الاستعمار الاستيطاني سينتهي في فلسطين وإسرائيل
سعيد مضيه
2025 / 2 / 2 - 16:15
أميركيون، ساسة وموطنون، يرفضون دعم إسرائيل الى النهاية
"بدت الإمبراطورية البريطانية المحتضرة مجبرة على قبول استقلال كينيا عام 1963، ونهاية استعمارها الاستيطاني؛ والتردي الراهن لإمبراطورية الولايات المتحدة يفرض شيئاً مماثلاً على إسرائيل. بعد الحرب الأخيرة، والأسوأ في غزة، يقترب حليف إسرائيل الأساسي من النتيجة التي توصلت إليها بريطانيا في كينيا بعد انتفاضة ماو ماو". بهذه لمقارنة يستنتج الدكتور ريتشارد وولف ضرورة النهاية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني بفلسطين. وولف باحث في اقتصاد الاستعمار الاستيطاني الأوروبي ، وآخر مؤلفاته "الرأسمالية متورطة بمشاكل وأزمة الرأسمالية تتعمق". وهو مؤسس حركة "الديمقراطية في ميدان العمل".
كتب في مقالته المنشورة في 31 يناير 2025
حانت ولادتي قي خضما الكارثة الفاشية التي حلت بالرأسمالية الأوروبية في عشرينات وأربعينات القرن العشرين. كما أنتجت تلك الكارثة تجربة إسرائيل مع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ويشير هذا المقال إلى هذين الحدثين لتحليل الكارثة الفلسطينية الإسرائيلية الراهنة.
الأسباب أو الإسقاطات التي دفعتني لكتابة مثل هذا المقال تبدأ بحقيقة أن جدتي وجدتي لأمي قُتلا في معسكر اعتقال ماوتهاوزن النازي. قُتلت أخت والدي في أوشفيتز. أمضت والدتي وشقيقتها سنوات في معسكرات اعتقال مختلفة. وبسبب هذه الأحداث، هرب والداي من أوروبا وأنشئا أسرة بالولايات المتحدة. شان البعض من أحفاد الضحايا الآخرين الذين شهدوا مثل هذه الفظائع، حاولت أن أتفهم روح التضحية وعاقبتها على حياتي، سواء بشكل مباشر او غير مباشر.
تتفاوت ردود أفعال الأحفاد بتأثير ما حدث؛ البعض يتولاه البحث عن الأمان في عملية فك الارتباط التي تركز على البقاء بمنأى عن العالم الأكبر وتاريخه. ويحاول البعض الشعور بالارتياح من خلال الاعتقاد بأن جزءًا من العالم أو كل العالم قد تجاوز الظروف التي أنتجت ضحايا الفاشية. ويعاني البعض من خليط طويل الأمد من العجز الجنسي، والغضب، والخوف من أن يحدث ذلك مرة أخرى. ومن بينهم أولئك الذين يحاربون الفاشية أينما يرونها تعود إلى الظهور، وكذلك أولئك الذين يرتكبون المزيد من دورات الإيذاء ضد الآخرين. ولا يزال آخرون يحاولون التوصل إلى تفاهم من خلال كتابة المقالات والكتب.
حاولت إسرائيل ممارسة الاستعمار الاستيطاني على غرار الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الذي تم إنشاؤه في جميع أنحاء العالم. ارتبط بي هذا الجهد بشكل غير مباشر وبطريقة شخصية ملحوظة. من دون أن أفهم السبب، اخترت المشاركة في برنامج للطلاب الجامعيين في جامعتي هارفارد ورادكليف، والذي أخذ 20 منا إلى شرق أفريقيا في أوائل الستينات كمتطوعين لقضاء صيف من التدريس. بدأت أتعلم هناك ما يعنيه الاستعمار الاستيطاني. تطورت الدراسات الإضافية إلى أطروحة الدكتوراه الخاصة بي لاحقًا في جامعة ييل بناءً على البحث في سجلات مكتب المستعمرات في لندن والمتحف البريطاني. وقد حاول كتابي الناتج بعنوان "اقتصاديات الاستعمار: بريطانيا وكينيا، 1870-1930" (نيو هيفن، مطبعة جامعة ييل، 1974)، تحليل الاقتصاد الاستعماري الاستيطاني في كينيا.
هجّرت بريطانيا السكان الأصليين وحجزت المرتفعات الخصبة في البلاد لبضعة آلاف من المهاجرين البيض. بالإضافة إلى حماية الأرض والشرطة، زودت بريطانيا مهاجريها ببذور البن ووسائل النقل والسوق لتشغيل اقتصاد تصدير البن في كينيا. وجد الملايين من السود الكينيين الذين تم نقلهم قسراً إلى محميات ضيقة أنهم لا يملكون مقومات الحفاظ على الحياة؛ ومن ثم فإن البقاء على قيد الحياة يتطلب منهم القيام بأعمال منخفضة الأجر في مزارع البن للمستوطنين البيض. ساعدت الضرائب المفروضة على تلك الأجور المنخفضة في وصم نظام الاستيطان الكولنيالي بالقسوة. ان هذا الفصل الاقتصادي والعنصري في كينيا يوازي الفصل العنصري الأكثر شهرة في جنوب أفريقيا.
تثير مثل هذه الأنظمة الاقتصادية مقاومة مضطردة تتراوح بين انتفاضات الجماعات المحدودة والأنشطة الفردية الى حركات جماهيرية وتمردات منظمة. حدثت أعمال المقاومة هذه في كينيا وجنوب أفريقيا وأماكن أخرى أيضًا. تصدت بريطانيا بالقمع الروتيني. وفي كينيا، في نهاية المطاف، تجمع الثوار المنظمون حول جومو كينياتا وحشدوا ما يسمى جيش الأرض والحرية الكيني للتمرد. عُرفت حربهم على نطاق واسع باسم انتفاضة ماو ماو في الخمسينات ضد الحكومة البريطانية. وشملت أعداد القتلى في تلك الانتفاضة 63 ضابطًا عسكريًا بريطانيًا، و33 مستوطنًا، وأكثر من 1800 من رجال الشرطة المحليين والجنود المساعدين، والتقديرات السائدة على نطاق واسع لأكثر من 11000 متمرد كيني. وقام البريطانيون بقمع التمرد، وسجنوا كينياتا، وأعلنوا النصر بصوت عالٍ.
لكن انتصار بريطانيا كان بمثابة ناقوس الوفاة لمستعمرتها في كينيا. أظهر ماو ماو للبريطانيين تعاظم مستويات النهوض للمقاومة التي سيواجهونها لإشعار آخر من المستعمرات الاستيطانية التي أنشأوها. رأى السياسيون البريطانيون أن هذه تكاليف متزايدة للمستعمرات يستحيل تحملها. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أخذت المستعمرات الاستيطانية للآوروبيين تتحلل في كل مكان تقريبًا. ولم يتمكن القادة البريطانيون من التملص من استيعاب الواقع التاريخي. وبعد فترة وجيزة من حركة ماو ماو، اعترفت بريطانيا باستقلال كينيا الوطني، وحررت كينياتا، وقبلته كزعيم جديد لكينيا. أنهى الاستقلال الاستعمار الاستيطاني في كينيا.
ترك درس كينيا بصدد الاستعمار الاستيطاني أثره العميق على القادة البريطانيين؛ لكنه مثال برهن ان قادة إسرائيل رفضوا التعلم منه. نظراً للتواريخ الخاصة للصهيونية واليهود الأوروبيين، فقد صمم معظم قادة إسرائيل على فرض الاستعمار الاستيطاني على الشعب الفلسطيني والحفاظ عليه بالقوة.
أثار إعلان القادة الإسرائيليين الاستقلال في مايو/أيار 1948 مقاومة فورية فلسطينية وعربية استمرت حتى هذه اللحظة. وقد تخللت الحركات الجماهيرية والتمردات الواسعة تلك المقاومة وحظيت بدعم خارجي متعاظم (من مصادر عربية وإسلامية ومصادر أخرى). ترك زوال المستعمرات الاستيطانية الأوروبية السابقة إرثًا من الصعوبات الهائلة أمام الجهود الإسرائيلية لإقامة مستعمرات استيطانية أخرى والحفاظ عليها.
كان أحد الجوانب الحاسمة في استجابتهم لتلك الصعوبات هو تشكيل تحالف مع قوة عالمية يمكن أن تساعد في الدفاع عن استعمارها الاستيطاني. أدى التحالف الوثيق الناتج عن ذلك مع الولايات المتحدة إلى جعل إسرائيل وكيلها الأمامي في الشرق الأوسط، وهو الامتداد العسكري المهيمن للولايات المتحدة إلى حيث توجد موارد الطاقة العالمية الرئيسية. بات من السهل تقويض المكونات الاشتراكية والجماعية والكيبوتسية المبكرة في إسرائيل من خلال التحالف مع الولايات المتحدة. لقد دفع معظم القادة الصهاينة ثمن هذا التحالف عن طيب خاطر. وكان الثمن الآخر هو اعتماد إسرائيل العسكري والاقتصادي والسياسي على الولايات المتحدة. وأخيرًا، قام القادة الإسرائيليون بتنمية روابط ثقافية وعائلية قوية مع المجتمعات الشريكة المؤثرة ماليًا وسياسيًا داخل الولايات المتحدة وأوروبا. وبهذه الطرق، كان القادة الإسرائيليون يأملون في أن يستمر الاستعمار الاستيطاني وينمو على الرغم من الأمثلة العديدة في التاريخ التي أثبتت عكس ذلك.
لبضعة عقود، بدا للكثيرين داخل إسرائيل وخارجها أن استراتيجية قادتها وعلاقاتهم قد تؤمن استعمارها الاستيطاني. ولكن بعد ذلك بدأ ما حدث في كينيا يتكرر في إسرائيل (كل منهما في ظروف مختلفة). قاوم الفلسطينيون، وتلا ذلك حركات جماهيرية، وأخيراً اندلعت تمردات قوية ومنظمة. تبين أن انتصارات إسرائيل على كل منها كان مجرد مقدمات لأشكال أعلى من المعارضة التي تحظى بدعم عالمي متعاظم. وكانت الانتصارات الإسرائيلية تشبه تلك التي حققها نظراؤهم البريطانيين في كينيا.
من الواضح بنفس القدر الآن في إسرائيل وفلسطين أن احتمال نشوب حرب لا نهاية لها في المستقبل من المرجح أن يؤدي إلى خسارة المزيد من الأرواح والإصابات، ودمار مادي ونفسي، وخسائر اقتصادية وسياسية. الضحايا الناجون من العنف الإسرائيلي الشديد في غزة بدأوا يظهرون علنا بالفعل وهم أكثر حماساً، وأفضل تدريباً، ويمتلكون أسلحة أكثر فعالية لخوض معركتهم. وبالمثل، سيكون من بين أطفال هؤلاء الضحايا العديد من المصممين على إنهاء الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
إن التاريخ، والآن الزمن بالذات، يقف إلى جانب الفلسطينيين. حتى أن مؤيدأ قويا لإسرائيل، مثل وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن اضطر إلى الاعتراف بواقع صارخ (رغم أنه لم يعترف بمعناه التاريخي وبعواقبه السياسية)؛ قال: “في الواقع، نحن نقدر أن حماس قامت بتجنيد عدد من المسلحين الجدد يماثل العدد الذي فقدته. وهذه وصفة لتمرد دائم وحرب دائمة”.
بدت الإمبراطورية البريطانية المحتضرة مجبرة على قبول استقلال كينيا عام 1963، ونهاية استعمارها الاستيطاني؛ والتردي الراهن لإمبراطورية الولايات المتحدة يفرض شيئاً مماثلاً على إسرائيل. بعد الحرب الأخيرة والأسوأ في غزة، يقترب حليف إسرائيل الأساسي من النتيجة التي توصلت إليها بريطانيا في كينيا بعد انتفاضة ماو ماو.
أعداد متزايدة من قادة الولايات المتحدة يرون إن مخاطر وتكاليف تحالفها مع إسرائيل تتزايد بشكل أسرع من الفوائد. توصلت أعداد متزايدة، بمن فيهم مواطنون أميركيون، الى الاقتناع بأن تزويد إسرائيل بالأموال والأسلحة جعل الولايات المتحدة "متواطئة في الإبادة الجماعية"، وبالتالي معزولة عالميًا. تلا ذلك وقف إطلاق النار الذي فرضه دونالد ترامب. هل ستتصرف إسرائيل وكيف، وكيف ستقاوم إسرائيل وتتهرب من الانتقادات المستمرة، امور ستكون أقل أهمية بكثير من المسار الأساسي الجاري الآن. يشير التاريخ إلى أن بنيامين نتنياهو أو خلفاءه سينفصلون في نهاية المطاف عن الولايات المتحدة؛ وتحالفهم المفقود سوف يعجل بإنهاء الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
.