من الوهم إلى الواقع: إلغاء الدولة كشرط لتحرير الإنسان وبناء مجتمع عادل


أحمد الجوهري
2025 / 4 / 2 - 08:53     

مقال في الدفاع عن الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية

الملخص
تتناول هذه الورقة النقدية التناقضات الجوهرية في النظم التي تسيطر عليها الدولة وتدعي أنها ماركسية، مع تركيز خاص على الاتحاد السوفيتي ومصر. أُجادل بأن النموذج السوفيتي، بعيد كل البعد عن تحقيق رؤية ماركس لمجتمع بلا طبقات، أسس نظاماً مركزياً واستبدادياً خان المبادئ الماركسية. وبالمثل، تُظهر تجربة مصر –خاصة خلال ثورة الربيع العربي وما تلاها– كيف تُستخدم السلطة الدولة لصالح النخب الضيقة، مما يؤدي إلى قمع الجماهير بدلاً من تحريرها. ومن خلال تحليل مقارن بين رأسمالية الدولة ورأسمالية الخاصة، أُثبت أن حتى التدخل المحدود للدولة في الأنظمة الرأسمالية يؤدي في النهاية إلى تركيز السلطة بيد قلة من النخب، وهو ما أصفه بـ "ديكتاتورية المليارديرات". وأُؤكد كذلك أن التحرر والعدالة الحقيقية لا يمكن تحقيقهما إلا عبر إلغاء الهياكل الهرمية للدولة واستبدالها بإدارة عمالية مباشرة ونقابات تعاونية واتخاذ قرارات بمشاركة الشعب. وهكذا، تدافع هذه الورقة عن وجهة نظر الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية كسبيل وحيد نحو ديمقراطية ومساواة حقيقية.



المقدمة
شهد القرن العشرون تجارب غير مسبوقة في الاقتصاديات التي تخضع لسيطرة الدولة، ولم يكن أحدها أكثر شهرة وإثارة للجدل من الاتحاد السوفيتي. فقد بُني هذا النظام على مبادئ ماركسية واعداً بمستقبل يتلاشى فيه دور الدولة تدريجياً، ليحل محله مجتمع بلا طبقات ولا دولة. غير أن الواقع كان على خلاف ذلك؛ فقد تحول الاتحاد السوفيتي إلى نظام استبدادي يتسم بالتخطيط المركزي والجمود البيروقراطي وقمع الإدارة العمالية الذاتية. ويُعد هذا الخداع للمبادئ الماركسية ليس مجرد شذوذ، بل مؤشرًا واضحًا على أن سيطرة الدولة، بغض النظر عن الأساس الأيديولوجي المعلن، تُعيد إنتاج هياكل السلطة وعدم المساواة.
في الخطاب المعاصر، يُدافع كثير من أنصار الرأسمالية عن الدولة المحدودة من خلال الحد الأدنى من التدخل وحماية الحريات الفردية. ومع ذلك، كما يظهر الحال في الولايات المتحدة، فإن حتى الدولة "المحدودة" تخدم مصالح النخب الرأسمالية، وتؤسس "ديكتاتورية المليارديرات" حيث يسيطر حزبان سياسيان فقط يمثلان المصالح الشركاتية. سواءً كانت الرأسمالية دولة أو الرأسمالية الخاصة النيوليبرالية، فإن الدولة تعمل كأداة للحفاظ على السلطة النخبوية، مما يقوض الديمقراطية الحقيقية.
تُكتب هذه الورقة من منظور الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية، وتدعو إلى إلغاء الدولة كأداة لقمع النظام الرأسمالي. سأقوم بنقد نموذج الدولة المحدودة، موضحاً كيف يُسهّل تدخل الدولة في الأنظمة الرأسمالية انتشار عدم المساواة، ومبيناً أن النموذج السوفيتي –بمركزية سلطته الاستبدادية– كان مناهضاً للمبادئ الماركسية. كما سأدرج دراسة حالة عن مصر لتوضيح كيف يمكن أن تُستغل السلطة الدولة لصالح النخب الضيقة. وفي الختام، سأدعو إلى مستقبل يستعيد فيه العمال السيطرة على وسائل الإنتاج عبر الإدارة الديمقراطية المباشرة.




مراجعة الأدبيات
جادل ماركس وإنجلز في "البيان الشيوعي" (1848) بأن الدولة ليست سوى أداة للقمع الطبقي، أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة للحفاظ على هيمنتها. ووسع ماركس في "نقد برنامج جوثا" (1875) فكرة أن "ديكتاتورية البروليتاريا" هي مرحلة انتقالية ستزول حين يحقق المجتمع عدالة بلا طبقات.
وعلى النقيض من ذلك، أظهرت التجارب العملية للأفكار الماركسية في الاتحاد السوفيتي انحرافاً صارخاً عن هذه المبادئ. فقد وثق باحثون مثل "نوف" (1992) و"سيرفيس" (2000) كيف أدى التخطيط المركزي السوفيتي إلى بروز بيروقراطية مُترسخة قوضت مشاركة العمال وابتكارهم. ويشير "فيتزباتريك" (1999) إلى أن سياسات الدولة السوفيتية لم تكن تهدف إلى تفكيك الانقسامات الطبقية بقدر ما كانت تهدف إلى تجميع السلطة في يد نخبة جديدة – ظاهرة تتشابه مع تركيز السلطة الذي يظهر في الأنظمة النيوليبرالية المعاصرة.
كما أن التحليلات الأحدث من قبل "هارفي" (2005) و"بيكيتي" (2014) كشفت عن الطرق التي يؤدي بها التدخل المحدود للدولة في الأنظمة الرأسمالية إلى خلق بيئات تُفضّل مصالح النخب الشركاتية على مصالح المواطنين العاديين. وتدعم هذه الأعمال الفكرة القائلة بأن الدولة، مهما كان موقعها الأيديولوجي، تميل إلى إعادة إنتاج الهياكل الهرمية للسلطة. وتبرز هذه الأدبيات الحاجة إلى نموذج بديل يُلغي الدولة ويُعيد توزيع السلطة مباشرة على الطبقة العاملة، كما تُدعّم مبادئ الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية.
الأسس النظرية: الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية
في صميم حجتي يكمن الاعتقاد بأن الرأسمالية سواء كانت دولة أو نيوليبرالية خاصة هي نظم قمعية بطبيعتها. تُقترح الاشتراكية الليبرتارية، وخصوصاً في شكلها الأناركو-نقابي، بأن الحرية والمساواة الحقيقية لا يمكن تحقيقهما إلا عندما يُسيطر العمال ديمقراطياً على وسائل الإنتاج بأنفسهم. بدلاً من الاعتماد على جهاز الدولة –الذي لا محالة يتحول إلى أداة للقمع– الهدف هو بناء منظمات لامركزية ديمقراطية مباشرة يتقاسم فيها جميع الأعضاء اتخاذ القرار على قدم المساواة.
ترفض الأناركو-نقابية أي شكل من أشكال السلطة المركزية، بحجة أنه حتى الدولة المحدودة لا تضمن الحرية لأنها دائماً ستُستغل من قبل الهياكل القائمة للسلطة. وتُظهر التجارب التاريخية، مثل كومونة باريس (1871)، أن الإدارة العمالية الذاتية والتنظيم التعاوني ليسا مجرد أحلام مثالية بل أن لهما إمكانيات تنفيذية كبيرة تحقق عدالة أكثر مقارنةً بأي نظام تسيطر عليه الدولة. وعلى النقيض، تحول الاتحاد السوفيتي –الذي زعم أنه دولة للعمال– إلى نظام استبدادي تُتركز فيه السلطة في يد بيروقراطية نخبوية، وهي نتيجة تتعارض تماماً مع رؤية ماركس الأصيلة.




نقد النيوليبرالية والدولة المحدودة
يدعو أنصار النيوليبرالية إلى دولة محدودة تتدخل فقط لحماية حقوق الملكية، وإنفاذ العقود، والحفاظ على النظام. ومن الناحية النظرية، يُفترض أن يُعزز هذا النموذج الحرية الفردية والمنافسة السوقية. لكن الواقع في الولايات المتحدة، التي يُشاد بها كموطن للنيوليبرالية، يخبرنا بقصة مختلفة.
ففي الولايات المتحدة، لم يؤدِ التدخل المحدود للدولة إلى سوق حرة حقاً، بل أسهم في ترسيخ سلطة الشركات الكبرى. ومع وجود حزبين سياسيين فقط، تتجه القرارات السياسية لتعكس مصالح النخب الرأسمالية بدلاً من إرادة الشعب. ما يُزعم بأنه "ديكتاتورية البروليتاريا" في إطار النيوليبرالية يتحول عملياً إلى "ديكتاتورية المليارديرات". فقد أدت سياسات مثل إنقاذ البنوك في أزمة 2008، والإعانات الحكومية للشركات الكبرى، وتحرير الأسواق المالية إلى إثراء قلة قليلة على حساب الأغلبية.
وعلاوة على ذلك، فإن نموذج الدولة المحدودة لا يُعالج المشكلات النظامية مثل عدم المساواة في الدخل والظلم العرقي والتهميش الاجتماعي. تُظهر معدلات الجريمة المرتفعة، والفقر الواسع، وحالات عنف الشرطة –كما يتضح في عدة مدن أمريكية– أن الدولة، بدلاً من حماية مواطنيها، غالباً ما تفشل في خدمة ذوي الاحتياجات. بدلاً من إلغاء الدولة، ينادي أنصار النيوليبرالية بوجودها "بشكل محدود"، وهو ما يؤدي في الواقع إلى استمرار مصالح النخب وتعزيز دائرة القمع.
الاتحاد السوفيتي: دراسة حالة في سيطرة الدولة المناهضة للماركسية
يُعد الاتحاد السوفيتي من أبرز الأمثلة على الانحراف عن سيطرة الدولة التي يُزعم أنها ماركسية. فرغم ادعاءات قادته باتباع المبادئ الماركسية، كان الواقع بعيداً عن الرؤية التحررية لماركس وإنجلز. بدلاً من إلغاء الدولة، أسس النموذج السوفيتي نظاماً مركزياً واستبدادياً يمارس رقابة مطلقة على الاقتصاد والمجتمع.



المركزية والبيروقراطية
نظرًا لأن ماركس تخيل مرحلة انتقالية –ديكتاتورية البروليتاريا– تزول مع تقدم المجتمع نحو الشيوعية الحقيقية، إلا أن الاتحاد السوفيتي institutionalized الدولة. أصبحت السيطرة البيروقراطية مرادفة لسلطة الدولة، إذ كان اتخاذ القرارات مركزياً تماماً، مع سيطرة المسؤولين الكبار على كل جوانب التخطيط الاقتصادي والحياة السياسية. لم يُكبِ هذا المركزية المبادرات الفردية فحسب، بل أنشأ طبقة حاكمة لا تختلف جوهرياً عن البرجوازية التي كان من المفترض محاربتها.


القمع وإنكار الديمقراطية
أظهر قمع الدولة السوفيتية للمعارضة انحرافاً واضحاً عن المبادئ الماركسية. بدلاً من تمكين العمال عبر المشاركة الديمقراطية المباشرة، اعتمد النظام على الخوف والقمع وآلية سياسية متحكمة بدقة. تم إسكات أصوات المواطنين العاديين، وحُلَّ مكان وعد الإدارة العمالية الذاتية بتوجيهات من الأعلى تركت مساحة ضئيلة لاتخاذ القرارات الديمقراطية الحقيقية. وهكذا، لم يكن النظام السوفيتي ديكتاتورية بروليتارية، بل كان ديكتاتورية نخبة بيروقراطية تخدم مصالحها على حساب الشعب.



خيانة المبادئ الماركسية
جادل ماركس بأن الدولة هي أداة للقمع الطبقي تستخدمها الطبقة الحاكمة للحفاظ على سلطتها. وفي رؤيته، عندما تزول الصراعات الطبقية يتحول النظام إلى مجتمع بلا دولة. لكن النموذج السوفيتي أظهر أن تركيز السلطة في يد قلة يؤدي حتماً إلى إعادة إنتاج نفس الهياكل والاستبدادات الموجودة في المجتمعات الرأسمالية. إن السيطرة المركزية وعدم المساءلة في النظام السوفيتي خنت المبدأ الأساسي لتفكيك هياكل القمع الدولة. وبهذا، أصبح الاتحاد السوفيتي عملياً مناهضاً للمبادئ الماركسية.



دراسة حالة: مصر والربيع العربي
تقدم تجربة مصر خلال الربيع العربي مثالاً حقيقياً على كيفية استيلاء سلطة الدولة من قبل النخب الضيقة، مما يؤدي إلى القمع بدلاً من التحرر. تحت نظام حسني مبارك، كانت الدولة المصرية تعمل كأداة للحفاظ على امتيازات طبقة صغيرة من النخب المتحالفة مع النخب الرأسمالية. وفي عام 2011، اندلعت احتجاجات واسعة تطالب بالإصلاح الديمقراطي ونهاية الفساد النظامي. إلا أن نظام مبارك رد بوحشية على مطالب الشعب باستخدام قوات الأمن للدفاع عن النظام، مما أسفر عن خسائر بشرية فادحة ورعب جماعي.
ولم تُحدث الثورة تغييرات حقيقية في البنية السياسية، بل كشفت عن استمرارهياكل الدولة التي تخدم مصالح النخب. فقد استمرت الممارسات الاستبدادية في الفترات اللاحقة، مما يؤكد أن الدولة، بغض النظر عن شكلها المعلن، تميل إلى خدمة مصالح قلة قليلة. وتُبرز هذه التجربة أن استبدال نظام استبدادي بآخر لا يُحقق وعود الديمقراطية الحقيقية.

رؤية للمستقبل: البدائل الأناركو-نقابية
إذا كان كلٌّ من رأسمالية الدولة والخاصة غير قادرين على تحقيق الديمقراطية والمساواة الحقيقية، فما هو البديل؟ تكمن الإجابة في مبادئ الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية. أدعو إلى مجتمع تُسيطر فيه ملكية وإدارة وسائل الإنتاج مباشرةً بيد العمال، دون الاعتماد على الدولة في إنفاذ القوانين. يعتمد هذا النظام على تجمعات لامركزية تطوعية يتم فيها اتخاذ القرارات بصورة متساوية بين جميع الأعضاء.

الإدارة العمالية المباشرة
تخيلوا مصنعًا يديره عشرة عمال يتشاركون في جميع القرارات: تحديد أهداف الإنتاج، وضبط ساعات العمل، والتفاوض على الأجور، وتقاسم الأرباح بالتساوي. ليست هذه رؤية مثالية بعيدة، بل نموذج عملي جرى تطبيقه في عدة مناسبات تاريخية. فالتعاونية العمالية والنقابات –عند تنظيمها بشكل فعّال– يمكنها تحقيق مستويات عالية من الكفاءة والابتكار دون الحاجة إلى السيطرة المركزية للدولة. في هذه النظم، تُتخذ القرارات ديمقراطياً دون وجود جهاز بيروقراطي يتدخل في إرادة الشعب.



دور النقابات والاتحادات التعاونية
تجسد المنظمات اللامركزية مثل النقابات والاتحادات التعاونية مبادئ الأناركو-نقابية؛ إذ تعمل وفق هيكل أفقي يُشجع على اتخاذ القرارات الجماعية والمساعدة المتبادلة. ومن خلال تشكيل اتحادات في نطاق واسع، يمكن للعمال تنسيق أنشطتهم الاقتصادية دون اللجوء إلى جهاز الدولة المركزي. هذا النموذج لا يمنع من تركيز السلطة فحسب، بل يعزز أيضًا روح المجتمع والتضامن بين العاملين. وبهذا، يتم استبدال الدولة –كأداة لسيطرة النخب– بشبكة من التعاونيات التي تكون تحت مسؤولية أعضائها بشكل مباشر.

تجاوز عيوب نموذج الدولة المحدودة




يُعارض منتقدو الأناركو-نقابية فكرة أن غياب الدولة سيؤدي إلى الفوضى، مستشهدين بمعدلات الجريمة والفقر وحالات عنف الشرطة في الأنظمة الرأسمالية. لكن هذه المشكلات هي نتيجة لدولة تُدار لخدمة مصالح النخب. في غياب الدولة، تُدار القوانين وتسوية النزاعات بشكل جماعي من قبل المجتمع ذاته، عبر نظم عدالة محلية تشارك فيها كل الأفراد بشكل ديمقراطي. يمكن للأحياء والمجتمعات المحلية أن تبني هياكلها التنظيمية الخاصة، مستندة إلى التعاون والمساعدة المتبادلة بدلاً من القمع الهرمي الذي تفرضه الدولة.
العواقب الواقعية لسيطرة النخب
لتوضيح نتائج سيطرة النخب على السلطة، يمكن النظر إلى الولايات المتحدة. على الرغم من ادعائها الديمقراطية القائمة على السوق الحر، تعاني الولايات المتحدة من عدم مساواة عميقة تنتج عن تركيز السلطة بيد عدد قليل من النخب الشركاتية. فإن سياسات إنقاذ البنوك في أزمة 2008 والإعانات الحكومية التي تُمنح للشركات الكبرى ساهمت في ترسيخ موقع هذه النخب، مما جعل الدولة تعمل كحامية لمصالحهم بدلاً من حماية الشعب. النتيجة هي مجتمع تُتخذ فيه القرارات الحيوية من قبل أقلية، مما يشبه الممارسات الاستبدادية التي شوهدت في الاتحاد السوفيتي وحتى في مصر بعد الثورة، رغم زعم وجود تدخل محدود للدولة.
ويظهر هذا التناقض بوضوح في مجال الإسكان؛ إذ تحوّل الإسكان من ضرورة إنسانية إلى سلعة مضاربة نتيجة للسياسات التي تُفضّل مصالح الشركات الكبرى على حساب رفاهية المواطنين. إن التدخل الانتقائي للدولة –إنقاذ البنوك وتجاهل احتياجات الإسكان– يكشف عن تحيزها لخدمة الهياكل الرأسمالية القائمة. وفي مجتمع ديمقراطي حقيقي، ينبغي إدارة الإسكان والخدمات الأساسية بطريقة تُعلي من كرامة الإنسان ومصلحة المجتمع بدلاً من الربح.





نقاش دور الدولة: تحليل مقارن
الدولة النيوليبرالية المحدودة مقابل الأناركو-نقابية
يدعو أنصار النيوليبرالية إلى دولة محدودة لضمان سيادة القانون وحماية الحريات الفردية. ويزعمون أن الدولة تُعد هيئة محايدة توفر الإطار اللازم لعمل السوق بفعالية. ومع ذلك، كما تناولت حجتي، فإن هذه "الدولة المحدودة" ليست محايدة على الإطلاق؛ بل تتحول مع مرور الوقت إلى أداة لسيطرة النخب التي تفيد مصالحها على حساب الأغلبية.
على النقيض، تتصور الأناركو-نقابية مجتمعاً يشارك فيه العمال مباشرةً في جميع القرارات التي تؤثر على حياتهم. يرفض هذا النموذج أي شكل من أشكال السلطة الهرمية – سواء كانت الدولة أو الشركات – ويسعى لبناء مجتمع ديمقراطي ومساواتي حقيقي. في هذا النظام، لا تعمل الدولة كحارس للسلطة، بل تُستبدل بشبكة من الجمعيات التعاونية والاتحادات التي تعتمد على مبادئ الديمقراطية المباشرة والمساعدة المتبادلة.




مغالطة "الدولة المحايدة"
إن فكرة أن الدولة يمكن أن تبقى محايدة أمام مصالح النخب الرأسمالية هي فكرة خاطئة. فالسوابق التاريخية والمعاصرة تظهر أن الدولة –حتى عندما تكون محدودة– ستُستغل تدريجياً من قبل النخب التي يفترض بها تنظيمها. يُعد النظام السياسي في الولايات المتحدة –بوجود حزبين سياسيين فقط وضغط الشركات المستمر– مثالاً واضحاً على ذلك. فبدلاً من أن تكون منارة للحرية الفردية، تصبح الدولة أداة للحفاظ على الوضع الراهن، بحيث تستفيد منه قلة قليلة فقط.
وبالمثل، فإن الاتحاد السوفيتي، الذي وعد بـ"ديكتاتورية البروليتاريا"، تحول إلى نظام استبدادي مركزي. فمرحلة انتقالية كان من المفترض أن تكون مؤقتة ومساعدة في الانتقال إلى مجتمع بلا دولة، أصبحت دائمة وترسخت فيها السلطة. وهذا يؤكد أن أي نظام يعتمد على الدولة كأداة للسلطة سينتهي به المطاف إلى إعادة إنتاج الهياكل الهرمية وعدم المساواة، بغض النظر عن الادعاءات الأيديولوجية.



الخاتمة: نحو مستقبل ديمقراطي بلا دولة
يتضح من الأدلة والحجج المقدمة أن كل من رأسمالية الدولة و الخاصة فاسدة بطبيعتهما وتكرران تركيز السلطة بيد قلة من النخب. يشكل الاتحاد السوفيتي مثالاً صارخاً على كيفية خيانة سيطرة الدولة لمبدأ التحرر الماركسي عندما تُسلم السلطة إلى بيروقراطية نخبوية، مما يؤدي إلى نظام استبدادي. وتؤكد تجربة مصر خلال الربيع العربي أن سلطة الدولة، حتى في أشكالها المحدودة، يمكن أن تُستغل لصالح النخب الضيقة، مما يؤدي إلى قمع الجماهير بدلاً من تحقيق الديمقراطية الحقيقية.
وبصفتي مناصرًا للاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية، أؤمن أن الطريق الوحيد نحو الديمقراطية والمساواة الحقيقية يكمن في إلغاء الدولة كأداة للسلطة الرأسمالية. بدلاً من الاعتماد على الدولة المحدودة –التي تتحول عملياً إلى أداة لقمع النخب– يجب علينا بناء مجتمع تُدار فيه وسائل الإنتاج مباشرةً من قبل العمال عبر الإدارة الديمقراطية المباشرة، والتجمعات التعاونية، والاتحادات القائمة على المبادئ التشاركية. في مثل هذا النظام، تصبح القرارات جزءاً من عملية ديمقراطية شعبية حقيقية، وتُوزع الموارد والثروة بشكل عادل، مما يضمن عدم ترك أي فرد خلف الركب.
الرؤية المستقبلية التي أُناشدها تقوم على:
إدارة المصانع والمزارع وأماكن العمل من قبل العمال بشكل ديمقراطي مباشر.
تشكيل المجتمعات لاتحادات قائمة على التعاون الطوعي بدلاً من الهياكل الهرمية المفروضة.
اتخاذ القرارات العامة مباشرةً من قِبَل الشعب، دون تدخل قسري من جهاز دولة مركزي.
توزيع الموارد والثروة بشكل عادل يضمن عدم بقاء أحد في الفقر بينما ينعم قلة بامتيازات غير منصفة.
هذا النموذج لا يمثل عدالة اجتماعية فحسب، بل هو أيضاً أكثر قدرة على الصمود، لأنه مبني على مبادئ التضامن والمساعدة المتبادلة والديمقراطية الحقيقية. لقد حان الوقت لرفض الوهم القائل بأن الدولة محايدة –سواء تمثل النيوليبرالية المحدودة أو المركزية السوفيتية–، وللسعي نحو مستقبل ديمقراطي حقيقي تُوزع فيه السلطة على الشعب بأكمله بدلاً من تركيزها في يد النخبة.

تأملات ختامية
إن النقاش حول دور الدولة والمعنى الحقيقي للنظرية الماركسية مستمر في التطور. ومع ذلك، فإن دروس التاريخ واضحة: أي نظام يُركّز السلطة –سواء تحت ستار الدولة المحدودة أو ديكتاتورية البروليتاريا– سيكون مقدراً في النهاية أن يخون وعود الحرية والمساواة. تُعد تجارب الاتحاد السوفيتي ومصر تذكيراً صارخاً بأن سلطة الدولة، حين تُترك دون رقابة، تخدم مصالح النخب الضيقة على حساب المصلحة العامة.
إن الطريق نحو التحرر الحقيقي يكمن في تفكيك الهياكل القمعية التي طالت مجتمعاتنا. ومن خلال تبني مبادئ الاشتراكية الليبرتارية والأناركو-نقابية، يمكننا بناء مجتمع لا تكون فيه الديمقراطية مجرد وعد باهت، بل واقعاً حيّاً؛ مجتمع يشارك فيه كل فرد في تشكيل المستقبل، وتُوزع فيه ثمار العمل بشكل عادل بين الجميع.
هذه الورقة هي دعوة للعمل لجميع من يسعون لبناء عالم أفضل –عالم لا تكون فيه السلطة محصورة في يد قلة، بل يُتاح لكل فرد فيه فرصة المساهمة في صنع القرار وتحديد مصير مجتمعه. إنها دعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالعمل والإنتاج والحكم، وبناء مستقبل يُحقق فيه حقاً الحرية والمساواة للجميع.