واقع الحركة النقابية في تونس ومستقبل العمل النقابي
خميس بن محمد عرفاوي
2025 / 2 / 9 - 16:53
تتميز الحركة النقابية في تونس بالتعددية النقابية. وفي الواقع فإن الاتحادات النقابية التي بعثت بعد 1956 تأسست إثر انشقاقات عن الاتحاد العام التونسي للشغل أو بشكل مواز لضربه. وفي الكثير من الأحيان تقف السلطة وراء تلك الاتحادات سواء كان ذلك في عهد النظام الدستوري الذي دام من 1956 إلى 2011 أو في عهد حكومة الترويكا التي تشكلت حول حزب حركة النهضة الإخواني بعد الثورة في 2011. ولم تنجح بعض المحاولات التي قام بها مناضلون يساريون انسدت في وجوههم إمكانية العمل داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، مثل الكنفدرالية الديمقراطية للشغل.
لم تفلح كل تلك الاتحادات في استقطاب الطبقة العاملة أو في التحول إلى منظمات ذات وزن وظل الاتحاد الذي تأسس على يد الشهيد فرحات حشاد في عهد الاستعمار الفرنسي المباشر يسيطر على المشهد النقابي والطرف المفاوض للحكومة. ولا ينفرد هذا الاتحاد بانتشاره في كامل أنحاء البلاد فحسب وإنما أيضا بتغطيته جل القطاعات وبتعدد التوجهات السياسية والنقابية داخله. ولقد مثلت التيارات اليسارية ماركسية وقومية وغير المتحزبة عنصر قوة في المنظمة من ناحية قدرتها على صناعة الأحداث النضالية وتَأَهُّبها للذود عنها كلما هجمت عليها السلطة.
غير أن هذا الهيكل المهاب أصابه الشلل منذ بضعة سنوات نتيجة تعمد القيادة تنقيح الفصل 20 من القانون الأساسي حتى تتمكن من تجاوز عتبة الدورتين وتؤبد وجودها على رأس المنظمة وتحافظ بذلك على الفوائد والامتيازات التي يوفرها الموقع في المكتب التنفيذي. والأخطر من ذلك أنها أطردت بواسطة التجريد والتجميد من يعارضها من النقابيين وزوّرت الانتخابات لتفسح لمؤيديها وللمتسلقين والطامعين والأصوليين المجال للوصول إلى المسؤوليات النقابية زيادة على تخليها التام عن الدفاع عن منظوري الاتحاد وسلوكها ما أسماه أعضاء المكتب التنفيذي أنفسهم بالنضال الصامت الذي لم تجد السلطة والأعراف أفضل منه أسلوبا لعدم تأجيج الأوضاع المتردية أصلا.
ولكن انكشف أمرها بفضل العمل الدؤوب الذي قامت به المعارضات النقابية التي نشطت قطاعيا وجهويا ووطنيا لفضحها والمطالبة برحيلها. وتضافرت الكثير من العوامل لينفرط عقد القيادة المنقلبة وتنشطر إلى قسمين: قسم يتكون من عشرة أنفار على رأسهم الأمين العام (العشاري) وقسم يتكون من خمسة أعضاء (الخماسي) مدعومين بلجنة النظام واللجنة المالية. ولسائل أن يسأل هل تفرقهم مصالح الطبقة الشغيلة وتؤرقهم الأزمة الاجتماعية والدفاع عن مصالح البلاد الإستراتيجية؟ وسيصاب السائل بالذهول عندما يعرف الإجابة وهي أن ما يفرق بين الشقين ليس أكثر من موعد المؤتمر. فالخماسي يريد أن ينعقد المؤتمر في أقرب وقت لا يتجاوز هذه السنة بينما العشاري يريد عقد المؤتمر في وقته أي 2027 وإن اقتضى الأمر سنة 2026. فالأمر لا يعدو أن يكون صراعا على الكراسي وخاصة منصب الأمانة العامة ولتذهب إلى الجحيم مبادئ العمل النقابي وأهدافه. وبحركة بلهوانية يقدم أعضاء الخماسي أنفسهم، وهم الشريك الكامل في أزمة القيادة وشلل الاتحاد، كمعارضين ويطالبون في هذا الصدد باستقالة الأمين العام كما ينافسون المعارضة النقابية الحقيقية في أشكال نضالها كالاعتصام. لكنهم يعتصمون في ظروف مترفهة في المكاتب الوثيرة والدافئة خلافا لمن ينافسونهم الذين يتحدون المطر والبرد ويفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء في بطحاء محمد علي.
ولقد تأزمت العلاقة بين الشقين إلى أبعد الحدود وبلغ التوتر بينهما مستويات متدنية فيها من النعوت المهينة وتحشيد الموالين واحتلال المكاتب وربما في المستقبل القريب استعمال العنف. وتوقف المكتب التنفيذي عن الاشتغال بكامل أعضائه.
وفي المقابل تتصاعد حركة المعارضة للنهج البيروقراطي. وقد تعرضنا في مقالات سابقة لهذه الظاهرة )أنظر مثلا الاتحاد العام التونسي للشغل: استفحال أزمة القيادة منشور بموقع الحوار المتمدن( وذكرنا أن آخر إنجاز لها هو توحيد مكوناتها وبعث» اتحادنا للمعارضة النقابية « في صائفة 2023. وهو إنجاز يربط الصلة مع تقاليد الحركة النقابية النضالية في التوجه إلى توحيد قوى الطبقة العاملة وتنظيمها. وكان من بين أهدافه العمل على رحيل المكتب التنفيذي وتولي هيئة نقابية مؤقتة تتولى الإعداد للمؤتمر 24 والإسراع بتنظيم وتوحيد قوى المعارضة النقابية الحقيقية.
ورغم هذه الوحدة بقيت الكثير من المسائل ضبابية ولم يعمق فيها النظر وبرز الخلاف في بعضها مما أدى إلى تفرق مكونات » اتحادنا للمعارضة النقابية « . وبمناسبة انطلاق اعتصام البطحاء يوم 25 جانفي 2025 التف المعارضون حول هذا التحرك وتنادى الجميع للمشاركة فيه ومساندته.
ولعل هذا الالتفاف يبشر بعودة الروح إلى فكرة الوحدة مثلما كان الشأن في » اتحادنا للمعارضة النقابية « وسابقا في مختلف المواجهات النضالية وكما تقتضيه الحركة. وحتى تتحقق الوحدة على قاعدة سليمة أرى أن تقام ندوة وطنية في أقرب وقت وبالتوازي مع التحركات الميدانية، تجمع ممثلين عن المجموعات يكونون محملين بتوصيات رفاقهم في ما يتعلق بمختلف النقاط التي قد تحتاج إلى التعميق مثل تركيبة الهيئة التي ستكلف بالإعداد والإشراف على المؤتمر وكيفية تسيير الاتحاد في الفترة الانتقالية إداريا وماليا والتهيؤ لكافة الاحتمالات والمستجدات.
وبطبيعة الحال تنبثق عن الندوة الوطنية هيئة وطنية للمعارضة النقابية تتولى هيكلة الجهات والقطاعات وضبط برنامج التحركات والاتصالات من أجل تحقيق الأهداف المرسومة، هدف واحد حركة واحدة. ولا شك أن مثل هذا المسار التوحيدي سيعزز الحركة ويمنحها صبغة وطنية وسيساعد على تجاوز ما يثير الحزازات مهما كانت جهوية أو تتعلق بالأشخاص والمجموعات وسيساعد كذلك على تجاوز ضعف التنظيم والخطية وسيسمح بإحراز النصر في السباق مع الوقت الكفيل بحل أزمة القيادة.
إن المستفيد الأول من هذه الخطوات هو العمل النقابي المتأزم اليوم والذي فقد بريقه. ويبدو لي أن الفرصة مناسبة لتحقيق الهدف التي أفنى النقابيون الأحرار أعمارهم في النضال من أجله وهو تكريس مبادئ العمل النقابي المناضل والوطني كما أرساه المؤسسون. إن أسمى ما تصبو إليه المعارضة النقابية النزيهة والمناضلة هو أن تنعقد مؤتمرات التشكيلات النقابية بكل شفافية وديمقراطية وأن يقوم العمل النقابي على التطوع الذي لا ينتظر منه الحصول على مكاسب وامتيازات على حساب المنخرطين وأن يتم تطوير التشريعات النقابية بما يضمن استقلالية القطاعات في اتخاذ القرارات المناسبة وإحكام تنظيم مالية الاتحاد وكيفية مراقبتها وتحديد عدد الدورات النيابية على الأقل في الهياكل المسيرة مركزيا وقطاعيا وجهويا. وإني أعتقد أن الاستقلالية عن السلطة تفترض الاعتماد على النفس وتحقيق الاستقلالية المالية.
على هذا النحو يمكن أن يعود الاتحاد إلى حاضنته الشعبية وإلى الأسس التي نبنى عليها كمنظمة للطبقة العاملة وأن يتحول العمل النقابي إلى عمل نضالي.
المروج في 10 فيفري 2024