بيزنس الموضة في عيون الماركسية
محمود سلامة
2025 / 1 / 6 - 21:18
ترجمة محمود سلامة
يضخّم لنا النظام الرأسمالي فكرة الملابس كوسيلة للتعبير الفردي، لكنه في ذات الوقت يحرمنا الوسائل اللازمة لتحقيق أي تميز حقيقي. تناقش الكاتبة كيف يساعدنا كارل ماركس في فهم هذا التناقض.
في مثل هذا الوقت من العام، تمتلئ الشوارع -أو ما تبقى منها- بلافتات حمراء وبيضاء تعلن أنها “فرصتنا الأخيرة للشراء”. نتعرض بشكل مكثف لدعوات ملحة لاقتناص صفقة تمنحنا الثقة والنجاح الاجتماعي المأمولين.
تتعرض صناعة “الموضة السريعة” الرخيصة لانتقادات واسعة، كونها مضرة بالبيئة ويتم إنتاجها في ظروف عمل سيئة للغاية.
يسعى الاشتراكيون إلى إنتاج ملابس لا تضر الأرض وتحترم حقوق العمال في أماكن العمل. لكن هذا لا يقدم سوى جزء من الحل. ومن خلال كتابات كارل ماركس، يمكننا دراسة صناعة الموضة من منظور كل من المنتج والمستهلك واستكشاف العلاقة بينهما.
كتب ماركس عن التناقض بين بريق السلع الفاخرة والظروف المروعة التي يعاني منها العمال أثناء إنتاجها. يقول: “من الغريب أن إنتاج تلك المواد التي تخدم زينة السيدات من الطبقة البرجوازية يؤدي إلى أسوأ العواقب على صحة العمال“.
لكن المسألة لا تتعلق فقط بعدم قدرة العمال على تحمل تكاليف المنتجات التي يصنعونها أو الخدمات التي يقدمونها. فمكان العمل الرأسمالي منظم حول الحاجة إلى تراكم الأرباح، وليس لتلبية احتياجاتنا ورغباتنا.
الملابس أكثر من مجرد أشياء بسيطة تبقينا دافئين أو تغطي أجسادنا. اختيار الملابس يمكن أن يكون جزءًا من الطريقة التي نعبر بها عن شخصياتنا وهوياتنا الفردية. ما نرتديه مرتبط بتعبيرنا عن النوع الاجتماعي والتوجه الجنسي والهوية الثقافية، والمكانة الطبقية.
الملابس وسيلة للتميز عن الآخرين، وفي الوقت نفسه لوضع أنفسنا في سياق اجتماعي وثقافي.
يصبح هذا التعبير عن الهوية أكثر أهمية عندما يرتدي الكثير منا الزي الموحد في معظم حياتنا. نحصل على أول زوج من الأحذية المدرسية السوداء المصقولة في طفولتنا المبكرة.
تعكس الأزياء الموحدة في العمل والمدارس التسلسلات الهرمية. غالبًا ما يرتدي المدير بذلة أنيقة، بينما يُجبر الموظفون على ارتداء ملابس من البوليستر الزاهية. أحيانًا، يقرّر المديرون تخصيص “يوم بزي غير رسمي” كنوع من المكافأة أو لفرض إحساس زائف بعدم الرسمية.
معظمنا يشتري ملابس رخيصة ومُنتجة بكميات كبيرة من محلات السوبر ماركت، المتاجر الإلكترونية، أو المتاجر التقليدية. ولكن سواء كنت تتسوق من “إتش آند إم” أو “شي إن” أو “سينسبري”، فإن الملابس تبدو متشابهة إلى حد كبير لأنها تُصنع من قبل مصممين مشابهين باستخدام نفس الأقمشة في المصانع ذاتها.
على الرغم من الواقع الذي يُظهر أنه يُباع لنا نفس الملابس مثل معظم الناس الآخرين، فإنه يُباع لنا أيضًا وهم “التميز الفردي”. يقال لنا إنه إذا اشترينا الملابس المناسبة وارتديناها بالطريقة الصحيحة، فسوف نحقق رغبتنا في التعبير الفردي.
مفهوم الذات والهوية الفردية جزء من الطريقة التي يتم بها تشجيعنا على رؤية أنفسنا في ظل الرأسمالية.
صناعة الموضة الرأسمالية تريد من المستهلكين البحث عن التميز الفردي، بينما تقمع قدرتهم على تحقيقه.
لكن هناك جانبًا آخر للعلاقة بين أزياء الأثرياء والملابس التي يرتديها بقيتنا. تحت الرأسمالية، تتفاعل أزياء الأغنياء والفقراء مع بعضها البعض.
غالبًا ما يأخذ المصممون أفكارهم مباشرة من ثقافات الشباب -فكر في الجينز المزود بدبابيس الأمان والجلود في ثقافة “البانكس”، أو الأساليب السوداء الداكنة في ثقافة “الجوثيك”.
حين يكتشف الشباب شعورهم بالهوية، تصبح الملابس وسيلة لنخبر العالم من نحن ونطور أساليبنا الفريدة.
ولكن هذه الأزياء العفوية في الشوارع، التي غالبًا ما يقودها شباب من الفئات المضطهدة والطبقة العاملة، تُلتقط بسرعة من قبل مصممي الأزياء الفاخرة. الطريقة التي تسوق بها شركات الملابس الرياضية، مثل “نايكي” بشعارها “فقط افعلها”، للأحذية الرياضية مثال جيد.
تعرض الشركة منتجاتها كعناصر ضرورية للتفوق الرياضي ورموز لثقافة الشباب الحيوية في الشوارع. تستخدم “نايكي” الموسيقى والصور واللغة والمراجع الثقافية الأوسع للمستهلكين المستهدفين لتأطير منتجاتها ضمن عالمهم.
فقط أقلية صغيرة من الأغنياء يستطيعون ارتداء أفضل الأزياء الحصرية المصنوعة حسب الطلب من أفخم المواد. تعرض هذه الملابس إبداع المصممين، وتُشترى من قبل المشاهير ليتم عرضها في العشاءات الفاخرة أو على السجادة الحمراء.
تكلفة الملابس الفاخرة تتجاوز بكثير تكلفة المواد الخام أو أجور العمال الذين يصنعونها. إنها صناعة شديدة الاستغلال، سواء تم إنتاج الملابس في بنجلاديش أو باريس.
لكن الغاية الحقيقية من الملابس المصممة الحصرية هي إظهار أن مرتديها يمتلك شخصية مميزة وفريدة وهو شيء قليل منا يحصل على فرصة التعبير عنه.
يحاول بعض أفراد الطبقة العاملة ادخار المال لشراء ملابس مصممة تُباع بأسعار مرتفعة للغاية. جزئيًا، يتعلق ذلك بالمكانة، ولكنه أيضًا محاولة للحصول على جزء من ذلك “التميز” الذي يظهر على السجادة الحمراء.
يساعدنا مفهوم الاغتراب عند ماركس على تفسير سبب لعب الموضة دورًا مهمًا في حياتنا. مثلها مثل الصناعات الأخرى، تمثل صناعة الموضة مصدرًا للاستغلال وفرصة للإبداع في آنٍ واحد.
معظم الناس لا خيار لديهم سوى العمل في معظم حياتهم. لكنهم يُحرمون من أي سيطرة على كيفية عملهم أو شكل المنتجات النهائية. وصف ماركس هذا الفقدان للسيطرة على كيفية الإنتاج وما ننتجه بالاغتراب.
التعاون مع الآخرين لديه القدرة على أن يكون إبداعيًا ومُرضيًا. ولكن في المجتمع الرأسمالي، غالبًا ما يكون العمل مرهقًا ومملًا ومُجهدًا. العمل يسلبنا إبداعنا ويؤذينا.
بالنسبة لماركس، فإبداع العمال هو أحد الفروق الرئيسية بين البشر والحيوانات الأخرى. شرح ماركس كيف أن “العناكب تقوم بعمليات تشبه النساجين”، والنحل يصنع خلايا العسل“.
تبدو هذه الهياكل كمعجزات طبيعية وبالتأكيد هي منتجات جهد ولكنها لا تحتوي على نفس العناصر المكونة للعمل البشري.
يجادل ماركس بأن الحيوانات الأخرى تعيش حياة ضيقة تحددها الغريزة والبقاء، بينما يمتلك البشر القدرة على التفكير بما يتجاوز الاحتياجات الفورية والتصرف بشكل إبداعي.
كتب ماركس أن العمل المغترب في ظل الرأسمالية يُنتج “معجزات وجمالاً يتجاوز الضرورة”، لكنه في الوقت نفسه يولد “معاناة” للعمال“.
هذه هي الإمكانيات التي تُهدر في مكان العمل الرأسمالي. يريد الرؤساء منا أن نكون مثل العناكب، نكرر بناء نفس الشبكة مرارًا وتكرارًا، في حين أنه يمكننا بناء ما هو أكثر بكثير.
لدينا القدرة على العمل الإبداعي الذي لا يتم استغلاله في حياتنا الحالية.
في كل مرحلة من مراحل إنتاج الموضة، يمتلك العمال الذين يقومون بالخياطة والقص والتشذيب والتسويق والبيع معرفة بعملهم تفوق معرفة المديرين.
خذ على سبيل المثال الخياطين الذين يُجبرون على العمل على خطوط الإنتاج، وهو أمر ممل ويمكن أن يكون خطيرًا.
أو الأشخاص الذين يقضون ساعات طويلة في جمع القطن في الحقول. يُجبرون على تكرار نفس العمل البدني طوال اليوم، رغم أن بعض هذا العمل يمكن مشاركته أو إنجازه بشكل آلي.
القطاف والخياط لديهم أفكار وخبرات من شأنها أن تجعل عملهم أفضل. لكنهم يُحرمون من هذه الفرصة لأن النظام الحالي يحتاج إلى تعظيم الأرباح. يحتاج المديرون إلى عمال مطيعين يقبلون الانضباط القاسي وسلطة من يستغلهم.
حقيقة أن معظم العاملين في صناعة الملابس هن نساء فقيرات من الجنوب العالمي تسهل على الشركات تجاهلهم، وتجاهل قدراتهم وأفكارهم.
نحن نعيش في عالم محبط للغاية. ونُقال إن الحل يكمن في اقتناء السلع، حيث سنجد من خلالها الإشباع والروابط الاجتماعية التي نحتاجها.
الموضة وخيارات الاستهلاك واحدة من الطرق التي يسعى من خلالها الناس باستمرار لإيجاد طرق لتحقيق ذواتهم وشراء وهم الاختيار.
تعزز صناعة الموضة الشعور بأن شيئًا ما ينقص حياتنا، ثم تستفيد من انعدام الأمان الذي نشعر به. وهذا ممكن لأن الاغتراب يشكل حاجتنا لتغطية أنفسنا في سياق أوسع للمجتمع الرأسمالي.
فكر في كيف تجعل الكعوب الكوبية الرجال يبدون أطول، وكيف تعد “سبانكس” بإزالة أي عيوب في أجسامنا.
نظرية الاغتراب لدى ماركس ليست مجرد استكشاف لمسؤولية الرأسمالية عن بؤس الإنسان.
نظرية الاغتراب تحليل متفائل للغاية. يجادل ماركس بأن العمال لديهم القدرة على إنتاج ما يحتاجونه بشكل تعاوني وإبداعي. وأن يصبحوا سادة مصيرهم. لم يكن يعتقد أنه يتعين علينا قضاء أيامنا في نسج ملابس رؤساءنا في العمل – وقد كان محقًا.
*المقال مترجم من جريدة العامل الاشتراكي البريطانية