لبنان: عقدة بلا منتصرين
اسماء اغبارية زحالقة
2007 / 1 / 7 - 10:56
المشكلة ليست لبنانية، بل اقليمية تتعلق بلعبة كبيرة يعيشها الشرق الاوسط منذ غزو امريكا للعراق: من سيكون له القول الفصل؟ محور سورية وايران ومعه حزب الله وحماس، ام محور الدول الصديقة لامريكا وعلى رأسه السعودية ومصر ومعهما حكومة السنيورة وسلطة ابو مازن؟
بعد اربعة اشهر على انتهاء حرب لبنان الثانية، سخّر حزب الله "النصر الالهي" على اسرائيل، لاسقاط حكومة السنيورة. ولكن رغم التصعيد الخطير وإنزال مئات الآلاف الى الشارع لاسابيع متواصلة، ورغم خطاب التخوين والفضائح وتراشق الاتهامات بين المعسكرين، لا يبدو ان حزب الله هم الغالبون هذه المرة. والارجح ان الظروف السياسية الراهنة لن تسمح بسقوط حكومة السنيورة في الشارع.
ما الذي يجعل حزب الله الذي بالكاد خرج من حرب مع اسرائيل، ولا يزال مختبئا تحت الارض، ولا يزال الجنوب يلملم جراحه والناس لم تصحُ من هول الكارثة بعد، يجند كل هذه الطاقات ويهدد باسقاط البلاد لحرب اهلية جديدة، ويخوّن من يصر على التوحد معهم؟
لا تبحث عن الجواب في لبنان، بل خارجه. فلبنان لم يحقق على ارض الواقع حقه في تقرير المصير، وهو يُستخدم ساحة تتصارع فيها مصالح قوى خارجية هي التي تحدد مصيره. وكم كان من سخرية القدر ان وقع اغتيال الوزير بيار الجميّل في 21/11، اياما قليلة قبل عيد الاستقلال الرسمي، ليلغي الاحتفال ويذكّر الجميع من هو حاكم البلاد الحقيقي ويرفض التنازل عن نفوذه فيه: سورية.
ازمة اقليمية
تعقّب مثلا جدول عمل الوسيط عمرو موسى، امين عام الجامعة العربية، تجده قد التقى بالسعوديين، السوريين، الايرانيين، الاوروبيين والامريكيين طبعا، وحاول معهم إعداد الطبخة التي سيطعمها للبنانيين. وليس ذلك لان اللبنانيين لا يفهمون بالسياسة، ولكن لان المشكلة اصلا ليست لبنانية فحسب. انها مشكلة اقليمية تتعلق بلعبة كبيرة يعيشها الشرق الاوسط منذ غزو امريكا للعراق: من سيكون له القول الفصل؟ محور سورية وايران ومعه حزب الله وحماس، ام محور الدول الصديقة لامريكا وعلى رأسه السعودية ومصر ومعهما حكومة السنيورة وسلطة ابو مازن؟
ايران وسورية مصرتان على انتزاع اعتراف دولي بدورهما الاقليمي في الترتيب الجديد، حتى لو اقتضى الامر إشعال حروب اهلية في لبنان وفلسطين والعراق معا. الهدوء في هذه الساحات الثلاث بالاضافة لاسرائيل، سيكون ثمنه اولا: توسيع نفوذ ايران للعراق وتتويجها قِبلة جديدة يحج اليها العالم العربي والغربي لتحديد مصير الشرق الاوسط؛ وثانيا اعادة الاعتراف بنفوذ سورية في لبنان، الرئة الاقتصادية التي تتنفس منها.
وسورية لاجل هذا الغرض مستعدة ان تقدم تنازلات في الجولان. وهو ما يفسر غزلها مع اسرائيل واستعدادها للعودة للتفاوض دون شروط مسبقة، وغزلها ايضا مع امريكا من خلال استئنافها العلاقات الدبلوماسية مع العراق.
ولكن هيهات، فهذا السيناريو الذي يزرع له بذورا تقرير بيكر-هاميلتون الامريكي، وتحمست له ايران وسورية، يعني الانتحار بالنسبة للمحور المضاد. فالانظمة العربية، وخاصة السعودية السنية، لا تريد رؤية الامبراطورية الفارسية، او ولاية الفقية الشيعية، تُبنى على انقاضها. كما انها لن تسمح بان يذهب دم الحريري هدرا، وهو الذي دفع حياته ثمن تجرؤه المدعوم من السعودية على تحرير الاقتصاد اللبناني من الطفيلية السورية وربطه تماما بمصالح امريكا وفرنسا.
ولا تستطيع امريكا معارضة مصالحها وخذلان حلفائها، السعودية والسنيورة وسواهما، ولا الغاء المحكمة الدولية المتعلقة باغتيال الحريري. المجتمع الدولي قال كلمته، واقر مشروع المحكمة بالاجماع في مجلس الامن، مباشرة بعد اغتيال الجميّل، لافهام سورية ان مزيدا من الاغتيالات لن يجديها نفعا. كما أوضحت الامم المتحدة ان المحكمة ستنعقد بقرار جديد من مجلس الامن إن لم يتوصل اللبنانيون لاتفاق بهذا الشأن.
عقدة المحكمة
ان العقدة الحالية في لبنان ليست حكومة الوحدة والثلث الضامن ولا حتى موضوع رئاسة الجمهورية، بل المحكمة الدولية. فالسنيورة مستعد لاعطاء حزب الله الثلث الضامن في حكومة الوحدة، ولكن بعد إقرار مشروع المحكمة في البرلمان حيث يتمتع بالاغلبية. ولكن حزب الله يصر على توسيع الحكومة اولا ليحصل فيها على حق الفيتو، ثم يتم من بعدها إقرار المحكمة بعد تعديلها بحيث يضمن الا تمس مصالح صديقته سورية.
تأكيدا على هذا افادت صحيفة "الحياة" في 25/12 ان بعض الذين التقوا موسى قبل مغادرته لبنان بخفي حنين، رأوا ان "ما أوقف التفاهم على الورقة التي أعدها، متصلة بالقضية الجوهرية التي تحركت المبادرة من أجلها، وهي إيجاد مخرج لإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، وإنجاز اتفاق لبنان مع الأمم المتحدة عليها في الدرجة الأولى، مقابل توسيع الحكومة الحالية بحيث يتعزز اشتراك المعارضة فيها".
وأكد المصدر ان "المعلومات التي تجمعت لديه في هذا الصدد هي ان اعتراضات دمشق على نظام المحكمة ما زالت جدية من جهة، وأن حلفاءها في لبنان مضطرون لمراعاة هذه الاعتراضات، وأن الجانب السوري ينتظر تفاهما عربيا مباشرا معه، خصوصاً من جانب المملكة العربية السعودية ومصر على الأزمة اللبنانية قبل حلحلة الموقف".
وكانت سورية في وقت سابق قد أعلنت انها لن تقبل بتمرير مشروع المحكمة بصيغته الحالية، حتى لو كلّف الامر اقفال حدودها مع لبنان ووقف عملية ضبط الحدود مع العراق.
نصر الله يعود لنقطة الصفر
يبدو ان لحزب الله اسبابا تجعله يخشى المحكمة الدولية، ليس فقط لانها تستهدف حليفته سورية. صحيفة "الحياة" في 25/12 اشارت الى خشية الحزب من ان تُستغل المحكمة لتوجيه ضغوط دولية عليه، واستهدافه من خلال اتهامه بحوادث سابقة وقديمة تم ربطها بجريمة اغتيال الحريري.
لقد عاد نصر الله الى نقطة الصفر. فمشكلة المحكمة الدولية، والضغوط الداخلية والخارجية على حزب الله لتفكيك سلاحه، التي يسعى اليوم نصر الله لمواجهتها من خلال اللجوء الى الشارع، هي نفس المشاكل التي اعترضته قبل الحرب الاخيرة على لبنان. ويبدو ان العملية العسكرية التي قام بها في 12 تموز لم تنجح في اثبات شرعية سلاحه وإبطال المحكمة. فقد كان رد الفعل الاسرائيلي والدولي والعربي عاتيا لدرجة حشرته في الزاوية، وجلبت عليه قرار 1701 الذي حمّله مسؤولية الحرب، وأبعده عن الحدود مع اسرائيل. والاخطر من كل ذلك ان الحرب ادت الى تعميق الانقسامات الداخلية والاقليمية، وزاد الاحتداد على نحو عقّد الامور.
ولكن لنصر الله قراءة مختلفة للواقع، فقد اقنع نفسه انه انتصر على اسرائيل ودخل في نشوة وهمية على ضوء ارتفاع اسهم ايران في المنطقة. انه بات يعتقد ان بمقدوره تنصيب نفسه رئيسا فعليا للحكومة، من خلال فرض حكومة وحدة يتمتع فيها بحق الفيتو. بذلك يسعى لمنع صدور قرارات ضد سلاحه، وإفراغ قرار المحكمة الدولية من مضمونها كيلا تمس به وبحليفته سورية، وبذلك يتسنى له تحقيق ما عجز عنه من خلال الحرب.
رغم الطاقات الجبارة التي يبذلها حزب الله، فليس بمقدور ايران وسورية اسقاط حكومة السنيورة. وهو ما يفسر تراجع حزب الله بعض الشيء، وقبوله بالجامعة العربية وسيطا بينه وبين الحكومة. وحتى بعد فشل مساعي موسى الاخيرة، فانه متفق مع قوى الاكثرية على ضرورة عودة موسى الى لبنان بعد الاعياد، لاستئناف الحوار حول المبادرة العربية.
واضح ان حزب الله الذي يمثّل على المكشوف مصالح سورية وايران في لبنان، لا يعبر عن موقف وطني عام. ولا يستر عورته الطائفية تحالف المصالح المؤقت بينه وبين ميشال عون، زعيم التيار الوطني الحر، الساعي وراء تحقيق مصلحة مباشرة لنفسه.
وواضح ايضا ان انتشار نفوذ التيار الاصولي في لبنان، يعبر عن الفراغ السياسي الذي خلقته حكومة السنيورة وسابقاتها، وذلك بفسادها وتبعيتها للرأسمالية الامريكية والانظمة العربية، مما أفقدها ثقة نصف الشعب على الاقل إن لم يكن اكثر. ومع هذا فالتيار الاصولي لا يمكن ان يكون بديلا وطنيا مقبولا، اذ انه طائفي بطبيعته وادى بشكل فعلي الى انقسامات خطيرة، كما انه والدول الداعمة له وعلى رأسها ايران وسورية، ليسوا براءً من التعاون مع امريكا ومعسكرها في العراق وافغانستان وحتى من خلال الاستعداد للتفاوض مع اسرائيل.
مجال لحلول مؤقتة
لو كانت الامور متعلقة بالاحزاب اللبنانية وحدها، لأمكن الوصول الى وفاق وتعايش يعتبر الشكل الوحيد لامكانية احياء الدولة في ظل انقسامه الطائفي، وخاصة بعد ان عايش الحرب الاهلية ولا يريد السقوط فيها مرة اخرى. وقد يتمكن موسى في نهاية المطاف من الوصول الى صيغة "لا غالب فيها ولا مغلوب"، ولكن هذا سيكون "حلا" مؤقتا هدفه تطويق الازمة، حتى الانفجار القادم، لان السؤال الكبير سيكون مصير مشروع المحكمة وطبيعتها ونتائجها.
والسؤال الاكبر هو ماذا سيكون مصير سورية في لبنان؟ هل تعيد لها امريكا نفوذها هناك كما كان الحال ضمن اتفاق الطائف، وتكافئها على عضويتها في ما تسميه "محور الشر"، وتغفر لها اغتيالاتها للحريري وغيره، او دعمها لحماس وايران وحزب الله؟ هل تختار امريكا بذلك عمليا ان تعاقب "محور الخير"، الانظمة العربية التي تدعمها باخلاص متناهٍ ووقفت معها في الحرب الاخيرة ضد حزب الله؟ هل تسدد ضربة لاسرائيل؟ واخيرا هل تساهم في وقف عملية انعتاق لبنان من سورية، تمهيدا لانخراطه التام في المعسكر الامريكي وتسدد بذلك ضربة مباشرة لمصالحها هي؟ مستبعد جدا.
ولكن المستبعد اكثر من كل ذلك هو ان تنجح امريكا والمحور المتعاون معها، في فرض الديمقراطية على الشرق الاوسط. هذا المشروع الدخيل الذي بدأ بالعدوان الظالم على العراق عام 2003، هو الذي قاد لاختلال التوازنات الاقليمية في المنطقة، فأضعف الانظمة العربية وزاد قوة ايران وحلفائها، مما سبّب انقساما خطيرا في كل من لبنان وفلسطين والعراق.