في عالم الذكاء الإصطناعي


عبدالحميد برتو
2025 / 4 / 12 - 23:00     

الوقفة عند الكتاب الجديد الموسوم بـ (الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة ـ التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟) لكاتبه رزكار عقراوي ضرورية. إنطلاقاً من موضوعه بذاته. جاء هذا العنوان الطويل الذي حمل حقولاً واسعة ومهمة، يحتاج كل جزءٍ منها الى مزيد من التبصر والإطلاع. من بينها إشكالية صفة الرأسمالي و اليساري وغيرهما. أظهر الكاتب جدية ومسؤولية عبر تساؤل مشروعٍ ومهم: لماذا هذا الكتاب؟ ولماذا الآن؟ أَيُّ كتاب أو بحث أو عمل جاد ينبغي أن يأخذ هذا التساؤل في كل خطوات جهده. برر جديةُ التساؤلِ حذرَ الكاتب وطموحه، ومما ضاعف أهمية التساؤل أيضاً، أن الذكاء الإصطناعي إكتسب أهمية فائقة في مختلف مجالات الحياة بسرعة فائقة. ليس في مجالاتِه الإيجابية فقط، بل حتى في مخاطره و سلبياته. باتت منجزاته هائلة وربما شبه يومية في ميادينه التي بات أحصاؤها ليس سهلاً.

ما ينطبق على الذكاء الاصطناعي، ينطبق على كل الإبداعات الخلاقة الأخرى التي أوجدها الإنسان. إنها منجزات عظيمة خلقها الإنسان لخدمته. لكن الإستثمار والتوظيف والهدف فيها يَحمل بين طياته بعض المخاطر منها الإستغلال. فإلى جانب المنجز المفيد يبرز الجانب السلبي أيضاً. تكون درجات الخطر فيه متفاوتة. يبقى المنجز في كل الأحوال محايداً وإيجابياً بذاته، لكن تكمن الخطورة في نوعية توظيفه إجتماعياً. ربما هنا تنفتح الإمكانية على قول أو تسمية: "الذكاء الاصطناعي الرأسمالي" أو غيره من التسميات المتنوعة، ذلك بفعل دور الملكية للقاعدة المادية للمنتج. طرح الكاتب سؤالاً يحمل بعداً إجتماعياً هاماً: "التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟". هنا يظهر الإختلاط بين المصطلح بمعناه الوضعي والإصطلاحي. مما يخلق بعض الإرتباك حتى بين أبناء التوجه الفكري الواحد. فالثورة الرقمية غير الثورة بمعناها الإجتماعي، لكنها تحمل بعض صفاتها في حدود معينة.

وصف الكاتب نفسه بـ"اليساري المستقل". أشعل تعريف اليسار على سبيل المثال قبل قرابة خمسين عاماً سجالات موسعة، خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. بات هذا الوصف في الفترة الراهنة أكثر وضوحاً، بعد تلك العقود من المماحكات. من جانب آخر، نجح هذا المصطلح في رسم خطوط عامة عنه وحوله. جسدت قيماً عامة و عملية في الفكر. صارت اليسارية في إطارها العام متفق عليها بين أوساطها المختلفة. أنها كقاسم مشترك تحمل قيماً أكثر إنسانية من غيرها. تتطلع إلى مستقبل أفضل لبلد الإنسان اليساري ذاته والعالم أجمع. لكن ظلت هناك مساحة تحتاج إلى مزيد من الوضوح. هدأت الحالة عند قبول المصطلح بمعان إيجابية وتقدمية. أما قضية الإستقلالية في الإطار الفلسفي لا يوجد شخص مستقل دون نوع من الإنحيازات، وبغض النظر عن طبيعة مضموها. بات التداول بصدد كلمة مستقل يرتبط بالموقف من حزب ما أو أحزاب ما، أي حزبي أو لاحزبي. كما الحال بالنسبة الى مفهوم "اليسار الإلكتروني"، يكون إيجابياً للغاية إذا ظل في حدود إستثمار الفضاء الرقمي لخدمة الإنسانية ودون التنافس الحرفي مع الأبنية القائمة في الميدان، حسب الرؤية والبنية الطبقية. كذلك موقف عملي الدعوة الى أهمية تجاوز الخلافات التقليدية بين القوى اليسارية والتركيز على المشتركات بينها.

كما تحمل كلمة مستقل مضامين تتطلب التوقف عندها. يمنح إستقلال الفرد إمتيازاً واسعاً في مجال الإستقلالية الذاتية. هذه الحالة تفتح باباً واسعاً بإتجاه النزعة النقدية والتجرد من ضغوط الحياة الداخلية لأية جماعة مشتركة. لكن هذه الظاهرة من جانب آخر تلعب دوراً سلبياً، إذا نُظر إليها من الزاوية الإجتماعية. فالأفكار اليسارية أو التقدمية أو الإنسانية إذا ظلت بحدود وجهات النظر تعيق الفعل الإجتماعي الثوري. لن يتحقق أي تحول إجتماعي واسع، إلا من خلال تنظيم فعال، له برامج تغيير إجتماعي معلومة. تهتم أهدافه باصلاح واقع الإنسان، وتصل إلى أوسع دائرة إجتماعية معنية. يظل طرق تحقيق الأهداف المعلنة مسألة إشكالية لا يمكن تجاوزها. تتطلب المزيد من الدراسات حولها.

ضمَّ الكتاب بين دفتيه 140 صفحة. توزعت على 15 حقلاً. حوى كل ٌ منها مجموعة فقرات فرعية. كان المدخل إلى الدراسة نفسها توضيحاً مهماً من الناحية المنهجية. يبرر مضمون الكتاب والدوافع إليه واللحظة التي وجد فيها" مؤكداً على حقيقة أن الذكاء الإصطناعي بات مثل الهواء يحيط بالإنسان طوال الوقت وفي كل مكان. أضحى شأناً حيوياً لكل إنسان في إطار المعرفة أو في الإستخدام. يقف أمام الباحث والمتلقي على حد السواء في: الاقتصاد، السياسة، العلوم، الثقافة، الفكر والإبداع.

يرافق الكاتب هاجس التغيير الإجتماعي، وهو العامل الأساسي والمحرك لمسيرة الإنسان عبر التاريخ البشري. فلا غرابة أن يلمس النقاط الأساسية في التحولات: إعادة تشكيل علاقات العمل، أنماط الإنتاج، وإدارة الوعي الجماهيري. هنا تظهر مشروعية التحذير من ضعف التركير على منجزات الذكاء الإصطناعي، والعمل على تطوير البحوث والجهود بصدده، وعدم ترك هذا الحقل الحيوي لقوى الهيمنة العالمية.

لا يمكن تجاهل روحية الكاتب اليسارية في طريقة النشر. فقد أخذ في مركز إهتمامه أن يصل العمل إلى أوسع دائرة من القراء والدارسين لتعميم الفائدة. إعتمد النشر الإلكتروني وعمم رابطه. على الرغم من أنه لا يجافي النشر الورقي، إن وجد ضرورة لذلك. ولم يقيد حقوق إستخدام الكتاب، وترك ذلك لضرورة الإحساس بالأمانة العلمية. "داعيًا إلى تحرير المعرفة من قيود الرأسمالية وحقوق النشر والملكية الفكرية، وضمان وصولها إلى أوسع نطاق ممكن، بعيدًا عن الحواجز التجارية التي تعيق وتقيّد تداول الأفكار".

بقيت الخرافة والاسطورة كأول عملية تفكير للإنسان حول نفسه والطبيعة من حوله إلى يومنا هذا. كان سر بقائهما يكمن في أنهما تحولتا إلى أدب خيالي. يجد الإنسان فيه نوعاً من المتعة. كما بقيت الأديان لأنها وضعت الإنسان بين خيارين، صدق أو لا تصدق. يمنح التصديق الإنسان غذاءً روحياً وعوداً في الآخرة على الأقل. ثم سلك الإنسان طريق البحث وراكم خبراته و ورثها للأجيال. خاض في ميدان آخر أكثر تعقيداً وجدوى بطرح أسئلة عما يجري حوله. دخل في عالمه سؤال هام جداً: لماذا؟ فظهرت العلوم والتكنولوجيا. هنا بدأ تراكم نتائج الإستفسارات وثمار التجارب. كان كل تطور مهما كان بسيطاً يستغرق قروناً. وبفعل زخم التراكم بات التطور يمشي بخطوات أسرع. ثم بدأ يقفز في العقود الأخيرة قفزات هائلة. باتت حتى المتابعة مهمة صعبة.

تفرض قوى الرأسمالية هيمنتها على العالم. تقوم فلسفتها على الربح، القوة و الكذب. بدأت بتعميم شعارات رائعة المنظر فارغة المحتوى أو مقلوبة المعنى. لكن الهيمنة شبه المطلقة كانت وما زالت أداة فعالة لتمرير الكذب والأوهام والزيف. هنا باتت المسؤولية على عاتق المفكرين والمناضلين اليساريين كبيرة وهامة، ومن بين حقولها البارزة الذكاء الإصطناعي، بل هو الميدان الأكثر خطورة. لا يقصر دور الخوارزميات وسحب البيانات الهائلة على التقنيات وكل ما يحيط بالإنسان إنما على وعي الإنسان والمعطيات العامة وحتى الأحداث اليومية.

يمكن كما يرى الكاتب لقوى اليسار أفراداً وجماعات، مواكبة التطورات الهائلة في ميادين إستخدام الذكاء الإصطناعي. لا أظن أن الحديث هنا يدور حول الجوانب التقنية (القاعدة المادية). فهذا الميدان يتطلب إستثمارات هائلة، خاصة في مجالات المعدات والتقنيات والطاقة والمياه وغيرها من المتطلب. حلم تحرير التكنولوجيا من قبضة الدول الكبرى ومن رأس المال والشركات الاحتكارية، يظل مهمة تاريخية على طريق تحرر الشعوب وإقتصادياتها وبناء قاعدتها المادية التقنية الضرورية. تبرز المهمة الأولي في الحد من تحكم دول الهيمنة، خاصة في ميادين محاولات هندسة الوعي الإنساني ما يخدم مصالحها.

ينبغي أولاً العمل على تعريف الناس بالدور المهم للثورة الرقمية. كما يرى الكاتب ضرورة العمل على توسيع دائرة إستخدام الذكاء الإصطناعي ضد كل محاولات تشويه الوعي العام. والسعي لتعميق إستخدامه في العمليات التعليمية والتربوية والصحية وغيرها من الخدمات الإجتماعية العامة. والعمل على إزالة العوائق التي تقف في طريقه. خاصة النقص في الطاقة الكهربائية وشبكات الإتصال والإنترنت والحواسيب. إن قدرة التكييف مع الظروف الملموسة والمحيطة ليست إحتكاراً للرأسمالية. فعلى قوى اليسار أن تكيف نفسها للتغلب على العوائق التي تقف في طريقها. على صعيد براعة الرأسمالية في ميدان المرونة لحماية نظامها. أشار الكاتب إلى هذا الشأن بقوله: "الرأسمالية، في بعض الأحيان، تستعير وتوظّف بعض الأفكار الماركسية والاشتراكية عند الحاجة، مثل تدخل الدولة ودعمها وتعويض الفئات المهمشة، ولكن فقط كإجراءات وإصلاحات مؤقتة تهدف إلى استقرار النظام" الكتاب ص: 11.

كانت إنتباهة هامة التأكيد على أن المرونة لا ينبغي أن تنحدر إلى هاوية التنازل عن المبادئ التحررية. دعا الكاتب إلى: "إستخدام الأدوات العلمية الحديثة بفعالية، ليس فقط لتحليل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدقة، بل أيضًا لتطوير خطاب سياسي علمي وواقعي، وآليات تنظيمية مرنة قادرة على توسيع قاعدة اليسار وجذب الجماهير...". إن ميزة الثورة الرقمية الراهنة، أنها أطلقت العنان لإنتشار المعلومات لتعزيز إحتكاراتها. لكن هذا الأمر كانت له نتائج تتعلق بسرعة و سعة الإنتشار للمعطيات. وهذا الواقع من زاوية أخرى يصب في خدم الوعي العام ويعمق حالات الإنتباه إلى مجرى التطورات في عالمنا.

لفت الكاتب إنتباه القوى اليسارية أشخاصاً وجماعات، إلى الضعف المتفاوت في صفوف معظمها بصدد مجال الإستخدام الرقمي. خاصة "في الرؤية السياسية الواضحة لاستخدام التكنولوجيا في خدمة النضال". ذلك في حين ينبغي أن يُنظر إليه كجزء حيوي من الصراع الإجتماعي. توجد هيمنة رقمية للقوى الرأسماية، ولكن هذه الهيمنة لا ينبغي أن تعيق مساعي القوى اليسارية إنما تدعوها إلى بذل المزيد من الجهود للإختراق. هنالك أدوار نضالية ملموسة خاصة في البلدان النامية. فإلى جانب النضال من أجل تعميم التعليم وفرض إلزاميته، يجب الدعوة إلى إدخال الذكاء الإصطناعي إلى المدارس في كل مراحلها. مثل هذه المطاليب الملموسة لها أهمية في تعميق محتوى النضال الوطني وتعزيز مشروعية. كما الحال في النضال السياسي والإجتماعي والإقتصادي. إن تقليص الأمية الرقمية داخل تنظيمات اليسار لا يقل أهمية عن محاربة الأمية بمحتواها العام.

يوظف النظام الرأسمالي أي تطور يتحقق في مجالات العلم والتكنولوجيا لمصلحته. تحول ذلك التقدم أو التطور إلى إداة قمع وسيطرة. وظف الذكاء الاصطناعي لإعادة صياغة الوعي وفق مشيئة ومصالح الإحتكارات، التي تسعى جمع وتحليل المعلومات بسرعة فائقة، والتحكم في تدفق المعلومات و تصمم تأثيراتها على الوعي العام. إن تقليص الفجوة الرقمية يستدعي تطوير بنية تحتية تكنولوجية مستقلة للقوى والتنظيمات اليسارية والتقدمية. وليس فقط بحدود مواقع التواصل الاجتماعي أو نشر البيانات في الإنترنت. تسأل الكاتب عن الموقف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالي. على الرغم من الصعوبات الجدية التي تكتنف هذا الموضوع، قدم جواباً معتدلاً على جناحي الحالة في حالة النعم واللا. لنستثمر المفيد والممكن ونحذر من المخاطر المحتملة. وفي ذات الوقت المطلوب من اليسار خلق مقومات بناء جهدها المستقل. يمكن تلخيص الموقف في هذا الشأن المعقد على النحو التالي: وعي، حذر وبناء. خلص الكاتب إلى النتيجة التالية: "ولكن مقاومة هذه الهيمنة لا يمكن أن تتم بشكل فردي أو معزول، بل تتطلب بناء أمميات يسارية وتحالفات تقدمية رقمية قادرة على فرض بدائل تقنية تقدمية، وتعزيز التعاون والتنسيق بين التنظيمات اليسارية والتقدمية، والنقابات العمالية، والمنظمات الحقوقية، والمهتمين بالتكنولوجيا".

حققت الثورة الرقمية الراهنة منجزات ومبتكرات هائلة وفائقة القيمة. بات الذكاء الإصطناعي عاملاً هاماً في جميع جوانب حياة الإنسان والشعوب. تُستخدم هذه التقنية في مختلف المجالات: الطب، التعليم، الأنظمة التعليمية التفاعلية، الرعاية الصحية، تشخيص الأمراض، الصناعة، الزراعة، الإعلام، النقل وغيرها، وفي تحليل البيانات والتحكم بها وإدارتها. لو أخذنا جانباً تطبيقاً في مجال التعليم العالي مثلاً. كان ثلتُ الفترةِ الدراسية مخصصاً لجمع مصادر الدراسة الجامعية، منها ستة أشهر مخصصة لجمع مصادر الإطروحة الجامعية. الآن باتت المعلومات في جزء كبير منها بيد الطالب مباشرة. هذا من الناحية العملية منح الطالب ربحاً كبيراً في مجال إقتصاد الوقت. لكن ينبغي في الوقت نفسه مواصلة الحذر من الترجيحات التي تمارسها محركات البحث الأساسية والمنصات المبرمجة لخدمة مصالح الطبقة الرأسمالية ومختلف توجهاتها. ينبغي على الباحث الحذر من محاولات تسطيح الفضاء الرقمي وأغراقه بالمعطيات غير الدقيقة أو الموجهة لصالح رأس المال، على على الرغم من تنافس مراكزه الأساسية.

تلمس الكتابُ أنواعَ ومستوياتِ الذكاءِ الإصطناعي. أشار إلى تلك الأكثر إستخداماً، مثل: "الترجمة الفورية، التعرف على الصور، أو تشغيل المساعدات الصوتية، أو التدقيق اللغوي وتوليد النصوص وغيرها". ثم أشار إلى الذكاء الاصطناعي العام القادرة على التفكير وحل المشكلات في مجالات متعددة، بنفس الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، وأخيراً الذكاء الاصطناعي الفائق القدرة. لم يغب عن باله حقيقة أن هذه التقنيات الهامة تدار من قبل شركات وجهات رأسمالية، تضع في مقدمة إهتماماتها مصالحها الطبقية والربحية، مما يجعل تلك التقنيات غير محايدة، "بل تعكس البنية الطبقية للنظام الذي أنتجها".

كل الحروف وكل الكلمات في جميع اللغات محايدة بذاتها. ولكن يتم الفرز والتوجه والأهداف من قبل مستخدميها حسب المصالح والأهداف. هذا الحال ينطبق على الخوارزميات والتكنولوجيا. هذا الواقع لا يدفع إلى إهمال تلك التقنيات الهامة، إنما يدعو إلى تعامل معها على أساس أن كل جدار فيه نافذة ممكنة للإستخدام والتطوير. كان توصيف الكاتب للرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي دقيقاً. إنها "أداة لتعظيم الأرباح واستغلال البيانات والمعرفة في ظل الرأسمالية". يبنى هدفها الأساسي على "تعظيم الأرباح على حساب العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية". كلما تقدمت الشركات في إستخدامات الذكاء الإصطناعي التي تعوض عن العمال زادت البطالة. باتت أمامنا حالات ملموسة كثيرة على هذا الصعيد خاصة في سوق العمل. حصيلة الشركات زيادة في الأرباح وحالات البطالة.

كشف الكاتب عن حقيقة استغلال البيانات في ظل الرأسمالية الرقمية. تحولت البيانات الشخصية في جو الإحتكار إلى عمل غير مأجور. كانت المقارنة التي أوردها بالغة الدقة بقوله: "في الاقتصاد الصناعي، كان الاستغلال يتم عبر دفع أجور لا تعكس القيمة الحقيقية للعمل. أما في الاقتصاد الرقمي، فبات السلوك البشري وبياناته ذاتها مصدرًا للقيمة". كانت الخلاصة في هذا الميدان جميلة في وصف المرارة: محو الفاصل بين وقت العمل ووقت الفراغ، تحوّلت كل لحظة يقضيها الفرد في الفضاء الرقمي إلى إنتاج مستمر للبيانات و أصبح الإنترنت ذاته مصنعاً رقمياً يعمل على مدار 24 ساعة. كما قارن الكاتب بين فائض القيمة في المعامل والمزارع والمؤسسات وبين فائض القيمة في الفضاء الرقمي. تتفاوت درجات التدخل في المعلومات حتى في الأحداث الهامة واليومية. كما الحال في وسائل الإعلام. مضى قرابة العام ونصف العام على الحرب الإسرائيلية ضد غزة وعموم الشعب الفلسطيني. من يتابع قناة الجزيزة يشعر بعنف وخطر الحرب على غزة. عند إنتقاله إلى قناة العربية أو سكاي نيوز يشعر بأن العالم هادئ نسبياً، وذلك الحال في إعلام الدول الكبرى على الرغم من التفاوت النسبي، كل وفق مصالحه. الذكاء الإصطناعي دوره ليس أقل أهمية من الإعلام، ولكن أدواته أكثر مرونة وأكثر دهاءً.

توقف الكتاب عند نقطة هامة تتعلق بالإغتراب "الرقمي". مشيراً إلى"التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في بناء قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. محذراً من "تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية". مما يؤدي إلى إنتاج الاغتراب الانساني والإدمان الرقمي في شكل جديد. وفي جانب من خدمات المنصات ما يحقق نمطاً جديداً من الاستلاب نتيجة الادمان، حيث يفقد الأفراد تدريجياً قدرتهم على العيش خارج الإطار الرقمي. إنها نوع من العبودية الرقمية الطوعية.

قدم الكتاب لوحات إيضاحية تبين حركة الموضوعات الرئيسية: مقارنة تحليلية بين نموذجي فائض القيمة الرقمى والتقليدي، الرأسمالية الرقمية والإستغلال الإقتصادي، التأثير السلبي للذكاء الإصطناعي على الإنسان، التحيز الجندري في الذكاء الإصطناعي، الذكاء الإصطناعي كأداة للهيمنة والسيطرة، استراتيجيات النضال، التحديات والإحتياجات، مصادر البيانات المتنوعة، تحدي إحتكار المعلومات، تحسين صنع السياسات وتعزيز الشفافية والحوار الفكري والديمقراطية التنظيمية، مصادر المحتوى اليساري، الذكاء الإصطناعي الحالي والبديل الإشتراكي، الرأسمالية الرقمية، اليسار التقليدي، اليسار المواكب للتطور التكنولوجي، السيطرة الفكرية ـ الذكاء الإصطناعي، تآكل القدرات البشرية، التأثير الإجتماعي والسيطرة الطبقية، إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية، جدول الرؤية اليسارية ـ المحور ـ الرؤية الرأسمالية. كانت صياغة تلك اللوحات الإيضاحية بارعة ودقيقة، إنها خارطة طريق لتنظيم وإستيعاب المعلومات المشار إليها. تكاد تكون عصارة للعمل كله. وهي تساعد الباحث الجدي على التركيز إتجاه العصب الحيوي في الكاتب نفسه. كما توفر مقدرة و فرصة مفيدة حتى لأصحاب الإهتمامات العابرة والعجلى أيضاً.

أثار الكتاب موضوعات هامة تتعلق بالعديد من القضايا الجوهرية. أكتفي بالإشارة إليها: الذكاء الاصطناعي والعالم الثالث، ضعف الحيادية الجندرية في الذكاء الاصطناعي وعدم تبني المساواة الكاملة، الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع السياسي وانتهاك حقوق الانسان. كما قدم معطيات مهمة حول: الاحباط الرقمي، الاعتقال والاغتيال الرقمي في إشارة إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتاً أو لفترات مختلفة، أو حذفها نهائياً. فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي عبر شتى الذرائع المختارة بعناية، مثل: "إنتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" أو "الترويج للإرهاب" وغيرها. قدم دليلاً قاطعاً عن السلوك الذي تمارسه منصات التواصل الاجتماعي ضد المحتوى الفلسطيني، الذي يُوثّق الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين. خلال العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة. هذه الحقيقة عرّفتها الغالبية من خلال التعامل مع حساباتهم تلك المنصات.

كانت إلتفاتة ذكية معالجة مسألة تآكل الديمقراطية، باستخدام الذكاء الاصطناعي فيما يُعرف بالديموقراطيات العريقة. باتت مسألة الإنتخابات كأحدى آليات الديمقراطية الغربية يتآكل دورها ونفوذها وفعلها في الحياة الإجتماعية. نهض دور المال السياسي وتقلصت الشفافية عبر الذكاء الإصطناعي من خلال التعمية والإغراق الهائل بالبيانات والمعطيات الواسعة، خاصة المضللة منها. ضرب الكاتب مثالاً حياً بتدخل الملياردير اليميني إيلون ماسك في الانتخابات الألمانية لعام 2025 عبر منصته "إكس" (تويتر سابقًا)، حيث دعم بشكل مباشر حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، من خلال ترويج محتوى موجه بالذكاء الاصطناعي على منصته، مما أثر على الرأي العام وأعاد إنتاج الاستقطاب السياسي لصالح القوى اليمينية والنازية الجديدة. ونقول: إن الحال نفسه في الإنتخابات الأمريكية الأخيرة.

تناول التأثير البيئي للذكاء الاصطناعي في ظل الرأسمالية، حيث تُستخدم كميات هائلة من المياه والطاقة والمعادن. "تشير التقارير إلى أن مركز بيانات شركة جوجل في ولاية آيوا الأمريكية يستهلك حوالي 3.3 مليار لتر من المياه سنويًا لتبريد خوادمه"، "لمعالجة كميات هائلة من البيانات وتدريب الخوارزميات". إستخدام الكميات الهائلة من الكهرباء والماء والمعادن دون حساب تأثيراتها على الإنسان والبيئة ينذر بالكثير من المخاطر الجادة. لا يقف الخطر عند هذه الحدود العرضية، إنما يُستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة. وقد طورت بعض الدول مثل: أمريكا، روسيا والصين طائرات مسيّرة تتخذ قرارات قتالية ذاتية دون تدخل بشري مباشر. ويُستخدم الذكاء الاصطناعي لاستهداف البنية التحتية الحيوية للدول، مثل الأنظمة المالية، وشبكات الطاقة والمياه، والمرافق الأساسية.

تعتبر خطوة جريئة جداً مجرد طرح فكرة البديل اليساري للذكاء الاصطناعي. إعترف الكاتب بصعوبات هذه المهمة. لكن ظل خيط الأمل معلقاً على الجهود الضرورية لكل قوى اليسار المحلي والعالمي. مجرد فتح الحوار بصدده يعني الكثير يعني درجة مناسبة من الوعي وإدراك الوضع والمناخات المحيطة. هذا الحقل في الكتاب الذي إتخذ رقم 6 وفقراته ضمت 10 فقرات، تقع بين الصفحتين (60 ـ 73) تتميز باهمية خاصة. جوهر المهمة في هذا الصدد تحرير الذكاء الإصطناعي من الهيمنة وتحويله إلى أداة ثورية. لا شك أن المهمة أكثر من مجرد صعبة. لأنها تتطلب إصراراً قوياً وعميقاً وتضافر جهود وثقة بالإرادة العامة. البدء من المتوفر والممكن بإتجاه التطوير الضروري. هذه المهمة يُكتب لها النجاح، حين يَطروح كل شخص وجماعة السؤال عن دوره الممكن في هذا الميدان الفائق الأهمية والجدوى.

قدم الكتاب مقترحات لهذه المهمة النبيلة تتضمن بإختصار، بل نوردها هنا بصفة عناوين: تطوير أنظمة محايدة، ديمقراطية، ومفتوحة المصدر، جعل تلك الأنظمة أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز المساواة في سوق العمل، التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة واقعية للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع، فتح الطريق أمام رقابة إجتماعية لضمان إستخدامه بعدالة صادقة، ضمان الكفاءة في الإنتاج والتوزيع، ضمان حقوق المرأة ومساواتها، ضمان إستخدام الذكاء الإصطناعي لتحرير حماية حقوق الإنسان، إطلاق دوره لحماية البيئة، إتخاذه كوسيلةٍ لتعزيز السلام العالمي بدلًا من استخدامه كأداةٍ للحروب والدمار وأخيراً، تحويله إلى وسيلة وأداة لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية. هذا البرنامج الطموح يَفترض ويَتطلب جهوداً، عزماً، همة وإصراراً يناسبه. إن المقترحات المقدمة تمثل إدراكاً دقيقاً لمهام ومخاطر الحالة القائمة في عوالم "الثورة الرقمية" الراهنة.

تلك الطموحات التي شخصها المؤلف، لا يمكن لها أن تجد مجالًا على أرض الواقع، دون برنامج عمل ملموس وممكن الحركة وخطة تنفيذ تدريجي لها. على هذا الأساس دعا الى البدء بتوحيد وتنسيق الجهود على المستوى العالمي. ذلك من خلال بناء أمميات يسارية رقمية لمواجهة الهيمنة على الذكاء الاصطناعي. هو قَبل غيره إعترف بصعوبة المهمة الكبيرة، لكن دون النهوض بهذه القضية الهامة، يعني إخلاء الملعب أمام قوى الربح والظلم والهيمنة. ذكر الكاتب من بين مهمات بناء تلك الأممية الرقمية. يقتضي تأمين موارد مالية مستقلة تعتمد على دعم التنظيمات اليسارية والتقدمية. بديهي أن قوى الهيمنة ستلجأ الى مختلف التدابير للعرقلة. هذا الحال يتطلب الاستعداد له عبر وضع استراتيجيات استباقية، تتيح تطوير بدائل تقاوم القمع التكنولوجي، وتصمد في وجه الاحتكار والتنافس الرأسمالي، معتبراً ذلك ضرورة نضالية ملحة.

يصل البحث الى سؤال مهم عن كيفية النظر إلى واقع وتطبيقات الذكاء الإصطناعي في الظروف الراهنة المهيمن عليها. "هل يمكن لقوى اليسار استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية"؟ هنا لا يتعجل الجوانب على ثنائية القبول أو الرفض. هنا يخط الكاتب موقفاً بالنسبة لقوى اليسار، بالتأكد على أنه: "لا يكفي قبول هذه التكنولوجيا كما هي، بل يجب النظر إليها بعين نقدية، تفكيكها، وتحليلها بعناية، بهدف توظيفها لخدمة أهداف التحرر الاجتماعي، والعدالة، والمساواة. لا يعني ذلك رفض أو قبول الذكاء الاصطناعي الحالي بشكل كامل، بل استخدامه كأداة تخدم مشروع التغيير الاشتراكي بطريقة دقيقة، مدروسة، وحذرة قدر الإمكان، مع تطوير أنظمة تحمي الخصوصية الفردية والمعلومات التنظيمية من الاختراق". تناول الأمر بدقة على مستوى الفوائد والمخاطر بروح ثورية يقظة. أورد الكتاب جدولاً ومقارنةَ من 103 لغاية 107 لتوضح الفوارق بين الرؤية الرأسمالية واليسارية للذكاء الاصطناعي على أكثر من صعيد ومجال: الهدف، الملكية، التأثير على سوق العمل، التحكم في البيانات، التحكم في الخوارزميات وغيرها.

ليس لدى قوى اليسار ترف خلق العداوات فيما بينها. خاصة في ظل إرتفاع مستوى النزعة العدوانية لدى قوى الهيمنة العالمية. توجد اليوم حاجة حقيقية لتضافر جهود جميع القوى اليسارية الحقة. لإلقاء نظرة على الحياة السياسية خلال عقود مديدة ماضية. وما يمكن أن تتركه من إستنتاجات مهمة بصدد صراعاتها الداخلية. وليس مجرد إنطباعات عن تلك الصراعات. يمكن تلخيص التجربة على النحو التالي: عند إنطلاق شرارة صراع داخلي ما في أي طرف أو بين أطراف عديدة. يتطلب ذلك الموقف موضوعياً رداً على الطرف المقابل. خلال سير هذه الصرعات تأخذ نقاط الخلاف طبيعة مركزية عند كل طرف. مما يؤدي إلى تصاعد حمى التنابز، وإلى إهمال الصراع مع الخصم الطبقي. تتحول خلالها الخلافات التفصيلية في الإجتهادات الى نقطة المركزية. قد تصل الى مبرر وجود. هذه الحالة الخطيرة تتطلب من الحريصين فعلاً التوقف عندها، على أمل خلق معالجات حقيقية لتعلم نعمة الإصغاء لملاحظات الآخر، ومعالجتها بروح غير عدائية أو بما يناسبها. والعمل على وضع سلم متدرج لمهمات المواجة. بما يحد من الضرر الداخلي، الذي لا يَصب سوى في قناة العدو الطبيقي.

وضع الكاتب إفتراضاً يحتاج الى المزيد من التحديد، على الأقل تحديد الشؤون المطلوبة، كي لا يفهم في غير مقاصده، وذلك في القول: "لكنّ التحوّل لا يمكن أن يحدث دون تغيير كبير في البنية السياسية والتنظيمية للقوى اليسارية نفسها، وفي نظرتها وتعاملها مع التكنولوجيا". الكتاب: ص 129. لا يغلق هذه الملاحظة إيضاحات الكاتب ودعوته الى تطوير القدرات اليسارية في المجال التقني ضرورة. وإعتبر النضال في الفضاء الرقمي ينبغي أن يتحوّل إلى امتداد عضوي للنضال الاشتراكي على الأرض. وان يكون الفضاء الرقمي امتدادًا للحركة العمالية والجماهيرية الميدانية. إن الربط بين الصراع التكنولوجي والصراع الطبقي على الأرض ضروري. وأضاف الكثير مما يمكن إعتباره إستدراكات تزيل الفهم الخاطئ لهذه الملاحظة.

وأخيراً طرح الكاتب سؤالاً مهماً وتحريضياً، يذكي الإستعدادات القائمة ويطور وضعها الراهن. هل نحن، كقوى يسارية وتقدمية في العالم أجمع، مستعدون فعلًا لخوض غمار هذه الحرب الرقمية المعقدة، الطويلة، والمتعددة الجبهات؟ وأضاف: "ليس أمامنا خيار سوى المواجهة. ولتكن هذه المعركة الرقمية لحظة ولادة جديدة ليسارٍ أكثر شجاعة، أكثر جذرية، أكثر علمية، وأكثر قدرة على قيادة عصره". الكتاب: ص 133. هنا يبقى السؤال مفتوحاً، وقد تختلف طريقة التعامل معه، حسب درجة إنفتاح اليسار المعني بهذه الملاحظة.

في المحصلة النهائية يُعد الكتاب مساهمة جادة في خلق وعي مناسب حول الذكاء الإصطناعي وأهميته. ضمن رؤية تقدمية طبقية واضحة، على الصعيد الفكري والنشاط العملي والتطبيقي. كان واضحاً علمياً في رسم صورة عن طبيعة المنجزات الكبيرة التي حققها الذكاء الإصطناعي. وأحاط الكتاب من جانب آخر بكل المخاطر المحيطة بالإنسان والطبيعة، من جراء أهداف وطبيعة الرأسمالية المحيطة بهذا الإنجاز الإنساني الكبير.