حارس الكلمة الأخير


محمد فرحات
2025 / 2 / 14 - 10:30     

ليلةٌ باردةٌ من ليالي أمشير، كأن السماء أغلقت أبوابها، وأطلقت ريحًا عاتيةً، صفيرها يطنّ في أذني بلا استئذان، كمن يذكّرني بفداحة الفقد، بوطأة الغياب التي تترك القلب موحشًا، كرفٍّ فارغٍ بعد أن تُنتزع منه الكتب التي ظلّت تشغله لعقود. كان البرد قاسيًا، لكنه لم يكن أشدّ وطأة من ثقل الحزن الذي جثم على صدري.

بعد العشاء الآخرة، كنا هناك، ننتظر جسد عم السعودي، صاحب فرشة الجرائد والكتب، كي يُوارى الثرى أخيرًا. كم يبدو الموت بسيطًا في لحظاته الأخيرة، لكنه يترك فراغًا لا يُملأ، كصفحة بيضاء تُركت عنوةً في كتابٍ كان يجب أن يكتمل.

لم يكن عم السعودي مجرد بائع جرائد، كان حارسًا للمعرفة، رجلًا حمل على كتفيه إرث الكلمات والحروف، وظلّ أمينًا عليها حتى لحظاته الأخيرة. ستّون عامًا قضاها بين الصحف، يمسّدها بيديه كما لو كانت طفلًا وُلد لتوّه. كان وجهه متربًا دائمًا، لكنه لم يكن تراب الطرقات، بل غبار الصحف التي تكدّست على فرشته، كأنها سجلٌّ للأيام والوقائع، تنطق بتاريخها بين يديه.

يقود التروسيكل اليدويّ كل يوم قبل الفجر، في أيام شبابه ممتطيًا إياه كفارس، وفي كبره دافعًا له كمن يجرّ خلفه ذاكرة العالم بأسره. ثم يعود بحمله؛ لم يكن ذلك الحمل مجرد رزمٍ من الأوراق المطبوعة، بل كان تاريخًا نابضًا، يحمله من محطة الشهداء حيث انتظر قطار الصحافة.

"ورثت هذه المهنة عن أبي"، قال لي ذات يوم، وابتسامة فخرٍ صغيرةٌ تلوح على شفتيه، قبل أن يتابع بصوته المتعب:

"كان أبي ملاحًا، لكنه ترك البحر ليبحر في عالم الجرائد، علّه كان مجرد تفسير رمزيٍّ لاسم أبيه. حين لم تكن محطة الشهداء قد أُنشئت بعد، كان يذهب إلى محطة البتانون ليحمل الصحف، وحين يعود، يتخطفها الناس منه خطفًا، في أيام الحروب والاغتيالات والثورات."

كانت نبرته تزداد حماسة كلما تحدّث عن الماضي، وكأنه يستعيد أمجاده، حينما كان الناس يلتهمون الأخبار بشغف، يقرؤونها بعيونٍ جائعة، ويعيشون تفاصيلها وكأنها مصائرهم الخاصة.

أتذكّره كما لو كنت أراه الآن، حين كنت صغيرًا، أشتري منه الجرائد لأبي. يمنحني أبي قرشين ونصف كل صباح، ويطلب مني أن أذهب إلى عم السعودي لشراء الأخبار، ويوم الجمعة الأهرام. كان ذلك جزءًا من طقوس طفولتي، لكنني لم أكن أدرك حينها أنني كنت أخطو أولى خطواتي نحو عشق الكلمات.

في أحد تلك الأيام، وبعد صلاة الجمعة في جامع سيدي شبل الأسود، وقف أبي كعادته أمام فرشة الجرائد، يقلب الكتب، يقرأ العناوين، يمرر أنامله على الأغلفة كما لو كان يتحسس أرواحها. كنت أقف بجانبه، وعيناي تتنقل بين الأغلفة، إلى أن استقرّ بصري على غلاف رواية بعنوان "ليلة الرعب" من سلسلة ملف المستقبل، للدكتور نبيل فاروق.

لا أدري ما الذي شدّني إليها، ربما كان العنوان، ربما كان الغلاف المثير الذي يعرض كونت دراكولا وأنيابه المشغبة بالدماء، أو ربما كان ذلك الشغف الغامض بالكتب الذي بدأ يتسلل إليّ دون أن أدركه.

لمحتُ أبي وهو يراقبني، كأنه يقرأ أفكاري، يبتسم نصف ابتسامة، ثم يلتقط الرواية ويضعها في يدي. شعرت بحرارة الكتاب بين أصابعي، كأنه بوابة إلى عالم آخر. لم أكن أعلم حينها أن تلك اللحظة الصغيرة ستفتح لي أبوابًا لا تُغلق، وأنني منذ ذلك اليوم لن أكون مجرد طفل يشتري الجرائد، بل قارئًا.

ومن بعدها، لم يفُتني عددٌ واحدٌ من رجل المستحيل أو ملف المستقبل، حتى توسّعت مكتبتي من ميكي إلى ماركس، ومن ماركس إلى ابن عربي.

تمرّ السنوات، وتتغير الأزمنة، لكن عم السعودي ظلّ هناك، خلف فرشته، كأن الزمن توقف عنده. لكنني رأيت في عينيه نظرةً لم يكن يملكها من قبل؛ نظرة من يراقب الأيام وهي تنسلُّ من بين أصابعه دون أن يستطيع الإمساك بها.

في آخر زيارة لي إلى الفرشة، بعد أن ناهز الثمانين، سألته لأجرّ طرف حديث معه، هو الذي أصابه الصمت على غير عادته، في أيامه التي لم أكن أعلم أنها الأخيرة:

"خمس نسخ فقط من كل جريدة؟!"

فهزّ رأسه بأسى وقال:

"وحتى الخمس نسخ دول... معظمهم بيرجع، ما حدش بقى بيقرأ!"

كانت كلماته تحمل حزنًا عميقًا، حزنًا لا ينم فقط عن قلقه على مصدر رزقه، بل يخصّ العالم الذي تغيّر، يخصّ الأزمنة التي لم تعد كما كانت، يخصّ الكتب والصحف التي كانت تُقرأ بنهم، فأصبحت مجرد ورق مطويّ لا يجد من يفك طلاسمه.

بعدها بأيام، اختفى عم السعودي. أسبوعٌ كاملٌ والفرشة مغلقة. كان المشهد غريبًا، المكان الذي ظلّ نابضًا بالحروف طوال عقودٍ صار فجأة صامتًا، كأن الكلمات نفسها رحلت معه.

لم تعد الفرشة كما كانت، فقد أصبحت مجرد كشك بجوار "أجزخانة الخفيف"، والتي تنتظر معاول وجرافات الهدم هي الأخرى، بعد أن انتقلت الفرشة من مكانها القديم أمام "قهوة البورصة العتيقة"، تلك القهوة التي لم تصمد أمام معاول الهدم، فاختفت، وحلّت محلّها عمارة شاهقة التهمت شموخ مئذنة سيدي شبل، التي كانت تكشف كل أجزاء المدينة كحارسٍ عملاقٍ لا ينام.

أشعر بثقل الفقد يتسلل إلى ركبتيّ المتعبة، أجلس على رصيف المقابر، أترقب ظهور النعش يُحمل بعيدًا. أضع كفّي على ركبتيّ كمن يحاول تهدئة ألم قديم.

في البعيد، تلوح جنازة عم السعودي بين المارة، كأنها موكب الكلمات التي باعها يومًا، وحملها الناس معهم، ليبقى أثرها، حتى وإن رحل البائع.

الشهداء
١٣ فبراير ٢٠٢٥.