قواعد مفككة، غياب المحاسبة، انعدام الديمقراطية الداخلية، وغياب الإستراتيجية الواضحة. كما أن كثيرا من النقابات والمنظمات الجماهيرية، رغم اعتمادها الشكلي لمبدأ المركزية الديمقراطية، فإنها تعاني من هيمنة مركزية مطلقة، أو من انقسامات دائمة تُفرغ العمل النقابي من محتواه الطبقي.
انطلاقا من هذه الإشكاليات النظرية والسياسية والعملية، يسعى هذا النصّ إلى إعادة فتح النقاش حول العلاقة المعقدة بين المركزية والديمقراطية من منظور ماركسي ثوري، مستحضرة مساهمات مفكرين كبار مثل تروتسكي، لينين، وروزا لوكسمبورغ، ومستندة إلى التجربة التاريخية للحركات العمالية، مع محاولة إسقاطها على السياقات الراهنة في العالم العربي والعالمي. إن الهدف من هذا النص ليس تقديم وصفة جاهزة، بل إعادة طرح الأسئلة الجذرية حول التنظيم، القيادة، المشاركة، والسلطة داخل الحركات الثورية، في أفق استعادة المعنى الحيّ للمركزية الديمقراطية كأداة تحرر لا كقيد جديد.
1. المركزية كأداة ثورية مشروطة: جدل الضرورة والمخاطر .
في السياق الثوري، لا تُفهم المركزية كخيار تنظيمي فحسب، بل كضرورة تكتيكية واستراتيجية تُفرضها طبيعة الصراع الطبقي، خصوصا في لحظاته الحادة. بالنسبة لتروتسكي، المركزية تُعبّر عن وحدة القرار والتنفيذ في سياق التهديدات الخارجية، لكنها مشروطة بديناميكية جماهيرية ديمقراطية تحصّنها من الانحرافات.
قال تروتسكي:
"المركزية الثورية ليست غاية في ذاتها، بل أداة لتعبئة القوى المنتجة وتنظيمها في وجه الرأسمالية. وحين تفقد هذه الصلة، تصبح عبئا على الثورة."
ويُذكرنا لينين في ما العمل؟ أن "الانضباط الحديدي داخل الحزب الثوري" لا يُفهم بوصفه استبدادا، بل كإرادة جماعية تستجيب لتحديات مادية تاريخية. ومع ذلك، لا يُنكر أن المركزية، إذا لم تُدمج داخل آلية نقد ذاتي وتداول جماهيري، تتحول إلى شكل فوقي من أشكال الهيمنة.
ويضيف أنطونيو غرامشي:
"المركزية في المجتمع الاشتراكي يجب أن تتأسس على إرادة مثقفين عضويين، لا على سلطة تكنوقراطية منفصلة عن الشعب."
هكذا تتضح الصلة بين المركزية والثقافة السياسية للجماهير: فالمركزية الثورية لا تكون تقدمية إلا بقدر ما تعكس وعيا شعبيا وتشاركية نقدية.
2. الديمقراطية العمالية: من الشكل إلى الجوهر
يُميز تروتسكي بين الديمقراطية البرجوازية، التي تُمارس كحق فردي في سياق هيمنة طبقية، والديمقراطية العمالية التي تُبنى على المشاركة الجماعية الواعية في التخطيط والإنتاج والسلطة. كتب في الثورة المغدورة:
"الديمقراطية في ظل الرأسمالية حرية للأقوياء، وفي ظل الاشتراكية يجب أن تكون سلطة للفقراء."
بينما تعتبر روزا لوكسمبورغ أن جوهر الديمقراطية الثورية يتمثل في المساحات الحرة للنقد الشعبي. تقول:
"بدون حرية النقد وحرية التنظيم للجماهير، لا ديمقراطية، بل مجرد شعار جوفاء."
وهذا لا يعني الفوضى، بل تطوير آليات جديدة للمساءلة الجماهيرية. الديمقراطية العمالية ليست ترفا بعد الثورة، بل شرط استمراريتها وتجددها ضد البيروقراطية والتكلس.
كما يشير إرنست ماندل إلى أنّ:
"الديمقراطية الحقيقية تبدأ حين تتوقف عملية صنع القرار عن أن تكون حكرا على أولئك الذين يحتكرون المعرفة والسلطة."
3. الحزب الثوري والمركزية الديمقراطية: توتر بنّاء لا قمعي
تصور تروتسكي الحزب الثوري كأداة ديناميكية تستوعب الطيف الكامل للاجتهاد داخل الطبقة العاملة، شريطة الحفاظ على وحدة الفعل. المركزية الديمقراطية ليست مجرد مبدأ تنظيمي، بل تجسيد لشكل العلاقة بين القيادة والقاعدة: نقاش حر ، ثم قرار موحد.
"الحزب الثوري يجب أن يكون كالسيف في يد الثورة: حادا، لكن لا يُستخدم دون وعي جماهيري ناضج."
(تروتسكي، من مؤلفات المعارضة اليسارية).
لينين نفسه، رغم انضباطيته، كتب عام 1921:
"لا معنى لأي مركزية دون حياة ديمقراطية داخل الحزب، وإلا ستصبح المركزية بيروقراطية تقضي على الفكر الاشتراكي."
ويؤكد جورج لوكاش أن:
"الحزب الذي لا يُطور أدواته النقدية ويُخضع قراراته لنقاش عمالي، يتحول من طليعة طبقية إلى جهاز إداري."
هكذا نرى أن المركزية الديمقراطية ليست وصفة ميكانيكية بل مشروع سياسي ثقافي يتجدد بالوعي.
4. البيروقراطية كنقيض للثورة: من الدولة إلى طبقة جديدة
في قراءة تروتسكي للتجربة السوفيتية، كانت البيروقراطية الستالينية ليست مجرد انحراف إداري، بل تشكل طبقي جديد صادر السلطة من العمال، وخلق دولة "ما فوق طبقية" تحت ذريعة المركزية الثورية. كتب في الثورة المغدورة:
"لقد خلقت البيروقراطية لنفسها امتيازات طبقية، تمامًا كما فعلت البرجوازية، لكنها فعلت ذلك باسم الاشتراكية."
هذا التحليل يتجاوز المأزق الأخلاقي ليكشف الطبيعة البنيوية للبيروقراطية: جهاز يعيد إنتاج ذاته، ويُفرغ المؤسسات من مضامينها الديمقراطية.
غرامشي بدوره يُحذّر من "بيروقراطية العقل"، أي من احتكار فئة محددة لأدوات التفكير والتخطيط، مما يُضعف الحراك الجماهيري ويؤدي إلى "جُمود في الإرادة التاريخية للشعب".
5. الثورة الدائمة وتجدد الديمقراطية: ضد التكلس والنهج الواحدي
تصور تروتسكي للثورة الدائمة يتجاوز الثورة كفعل منفصل في الزمن، إلى كونها عملية مستمرة لإعادة تشكيل المجتمع عبر نقد دائم للسلطة، حتى لو كانت "ثورية" في شكلها. فكل ثورة مهددة بالتحجر إذا لم تتجدد بنقد داخلي.
قال تروتسكي:
"حين تتوقف الثورة عن مساءلة ذاتها، تُمهّد الطريق للثورة المضادة."
وهذا يعني أن الديمقراطية داخل الثورة ليست لحظة توافق، بل شرط بقاء. فكل تجربة اشتراكية تحجب النقاش، تُمهد لانبعاث روح الدولة البرجوازية من داخلها، ولو بلباس ثوري.
إرنست ماندل يؤكد أن:
"الثورة لا تنتهي بالاستيلاء على السلطة، بل تبدأ هناك. وكل مركزية تفقد جذورها في إرادة الجماهير، تُصبح بيروقراطية."
فالعلاقة بين المركزية والديمقراطية هي علاقة جدلية، لا تناقض ثنائي مغلق. فالمركزية ضرورية لتماسك الفعل الثوري، لكنها تصبح خطرة إذا انفصلت عن ديمقراطية عمالية حية. والديمقراطية لا تعني الفوضى، بل آليات جماهيرية للرقابة والتوجيه والتجديد.
قال تروتسكي ذات مرة:
"الثورة التي لا تُدافع عنها الجماهير ستُخنق، والثورة التي لا تنقد نفسها ستموت."
من هنا، فإن المشروع الاشتراكي التحرري يحتاج إلى أشكال جديدة من الديمقراطية تتجاوز الشكل التمثيلي، وتُعيد السلطة إلى المنتجين أنفسهم، في التنظيم، في الإنتاج، وفي الحياة السياسية والثقافية.
6. المركزية الديمقراطية في الأحزاب والمنظمات الراهنة: واقع وتحديات
رغم الأصول النظرية الغنية لمفهوم "المركزية الديمقراطية"، فإن تطبيقاته المعاصرة في الأحزاب اليسارية العمالية والاشتراكية والشيوعية، سواء في الوطن العربي أو العالم، تتفاوت بين الالتزام الحي بهذا المبدأ والتحول الشكلي أو البيروقراطي له. ففي السياقات العربية، تأثرت العديد من الأحزاب الشيوعية والتقدمية بتاريخ طويل من القمع السياسي، مما دفعها أحيانا إلى تبني مركزية مشدّدة ذات طابع دفاعي، أخلّت فيها بالبُعد الديمقراطي، ومالت نحو الانغلاق الداخلي وإعادة إنتاج القيادة ذاتها.
ففي عدد من الأحزاب العمالية في المشرق والمغرب العربي، أضحت المركزية الديمقراطية أقرب إلى "مركزية تنظيمية" مُفرغة من محتواها الجدلي والنقدي. تُعقد المؤتمرات ويُعلن فيها عن نقاش داخلي، لكن الغالب أن القرارات تكون معدّة سلفا، ويُهيمن على التنظيم منطق فوقي يمنع التجديد الحقيقي في القيادة والممارسة. وهذا يتعارض جذريا مع ما أراده لينين حين كتب:
"المركزية الديمقراطية ليست انضباطا مفروضا من فوق، بل انضباط يفرضه الوعي من تحت."
في المقابل، هناك تجارب أخرى، في بعض التيارات الماركسية الحديثة، خصوصا لدى أحزاب في أمريكا اللاتينية أو ضمن أطياف اليسار الثوري الجديد في أوروبا، تحاول أن تُعيد إحياء هذا المبدأ عبر الانفتاح على الديمقراطية القاعدية، وتوسيع هامش المشاركة، بل ودمج أدوات التكنولوجيا والتشاور القاعدي الرقمي ضمن هيكل التنظيم.
أما في المنظمات النقابية، فإن المركزية الديمقراطية تُعد ركيزة تنظيمية قائمة بذاتها، تُتيح وجود قيادة تنفيذية تتحرك باسم النقابيين، لكنها تظل خاضعة لقرارات المجالس العامة أو الهيئات التمثيلية المنتخبة. ورغم أن الكثير من النقابات، خاصة في العالم العربي، تُعاني من التسييس أو التبعية للأحزاب أو السلطة، إلا أن الطابع الديمقراطي التمثيلي يظل أساسًا قانونيا وتنظيميا، حتى وإن تم تعطيله ميدانيا.
في تونس مثلا، يشكّل الاتحاد العام التونسي للشغل نموذجا جدليا لهذا التوتر، حيث تبرز أحيانا ممارسات فوقية من القيادة، في مقابل محاولات قاعدية لإحياء دور النقابات الأساسية والهيئات القطاعية، وهو ما يكشف الصراع الدائم بين المركزية والديمقراطية داخل الجسم النقابي نفسه.
ويُلفت النظر ما قاله إرنست ماندل في هذا الصدد:
"النقابة التي لا تُجدد دماءها من خلال نقاش داخلي صادق تفقد ليس فقط مشروعيتها، بل حتى قدرتها على التفاوض الطبقي."
كما أن النقابات في أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، خصوصا تلك المرتبطة تقليديا بأحزاب اليسار التاريخي، أصبحت اليوم ساحة تجريب حقيقية لاستعادة التوازن بين القيادة المركزية وبين المشاركة القاعدية، خاصة في ظل صعود النيوليبرالية، وهو ما يجعل الديمقراطية النقابية اليوم أداة كفاحية بامتياز.
7. المسار الأممي: بين الأمل والانغلاق
على المستوى الأممي، تواجه الأحزاب الشيوعية والاشتراكية تحديا مزدوجا: من جهة الانهيار التنظيمي الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفيتي، ومن جهة أخرى التحديات الجديدة التي تفرضها الليبرالية المعولمة، والتغيرات الطبقية في البنية الاجتماعية. هذا ما جعل عددا من التيارات الماركسية تنحو إلى نماذج أكثر مرونة للمركزية الديمقراطية، تحافظ على وحدة البرنامج، لكنها توسّع النقاش الداخلي، وتقبل وجود تباين تنظيمي مشروط داخل الحزب الواحد.
أحزاب مثل "اليسار الجديد" في إسبانيا (بوديموس)، و**"التحالف الأحمر والأخضر" في الدنمارك**، بل حتى بعض أطياف اليسار الفرنسي، تحاول تطوير نموذج تنظيمي بديل يُعيد الاعتبار للجماهير في اتخاذ القرار، دون التخلي عن العمود الفقري الذي توفره المركزية كأداة فكرية وتنظيمية.
8. نحو مركزية ديمقراطية جديدة: نقد، تجديد، مشاركة .
إن نقد الممارسات البيروقراطية لا يعني بالضرورة رفض المركزية، بل بالعكس، يعني إنقاذها من التحجر. المركزية الديمقراطية اليوم مطالبة بأن تتجدد فكريًا وتنظيميًا، من خلال:
▪︎دمج أدوات التشاور الإلكتروني والنقاشات المفتوحة مع أدوات العمل المركزي.
▪︎تطوير آليات تداول القيادة داخل الأحزاب والمنظمات.
▪︎تعزيز الثقافة السياسية التي ترى في النقد الداخلي أداة تقوية لا تهديد.
كما قال روزا لوكسمبورغ:
"الحرية دائمًا وأبدًا هي حرية من يُفكر خلافا للقيادة."
بهذا الامتداد، يصبح التحليل التاريخي والفكري الذي طرحه تروتسكي، ولينين، ورفاقهم، أرضية متجددة لفهم تعقيدات العلاقة بين المركزية والديمقراطية لا كمفارقة، بل كمعركة دائمة لتجذير الاشتراكية في واقع متغير.
9. المركزية الديمقراطية في سياق الحركات الاجتماعية واليسار غير التقليدي .
في العقود الأخيرة، لم تعد قوى التغيير محصورة داخل الأحزاب الشيوعية أو النقابات الكلاسيكية، بل ظهرت حركات اجتماعية أفقية الطابع، ترفض المركزية التقليدية، وتطرح بدائل قاعدية مثل الديمقراطية المباشرة، والمجالس الشعبية، والهيئات التشاركية. وقد وُلد من داخل هذه الحركات تيار جديد من التفكير اليساري، يُعيد مساءلة مفهوم "المركزية الديمقراطية"، دون التخلي بالضرورة عن جوهره الجدلي.
فحركات مثل Occupy Wall Street أو السترات الصفراء، أو حتى الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، طرحت شكلا من التنظيم الأفقي، الذي يُعلي من شأن القاعدة الشعبية لكنه في كثير من الأحيان افتقر إلى الفاعلية السياسية والاستمرارية، نظرا لغياب أدوات التنسيق المركزي واتخاذ القرار الفعّال. وهذا ما أشار إليه تروتسكي حين حذّر من أن:
"الوعي العفوي للجماهير، مهما بلغ عمقه، لا يُنتج وحده أدوات النصر، بل يحتاج إلى إطار تنظيمي قادر على التوجيه."
من هنا يمكن القول إن دمج المركزية الديمقراطية في الحركات الاجتماعية، عبر تطوير صيغ مرنة تسمح بتنسيق جماهيري لا يُفرّط في المشاركة الشعبية، هو أحد المهام النظرية والتنظيمية لليسار المعاصر.
10. إرث المركزية الديمقراطية ومهام اليسار اليوم
إذا كانت المركزية الديمقراطية قد شُوّهت تاريخيا باسم "الحزب القائد"، أو تم تقزيمها إلى مجرد طاعة تنظيمية، فإن مهمة اليسار اليوم هي استعادة معناها الحي كأداة توازن بين الضرورة التنظيمية وشرعية القرار الجماعي. وهذا لا يعني فقط تطوير اللوائح الداخلية للأحزاب، بل إعادة تشكيل الثقافة السياسية ذاتها.
لوكاش قال يوما:
"الحرية داخل الحزب لا تُقاس بعدد الأصوات، بل بعمق الحوار."
والعمق الحقيقي لهذا الحوار لا يتحقق إلا حين يُدرك اليسار أن الديمقراطية ليست مجرد وسيلة لضبط الخلاف، بل وسيلة لإنتاج المعنى السياسي الجماعي، ولإعادة تشكيل الذات الثورية باستمرار.
11. المركزية الديمقراطية بين الشكل والمضمون: تجارب الصين وكوبا نموذجًا
التجربة الصينية، بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، طالما ادّعت أنها تتبنى مبدأ المركزية الديمقراطية، ولكن الممارسة الواقعية منذ الثورة الثقافية إلى ما بعد إصلاحات دنغ شياو بينغ، كشفت تحوّل هذا المبدأ إلى غطاء بيروقراطي سلطوي يُجمّد النقاش الداخلي، ويُفرغ الديمقراطية من كل مضمون طبقي.
أصبحت "الديمقراطية" داخل الحزب الصيني محصورة في آليات مشاورة شكلية، بينما القرار الفعلي يُصاغ في مراكز مغلقة للسلطة، دون مساءلة قاعدية. كما أن العلاقة بين الحزب والدولة اختزلت في اندماج بيروقراطي يضع السلطة فوق الطبقة العاملة، ويحوّل الدولة الاشتراكية إلى دولة تسويقية ذات طابع سلطوي.
تروتسكي كان قد حذّر من هذا الشكل قائلا:
"حين يتحوّل الحزب من أداة تحرر إلى جهاز للحكم، تتآكل الديمقراطية من الداخل ويُصبح الخطر بيروقراطيا لا برجوازيا.
أما التجربة الكوبية، ورغم بقاء الخطاب الاشتراكي ظاهرا، فقد تأثرت بمنطق "القيادة التاريخية" والثقل الرمزي للثورة، مما عطّل ديناميكية التجديد الديمقراطي داخل الحزب والدولة. المركزية الديمقراطية هنا تُمارس كـ"توافق حول الثورة"، لا كاختلاف مشروع داخلها، وهو ما ينتج نمطًا من الإجماع المُمأسس يمنع النقد.
قالت روزا لوكسمبورغ:
"حتى الثورات التي ولِدت من أنقى النوايا، حين لا تسمح بتعدد الأصوات، تُغتال بذاتها."
12. تنظيمات الإسلام السياسي: مركزية فوقية دون ديمقراطية
تنظيمات الإسلام السياسي (مثل الإخوان المسلمين، حزب الله، أو النهضة) تُمثل نموذجا تنظيميا قائما على مركزية صارمة، ولكنها تفتقد بالكامل للبعد الديمقراطي الداخلي كما يُفهم في الفكر الماركسي. القرارات تصدر من "مجالس شورى" أو "قيادات شرعية"، ولكن الطاعة التنظيمية تُقدّم على النقاش، والتماهي مع القيادة يُعد شرطًا للانتماء.
في هذه التنظيمات، تُستبدل "الديمقراطية" بـ"السمع والطاعة"، وتُؤسس القيادة لا على الجدل الطبقي بل على سلطة فقهية أو كاريزمية دينية. وهو ما يُعيد إنتاج شكل هرموي أبوي لا يسمح بالنقد، ويمنع التداول، ويُفرغ الفعل السياسي من أي أفق تحرري حقيقي.
وكما كتب غرامشي:
"لا يمكن لمن يُنتج طاعة دينية أن يُنتج وعيا طبقيا، لأن الأداة الأولى للوعي هي الشك، بينما الأداة الأولى للدين هي التسليم."
الطابع المحافظ لهذه التنظيمات لا يُترجم فقط في برامجها، بل في بنيتها الداخلية أيضًا، التي تستنسخ بنية الدولة الاستبدادية، وإن زعمت معارضتها.
13. الحركات الشعبوية: نفي الشكلين معًا؟
أما الحركات الشعبوية، من اليمين أو اليسار، فتطرح نوعًا آخر من التنظيم، يرفض الشكل الحزبي التقليدي، ويميل إلى شخصنة القرار في "زعيم"، يُصوّر نفسه تعبيرا مباشرا عن "إرادة الشعب". هذا النوع من التنظيم يتجاوز المركزية الديمقراطية ليرتمي في أحضان الشعبوية التسلطية، حيث يُختزل الفعل الجماعي في قرارات فوقية تُفرض باسم الجماهير.
حركات مثل "ترامبية" اليمين، أو "شعبوية يسارية" غير متجذّرة طبقيًا، تُفرّغ التنظيم من أي مضمون جماهيري واعٍ. لا مركزية فعالة، ولا ديمقراطية تنظيمية، بل كاريزما تُغطي على غياب البرنامج والتحليل.
كتب تروتسكي في معرض نقده للشعبوية الروسية:
"الشعبوية تُمثّل استبدالا للمسار الثوري بحنين مثالي للجماعة، وتُهمل شروط التنظيم الواعي."
وبذلك، فإن المركزية الديمقراطية ليست فقط منهجا تنظيميا، بل بديلا جذريا عن النماذج الهجينة التي تتراوح بين الفوقية الدينية أو الزعاماتية، وبين العفوية غير المنظمة.
14. نحو مركزية ديمقراطية ثورية: بناء التنظيم الثوري في زمن التشظي
إن استعادة مبدأ المركزية الديمقراطية لا يعني مجرد العودة إلى نموذج حزبي كلاسيكي أو نسخ لتجارب ماضية، بل يعني ابتكار شكل تنظيمي جذري يستجيب لتناقضات الحاضر ويستبطن دروس التاريخ. فالعالم اليوم يعيش لحظة تشظّ سياسي وتنظيمي غير مسبوقة، حيث سقطت أو تفسّخت الأحزاب التقليدية، وصعدت حركات أفقية غير مستقرة، وانتشرت الشعبويات التي تُمجّد الزعيم وتُحقّر التنظيم.
في هذا السياق، تصبح المركزية الديمقراطية كمنهج جدلي ، جسرا بين الحاجة للوحدة وبين حق الاختلاف، بين ضرورات التنظيم الصارم وبين أشواق التحرر القاعدي. إنها ليست “وسطا” بين النقيضين، بل هي شكل جدلي يوحّد التناقض داخل بنية الحزب، ويحوّله من جهاز إلى ذاتٍ تاريخية واعية.
فالتنظيم الثوري، بحسب تروتسكي، يجب أن يكون:
"آلة واعية في يد الطبقة العاملة، لا بديلا عنها، بل تعبيرا عن نضجها واستعدادها للقيادة."
هذا يعني أن الديمقراطية داخل الحزب ليست ترفا تنظيميا، بل شرطا ماديا لتطوره النظري، ولتجذره الجماهيري، ولتجنب آفة التحجر البيروقراطي. كما أن المركزية ليست خنقا للاختلاف، بل وسيلة لصهر التعدد في برنامج مشترك، يُنتج عبر النقاش، ويُنفذ عبر الالتزام.
أما على الصعيد الإستراتيجي، فإن التحدي الأكبر هو بناء تنظيم أممي الطابع، متعدد المستويات، منفتح على الطبقات الكادحة، وقادر على الجمع بين العمق النظري والمرونة الميدانية. لا تنظيما مغلقا على ذاته، ولا كتلة فوقية تُعيد إنتاج الدولة داخل الحزب، بل تنظيم حيّ، ناقد لذاته، ينمو من القاعدة وينفتح على الجماهير، ويُمارس المركزية الديمقراطية بوصفها ثقافة سياسية، لا مجرد آلية تنظيمية.
كتب ماركس في رسالته إلى الاشتراكيين الألمان:
"من لا يُنظم نضاله يُنظّم هزيمته."
وبالتالي، فإن معركة التنظيم اليوم ليست تقنية، بل سياسية وأخلاقية وفكرية. والمركزية الديمقراطية، في جوهرها الثوري، هي مفتاح هذه المعركة الطويلة.
إنّ المركزية الديمقراطية، كما برزت في التراث الماركسي الثوري، ليست مجرّد تقنية تنظيمية أو هيكل بيروقراطي، بل هي تعبير عن فلسفة سياسية عميقة تسعى إلى تجاوز المأزق الأزلي بين الحرية والانضباط، بين التعددية والوحدة، بين التلقائية والتنظيم. إنها تجربة تاريخية خاضتها الطبقة العاملة العالمية عبر أكثر لحظاتها اشتعالًا، وتعرّضت خلالها لأبشع محاولات التشويه والتقزيم، سواء من قِبل الأنظمة البيروقراطية التي جعلت منها أداة للطاعة العمياء، أو من قبل الخطابات الليبرالية والعدمية التي اعتبرتها شكلا من السلطوية المقنّعة.
لكن في جوهرها الحقيقي، تبقى المركزية الديمقراطية تعبيرا عن حاجة موضوعية: تنظيم الطاقات الثورية المنتشرة، وصهرها في مشروع سياسي متماسك، يُراكم الوعي، ويُعبّئ الجماهير، ويوجه الفعل الجماعي ضد النظام الرأسمالي العالمي. إنها ليست محاولة لإخضاع القاعدة للقيادة، بل العكس تماما: هي الشكل الذي تضمن من خلاله القاعدة الرقابة على القيادة، وتُحوّل المشاركة من رأي معزول إلى قرار جماعي مُلزم ومُثمر.
لقد كشفت التجارب التاريخية، من انتصارات الثورات العمالية إلى انكساراتها، أن غياب المركزية الديمقراطية يؤدي إما إلى البيروقراطية القاتلة أو إلى الفوضى العفوية، وكلا النقيضين يؤديان إلى تفكك الوعي الطبقي وتشتت المشروع الثوري. والحال أن المنظمات الثورية التي نجحت ، ولو مؤقتا ، في الحفاظ على توازن خلاق بين النقاش الحر والتنفيذ الموحد، هي وحدها التي استطاعت أن تفرض نفسها كقوة تغيير حقيقية، لا كشكل احتجاجي عابر.
واليوم، ونحن نعيش عصر الرأسمالية المتوحشة التي أعادت صياغة آليات السيطرة على الأجساد والعقول، من خلال الليبرالية الثقافية، والفردانية المطلقة، والإعلام المُمأسس، والشعبوية الزاحفة، تبدو الحاجة إلى تنظيم ثوري متمكّن فكريا وميدانيا أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. إنّ استعادة مبدأ المركزية الديمقراطية لا تعني تكرار النموذج البلشفي كقالب جامد، بل تعني إعادة تأويله في ضوء تحديات الحاضر، وبناء نموذج تنظيمي قادر على تمثيل هموم الطبقات الكادحة، دون أن يتحول إلى بيروقراطية نخبوية أو تيار شعبوي سطحي.
في هذا السياق، يجب أن تُصبح المركزية الديمقراطية ثقافة سياسية متجذّرة في صلب الأحزاب العمالية واليسارية، كما في المنظمات النقابية والمجالس القاعدية. ثقافة تُشجّع النقاش والاختلاف، دون أن تسمح بشلّ الفعل الجماعي؛ تُحصّن التنظيم من التحجر، دون أن تُذيبه في العفوية؛ تُعلي من شأن المبادرة الفردية، ولكن داخل مشروع جماعي واعٍ. إنها، بهذا المعنى، ليست فقط شكلا تنظيميا، بل هي أخلاق ثورية، تنبذ الزعامة الفردية، وتُنتج قيادة جماعية تتحمل المسؤولية وتخضع للمحاسبة.
كما أن من واجب الثوريين اليوم، في العالم العربي وفي كلّ رقعة من رقاع الهامش العالمي، أن ينقلوا هذا المبدأ من حيّزه التاريخي الأوروبي إلى فضاءات النضال الجديدة، حيث تعاني الحركات الثورية من اختلالات خطيرة: إما تنظيمات فوقية تُعيد إنتاج السلطوية باسم الدين أو الهوية، وإما انتفاضات بلا أفق تنظيمي، تنطفئ سريعا تحت ضربات القمع أو تنهار أمام تناقضاتها الداخلية. المركزية الديمقراطية هنا ليست ترفا فكريا، بل أداة ضرورية لاستكمال المشروع التحرري.
لقد كتب ماركس ذات مرة:
"الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم بطرق شتى، لكن المطلوب هو تغييره."
ولعلنا نقول اليوم، أن مهمة التغيير تمرّ حتما عبر بناء أدواته: تنظيمات ثورية ديمقراطية، ملتزمة ومرنة، تُدرك أن الثورة ليست لحظة بل مسار، وأن النصر لا يُصنع فقط بالنية أو الغضب، بل بالوضوح الفكري، والصرامة التنظيمية، والإرادة الجماعية التي لا تنكسر.
بهذا المعنى، تبقى المركزية الديمقراطية ، رغم كلّ ما لحقها من تشويه ، إحدى أعظم ابتكارات الطبقة العاملة في صراعها الطويل من أجل الحرية والتحرر. وإنّ استعادتها اليوم، بعد كلّ هذا التشظي والتيه، ليست مجرد وفاء للتراث الثوري، بل ضرورة سياسية وأخلاقية لإنقاذ الحاضر وصنع المستقبل.
رياض الشرايطي / تونس