الدفاع عن الحريات المدنية معركةحاسمة
سعيد مضيه
2025 / 4 / 2 - 11:59
قضية خليل لا تتعلق به فقط. إنها تتعلق بالهجوم الأوسع تشنه إدارة ترامب ضد الديمقراطية، وضد الاحتجاج، وضد كل حق في مقاومة الظلم . بات رمزًا لدولة مصممة على إسكات منتقديها، دولة تعاقب الشباب لرفضهم الخضوع لإملاءاتها. وفي ذلك، يقف بمثابة تحذير وإلهام. ذلك ان اضطهاد خليل ان انطوى على شيء ، فهو أن النضال من أجل العدالة لم ينته بعد ــ وأن أولئك الذين يقبضون على السلطة سوف يستخدمون كل أدوات العنف التي تستخدمها الدولة لقمع النضال.
رغم كل ما قيل، فمصير خليل ليس مأساة معزولة؛ إنما هو نذير تحولات أعمق وأكثر خبثًا - انحدار نحو نظام خارج عن القانون يتحدى المحاكم علنًا، ويستغل قوانين قديمة كقانون الأعداء الأجانب المتخذ عام 1798، ويمحو الإجراءات القانونية الواجبة بحصانة من المساءلة. ليس حالة شاذة دفع ترامب السافر لطرد مئات المهاجرين الفنزويليين، دون مبرر قانوني؛ إنما هو نموذج، وطلقة تحذير لمستقبل تُجرّم فيه المعارضة نفسها، حيث يمكن دمغ أي شخص - فلسطينيًا، مهاجرًا، طالبًا، متظاهرًا – بصفة "إرهابي" ونفيه من ضمير الأمة. وكما يحذر، بمنتهى الدقة ، نورمان أورنشتاين، وهو ليس راديكاليًا،: هذا هو الغيستابو الأمريكي. غير ان التاريخ أثبت، مرة تلو أخرى ، أن الحركات التي تولد من الحقيقة لا تموت تحت الاضطهاد، بل تزداد قوة.
المعارضة إرهاب
إن ميل ترامب لدمغ كل معارضة بالإرهاب أمر سخيف وخطير في آن معا . يسلط الضوء على هذ الأمر ما قاله في خطاب القاه في حديقة البيت الأبيض ، إن المتظاهرين أمام وكالات تسلا في أنحاء البلاد "يجب اعتبارهم إرهابيين محليين". سمة تميز الفاشية وصم المعارضة وكل من ينتقد إدارة ترامب بالإرهاب - ليس مجرد سلاح ضد حرية التعبير، بل وسيلة لمحو إنسانيتهم. يُصوّرهم أشرارًا لا امل في شفائهم ، وتهديدًا يجب سحقه؛ وفي هكذا سيرورة ، ما يحيل عنف الدولة أمرا مشروعا؛ والتوسع المتهور في هذه التهمة علامة على دولة تُشوّه الأجساد والعدالة والديمقراطية، بل وحتى مفهوم الإنسانية بالذات.
تميط سياسات الخداع والفوضى والاختطاف والإخفاء هذه القناع عن آليات عنصرية تفوق البيض التي تُحوّل الملونين إلى مجرد فضلات يجب التخلص منها. يفتقد هنا ليس فقط الحقوق السياسية والقانونية، بل يطال الفقد نزع حق تملك الإنسان لجسده وقذفه في مجاهل ُتسرّع وفاة غير المرغوب فيهم، فيما وصفه روبرت جاي ليفتون بـ "عصرٍ مضمخ بالموت". في هذه المقام لا يكمن الخط فقط في أن ترامب وكبار المسئولين السياسيين يُجرّمون المعارضة ويقضون على حرية التعبير، إنما في إرساء الأساسات لأهوال الماضي، التي ظنّ البعض أنها يصعب تصورها بالولايات المتحدة، تشمل : استخدام العنف الذي تبيحه الدولة على أوسع نطاق، الاعتقالات الجماعية، الاختفاء القسري، فرق الموت، تردي ممنهج بطيئ لأي حيز قد يحتفظ بالحقيقة والعدالة والمعارضة.
خاتمة
لفهم سطوة لإرهاب في إدارة ترامب علينا المضي الى ما بعد التحليل السياسي التقليدي. علينا أن نضعه في إطاره التاريخي، نتقصى جذوره، ونعري القوى الثقافية التي تحيله متاحا ، ونرفض غضّ الطرف عن قمعه الشامل. إحالة سياسات الفاشية في أمريكا امرا معتادا ليس مجرد أداء قانوني او سياسي، بل هو حرب على المعنى، وعلى الذاكرة، والفاعلية وعلى مقدرة تصور مستقبل مغاير. ما نشهده في اللحظة التاريخية الراهنة هو المرحلة الأخيرة في التطور التدرجي لعنف النيوليبرالية، حيث تبرز دولة تحمل جينات الجريمة، ترى في المشاكل الاجتماعية والمعارضة جرما، تكبسلها في حرب على الإرهاب. وخلاص المواطنين يتحقق بالولاء الأعمى، وبجعل سياسات الفضلات الاجتماعية أمرا مألوفا وبالشطب، وبظهور الدولة البوليسية بوجه جسور.
هذا العنف والفظاعة اللذين تديرهما الدولة، مصحوبين بصعود الإرهاب المُنظّم كمبدأ حاكم ليس مجرد انحراف لنظام ترامب ؛ إنما هو تشويه مُتعمّد للحكم - تحوّل محسوب لكيفية ممارسة الدولة لسلطتها. هذه لحظة لا يعتبر معها العنف والقسوة بإدارة الدولة مجرد أفعال، بل مبادئ توجيهية، تُمزّق نسيج العدالة، و وتغرز الإرهاب في جوهر ما كان يومًا ما ديمقراطية منيعة. هذه الأزمة- الانتهاك المُمنهج للحقوق المدنية، قمع حرية التعبير، استهداف النشاط السياسي – يتوجب فهمها جزءًا من انقطاع تاريخي؛ مما أطلقت عليه نانسي فريزر ذات مرة صفة "أزمة الكلية الاجتماعية، أزمة تتوحد فيها الضمائر والأخلاق والسياسة في صراع من أجل الحفاظ على إنسانيتنا الجماعية".
ليست حكاية خليل مجرد خروج عن المألوف، بل هي تحذير صارخ. معاناته، كغيره ممن لا يُحصى لهم تعداد، تُسلّط الضوء على العواقب المتوحشة لمجتمع ينذر كل من يتحدّى السلطة، أو يرفض الانصياع للحدود الضيقة عنصرية قومية المسيحية البيضاء، بأن يجدوا أنفسهم ليس فقط مُجرّدين من المواطنة والكرامة، بل يختفون في الفجوة السوداء للإهمال الاجتماعي والسياسي. في عهدٍ تُخيّم عليه الفاشية الشمولية الصاعدة، يُعاد تعريف نسيج المجتمع الأمريكي نفسه من خلال انغلاقات أيديولوجية رجعية تُحدّد من يُعتبر جديرًا بالانتماء، ومن يجبر على الصمت، ومن يتعرّض لعنف الدولة. تصرفات ليست عشوائية أو معزولة، بل جزء من جهدٍ مُمنهجٍ مُرعبٍ لطمس التاريخ، وتدمير المقدرة على التفكير النقدي، وتجريم المعارضة، وإختفاء أجساد وهويات مَن يُحكم عليهم "آخرين " بموجب العرق، الإثنية أو الديانة.
تلك هي آلية السيطرة الفاشية في عملها - جهاز مصمم لإعادة تشكيل العالم على صورة القابضين على السلطة، مخلفا مشهدًا لم تعد فيه العدالة خاضعة لسيادة القانون، بل لإملاءات الاستبداد العالمي. كابوس الرأسمالية التي بلغت نقطة النهاية، باتت تحكم بالإرهاب والقوة وبثقافة رجعية وبآلية الموت. انهارت وعود المساواة، والحراك الاجتماعي، وإعادة توزيع الحقوق، والعدالة، إذ تواجه أزمة الشرعية، ليس لها الا مواجهة نضوب جاذبيتها. فما تبقى شكل وحشي من رأسمالية العصابات، فاشية تقنية، حيث يعلن أيديولوجيو ترامب وماسك بجرأة دون رمشة عين، ليس فقط أن الولايات المتحدة غدت دولة استبدادية باعتراف أوسع، ، بل أنهم وصلوا نقطة نهاية، حيث " لا يمكن ان يخص سوى القلة" بالولايات المتحدة، إن لم يكن بالعالم أجمع. وهذا لا يعد بالديمقراطية، بل ناقوس موتها.
إن هجوم ترامب على الحقوق المدنية، وحربه ضد حرية التعبير، وحملته لقمع للنشاط السياسي، ليس مؤشرا لبداية السلطوية في أمريكا - بل هو استمرار لها وتصعيد. ليس جديدا هذا الدليل؛ فهو يردد أصداء التكتيكات الوحشية لدول مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل والهند، حيث ترغم المعارضة على الصمت، و يعاد وصم المقاومة إرهابا، و يختفي بدون عواقب منتقدو الدولة . ما نشهده الآن هو التفكيك البطيء، ولكن المتعمد للحواجز القانونية والديمقراطية التي قيدت السلطة ذات مرة.
تحذير أروى مهداوي بصحيفة الغارديان ملح ولا يُرفَض:" نحن ننزلق باتجاه مستقبل سلطوي بسرعة مرعبة "، لكنه ليس بالأفق البعيد؛ فالاضطهاد لا يزحف- إنه هنا، والحريات لا تتردى - إنها تُنتزع معا أمام أعيننا. وكما تُذكرنا مهداوي، "جميع حرياتنا متشابكة".
الدفاع عن واحدةٍ هو الدفاع عن الجميع. لا يُمكن تجزئة النضال من أجل العدالة الى دوائر منعزلة، تقسيمها حصصا مفرقة على القلة المُضطهِدة. فحين يرغم أحدنا على الصمت، يُكبّل، يُسجن، يُرحّل، أو يُمحى من الوجود، لا تقتصر المكابدة على طالبٍ أو ناشطٍ أو مهاجر - الديمقراطية بالذات هي المصابة . النضال لا يتم في عزلة ؛ فهو مُشترك. الرهانات ليست نظريةً أو مُجردةً، بل وجودية مُعاشة، مضرجة باعتداءٍ مؤلمٍ على الجسد؛ والمقاومة ما عادت فكرةً – بل حتم. خط الصدع بين الديمقراطية والاستبداد، بين الحرية والقهر، بين الحياة والموت. الصمت تواطؤ. الآن هو وقت النهوض. هذه ليست لحظة حلول وسط أو نداءات مهذبة، بل هي معركة يجب أن يخوضها العمال والمعلمون والطلاب والعاملون في المجال الثقافي والنقابات والأقليات الملونة والطبقية، وكل من يرفض العيش تحت نير رأسمالية العصابات وآليتها الاستغلالية الوحشية. هذه ليست دعوةً للإصلاح، بل دعوةٌ لتحوّلات جذرية، وقطيعةٌ حاسمةٌ مع التفاوتات الصارخة، والسلطة المتجذّرة، وقبضة النخب المالية الخانقة. ليس للمستقبل أن يكون مرآةً لحاضرٍ استبدادي؛ بل يجب استغلاله، وصقله بالنضال، وبناؤه على أنقاض نظامٍ طالما خدم الأقوياء وحدهم. تتفاقم ظلال الفاشية، وتنتشر في جميع أنحاء العالم. إما أن نقاوم، أو نباد. سيكون النضال ضد مستقبلٍ رأسماليٍّ صعبًا، لكن لا خيارات أخرى مع تزايد زحف الفاشية في ارجاء العالم نحو الموت .