اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر..


بندر نوري
2024 / 12 / 27 - 16:30     

بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.. ترجمة: بندر نوري.. مراجعة وتدقيق: قاسم محمود
ترجم وأعيد نشره بإذن من مجلة مونثلي ريفيو “Monthly Review” . مونثلي ريفيو. جميع الحقوق محفوظة

بعد أكثر من قرن على بداية الأزمة الكبرى 1914-1945، التي تمثلت في الحرب العالمية الأولى والكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، نشهد اليوم عودة مفاجئة للحرب والفاشية في جميع أنحاء العالم. يتسم الاقتصاد الرأسمالي العالمي الآن بتعميق الركود والأمولة وتصاعد عدم المساواة. كل هذا مصحوبا باحتمال الإبادة الشاملة للكوكب عبر شكلين مزدوجين هما: الهولوكوست النووي والتدهور المناخي. في هذا السياق الخطير، يتم التشكيك بشكل متزايد في مفهوم العقل البشري ذاته. لذلك من الضروري أن نتناول مرة أخرى مسألة علاقة الإمبريالية أو الرأسمالية الاحتكارية بتدمير العقل وتداعيات ذلك على النضالات الطبقية المناهضة للإمبريالية في العصر الحالي.
في عام 1953، نشر جورج لوكاش، الذي ألهمت دراسته عن التاريخ والوعي الطبقي عام 1923 التقليد الفلسفي الماركسي الغربي، عمله البارز "تدمير العقل"، الذي تناول العلاقة الوثيقة بين اللاعقلانية الفلسفية والرأسمالية والإمبريالية والفاشية 1. أثار عمل لوكاش عاصفة من الجدل بين منظري اليسار الغربيين الذين سعوا للتكيف مع الإمبراطورية الأمريكية الجديدة. في عام 1963، كتب جورج ليختهايم، وهو اشتراكي يدعي التزامه بالتقاليد العامة للماركسية الغربية ويعارض بشدة الماركسية السوفيتية، مقالا بمجلة Encounter، التي كانت تمول سرا من قبل وكالة المخابرات المركزية (CIA). في هذا المقال هاجم ليختهايم بشدة كتاب تدمير العقل وأعمال أخرى لجورج لوكاش. حيث اتهم لوكاش بالتسبب في "كارثة فكرية" بتحليله للتحول التاريخي من العقل إلى اللا-عقل في الفلسفة والأدب الأوروبيين، وعلاقة ذلك بصعود الفاشية والإمبريالية الجديدة في ظل الهيمنة الامريكية على المستوي العالمي.
بالطبع، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها جورج لوكاش لمثل هذه الإدانات القوية من قبل شخصيات مرتبطة بالماركسية الغربية. فقد هاجمه ثيودور أدورنو، أحد المنظرين البارزين بمدرسة فرانكفورت، في عام 1958 عندما كان لوكاش لا يزال قيد الإقامة الجبرية لدعمه ثورة 1956 في المجر. في مقال نشر في مجلة *Der Monat، وهي مجلة أنشأها الجيش الأمريكي المحتل وبتمويل من وكالة المخابرات المركزية، إتهم أدورنو لوكاش بأنه "اختزالي" و "غير ديالكتيكي"، ويكتب مثل "المفوض الثقافي"، وأنه "مشلول منذ البداية بسبب وعيه العقيم".
ومع ذلك، فإن هجوم ليختهايم على لوكاش عام 1963 اكتسب أهمية إضافية بسبب إدانته المطلقة لعمله تدمير العقل. في هذا العمل، رسم لوكاش العلاقة بين اللاعقلانية الفلسفية – التي ظهرت لأول مرة في القارة الأوروبية، وخاصة في ألمانيا، مع هزيمة ثورات 1848، وأصبحت قوة مهيمنة قرب نهاية القرن – مع صعود المرحلة الإمبريالية للرأسمالية. بالنسبة لجورج لوكاش، لم تكن اللاعقلانية، واندماجها النهائي مع النازية، تطورا حدث بالصدفة، بل كانت نتاجا للرأسمالية نفسها. رد ليختهايم باتهام لوكاش بارتكاب "جريمة فكرية" في رسم علاقة غير شرعية بين اللاعقلانية الفلسفية (المرتبطة بمفكرين مثل آرثر شوبنهاور وفريدريك نيتشه وهنري برجسون وجورج سوريل وأوزوالد شبنجلر ومارتن هايدغر وكارل شميت) وصعود أدولف هتلر 4. بدأ لوكاش كتابه بشكل استفزازي بالقول إن "الموضوع الذي يعرض علينا هو طريق ألمانيا إلى هتلر في مجال الفلسفة". لكن نقده كان في الواقع أوسع بكثير، حيث رأى أن اللاعقلانية مرتبطة بالمرحلة الإمبريالية للرأسمالية بشكل عام. ومن ثم، فإن أكثر ما أثار غضب منتقدي لوكاش في الغرب في أوائل الستينيات هو اقتراحه بأن مشكلة تدمير العقل لم تختف مع الهزيمة التاريخية للفاشية، بل استمرت في رعاية الاتجاهات الرجعية، وإن كانت أكثر سرية، في حقبة الحرب الباردة الجديدة التي هيمنت عليها الإمبراطورية الأمريكية. اتهم ليختهايم لوكاش باستخدام "كوابيس فرانز كافكا" كدليل على "الطابع الشيطاني لعالم الرأسمالية الحديثة"، الذي تمثله الآن الولايات المتحدة 5. ومع ذلك، كانت حجة لوكاش في هذا الصدد من الصعب دحضها. وبالتالي، كتب لوكاش بعبارات لا تزال ذات مغزى حتى اليوم:
"بالمقارنة مع ألمانيا، كان لدى الولايات المتحدة دستور ديمقراطي منذ البداية. وتمكنت طبقتها الحاكمة، وخاصة خلال العصر الإمبريالي، من الحفاظ على الأشكال الديمقراطية بشكل فعال لدرجة أنها، عبر وسائل قانونية ديمقراطية، حققت دكتاتورية الرأسمالية الاحتكارية على الأقل بنفس درجة الصرامة التي أقامها هتلر من خلال إجراءات استبدادية. وقد تم إنشاء هذه "الديمقراطية" التي تعمل بسلاسة من خلال صلاحيات الرئيس، وسلطة المحكمة العليا في المسائل الدستورية، واحتكار المال على الصحافة والراديو وما إلى ذلك، وتكاليف الحملات الانتخابية التي حالت دون ظهور أحزاب ديمقراطية حقيقية إلى جانب الحزبين اللذين يمثلان الرأسمالية الاحتكارية، وأخيرًا استخدام وسائل الإرهاب (نظام الإعدام خارج نطاق القضاء). وكانت هذه الديمقراطية قادرة، في جوهرها، على تحقيق كل ما سعى إليه هتلر دون الحاجة إلى الانفصال عن الديمقراطية رسميًا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك الأساس الاقتصادي الأوسع والأكثر قوة للرأسمالية الاحتكارية".
في ظل هذه الظروف، أصر لوكاش على أن اللاعقلانية و "تكديس الاحتقار الساخر للإنسانية"، كانت "النتيجة الأيديولوجية الضرورية لهيكل الإمبريالية الأمريكية وتأثيرها المحتمل". هذا الادعاء الصادم بأن هناك استمرارية في العلاقة بين الإمبريالية واللاعقلانية تمتد على مدار قرن كامل، من أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، مرورا بالفاشية، واستمرارا في إمبراطورية الناتو الجديدة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، تم رفضه بشدة في ذلك الوقت من قبل العديد من المرتبطين بالتقاليد الفلسفية الماركسية الغربية. كان هذا، إذن، أكثر من أي شيء آخر، هو الذي أدى إلى التنصل شبه الكامل من أعمال لوكاش اللاحقة (بعد كتابه عام 1923 التاريخ والوعي الطبقي) من قبل المفكرين اليساريين الذين تعاونوا مع ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، لم يخضع كتاب تدمير العقل لنقد منهجي من قبل أولئك الذين عارضوه، مما كان سيعني مواجهة القضايا الحاسمة التي أثارها. بدلا من ذلك، تم رفضه بشكل لاذع من قبل اليسار الغربي باعتباره يشكل "تحريفا متعمدا للحقيقة" و "خطبة لاذعة من 700 صفحة" و "رسالة ستالينية"8. كما لاحظ أحد المعلقين مؤخرا، "بانه يمكن تلخيص استقبال تدمير العقل في أوساط الماركسية الغربية ببعض أحكام الإعدام" الصادرة ضده من قبل كبار الماركسيين الغربيين 9.
ومع ذلك، لم يكن هناك إنكار لحجم المشروع الذي مثله كتاب "تدمير العقل" كقضية نقدية للتقاليد الرئيسية لللاعقلانية الغربية من قبل أعظم فيلسوف ماركسي في ذلك الوقت. بدلاً من التعامل مع الأنظمة المختلفة للتفكير اللاعقلاني التي ظهرت من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين كما لو أنها سقطت من السماء، ربط لوكاش هذه الأنظمة بالتطورات التاريخية والمادية التي نشأت منها. هنا، اعتمدت حجته في النهاية على كتاب لينين "الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية". لذلك، تم التعرف على اللاعقلانية، كما عند لينين، باعتبارها مرتبطة ارتباطًا أساسيًا بالظروف التاريخية والمادية في عصر الرأسمالية الاحتكارية، وتقسيم العالم بأسره بين القوى العظمى، والصراعات الجيوسياسية حول الهيمنة ومناطق النفوذ. وتجلت هذه في التنافس الاقتصادي الاستعماري بين الدول الرأسمالية المختلفة، مما ألّف السياق التاريخي الذي نشأت فيه المرحلة الإمبريالية الجديدة للرأسمالية.
اليوم، تستمر هذه الحقيقة المادية الأساسية بطرق عديدة، ولكن تم تعديلها إلى حد كبير تحت الإمبريالية العالمية للولايات المتحدة بحيث يمكن القول إن مرحلة جديدة من الإمبريالية المتأخرة قد نشأت، بدءًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بالحرب الباردة، واستمرت، بعد فترة انقطاع قصيرة، الى الحرب الباردة الجديدة اليوم. الإمبريالية المتأخرة في هذا السياق تتوافق زمنيًا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور العصر النووي، وبدء عصر الأنثروبوسين في التاريخ الجيولوجي، الذي شهد بداية الأزمة البيئية الكوكبية. كما أن توحيد رأسمالية الاحتكار العالمية (والتي أصبحت مؤخرًا رأسمالية الاحتكار المالي)، والصراع من أجل الهيمنة العالمية من قبل الولايات المتحدة -بدعم من الإمبريالية الجماعية للتحالف المكون من الولايات المتحدة/كندا، وأوروبا، واليابان- يتوافق مع هذه المرحلة من الإمبريالية المتأخرة 11.
بالنسبة لليسار الغربي نفسه، فقد تم تمييز تاريخ الإمبريالية المتأخرة في المقام الأول بهزيمة انتفاضات عام 1968، تليها انهيار المجتمعات على النمط السوفياتي بعد عام 1989، مما كان له أحد أهم العواقب وهو انهيار الديمقراطية الاجتماعية الغربية. وضعت هذه الأحداث اليسار الغربي ككل في موقف ضعيف، حُدد في النهاية بتبعيته العامة للمعايير الواسعة للمشروع الإمبريالي الذي تركز في الولايات المتحدة ورفضه الاصطفاف مع النضال المناهض للإمبريالية، مما ضَمِن عدم صلاحيته الثورية 12.
من الضروري هنا الاعتراف بأن الساحة الرئيسية للصراع في الإمبراطورية الأمريكية على مدار الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هي الجنوب العالمي. فقد كانت الحروب والتدخلات العسكرية — التي بدأتها واشنطن في الغالب — شبه مستمرة رداً على الثورات ونضال التحرر الوطني، وكان معظمها مستوحى من الماركسية، التي حدثت طوال فترة ما بعد الاستعمار/النيوكولونيالية. على الرغم من أن التنمية الاقتصادية قد ظهرت في العقود الأخيرة في أجزاء من العالم الثالث، فإن شدة الاستغلال/ النزع على اقتصادات الأطراف في النظام ككل قد ازدادت في ظل رأس المال المالي الاحتكاري العالمي من خلال فرض تقسيم العمل العالمي وعبودية الديون، مما أدى إلى تعميق التفاوت في النظام العالمي بين البلدان الغنية والفقيرة. لا يزال الصراع الإمبريالي الحالي أو الحرب الباردة الجديدة التي بدأت من واشنطن، والتي تهدف إلى تأمين النظام الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، مركزاً على السيطرة على الجنوب العالمي، الذي يتطلب اليوم أيضاً إضعاف القوى الكبرى في أورو-اسيا مثل روسيا والصين اللتين تهددان بفرض نظام متعدد الأقطاب ينافس النظام الأحادي القطبية الأمريكي.
في هذا المناخ الخطير والمدمر للإمبريالية المتأخرة، أصبحت اللاعقلانية تلعب دورا متزايدا في تشكيل الفكر المهيمن على المستوي الكوكبي. وقد اتخذ هذا في البداية شكل تفكيكية ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، والذي كان معتدلا نسبيا. تجسد هذا الاتجاه في أعمال مفكرين مثل جان فرانسوا ليوتار وجاك دريدا، الذين ألقوا جانبا جميع الروايات التاريخية الكبرى بينما احتضنوا فلسفة معادية للانسانية تنبثق بشكل أساسي من هايدغر. وفي المقابل، شكلت فلسفات الجوهر* الجديدة اليوم -المرتبطة بما بعد الإنسانية، والمادية الحيوية الجديدة، ونظرية شبكة الفاعل، والأنطولوجيا الموجهة للكائنات- لاعقلانية أعمق، ممثلة بشخصيات يسارية مفترضة مثل جيل دولوز، وفيليكس غوتاري، وبرونو لاتور، وجين بينيت، وتيموثي مورتون. يعتمد هؤلاء المفكرون بشكل مباشر على سلالة فكرية غير عقلانية تعتمد على مناهضة رجعية للحداثة مستمدة من اعمال نيتشه وبيرغسون وهايدغر. انحاز الفيلسوف اللاكاني الهيجلي سلافوي جيجك في النهاية إلى التقاليد المعادية للإنسانية النابعة من الهايدغرية اليسارية، مما أدى به إلى إنشاء كرنفال من اللاعقلانية في اعماله. كل هذه الاتجاهات المختلفة مقترنة بالشكوك والعدمية والنظرة المتشائمة لنهاية العالم.
في الكتابة عن "النظام اللاعقلاني" في الفصل الأخير من رأس المال الاحتكاري (1966)، استكشف بول باران وبول سويزي تدمير العقل الذي أصبح سائدا في كل جانب من جوانب الرأسمالية الاحتكارية، من لاعقلانية النظام الاقتصادي إلى تدميره الأساسي للحياة الاجتماعية. وهكذا أشاروا إلى "الصراع المتزايد باستمرار بين الترشيد السريع لعمليات الإنتاج الفعلية والطبيعة اللاعقلانية للنظام ككل"13. كتب باران في رسالة إلى سويزي أن "جوهر الجوهر" في "البصيرة الماركسية" هو أن القوة الدافعة للثورة الطبقية كانت دائما "هوية المصالح والاحتياجات المادية القائمة على أساس طبقي مع انتقاد عقلاني للاعقلانية القائمة "14. " لذلك، كانت اللاعقلانية في الثقافة البرجوازية تهدف بشكل أساسي إلى فصل أي طبقة ثورية محتملة عن مجال النقد العقلاني، مع استبدال ذلك بالغرائز والأساطير والتقيؤ المستمر للعقلانية، كما يصور ذلك في شخصية الإنسان السفلي في رواية "رسائل من تحت الأرض" لفيودور دوستويفسكي. كان كل هذا مرتبطًا ماديًا وأيديولوجيًا بالإمبريالية والبربرية والفاشية.
وفقًا لمفهوم باران، فإن التحليلات التي تسعى إلى الدفاع عن العقل بمعزل عن الارتباط بالواقع المادي والطبقي تتخذ شكلًا "فكريا" بحتًا. وبالتالي، فإن الدفاع عن العقل -ليس بمعناه النظري المجرد، بل بما يتصل بالقوى المادية الحقيقية الكامنة- كان جزءًا لا غنى عنه من النضال الاشتراكي. وقد أصبحت هذه المهمة أكثر أهمية في العصر اللاعقلاني للرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية.
ومن هنا، فإن كشف العلاقة الديالكتيكية بين اللاعقلانية والإمبريالية التي تتكشف في زماننا هذا -وهو عصر لم يعد فيه تطور القوى الإنتاجية قادرًا على إخفاء تدميرية النظام الرأسمالي العالمي الذي يهدد البشرية جمعاء- يجب أن يكون هدفًا رئيسيًا لليسار.


اللاعقلانية في التاريخ
كانت اللاعقلانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تيارا معروفا في الفلسفة الأوروبية، استلهمت أفكارها من التركيز على إرادة الحياة / الإرادة القوة، والغرائز، الحدس، الأساطير، والمبادئ الحيوية، بالإضافة إلى التشاؤم الاجتماعي العميق - في معارضة تركيز التنويرعلى المادية والعقل والعلم والتقدم. لقد اتخذت اللاعقلانية شكل حركة رجعية عميقة معادية للإنسانية بشكل خبيث، ومناهضة للديمقراطية، ومعادية للعلم، والاشتراكية، والمادية الديالكتيكية، وقد كانت عنصرية وذكورية في أغلب الأحيان. من بين الشخصيات البارزة في التحول اللاعقلاني في الفترة من 1848-1932، شوبنهاور، وإدوارد فون هارتمان، ونيتشه، وسوريل، وشبنجلر، وبرغسون، وهايدغر، وشميت 16. كانت هذه اللاعقلانية الفلسفية هي التعميم الفكري للتأثيرات التاريخية الأكبر التي تحدث داخل المجتمع المهيمن. وبالتالي، غالبا ما تكون الروابط السببية المباشرة مع الحركات الرجعية غير موجودة. ومع ذلك، فإن العلاقة الواسعة بين هذه الاتجاهات الفكرية والظهور النهائي للفاشية، وخاصة النازية في أوروبا، لا يمكن إنكارها. أعرب سوريل عن إعجابه ببينيتو موسوليني 17. كما كان هايدغر وشميت أيديولوجيين وموظفين نازيين. وليس سوى أدولف هتلر من عبر عن روح اللاعقل السائدة في ذلك الوقت عندما قال: "نحن نقف في نهاية عصر العقل ... عصر جديد من التفسير السحري للعالم آخذ في الظهور، تفسير يعتمد على الإرادة بدلا من المعرفة. لا توجد حقيقة، سواء بالمعنى الأخلاقي أو العلمي" 18.
من خلال مقاربته لمشكلة اللاعقلانية من منظور ماركسي، قام لوكاش في "تدمير العقل" بتتبع جذورها التاريخية رجوعا إلى فترة هزيمة الثورات البرجوازية عام 1848، تلاها ظهور المرحلة الإمبريالية للرأسمالية بدءا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مما أدى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقال إن "العقل نفسه لا يمكن أبدا أن يكون شيئا محايدا سياسيا، معلقا فوق التطورات الاجتماعية. إنه يعكس دائما العقلانية الملموسة - أو اللاعقلانية - للواقع الاجتماعي والوضع التاريخي المتغير، ويلخصها من الناحية المفاهيمية وبالتالي إما أن يعززها أو يثبطها " 19. تكمن جوهرية المنهج الماركسي الديالكتيكي، وفقًا لجورج لوكاش، في النقد المتمثل في تحليل الظروف التاريخية المتغيرة، مما يسمح بفهم تطور الفكر بشكل أكثر عمقًا ومنهجية.
بالنسبة لجورج لوكاش، كان شوبنهاور منشئ "النسخة البرجوازية البحتة من اللاعقلانية" 20. تمثلت أعظم أعماله، في "العالم كإرادة وفكرة" (نشر عام 1819) والذي كان موجها ضد الفلسفة الهيجلية. حاول شوبنهاور معارضة مثالية العقل الموضوعية لهيغل باستخدام مثالية الإرادة الذاتية. في سعيه لمواجهة هيغل، ذهب إلى حد جدولة محاضراته في برلين في عشرينيات القرن التاسع عشر لتتزامن مع محاضرات هيجل، ولكن دون جدوى، لأنه لم يكن قادرا على جذب الجمهور. فقط مع هزيمة ثورات 1848 في ألمانيا تحول المناخ العام في اتجاهه. في تلك المرحلة، حولت البرجوازية الألمانية ولائها من هيجل ولودفيغ فورباخ إلى شوبنهاور، الذي حقق في العقد الأخير من حياته إشادة واسعة النطاق 21. كانت عبقرية شوبنهاور، وفقا للوكاش، تتمثل في الريادة في طريقة "الدفاع غير المباشر"، التي أتقنها نيتشه لاحقا. سعت الدفاعيات السابقة عن النظام البرجوازي إلى الدفاع عنه بشكل مباشر، على الرغم من تناقضاته المتعددة. في طريقة شوبنهاور الجديدة في ألية الدفاعات غير المباشرة، يمكن إبراز الجانب السيئ للرأسمالية (وحتى تناقضاتها). ومع ذلك، لم تُنسب هذه السلبيات للنظام الرأسمالي نفسه، بل أُرجعت إلى الأنانية، الغرائز، والإرادة، مما وضع الوجود البشري في إطار متشائم عميق بوصفه عملية منحلة مليئة بالرذائل 22. وهكذا اتخذ مفهوم شوبنهاور عن الإرادة، أو إرادة الحياة، الذي نسبه إلى الوجود كله، شكل الأنانية الكونية. كتب لوكاش أن فلسفة شوبنهاور اختزلت كل شيء في النهاية إلى إرادة خالصة "تجسد الطبيعة بأكملها". احتضنت الإرادة، بالنسبة لشوبنهاور، مفهوم إيمانويل كانط عن الأشياء في ذاتها (Noumena) ، والذي يتجاوز الإدراك البشري. فقد أعلن شوبنهاور: "يجب أن أدرك، أن القوى الغامضة التي تتجلى في جميع الأجسام الطبيعية، على أنها متطابقة مع الإرادة التي في داخلي، وتختلف عنها فقط في الدرجة" 23.
أفضل توضيح لفكرة شوبنهاور عن الإرادة يتجلى في رده على تصريح باروخ سبينوزا الشهير بأن الحجر المتساقط، إذا كان واعيا، سيعتقد أن لديه إرادة حرة وأن زخمه كان نتاجا لإرادته الخاصة - وهي حجة مصممة لدحض فكرة الإرادة الحرة. قلب شوبنهاور معنى سبينوزا وأعلن: "سيكون الحجر محقًا. نفس مسار الحجر يمثل الدافع بالنسبة لي، وما يتجلى في حالة الحجر كالتماسك، والجاذبية، والإصرار في الحالة المفترضة، هو في الجوهر الباطني، نفس ما أتعرف عليه في نفسي كإرادة "24.
بالنسبة لشوبنهاور، كانت "المادية الفجة" ببساطة تُنكر وجود تلك "القوى الحيوية" التي كانت متطابقة مع الإرادة للحياة، والتي كانت بالنسبة له تمثل الحقيقة الأعمق والوحيدة، إذ أنه رأى أن هذه الإرادة للحياة تتجاوز كل شيء آخر، وما بعدها لا يوجد شيء.25.
كانت الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر مرتبطة جزئيًا بنمو الفلسفة الكانطية الجديدة، والتي بدأت مع كتاب فريدريش لانج "تاريخ المادية ونقد أهميتها الراهنة" (1866)، والذي سعى إلى تقويض جميع التوجهات المادية -لا سيما المادية التاريخية لكارل ماركس 26. ومع ذلك، كانت النزعة اللاعقلانية كاتجاه فلسفي عام أكثر تأثيرًا ومواكبةً للعصر الإمبريالي الجديد. وكان أبرز أتباع شوبنهاور (إلى جانب نيتشه، الذي تأثر به بشكل كبير) وشخصية رئيسية في الفلسفة اللاعقلانية في أواخر القرن التاسع عشر هو هارتمان، الذي نشر عمله الضخم "فلسفة اللاوعي" (1869). على الرغم من أن هارتمان كان مفكرًا أكثر تنوعًا من شوبنهاور، فقد زعم أنه يجمع بين تفاؤل هيجل وتشاؤم شوبنهاور. لكن ما أثار إعجاب القراء في ذلك الوقت كان التشاؤم العميق واللاعقلانية التي ميزت عمل هارتمان، وخاصةً مفهومه عن الانتحار الكوني.
في رأي هارتمان، كان هذا أفضل العوالم الممكنة، ولكن العدم كان أفضل من الوجود. لذلك، كان يعتقد أن "الإرادة" أو "الروح اللاواعية"، ستصل في مرحلة ما إلى ذروة تطورها في الجنس البشري، مما سيؤدي إلى انتحار كوني يُنهي العملية الكونية بأكملها "نهاية زمنية"، وينتج عن ذلك "اليوم الأخير". في تلك اللحظة، سيؤدي "النفي البشري للإرادة" إلى "إبادة كل الإرادة الفعلية للعالم دون أي بقايا، مما سيجعل الكون بأكمله يختفي دفعة واحدة عبر سحب الإرادة التي تمنحه الوجود". لن تكون نهاية البشرية على شكل "نهاية العالم" التقليدية القادمة من الخارج، بل ستنبع من انتحار الإرادة، وستمتد لتشمل الكون بأسره 27 .
توفي نيتشه في عام 1900. كان هذا التاريخ ذا أهمية، لأن نيتشه، في نظر لوكاش، كان "مؤسس اللاعقلانية في الحقبة الإمبريالية"، التي كانت حينها في بداياتها فقط. لقد بدأت المرحلة الإمبريالية أو الاحتكارية للرأسمالية، وفقاً للنظرية الماركسية، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولكن فيما يتعلق بحياة نيتشه وأعماله، لم تكن مرئية حينها سوى "البراعم الأولى لما هو آت". لقد تمثلت عبقرية نيتشه في قدرته الفطرية على التقاط الإحساس بما هو قادم وتطوير منهج اللاعقلانية لعصر الإمبراطورية الجديد كـ "شكل أسطوري" من التحليل، زاده تعقيداً استخدامه المتكرر للحكم الغامضة. وهذا ما يفسر الطبيعة الساحرة للأسلوب الأدبي لنيتشه، الذي كان في الوقت نفسه وسيلة لإتقان الدفاع غير المباشر. كل شيء في فلسفة نيتشه يُعرض في غموض، بحيث لا يكون هناك شك في الاتجاه السياسي والاجتماعي العام لفلسفته، ولكنه في الوقت ذاته يثير نقاشات لا تنتهي نتيجة لطابعها الأسطوري، مما يجذب المقلدين ويؤسس الشكل السائد الذي تُمارس فيه اللاعقلانية الفلسفية حتى يومنا هذا 28 .
ملخصًا الطابع الرئيسي لفلسفة نيتشه، كتب لوكاش:
"كلما كان المفهوم أكثر خيالية وكلما كانت أصوله ذاتية بحتة، ارتفع موقعه وازدادت "حقيقته" على مقياس القيم الأسطوري. يجب أن يُزاح مفهوم "الوجود" من أن يكون له أدني علاقة بواقع مستقل عن وعينا لصالح "الصيرورة" (أي لصالح الفكرة). لكن "الوجود"، عندما يتحرر من هذه القيود ويُنظر إليه بصفته خيالًا خالصًا، كنتاج لـ "إرادة القوة"، يمكن أن يصبح، بالنسبة لنيتشه، فئة أعلى من "الصيرورة": تعبيرًا عن الموضوعية الزائفة intuitive pseudo-objectivity للأسطورة. عند نيتشه، تكمن الوظيفة الخاصة لهذا التعريف لـ"الصيرورة" و"الوجود" في دعمه للطابع التاريخي الزائف “pseudo- historicity” الذي يعتبر ضروريا لدفاعاته غير المباشرة، وفي الوقت نفسه في رفضه، مما يؤكد فلسفيًا أن "الصيرورة" التاريخية لا يمكنها أن تنتج أي جديد يتجاوز الرأسمالية 29 ".
ومع ذلك، رغم كل ما تتمتع به فلسفة نيتشه من بريق وجاذبية، لا يمكن إنكار طابعها الرجعي واللاعقلاني المنهجي. في ختام كتابه العالم كإرادة وفكرة، أعلن شوبنهاور أن "إرادة الحياة" هي كل شيء، وما بعدها لا يوجد شيء. أما نيتشه، في إعادة صياغة ساخرة عن شوبنهاور، فقد أعلن: "هذا العالم هو إرادة القوة- ولا شيء غير ذلك! وأنت نفسك إرادة القوة هذه-ولا شيء غير ذلك!" 30.
في كتابه ما وراء الخير والشر (1886)، كتب نيتشه، في معارضة صريحة للماركسية:
"الحياة بحد ذاتها هي في جوهرها استيلاء، إيذاء، قهر لما هو غريب وأضعف؛ قمع، قسوة، فرض الأشكال الخاصة، استيعاب، وعلى الأقل، في أبسط صورها، استغلال... إذا كانت جسدًا حيًا وليس في حالة احتضار، فسيتعين عليها أن تكون إرادة قوة مجسدة، تسعى إلى النمو، التوسع، السيطرة، والتفوق- ليس بدافع الأخلاق أو اللاأخلاق-، ولكن لأنها حية ولأن الحياة ببساطة هي إرادة القوة.
لكن هناك نقطة يقاوم فيها وعي الأوروبيين العادي تلقي التعليم أكثر من أي شيء آخر: في كل مكان الآن يجن الناس، حتى تحت أقنعة علمية، حول ظروف مستقبلية لمجتمع يتم فيها إزالة "جانب الاستغلال"، مما يبدو لي وكأنهم يعدون باختراع طريقة حياة تتخلى عن جميع الوظائف العضوية. إن "الاستغلال" لا ينتمي إلى مجتمع فاسد أو غير كامل أو بدائي: إنه ينتمي إلى جوهر الكائن الحي كوظيفة عضوية أساسية؛ إنه نتيجة لإرادة القوة، التي هي في نهاية المطاف إرادة الحياة "31.
هنا يخلط نيتشه بين الاستيلاء - الذي يعني في النظرية السياسية الكلاسيكية وأعمال مفكرين متنوعين مثل جون لوك وهيجل وماركس عملية اكتساب الملكية (والذي ارتبط عند ماركس في النهاية بالإنتاج) -وبين الاستغلال. علاوة على ذلك، في استخدام نيتشه، لم يكن هناك فرق بين الاستغلال والمصادرة (أي الاستيلاء دون معادلة أو تبادل). وهكذا، وفي مناورة خفية، يصبح الاستيلاء، الذي يُعتبر أساس الحياة، مكافئًا للاستغلال/المصادرة، والذي ليس جوهريًا للوجود، مما يغلق أي تصور لمستقبل قائم على المساواة أو الإنسانية. علاوة على ذلك، يؤسس نيتشه رؤيته هنا في نهاية المطاف على حتمية بيولوجية، والتي يخبرنا بأنها تشكل "جوهر" "إرادة القوة". وبهذه الطريقة، يختلف جوهريته فيما يتعلق بالطبيعة البشرية عن جوهرية توماس هوبز فقط بقدر ما كان الأخير، في السياق التاريخي للقرن السابع عشر، مفكرًا تقدميًا وليس رجعيًا 32 .
تُظهر كتابات نيتشه هجمات لا تنتهي على الاشتراكية وحتى على الديمقراطية. فقد كتب: "الاشتراكية هي النتيجة المنطقية لاستبداد الأقل والأغبى" 33. في إعادة صياغة مشوهة للداروينية، التي استعارها كمجرد كليشيهات على غرار الداروينية الاجتماعية، جادل بأن المجتمع الأوروبي لم يكن يتميز ببقاء الأصلح، بل ببقاء الأقل صلاحية. وفقًا لهذا الرأي، كانت الجماهير المتوسطة أو "حيوانات القطيع" تستولي على المجتمع بقوة العدد على حساب العناصر "النبلاء"، مما جعل الأرواح النبيلة بحاجة إلى الحماية بالقوة 34.
وكتب قائلاً: "سنهلك بسبب غياب العبودية." وبينما كان يكره المجتمع البرجوازي، إلا أنه كان يكره الديمقراطية والاشتراكية أكثر. وأعلن: "هذه الأوهام عن كرامة الإنسان وكرامة العمل هي منتجات بائسة لعقلية عبيد تختبئ من طبيعتها الحقيقية.35 "
بالنسبة لنيتشه، كان المجتمع الحديث يتدخل في التسلسل الهرمي الطبيعي للأعراق، مما يشكل "عصرًا" "يمزج فيه الأعراق بشكل عشوائي." وهذا استدعى إعادة تأكيد "العرق السائد"، الذي صوّره بمصطلحات "آرية"، مرتبطًا بـ “الوحش الجرماني الأشقر" الذي يوجد "في قلب كل عرق نبيل." وعلى النقيض من ذلك، فإن "أحفاد كل العبودية الأوروبية وغير الأوروبية، وخاصة من كل السكان ما قبل الآريين، يمثلون انحطاط البشرية." 37.
مُبتهجًا بهزيمة كومونة باريس، وصفها نيتشه بأنها "أكثر أشكال البنية الاجتماعية بدائية"، لأنها تمثل مصالح القطيع. كان قلقًا بشأن المصير المأساوي الذي ينتظر "العرق السائد المنتصر، الآريين" في عصر الديمقراطية والاشتراكية. وقد وُصفت هذه "الإنسانية الآرية المنتصرة" بأنها كانت في الأصل شقراء و"نقية وأصلية تمامًا"، على عكس "السكان الأصليين ذوي البشرة الداكنة والشعر الداكن" السابقين في أوروبا وأماكن أخرى 38. في كتاب إرادة القوة، أعلن نيتشه صراحة: "الأغلبية العظمى من البشر لا تمتلك حق الحياة، وتخدم فقط لإرباك نخبة عرقنا. لم أمنح غير الصالحين هذا الحق بعد." - هناك حتى شعوب غير صالحة تفتقر إلى الحق في الوجود 39 .
في مفهوم نيتشه عن "العودة الأبدية"، سيختبر "الأرواح النبيلة" و"العرق السائد" مرة أخرى انتصار الإرادة في التقلبات الدورية للتاريخ. ومع ذلك، كانت العودة الأبدية تعني غياب التقدم الشامل، بحيث كانت النتيجة التراكمية هي "العدم (اللا- معنى) إلى الأبد!" على الرغم من أن نيتشه كان يرغب في تجاوز العدمية من خلال الانسان الأعلى (Übermensch) كتجسيد لإرادة القوة، إلا أن العدمية كانت هي ما يعود إليها كل شيء بشكل أبدي، حيث تم إغلاق الطريق نحو التقدم الحقيقي للأمام 40.
كانت الفلسفة الحيوية (Lebensphilosophie)، في تصور لوكاش، الفلسفة السائدة في فترة الإمبريالية بأكملها في ألمانيا. ومع ذلك، كان للفلسفة الحيوية ممثلها الأبرز في هذه الفترة وهي أعمال برغسون في فرنسا. اعتمدت فلسفة برغسون على شكلين من الوعي: العقل والحدس. كان العقل مرتبطًا بالعالم الميكانيكي للعلوم الطبيعية، بينما كان الحدس مرتبطًا بالمفاهيم الميتافيزيقية وبالتالي مجال الفلسفة. كان يعتقد أنه من خلال النظر إلى الداخل في مجال الحدس، من الممكن حل مشكلات مثل طبيعة الزمن والتطور بطرق تكمل -وتتجاوز- العلم والعقل. وهكذا، تحدى، كما قال لوكاش، "الطابع العلمي للمعرفة العلمية العادية"، محدثًا "مواجهة صارخة بين العقلانية والحدس اللاعقلاني"41.
كان أهم مفهومين لبرغسون هما مفهوما الوقت كمدة ذاتية، أو كدافع حيوي (élan vital). على أساس هذه المفاهيم، اقترح نوعا من الطريق الثالث في الفلسفة الموجودة خارج المادية الميكانيكية والمثالية / الغائية. حيث قال: "الوقت اختراع أو لا شيء على الإطلاق". في اللحظة التي نواجه فيها "المدة، نرى أنها تعني الخلق". أعطتنا حياتنا أدلة لكشف سر الزمن، أو القدرة على التحمل، لأن المدة لم تكن سمة "للمادة نفسها، ولكن سمة الحياة التي تصعد إلى مجرى المادة" 42. كان الدافع الحيوي (élan vital) هو الدافع الإبداعي للحياة، الذي يضيء المادة، وهو ما يفسر التطور. على هذه الأسس الصوفية بشكل أساسي، استمر برغسون في تحدي نظرية تشارلز داروين للتطور باعتباره انتقاء طبيعيا ومفهوم ألبرت أينشتاين للزمكان بسبب من فشله في التقاط الأسس الذاتية والبديهية والإبداعية للوجود.
وُلد برجسون في عام 1859، وهو العام الذي نُشر فيه كتاب داروين " أصل الأنواع"، لكن لم يستطع أبدًا قبول نظرية داروين للانتقاء الطبيعي، معتقدًا أن العلوم الطبيعية كانت غير كافية في هذا المجال، وأنه لا بد من وجود دافع حيوي وإبداعي، دافع كوني) (élan vital يكمن وراء كل التطور. باستخدام حجج أصبحت الآن تُستخدم من قبل مؤيدي التصميم الذكي -على سبيل المثال، أن تطور العين لا يمكن تفسيره بالانتقاء الطبيعي- نسب برغسون "التطور الإبداعي" إلى قوة حيوية مستقلة عن المادة والتنظيم 43. تسببت هجمات برغسون على النظرية الداروينية للانتقاء الطبيعي، وعلى العقل بشكل عام، في تمرد راي لانكستر، الذي تتلمذ علي يد داروين وتوماس هكسلي، وهو صديق مقرب لماركس، وعالم الأحياء البريطاني البارز في عصره، في تقييم مساهمة برجسون، الذي جادل "بإمكانية استخدام الحدس كدليل حقيقي والعقل كدليل خاطئ". كتب لانكستر، وهو مادي صارم: "بالنسبة لطالب الانحرافات والوحوش في عقل الإنسان، ستكون أعمال برجسون دائما وثائق ذات قيمة"، على غرار الاهتمام الذي "قد يأخذه الذي يجمع في نوع غريب من الخنفساء" 44. تجاوز علماء الأحياء الاشتراكيون لاحقا النقاش بين الميكانيكيين والحيويين عبر الديالكتيك المادي، والذي شكل مساهمة كبيرة للعلم 45.
غضب برجسون من نظرية النسبية لأينشتاين، التي فسرّت الزمن (أو الزمكان) من منظور فيزيائي وكانت تحظى بالاعتراف العام تدريجيًا. في مواجهة مشهورة في أبريل 1922، جادل برجسون معارضًا لأينشتاين بأن المفهوم الفيزيائي للزمن الذي يقدمه العقل غير كافٍ، وأن الزمن لا يمكن فهمه بشكل كامل إلا عندما يُقارب أيضًا من منظور ذاتي وحدسي من خلال المدة. رد أينشتاين قائلًا: "زمن الفلاسفة [الذي يدمج بين الزمن النفسي والزمن الفيزيائي] لا وجود له، ولا يبقى سوى الزمن النفسي الذي يختلف عن زمن الفيزيائيين." بالنسبة لأينشتاين، لم يكن لأي من "إيلان حيوي" (élan vital) لبرجسون أو مده معني في سياق العلوم الفيزيائية. بالنسبة لأينشتاين، لم يكن لمفهوم برجسون عن "إيلان حيوي" ولا مدته أي معني في سياق العلوم الفيزيائية 46.
من وجهة نظر لوكاش، لم يكن هناك فلسفة "بريئة". كان هذا هو الحال بوضوح عندما كان هايدغر معنيا 47. في مؤلف هايدغر "الوجود والزمان" عام 1927، تم التقليل من أهمية الكائنات الفردية في البحث عن "الأنطولوجيا الأساسية" للوجود الميتافيزيقي. واقترح أنه يمكن التعامل مع الوجود على أساس تحليل وجودي يركز على "الدازاين" ، أو "الوجود البشري"، والذي كما أوضح لاحقا، يمكن تصوره ك "راعي الوجود" ويؤدي دوره. وبالتالي، على الرغم من أن الوجود، بالنسبة لهايدغر، لا يمكن إدراكه بشكل مباشر، إلا أنه يمكن الكشف عنه جزئيا من الناحية الظاهراتية والوجودية من خلال تدقيق الدازاين في سياق "صيرورته" للعالم 48. يعتبر هايدغر جميع الفلسفات السابقة، من أفلاطون إلى العصر الحديث سطحية وميتافيزيقية ضيقة بسبب كونها لم تركز على المشكلة الأنطولوجية الأساسية للوجود 49. كانت إحدى نتائج فلسفة هايدغر هي نزع مركزية الأنا الواعية (المتعالية)، وتحويل الفلسفة من أسئلة العلاقات بين الذات والموضوع إلى الأصالة وعدم الأصالة 50.
نظرًا لأن السعي وراء الوجود كما هو (Being as such) هو الدافع الرئيسي في التحليل الوجودي لهايدغر، قد يعتقد المرء أن ذلك لن يرتبط كثيرًا بالسياسة والأخلاق. ومع ذلك، فإن العناصر الرجعية، وغير العقلانية، والحيوية في فلسفة هايدغر، على الرغم من أنها ليست ظاهرة على السطح، فقد تسربت بطرق مختلفة، مما كشف عن الطبيعة الحقيقية لمنطقه اللاعقلاني. لم يحدث هذا فقط في فترته النازية الرسمية، بل أيضًا في أعماله اللاحقة بعد الحرب، ويمكن القول إنه كان ضمنيًّا في مواقفه الفلسفية منذ البداية. وبالتالي، في محاضراته المنشورة عن الوجود والحق، التي قدمها في جامعة فرايبورغ في شتاء 1933-1934، بعد انضمامه إلى الحزب النازي بفترة قصيرة وفقط بعد بضع سنوات من نشر "الوجود والزمن"، أعلن هايدغر:
"العدو هو كل شخص يشكل تهديدًا أساسيًا لوجود الشعب وأفراده. العدو ليس بالضرورة خارجيًا، ولا يكون العدو الخارجي دائمًا هو الأكثر خطورة. وقد يبدو كما لو أنه لا يوجد عدو. في هذه الحالة، يكون من المتطلب الأساسي إيجاد العدو، أو كشف العدو للضوء، أو حتى أولاً صنع العدو، لكي يحدث هذا الوقوف ضد العدو، ولكيلا يفقد الوجود (دازاين) حدته... [التحدي هو] إحضار العدو إلى العلن، وعدم إيواء أي أوهام عن العدو، والحفاظ على الاستعداد للهجوم، وزراعة وتعميق الجاهزية المستمرة، والاستعداد للهجوم مع التطلع إلى المستقبل بهدف الإبادة التامة" 51.
أصبحت أدوار هايدغر كموظف، وأيديولوجي في الحزب النازي، وخلال السنوات التي قضاها كعميد في جامعة فرايبورغ- أبرز مؤيد أكاديمي لهتلر- معروفة الآن. فقد ساعد في تأسيس Gleichschaltung، }أو توحيد الخطوط داخل الاكاديمية الالمانية والقيام بعملية أدلجة المؤسسات التعليمية بما يتوافق مع المفاهيم النازية{(الإضافة من المترجم)، ولعب دورا رائدا في تطهير الجامعة من الطلاب الذين فشلوا في الامتثال لإملاءات النظام النازي. كما عمل عن كثب مع المنظر القانوني شميت، المؤلف الرئيسي لمبدأ الفوهرر سيئ السمعة، حيث روج للأيديولوجية النازية وترأس حرق الكتب الرمزية 52. لم تكن مقدمته في عام 1935 في الميتافيزيقيا تكريما للنازية فحسب، بل قدمت أيضا حجة لانتصار الشعب -أي الايدولوجيا القومية الشعوبية للنازية بألمانيا "Volk" ... وبالتالي انتصارتاريخ الغرب"، مما أدى إلى تنشيط "طاقات روحية جديدة". في لقاء مع كارل لويت في هايدلبرغ عام 1936، وافق هايدغر -دون تحفظ- على الاقتراح القائل بأن انحيازه للحزب الاشتراكي القومي هو تعبير عن جوهر فلسفته 53.
كثيرًا ما أشاد هايدغر بموسوليني وهتلر، وقدم نيتشه كرائد لكلا الزعيمين الفاشيين. في كتاب هايدغر عن فريدريش شيلينغ، تم حذف جملة طويلة من المحاضرة الأصلية في طبعة عام 1971، لكنها أُعيدت لاحقًا بناءً على طلب هايدغر نفسه. نصت الجملة على التالي: "كما هو معروف، فإن الرجلين اللذين أطلقا في أوربا، عبر التشكيل السياسي والوطني لشعبيهما بالايدلوجيا الشعبوية العرقية، حراكات عدمية، هما موسوليني وهتلر، وقد تأثرا بدورهما، كلٌّ بطريقته الخاصة، بشكل جوهري بنيتشه. ومع ذلك، فقد تحقق هذا التأثير دون أن يتحقق المجال الميتافيزيقي الأصيل لنيتشه بشكل كامل.". أوضح هايدغر في محاضراته أن نيتشه أظهر أن "الديمقراطية" تؤدي إلى "شكل منحط من العدمية"، وبالتالي دعا إلى حركة أكثر أصالة للشعب. في دورة حول المنطق عام 1934، أعلن هايدغر أن "الزنوج بشر، لكنهم لا يملكون تاريخ.… لان الطبيعة ليس لها تاريخ.… فعندما تدور مروحة الطائرة، لا يحدث شيء في الواقع. على العكس، عندما تأخذ نفس الطائرة هتلر إلى موسوليني، فان التاريخ يسطر" 54. وأوضح أن "الثقافة الزائفة" للحضارة الغربية سيتم تجاوزها فقط من خلال "العالم الروحي" للشعب الملتزم بالايدلوجيا الشعبوية القومية العرقية النازية والمبني على "أعمق حفظ لقوى الأرض والدم" 55.
في دفاتره السوداء الشهيرة (وهي مذكرات فلسفية طلب هايدغر أن تُدرج في نهاية أعماله الكاملة)، قدم دليلاً متكررًا على معاداته العميقة للسامية. فقد نسب عيوب الحداثة والعقلانية الغربية إلى "اليهودية العالمية"، وهو مصطلح استخدمه هتلر في كتابه "كفاحي" للإشارة إلى مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم. كتب هايدغر في دفاتره السوداء: "اليهودية العالمية لا يمكن الإمساك بها في أي مكان [بسبب هيمنتها على الفكر العقلاني] ولا تحتاج إلى الانخراط في العمل العسكري لكي تستمر في بسط نفوذها، في حين أننا [ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية] تُركنا لنضحي بأفضل دماء من أفضل أفراد شعبنا" 56. وبعد نشر الدفاتر السوداء، كما أشار الباحث في فلسفة هايدغر، توم روكمور، "يبدو بشكل متزايد أن فلسفة هايدغر، وارتباطه بالاشتراكية القومية، ومعاداته للسامية ليست منفصلة أو قابلة للفصل، بل هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجمل فلسفته.57 "
من الواضح أن هايدغر لم يبتعد أبدًا، أو حتى نوى أن يبتعد، عن وجهات نظره الرجعية المتطرفة التي كانت تشكل أساس جهده الفلسفي كله. في رسالته الشهيرة عن الإنسانية، التي نُشرت في عام 1947، قدم هجومًا منهجيًا على الإنسانية، مهاجمًا مفكري التنوير الألمانيين امثال: يوهان فولفغانغ، فون غوته وفريدريش شيلر. ومع ذلك، على عكس ما يُعرف الآن بما بعد الإنسان، كان هايدغر مشغولًا في المقام الأول بنفي مفهوم الإنسان باعتباره كائنًا ماديًا أو جسديًا، أو "حيوانا عاقلا". بالنسبة لهايدغر، كانت الحقيقة تكمن في التحليل الوجودي لـ "دازين"، حيث يُنظر إلى الوجود البشري الحقيقي على أنه اقتراب من الكينونة. بلغة هايدغر المعتادة التي تميل إلى الغموض، بشّر بـ "قدر" لا يزال في طريقه، مستندًا إلى تاريخية "أكثر أصالة" -قريبة من الدازاين- من "الإنسانية". كان يرى أن الإنسانية، التي ارتبطت بالعقلانية، يجب أن تكون دائمًا مُعارضة، "لأنها لا ترفع الإنسانية بما يكفي" في ترويجها للأنطولوجيا التجريبية للكائنات الفردية المادية البسيطة، على النقيض من الأنطولوجيا الأساسية للكينونة، حيث يتم تهميش الأنا الواعية.58 ألمح هايدغر إلى أن هناك، بسبب اللغة التي رآها في صميم الدازاين، علاقة وثيقة بين الثقافتين الإغريقية القديمة والألمانية (وفق ما يُتصور عمومًا على أنه خط الآريين)، مما يجعل ألمانيا فريدة في تعزيز التاريخية الأصيلة للغرب 59.
في رسالته عن الإنسانية، اعترف هايدغر بقوة نقد ماركس للاغتراب قبل أن يمضي في انتقاد ما أسماه المادية الساذجة وتقليص نظرية ماركس عن الاغتراب إلى مسألة التكنولوجيا فقط. وكما أشار لوكاش، لم يكن هناك شك فيما قاله هايدغر هنا، وهو أنه رأى "الماركسية كأكبر خصم له" 60.
عودة اللاعقلانية
رأى جورج لوكاش أن نمو اللاعقلانية مرتبط بمرحلة الإمبريالية في الرأسمالية. وقد تم تصوير الإمبريالية، في المقام الأول، اقتصاديًا وفقًا لأفكار لينين وروزا لوكسمبورغ، كنظام من الرأسمالية الاحتكارية يتميز بالتنافس بين الامبرياليات ويعتمد علي الحروب للسيطرة على المستعمرات ومناطق النفوذ. لكن لوكاش أكد أن لينين كان الأبرز في ترجمة المفهوم الاقتصادي للإمبريالية إلى "نظرية للوضع العالمي الملموس الذي خلقته الإمبريالية"، حيث ركز على سياسات الطبقات والتحالفات بين الأمم 61. بالإضافة إلى ذلك، أدرك لينين أن اتفاقيات السلام في مرحلة الإمبريالية ليست سوى "هدنة" في الفترات بين الحروب، ضمن صراع جيوسياسي أوسع نطاقًا وحتميا في ظل الرأسمالية الاحتكارية 62. وهكذا، فإن الجوانب السياسية للإمبريالية تسربت إلى ثقافة الأمم بأكملها، مولدةً ما أطلق عليه ريموند ويليامز في سياق آخر "هياكل الشعور" 63. كان هذا التفاعل بين الإمبريالية واللاعقلانية هو الذي أدى إلى ظهور هذا الرابط في تاريخ أوروبا من عام 1870 إلى 1945، حيث ساهمت الأزمات الاقتصادية والسياسية، جنبًا إلى جنب مع الديناميات الإمبريالية، في تعزيز النزعات اللاعقلانية التي شكلت جزءًا كبيرًا من تاريخ تلك الفترة.
يمكن تقسيم الإمبريالية المتأخرة، التي بدأت عام 1945، والمستمرة حتى الآن إلى ثلاث فترات:
(1) الحرب الباردة المباشرة من 1945 إلى 1991
خلال هذه الفترة، سعت الولايات المتحدة، باعتبارها القوة المهيمنة على الاقتصاد العالمي الرأسمالي، إلى فرض سيطرتها على الجنوب العالمي الذي كان يشهد ثورات مناهضة للاستعمار. وفي الوقت نفسه، خاضت الولايات المتحدة صراعًا عالميًا ضد الاتحاد السوفيتي والصين، حيث كانت تسعى إلى تأكيد هيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على العالم.
(2) الفترة من 1991 إلى 2008
في هذه المرحلة، حاولت واشنطن ترسيخ عالم أحادي القطب بشكل دائم، مستغلة الفراغ الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي واندماج الصين في الاقتصاد العالمي. شهدت هذه الفترة هيمنة غير مسبوقة للولايات المتحدة، حيث سعت إلى بسط نفوذها على الصعيد العالمي من خلال العولمة النيوليبرالية وتوسيع مؤسساتها السياسية والاقتصادية الدولية.
(3) من عام 2008 (الأزمة المالية الكبرى) إلى اليوم
تميزت هذه الفترة بعودة ظهور الصين وروسيا كقوتين عظميين، مع تصنيف واشنطن لهذين البلدين رسميًا كأعداء رئيسيين لها. أدى ذلك إلى نشوب حرب باردة جديدة، حيث يتصاعد الصراع بين النظام العالمي الأحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة ونظام عالمي متعدد الأقطاب ناشئ. أصبحت هذه المرحلة ساحة تنافس شديد على النفوذ الاقتصادي والسياسي، مع تحديات متزايدة لهيمنة الغرب. تتميز هذه الفترة بالصراع بين العالم الأحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة والنظام العالمي متعدد الأقطاب الذي يتخلق.
خلال كل هذه الفترات، كان اليسار الغربي يعاني من ضعف في موقعه داخل الرأسمالية الاحتكارية في الداخل، بينما اتسم موقفه تجاه الإمبريالية في الخارج بالغموض، مما أدى إلى تراجع الصراع الطبقي المرتبط بذلك. كما تعرض لهزيمة كبيرة في عام 1968.
ومع ظهور الحرب الباردة الجديدة، برزت بوضوح الحرب الهجينة التي تشنها الإمبريالية الجماعية لثالوث القوى الكبرى (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان) ضد الجنوب العالمي، بما في ذلك الاقتصادات الناشئة الكبرى. تُظهر هذه المرحلة تكثيف السياسات العدوانية للإمبريالية العالمية، مع استمرار تراجع قوة اليسار كقوة معارضة فعالة.
في ظل هذه الظروف، أصبحت اللاعقلانية البرجوازية السمة المميزة للمناخ الفكري السائد في الإمبريالية المتأخرة، مما يعكس التدمير المستمر للعقلانية. يُعترف اليوم على نطاق واسع بأن الفكر الرجعي الألماني، المرتبط بـ"اتصال نيتشه-هايدغر-كارل شميت"، إلى جانب إحياء البرجسونية (Bergsonism) ، حاضر في أعمال ما بعد الماركسيين، وما بعد الحداثيين، وما بعد الإنسانيين، من دريدا إلى دولوز إلى لاتور64. وكما تقول كيتي تشوخروف، فإن "الافتتان بالسلبية والعدمية"، الذي كان سمة مميزة للفلسفات اللاعقلانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يظهر بشكل واضح في أعمال دولوز وغوتاري، أو في "الديستوبيا التسريعية " وهي مجموعة من الأفكار التي تتبناها بعض الأيديولوجيات اليسارية واليمينية التي تدعو إلى تكثيف شديد لنمو الرأسمالية، والتغيير التكنولوجي، وتخريب البنية التحتية، والعمليات الأخرى للتغيير الاجتماعي بهدف زعزعة الأنظمة القائمة وخلق تحولات اجتماعية جذرية، } ويشار إليها عادةً بـ "التسريع" ونظريات ما بعد الإنسانية الحالية{ (الإضافة من المترجم) 65.
في كتاب "نيتشه والفلسفة" لدولوز، يُوضح أن الطابع "المضاد تمامًا للديالكتيك" في فكر نيتشه، ومفاهيمه مثل "إرادة القوة"، و"العود الأبدي"، وحلم "الإنسان الأعلى"، يمثل انتصارًا على ديالكتيك هيجل، مما أدى إلى "التطابق الإبداعي بين القوة والإرادة" باعتباره تحقيقًا لإرادة القوة 66. يشير دولوز إلى وجود "رابط سري" يجمع بين مفكرين يعارضون فلسفة الدولة. يشمل هذا الرابط السري كلًا من سبينوزا (الذي يُعاد تفسيره كفيلسوف حيوي)، ونيتشه، وبرجسون، حيث يُنظر إليهم جميعًا كفلاسفة يؤمنون بالجوهر (immanence) ، ويمثلون تقليدًا "بدويًا" يعارض ليس فقط العقلانية الأوروبية بشكل عام، ولكن يقف أيضًا في مواجهة مباشرة مع هيجل وماركس 67. يدافع دولوز عن موقف برجسون في مناظراته مع أينشتاين في كتابه " بيرغسونية" الصادر عام 1966، في محاولة لإعادة التركيز على المفهوم الذاتي والحدسي للزمن، الذي ينفصل عن الفيزياء وكذلك عن الزمن التاريخي 68. يقدم هذا التوجه تفسيرًا مغايرًا للزمن، حيث يُنظر إليه كتجربة شخصية وحيوية، بعيدًا عن الإطار المادي أو الديالكتيكي.
التقلبات اللاعقلانية والرجعية التي نشهدها داخل ما يُعتبر تحليلًا يساريًا لا تزال كثيرة. كما تشير كيتي تشوخروف:
"في كتاب الرأسمالية والفصام، يرى دولوز وغوتاري أن الرأسمالية وحشية، ولكنها في الوقت ذاته تمثل ساحة مرغوبة يمكن أن تنبثق منها إمكانيات التمرد والتحرر. [ومع ذلك،] فإن قبول الوضع المعاصر القاسي للرأسمالية يصبح أمرًا حتميًا بالنظر إلى شرط استحالة تجاوزها”.… يكمن جانب مهم جدًا من هذا الانحراف في التالي: التيار الرأسمالي الكامن وراء هذه النظريات التحررية والنقدية لا يعمل كبرنامج للخروج من الرأسمالية، بل كتكريس جذري لاستحالة هذا الخروج " 69.
يشير هذا التحليل إلى أن بعض النظريات التي تبدو نقدية أو تحررية لا تقدم حلاً للتخلص من الرأسمالية، بل تقبلها كواقع لا مفر منه، مما يعمق من الإحساس بالعجز أمام هيمنة النظام الرأسمالي.
هذا التلذذ بفكرة استحالة الخروج يمكن ملاحظته في المواجهة الرئيسية بين دولوز وغوتاري مع ماركس. في بداية عملهما المؤثر عام 1972، "ضد أوديب: الرأسمالية والفصام"، يطرحان علاقة "الصناعة-الطبيعة" التي تؤدي إلى "مجالات مستقلة نسبيًا تُسمى الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك." حيث يزعمان أن هذه المجالات المنفصلة، كما أوضحها ماركس، ليست سوى نتاج تقسيم العمل الرأسمالي والوعي الزائف الذي يولده. ولكن بعد ذلك، قاما بالقفز إلى فرضية تتجاوز حدود التاريخ:
"لا نفرق بين الإنسان والطبيعة: فجوهر الطبيعة الإنساني وجوهر الإنسان الطبيعي [عبارة ماركس] يتحدان داخل الطبيعة في شكل الإنتاج أو الصناعة، تمامًا كما يحدث في حياة الإنسان كنوع.… تُعتبر الصناعة حينها ليس من وجهة نظر خارجية مرتبطة بالمنفعة، بل من منظور هويتها الأساسية مع الطبيعة، كإنتاج للإنسان وبواسطة الإنسان.… الإنسان والطبيعة ليسا كأنهما مصطلحان متضادان يواجهان بعضهما البعض… بل هما واقع جوهري واحد، منتوج المنتج .70 "
على هذا الأساس، تُعتبر الطبيعة والإنسان وحدة مثالية لا مفر منها-ما أشار إليه ماركس، الذي يتم الاقتباس منه هنا، بـ "الجوهر الإنساني للطبيعة والجوهر الطبيعي للإنسان." هذا هو النتيجة الحتمية للصناعة كظاهرة مجردة وعابرة للتاريخ، والتي، بدلاً من أن تُفهم كشيء مغترب تحت الرأسمالية، كما هو الحال عند ماركس، تُعتبر الوسيلة المباشرة والفورية لتوحيد الطبيعة والإنسانية. يتم بهذا الشكل إزالة مفهوم الاغتراب أو اغتراب الذات الإنسانية، الذي قدمه ماركس باعتباره "عيبًا" مأساويًا ينبغي تجاوزه، منذ البداية. بالنسبة لدولوز وغوتاري، تُصبح الطبيعة والإنسان "واقعًا جوهريًا واحدًا" يتم توليده بواسطة الصناعة في شكلها المجرد.
بعد أن أزالوا فعليًا الظاهرة التاريخية للاغتراب، ينتقل دولوز وغوتاري مباشرة إلى وصف الإنتاج باعتباره "مبدأً داخليًا" للآلات-الرغبة، مما يؤدي إلى حالة فصام كونية. يُعرَّف "الفصام" في هذا السياق بأنه "عالم الآلات-الرغبة الإنتاجية والتناسلية، [الذي يمثل] الإنتاج الأولي العالمي باعتباره "الواقع الجوهري للإنسان والطبيعة. "وبهذا، يتم استبدال مفهوم ماركس للاغتراب، الناتج عن العلاقات الاجتماعية المغتربة، بنظام عالمي من الآلات-الرغبة أو "اللاوعي الآلي" الذي يُنتج واقعًا فصاميًا أوسع تكون الرأسمالية مجرد تجلٍّ له. هذا الواقع الفصامي-الرغبوي يقع على مستوى الجوهرية (الوجود الداخلي) (immanence) متجاوزًا الإنسانية نفسها. نواجه هنا عالمًا من الطاقة الليبيدوية، وقوى الحياة الحيوية، ودوافع الآلات-الرغبة التي لا يمكن الهروب منها. وفي هذا السياق، تنتصر اللاعقلانية الرجعية لنيتشه على الممارسة الثورية لماركس.
يمكن ملاحظة عملية عكس مماثلة لماركس في فكر دريدا، الذي يظهر مرة أخرى في علاقته بماركس، وخاصة في عمله الشهير أشباح ماركس . (Specters of Marx) في هذا العمل وغيره، قدّم دريدا منظورً هايدجري- ما بعد بنيوي. أثار الكتاب، الذي كُتب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ردود فعل مباشرة تمثلت في اعتباره تأكيدًا على ماركس. ومع ذلك، فإن هذا التأكيد جاء في صيغة تبرير غير مباشر يُبرز ما وصفه دريدا بـ"طيفية ماركس". ركز دريدا هنا على الجملة الافتتاحية الشهيرة لـ البيان الشيوعي، حيث كتب ماركس وإنجلز: "هناك شبح يجوب أوروبا، إنه شبح الشيوعية". جادل دريدا بأن الماركسية ما زالت تطارد أوروبا، وإن كان ذلك في شكل شبحي، بحيث تواصل لعب دور لا غنى عنه في تحدي الرأسمالية. ولكن، وفقًا لريتشارد وولين، فإن "ماركس الخاص بدريدا" هو "ماركس مفرغ من مضمونه"، متأثر بالتحيزات الأنطولوجية للفكر التفكيكي المضاد للإنسانية، والذي ورثه من هايدغر. أدى ذلك إلى استبعاد جوهر نظرية ماركس، بما في ذلك القوى الاجتماعية التي تشكل الممارسة الثورية. وأوضح دريدا أن "طيفية ماركس" لا تقتصر على ماركس نفسه، بل "تتلألأ وتلمع خلف الأسماء الخاصة بماركس وفرويد وهايدغر". وهكذا، يواصل ماركس مطاردة الرأسمالية، ولكن ليس كشبح لنفسه فحسب، بل كشبح لهايدغر أيضًا، الذي ألغى "التاريخانية" من خلال فكره "الإبستمولوجي".
لقد أنتجت الفلسفات الجديدة للجوهر (immanence)مجموعة متنوعة من النظريات التي تبدو راديكالية ولكنها في الواقع رجعية. يظهر هذا بوضوح في المعالجات ما بعد الإنسانية لأزمة البيئة، خصوصًا في شكل ما يُعرف بـ "المادية الجديدة". يستمد الكثير من هذا التوجه إلهامه من إعادة تأويل دولوز المشكوك فيها لسبينوزا كمنظر حيوي، من خلال مفهوم الأخير عن "كوناتوس" (conatus) ، الذي يُفسر على أنه ينسب دافعًا وعقلًا وحتى فرحًا إلى الأشياء ذاتها، مثل الحجر77. هذا التفسير فتح الباب أمام تدفق هائل من الأعمال الحيوية الجديدة (ما يُسمى "المادية الجديدة") من قبل شخصيات مثل جين بينيت وتيموثي مورتون، غالبًا باسم الإيكولوجيا، حيث تكون النتيجة شكلًا من أشكال الأنيميا الكونية .(universal animism) في هذا السياق، يتم التعامل مع قطعة من الفحم، أو ميكروب، أو مجموعة الديناصورات البلاستيكية لادورنو، أو حجر.. الخ وكأن لها "قوى حيوية"، مما يضعها على مستوى وجودي مسطح مع الإنسانية 78. على غرار شوبنهاور (في رده على سبينوزا)، يجادل بينيت بأن الحجر الساقط، إذا كان واعيًا، لكان على حق إذا اعتقد أنه يتحرك بإرادته الخاصة 79. والنتيجة هي تدمير أي تمييزات ذات معنى بين الطبيعة البشرية وغير البشرية.
استراتيجية شائعة يمكن العثور عليها في أعمال لاتوور، بينيت، ومورتون هي قلب نقد ماركس الشهير لصنمية السلعة رأسًا على عقب، حيث يتم تقديم جميع الأشياء/الكائنات كعوامل أو فاعلين حيويين. وهذا يعادل تعميم صنمية السلعة وإعادة التشييء (تحويل العالم إلى أشياء)، وبالتالي تقليص أي مفهوم للذات البشرية. إنه يشكل إلغاءً للتصور الكلاسيكي للنقد 80. بعد رفض لاتوور الشهير لـلحداثة، سعى إلى نفي كل شرعية لمفاهيم الطبيعة والإنسانية بأسلوب يساري هايدغري، مقدمًا إياهما كثنائية زائفة أدخلتهما الحداثة التنويرية. لقد جعل رفضه لثنائية الطبيعة والمجتمع مركز "إيكولوجيته السياسية"، التي استبدلت الفاعلين البشريين بتجمعات من "الفواعل"81. لكن عندما شعر لاحقًا بالحاجة إلى النظر في الطوارئ البيئية الكوكبية التي يمثلها العصر الأنثروبوسيني الجديد في تاريخ الجيولوجيا، وجد لاتوور نفسه خاليًا من كل نقاطه المرجعية - حيث تمت إعادة تساؤل حتي عن الايكولوجيا في فلسفته - وعاد إلى مفاهيم غامضة مثل غايا "Gaia " وما سماه "الملتصق بالأرض" (إعادة صياغة وتجسيد لفكرة الأرض). والأهم من ذلك، نظرًا لطبيعة الدمار الكوكبي، كان عليه أن يواجه السؤال عن كيفية تصور هذا من منظور النظام السياسي. فاستدار نحو كتاب شميت "نوموس الأرض في القانون الدولي للحقوق العامة الأوروبية"، الذي كُتب في ألمانيا النازية. سعت أعمال شميت إلى تجذير القانون في الأرض (ليس بالمعنى الإيكولوجي، بل بمعنى الإقليمية)، معتبرة ذلك أساسًا لحالة الحرب الدائمة التي أسست القانون الدولي 82.
تقييم لوكاش لشميت في هذه الفترة كان بالطبع أكثر قسوة بكثير من تقييم لاتوور. جادل لوكاش بأن المنظر القانوني النازي شميت قد انتقل بسرعة إلى المناخ الإمبريالي الجديد بعد سقوط الرايخ الثالث. "لا يهمه -المقصود هنا كارل شميت - سواء كان هتلر أو أيزنهاور أو الإمبريالية الألمانية الجديدة هي التي تقيم الديكتاتورية المطلقة للرأسمالية الاحتكارية 83. ومع ذلك، استنادًا إلى تحليله لشميت، يخبرنا لاتوور أن الإجابة تكمن في "حالة جديدة من الحرب" لصالح الملتصقين بالأرض "أهل الأرض". ينهي لاتوور كتابه "مواجهة غايا" لعام 2015 بالثناء على روح كريستوفر كولومبوس 84. على الرغم من انتقاده لـ"الحداثيين"، تحالف لاتوور، على الأقل لفترة من الوقت، مع الايكولوجيين الحداثويين الرأسماليين المتطرفين من معهد " Breakthrough"، مطالبًا الناس بـحب وحوشهم "الفراكنشتاينية" 85.
اللاعقلانية أصبحت الآن رائجة تمامًا مرة أخرى. يتجسد "تَجَذُّر استحالة الخروج" بشكل أكبر في ظل مواجهة العالم في ظل الإمبريالية المتأخرة لشكلين من الإبادة: الحرب النووية ، والطوارئ البيئية الكوكبية. في مؤتمر وكتاب يتناولان معاداة السامية والنازية في دفاتر هايدغر السوداء، وهو جهد يائس لإنقاذ فلسفة هايدغر بطريقة ما على الرغم من الكشف عن أن النازية كانت جزءًا أساسيًا من رؤيته الكاملة، تم منح الكلمة الأخيرة للفيلسوف اللاكاني - الهيجلي سلافوي جيجك، بلا شك بسبب سمعته كفيلسوف يساري. سعى جيجك للدفاع عن أهمية هايدغر للفلسفة، رغم نازيّته، بناءً على أهمية أنطولوجيته الأساسية المعروفة ب"الاختلاف الأنطولوجي"، أو العلاقة بين الكائنات والوجود، التي انبثقت منها تحليلات هايدغر للدازاين “Dasein” وتفكيكه للانا الواعية. يُنظر إلى هذا على أنه قابل للفصل عن خصوصيات المسار السياسي لهايدغر. حتى وإن لم يبتعد عن آرائه اليمينية المتطرفة، وفشل في رفض ماضيه النازي، يُقال إن هايدغر لا يزال يُستحق الثناء على الأنطولوجيا الأساسية في عمله "الوجود والزمان" وانتقاداته للحضارة العلمية-التكنولوجية، التي يُنظر إليها على أنها متميزة عن تواطؤه مع الرايخ الثالث.
في عمله "أقل من لا شيء: هيغل وظل المادية الديالكتيكية"، يشيد جيجك بهايدغر بشكل أقوى. لا يُعرض هايدغر هنا فقط كشخصية تعمل "ضد التيار" داخل ممارسة "قريبة بشكل غريب من الشيوعية"، ولكن يُقال لنا أيضًا أن هايدغر "في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي"، عندما كان عضوًا في الحزب النازي، يمكن رؤيته كـ "شيوعي مستقبلي" - حتى وإن لم يصل هو نفسه إلى تلك الوجهة. نازيّة هايدغر، كما يعلن جيجك باعتذار، "لم تكن مجرد خطأ بسيط، بل كانت "خطوة صحيحة في الاتجاه الخطأ." وبالتالي، "لا يمكن ببساطة رفض هايدغر باعتباره رد فعل لايدولوجيا التوجهات القومية الشعبية العرقية لألمانيا النازية. يضيف جيجك بان هايدجر في فترة نازيته، كان يفتح "إمكانات تشير... نحو سياسة تحررية راديكالية." من المؤكد أن هذا كُتب قبل نشر الدفاتر السوداء - على الرغم من أنه كان بعد ظهور العديد من كتابات هايدغر النازية. ولكن كما رأينا، فإن الدفاتر السوداء، بما تحتويه من معاداة سامة للسامية، لم تغير كثيرًا من دفاع جيجك العام عن فلسفة هايدغر.
يظهر ولاء جيجك لمشروع هايدغر المعادي للإنسانية في موقفه الحالي ما بعد الإنساني، حيث يشير جيجك ويؤيد بينيت، في أن الطبيعة والبيئة، إلى جانب الإنسانية، لم تعد فئات ذات معنى. حتى دفاع الشعوب الاصلية عن الأرض، في هذا المنظور، يجب التقليل من شأنه. في مقال يركز على مناقشة مفهوم ماركس للصدع الأيضي "Metabolic Rift"، رد جيجك على دعوة الرئيس الاشتراكي ورئيس الشعوب الاصلية البوليفية، إيفو موراليس للدفاع عن الأرض كأم تهب الحياة والرعاية للجميع، بتعليق مفاده: "إلى هذا، يُمْكِنُ أن يُضاف أنه إذا كان هناك شيء واحد جيد في الرأسمالية، فهو أنه في عهدها، لم تعد أمنا الأرض موجودة." ما كان يقصده بهذا، كما في العديد من كتابات جيجك، لم يكن واضحًا على الفور، لكنه يتماشى مع تصريحاته الأخرى، التي تعكس ازدراء مشابهًا بالمشاكل البيئية، ودفاعًا غير مباشر عن النظام، مثل إعلانه بأن "البيئة هي الأفيون الجديد للجماهير".
إنَّ كلًا من إلغاء الطبيعة عن الطبيعة وإلغاء الإنسانية عن الإنسان جزءان مدمجان في نظرة جيجك العامة المعادية للإنسانية، والتي تتماشى مع مبدأ "تطوير استحالة الخروج". وبالتالي، يعلن جيجك بطريقة تشاؤمية: "قوة الثقافة البشرية ليست فقط في بناء عالم رمزي مستقل يتجاوز ما نختبره كطبيعة، بل في إنتاج أشياء طبيعية غير طبيعية جديدة تجسد المعرفة البشرية. نحن لا نكتفي بـ رمزية الطبيعة ، بل نحن، كما لو كنا، نلغي طبيعتها من داخلها. ... الطريقة الوحيدة لمواجهة التحديات البيئية هي أن نقبل تمامًا بإلغاء الطبيعة الجذري." ولكن هذا أيضًا يعني إلغاء الإنسانية الجذري، حيث يقول أيضًا: "الوجود البشري لا يتحقق إلا بقدر ما يوجد هناك طبيعة غير إنسانية لا يمكن اختراقها (أرض هايدغر)." والمشكلة في جميع المناقشات المتعلقة بـ "اندماج الإنسان في الطبيعة" وتحليلات الصدع الأيضي، كما يزعم، هي أنها تميل إلى التراجع إلى "الأنطولوجيا العامة المادية الديالكتيكية"، في إشارة إلى ديالكتيك الطبيعة لإنجلز ولينين.
وفقًا لنهج جيجك الخاص، المثالي واللاعقلاني، لما يسميه "المادية التاريخية"، والذي يدّعي أنه "يعود من ماركس إلى هيغل ويُجري انعكاسًا ماديًا لماركس نفسه" من خلال المثالية الخالصة، يجب رفض كل من الطبيعية-المادية والإنسانية النقدية، بما يتماشى بشكل عام مع الهايدغرية اليسارية 89. وهكذا يفسح الواقع المادي المجال أمام الواقعي المجرد. تؤدي مثل هذه الآراء إلى انسحاب من أي ممارسة ذات معنى، وتشاؤم عميق، وديالكتيك اللاعقلانية. }ودون أن يتناول بجدية الأزمة البيئية العالمية أو النضال الطبقي الضروري ضد الرأسمالية لتجنب تجاوز النقاط الكوكبية الحرجة الخاصة بأزمة التغير المناخي {(الإضافة من المترجم)، يصرح جيجك ببرود: "يجب أن نتقبل الكارثة باعتبارها مصيرنا" 90.
تتجلى اللاعقلانية بشكل أوضح في مواقف جيجك مما يتعلق بالأزمة البيئية للرأسمالية، ففي استجابة جيجك للتهديد المتزايد حالياً بنشوب صراع نووي بين الناتو وروسيا في سياق الحرب في أوكرانيا. بالفعل، نشهد اليوم تدميرًا إضافيًا للعقلانية، وهو نتاج لمزيج من اللاإنسانية المضطربة والحماسة القومية. يظهر ذلك في إصرار جيجك على أن يواصل الناتو دعم الحرب في أوكرانيا والابتعاد عن محادثات السلام، على الرغم من تزايد مخاطر الحرب النووية على الصعيد العالمي التي من شأنها أن تقضي على البشرية بأكملها تقريبًا، وذلك فقط "لحفظ ماء الوجه." أما الشخصيات الأخرى مثل نعوم تشومسكي، الذي أثار مسألة التهديد المتزايد بالإبادة النووية على الصعيد العالمي، فيتم رفضها بشكل خاطئ من قِبل جيجك باعتبارها داعمة لروسيا بوتين. وبدلاً من ذلك، يدعو إلى ناتو أقوى عالميًا قادر على محاربة كل من روسيا والصين. ويُقال لنا إن نفس "المنطق" الذي يحكم إصرار روسيا على عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو وعدم نشر أسلحة نووية على أراضيها، مما يشكل "أزمة وجودية للدولة الروسية... يملي أيضًا أن تمتلك أوكرانيا أسلحة [مزودة في حالتها من قبل الغرب] -وحتى أسلحة نووية -لتحقيق التكافؤ العسكري" مع روسيا 91.
هنا نرى "الانتحار الكوني" لهارتمان كأسمى تجليات العقل والإرادة التي تعاود الظهور فجأة في عصرنا الحالي. مرة أخرى، نجد أن اللاعقلانية، المزروعة في أعلى المستويات الفكرية، والتي هيمنت على رؤية الغرب في بداية الحرب العالمية الأولى، تخنق جميع البدائل العقلانية. إن تقديم الدعم غير المشروط لأهداف الثلاثي الإمبريالي المتمثل في الولايات المتحدة/كندا، وأوروبا، واليابان، أو دعم ناتو عالمي في سياق الإمبريالية المتأخرة، يعني التعرف على الإرادة اللاعقلانية للقوة في مركز الاقتصاد العالمي الإمبريالي، مما يؤدي إما إلى العودة الأبدية للاستغلال/النزع، أو إلى "الانتحار الكوني" لهارتمان.
اليوم، يقتضي العقل أن يتم التغلب على كل من الاستغلال والنزع، وكذلك النزعات الإبادية المرتبطة بعصرنا. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا، كما أشار باران في الستينيات، على أساس "تطابق المصالح المادية لطبقة [أو قوى اجتماعية قائمة على الطبقات] مع... نقد عقلاني للاعقلانية المسيطرة." ويكمن مصدر هذا التطابق بين "المصالح المادية والطبقية" في الوقت الراهن بشكل رئيسي في الجنوب العالمي، ومع تلك الحركات ذات الطابع الثوري في كل مكان التي تسعى إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي -الاستعماري- الإمبريالي بأكمله من أجل الإنسانية والأرض.

Translated and re--print--ed by permission of Monthly Review magazine. (c) Monthly Review. All rights reserved

مراجع:


1. ↩ Georg Lukács, Die Zerstörung der Vernunft (Berlin: Aufbau-Verlang, 1953), English translation, The Destruction of Reason (London: Merlin Press, 1980).
2. ↩ George Lichtheim, “An Intellectual Disaster,” Encounter (May 1963): 74–79. Lichtheim was ostensibly reviewing George Lukács’s The Meaning of Contemporary Realism (London: Merlin Press, 1963).
3. ↩ Rodney Livingston, Perry Anderson, and Francis Mulhern, “Presentation IV,” in Theodor Adorno, W-alter-Benjamin, Bertolt Brecht, and Georg Lukács, Aesthetics and Politics (London: Verso, 1977), 142–50 Theodor Adorno, “Reconciliation Under Duress,” in Adorno, Benjamin, Brecht, and Lukács, Aesthetics and Politics, 152–54 István Mészáros, The Power of Ideology (New York: New York University Press, 1989), 118–19. Adorno claimed that “The Destruction of Reason…revealed most clearly the destruction of Lukács’s own” reason. He falsely claimed that in the book “Nietzsche and Freud are simply labeled Fascists”—despite the fact that Nietzsche is approached by Lukács in terms of philosophical irrationalism, which does not of itself constitute fascism, while Freud is barely mentioned in the book at all, and then not negatively. Adorno, “Reconciliation Under Duress,” 152.
4. ↩ Lichtheim, “An Intellectual Disaster,” 78–79 Lichtheim quoted in Árápad Kadarkay, “Introduction: Philosophy and Politics,” in Georg Lukács, The Lukács Reader, ed. Árápad Kadarkay (Oxford: Blackwell, 1995), 215. It should be noted that while Kadarkay quotes Lichtheim here and also in his biography of Lukács as referring to The Destruction of Reason as an “intellectual crime,” this statement is not actually to be found on the page of the issue of Encounter that Kadarkay on both occasions cites, and that others cite via Kadarkay. However, since Lichtheim clearly refers, in another issue of Encounter, to Lukács’s work at this stage as an “intellectual disaster” and an “intellectual catastrophe,” the “intellectual crime” statement has a certain ring of truth.
5. ↩ Lichtheim, “An Intellectual Disaster,” 76. Despite the impression that Lichtheim leaves, Lukács made no allusion to “Kafka’s nightmares” in his book. The scare quotes around the quoted phrase are Lichtheim’s own, as Lukács made no such statement.
6. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 770.
7. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 792–93.
8. ↩ Árápad Kadarkay, Georg Lukács: Life, Thought and Politics (Oxford: Blackwell, 1991), 421–23 Lichtheim, “An Intellectual Disaster,” 76.
9. ↩ Enzo Traverso, “Dialectic of Irrationalism,” introduction in Georg Lukács, The Destruction of Reason (London: Verso, 2021), 10. Traverso’s introduction to the recently re---print---ed Verso edition of The Destruction of Reason carries forward, rather than distancing itself from, these earlier Western Marxist attacks on the book, making his introduction largely an anti-introduction, more characteristic of the early Cold War era.
10. ↩ I. Lenin, Imperialism, the Highest Stage of Capitalism (New York: International Publishers, 1939). Lenin’s argument was not ---dir---ectly analyzed in Lukács’s book, but nonetheless constituted the material background for the entire argument, as imperialism in Lenin’s terms was a constant reference point.
11. ↩ On late imperialism, see John Bellamy Foster, “Late Imperialism,” Monthly Review 71, no. 3 (July–August 2019): 1–19 Zhun Xu, “The Ideology of Late Imperialism,” Monthly Review 72, no. 10 (March 2021): 1–20. On the collective imperialism of the triad, see Samir Amin, “Contemporary Imperialism,” Monthly Review 67, no. 3 (July–August 2015): 23–36.
12. ↩ See Xu, “The Ideology of Late Imperialism“ Paweł Wargan, “NATO and the Long War on the Third World,” Monthly Review 74, no. 8 (January 2023): 16–32.
13. ↩ Paul A. Baran and Paul M. Sweezy, Monopoly Capital (New York: Monthly Review Press, 1966), 338, 341.
14. ↩ Paul A. Baran to Paul M. Sweezy, February 3, 1957, in Paul A. Baran and Paul M. Sweezy, The Age of Monopoly Capital (New York: Monthly Review Press, 2017), 154.
15. ↩ Fyodor Dostoevsky, Notes from Underground (New York: Vintage, 1993), 13 Paul A. Baran, The Longer View (New York: Monthly Review Press, 1969), 104. The phrase “vomiting up of reason” is taken from Baran’s interpretation of the Underground Man’s rejection of the “laws of nature” and “two times two is four,” whereby the protagonist of Dostoevsky’s novel, according to Baran, “vomits up reason.”
16. ↩ On irrationalism see Lukács, The Destruction of Reason Herbert Aptheker, “Imperialism and Irrationalism,” Telos 4 (1969): 168–75 Étienne Balibar, “Irrationalism and Marxism,” New Left Review I:107 (January–February 1978): 3–18 Frederick Copleston, A History of Philosophy, vol. 7, Part II, Modern Philosophy: Schopenhauer to Nietzsche (Garden City, New York: Doubleday, 1963) “Irrationalism,” [Encyclopedia] Britannica, no date, britannica.com.
17. ↩ James H. Meisel, “A Premature Fascist? Sorel and Mussolini,” The Western Political Quarterly 3, no. 1 (March 1950): 26 H. Stuart Hughes, Consciousness and Society (New York: Vintage, 1958), 162.
18. ↩ Hitler quoted by Herman Raushning, Gespräche mit Hitler (New York: Europa Verlag, 1940), 210, translated in Gerald Holton, “Can Science Be at the Centre of Modern Culture?,” Public Understanding of Science 2 (1993): 302. For a slightly different translation, see Herman Raushning, Voice of Destruction (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1940), 222–23.
19. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 5.
20. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 192.
21. ↩ Copleston, Schopenhauer to Nietzsche, 27 Lukács, The Destruction of Reason, 193–98.
22. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 204–8.
23. ↩ Arthur Schopenhauer, The World as Will and Idea, vol. 3 (London: Trübner, 1883), 164 Lukács, The Destruction of Reason, 225. Schopenhauer’s attribution of the will to all of existence would have seemed less fantastic to his readers in his day than is the case today. As the great geologist Georges Curvier critically noted in his famous “Preliminary Discourse” to his Researches on Fossil Bones in 1812, some early nineteenth-century scientists, including the mineralogist Eugène Patron, attributed to “the most elementary molecule…an instinct, a will.” Georges Curvier, Fossil Bones, and Geological Catastrophes, ed. Martin J. S. Rudwick (Chicago: University of Chicago Press, 1997), 201.
24. ↩ “From Baruch Spinoza’s ‘Letter to G. H. Schuller’ (1674),” Explanitia (blog), October 3, 2018, explanatia.wordpress.com Schopenhauer, The World as Will and Idea, vol. 3, 164. Lukács, The Destruction of Reason, 225–27.
25. ↩ Schopenhauer, The World as Will and Idea, vol. 3, 159, 165–66, 531–32 Lukács, The Destruction of Reason, 225.
26. ↩ Friedrich Lange, The History of Materialism (New York: Humanities Press, 1950).
27. ↩ Eduard von Hartmann, Philosophy of the Unconscious, vol. 3 (London: Kegan, Paul, Trench, and Trübner, 1893) 131–36 Copleston, Schopenhauer to Nietzsche, 57–59 Thomas Moynihan, X-Risk: How Humanity Discovered Its Own Extinction (Falmouth, UK: Urbanomic Media, 2020), 273–78 Lukács, The Destruction of Reason, 409 Frederick C. Beiser, After Hegel: German Philosophy, 1840–1900 (Princeton: Princeton University Pres, 2016), 158–216.
28. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 309, 319–21.
29. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 388–89.
30. ↩ Friedrich Nietzsche, The Will to Power (New York: Vintage, 1967), 550.
31. ↩ Friedrich Nietzsche, Beyond Good and Evil (New York: Vintage, 1966), 203.
32. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 361. On Hobbes, see István Mészáros, Beyond Leviathan (New York: Monthly Review Press, 2022), 42–44.
33. ↩ Nietzsche, The Will to Power, 25, 77 Nietzsche, Beyond Good and Evil, 118.
34. ↩ Nietzsche, The Will to Power, 33, 78, 364–65, 397–98 Nietzsche, Beyond Good and Evil, 110–11, 115 Friedrich Nietzsche, Twilight of the Idols (Indianapolis: Hackett Publishing Co., 1997), 41.
35. ↩ Nietzsche quoted in Lukács, The Destruction of Reason, 327.
36. ↩ Nietzsche, Beyond Good and Evil, 111.
37. ↩ Friedrich Nietzsche, On the Genealogy of Morality (Cambridge: Cambridge University Press, 2007), 23–24, 33. Deleuze oddly sees Nietzsche’s concept of the Overman as his final triumph over Hegel’s dialectics. Gilles Deleuze, Nietzsche and Philosophy (New York: Columbia University Press, 1983), 147–94.
38. ↩ Nietzsche, On the Genealogy of Morality, 14–15 Nietzsche, Twilight of the Idols, 41.
39. ↩ The translation here follows that of Michael Scarpitti, “The Perils of Translation,´-or-Doing Justice to the Text,” 38, academia.edu. The Kaufman translation of The Will to Power leaves out the last two sentences. Nietzsche, The Will to Power, 467. See also Ronald Beiner, Dangerous Minds: Nietzsche, Heidegger, and the Return of the Far Right (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2018), 4, 137.
40. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 392 Deleuze, Nietzsche and Philosophy, 198.
41. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 25, 403.
42. ↩ Henri Bergson, Creative Evolution (New York: Henry Holt, 1911), 340–42.
43. ↩ Frederick Copleston, A History of Philosophy, vol. 9, Maine de Biran to Sartre Part I: The Revolution to Henri Bergson (New York: Doubleday, 1974), 216–23. On the relation of Bergson’s argument on the eye to that of current intelligence design theorists, see John Bellamy Foster, Brett Clark, and Richard York, Critique of Intelligent Design (New York: Monthly Review Press), 14–15, 158–61.
44. ↩ Ray Lankester, Preface in Hugh S. R. Elliot, Modern Science and the Illusions of Professor Bergson (New York: Longmans, Green, and Co., 1912), vii–xvii.
45. ↩ See B. Sadoski, “The ‘Physical’ and ‘Biological’ in the Process of Organic Evolution,” in Nikolai Bukharin et. al., Science at the Crossroads (London: Frank Cass and Co., 1971), 69–80 Joseph Needham, Time: The Refreshing River (London: Georg Allen and Unwin, 1943), 241–46.
46. ↩ Bergson, Creative Evolution, 342 Jimena Canales, The Physicist and the Philosopher (Princeton: Princeton University Press, 2015), 46–47 “Einstein vs. Bergson: The Struggle for Time,” Faena Aleph, faena.com.
47. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 5, 496.
48. ↩ Martin Heidegger, Basic Writings (New York: HarperCollins, 1993), 53–57, 234 Michael Wheeler, “Martin Heidegger,” Stanford Encyclopedia of Philosophy, October 12, 2011, plato.stanford.edu.
49. ↩ Heidegger made an exception for some of the pre-Socratic philosophers, particularly Heraclitus.
50. ↩ Richard Wolin, Labyrinths (Amherst, Massachusetts: University of Massachusetts Press, 1995), 184 Lukács, The Meaning of Contemporary Realism, 20–21, 26–27.
51. ↩ Martin Heidegger, Being and Truth (Bloomington: Indiana University Press, 2010), 73 (italics added) Beiner, Dangerous Minds, 4–5, 137.
52. ↩ Emmanuel Faye, Heidegger: The Introduction of Nazism into Philosophy in Light of the Unpublished Seminars of 1933–1935 (New Haven: Yale University Press, 2009), 39–58 Richard Wolin, ed., The Heidegger Controversy (Cambridge, Massachusetts: MIT Press, 1993) Richard Wolin, Labyrinths,103–22.
53. ↩ Heidegger quotes from Wolin, Labyrinths, 126, 138. See also Wolin, The Heidegger Controversy, 30.
54. ↩ Briner, Dangerous Minds, 105–8 Wolin, Labyrinths, 134–35.
55. ↩ Heidegger quoted in Wolin, Labyrinths, 131.
56. ↩ Philip Oltermann, “Heidegger’s ‘Black Notebooks’ Reveal Antisemitism at the Core of His Philosophy,” Guardian, March 12, 2014.
57. ↩ Tom Rockmore, “Heidegger After Trawny,” in Heidegger’s Black Notebooks, ed. Andrew J. Mitchell and Peter Trawny (New York: Columbia University Press, 2017), 152.
58. ↩ Heidegger, Basic Writings, 225, 234, 241–47 Lukács, The Destruction of Reason, 833–36.
59. ↩ Wheeler, “Martin Heidegger.”
60. ↩ Heidegger, Basic Writings, 243–44 Lukács, The Destruction of Reason, 836–37.
61. ↩ Georg Lukács, Lenin (Cambridge, Massachusetts: MIT Press, 1971), 41–43.
62. ↩ Lenin, Imperialism, the Highest Stage of Capitalism,119.
63. ↩ Raymond Williams, The Long Revolution (Cardigan, UK: Parthian, 2012), 69.
64. ↩ Wolin, Labyrinths, 1.
65. ↩ Keti Chukhrov, Practicing the Good (Minneapolis: e-flux/University of Minnesota Press, 2020), 20.
66. ↩ Deleuze, Nietzsche and Philosophy, 8–10, 198.
67. ↩ Gilles Deleuze, “I Have Nothing to Admit,” Semiotexte 2, no. 3 (1977), 112 Brian Massumi, introduction in Gilles Deleuze and Félix Guattari, A Thousand Plateaus (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1983), x.
68. ↩ Gilles Deleuze, Bergsonism (New York: Zone Books, 1991), 79–85.
69. ↩ Chukhrov, Practicing the Good, 20.
70. ↩ Gilles Deleuze and Félix Guattari, Anti-Oedipus: Capitalism and Schizophrenia (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1983), 3–5.
71. ↩ Karl Marx, Early Writings (London: Penguin, 1974), 349–50 (quoted in accordance with Deleuze and Guattari, op. cit.), 398–99.
72. ↩ Deleuze and Guattari, Anti-Oedipus, 5.
73. ↩ Félix Guattari, The Machinic Unconscious (Los Angeles: Semiotext(e), 2011) Karl Marx and Frederick Engels, The Communist Manifesto (New York: Monthly Review Press, 1964), 1.
74. ↩ In Deleuze’s vitalistic philosophy, essences are immanent in mobile, material things, and thus seen as distinguished from essentialism in the sense of fixed, transcendent ideas.
75. ↩ Jacques Derrida, Specters of Marx (London: Routledge, 1994), 219–20. If Derrida’s Specters of Marx seeks to deconstruct Marxian praxis, other works have used Marx’s figure of the specter to reconstruct revolutionary praxis. See especially China Miéville, A Spectre Haunting: On the Communist Manifesto (Bloomsbury: Head of Zeus, 2022).
76. ↩ Derrida, Specters of Marx, 93, 219 Wolin, Labyrinths, 238–39.
77. ↩ Baruch Spinoza, Ethics (London: Penguin,1996), 75 (III, prop. 6) “From Baruch Spinoza’s ‘Letter to G. H. Schuller’ (1674)” Gilles Deleuze, Spinoza: Practical Philosophy (San Francisco: City Lights, 1988), 97–104.
78. ↩ Jane Bennet, Vibrant Matter (Durham: Duke University Press, 2010), xiv–xv, 1–4 Timothy Morton, Humankind (London: Verso, 2019), 33, 55, 61–63, 71, 97, 166–71. See John Bellamy Foster, “Marx’s Critique of Enlightenment Humanism,” Monthly Review 74, no. 8 (January 2023): 1–15.
79. ↩ Bennet, Vibrant Matter, 1–4.
80. ↩ Foster, “Marx’s Critique of Enlightenment Humanism,” 10–12.
81. ↩ Bruno Latour, The Politics of Nature (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2004), 75–80 Bruno Latour, Reassembling the Social (Oxford: Oxford University Press, 2007), 54–55 Bruno Latour, We Have Never Been Modern (Cambridge, MA: Harvard University Press,1993).
82. ↩ Bruno Latour, Facing Gaia (Cambridge: Polity, 2017), 220–54, 285–92 Bruno Latour, Down to Earth (Cambridge: Polity, 2018).
83. ↩ Lukács, The Destruction of Reason, 839–40.
84. ↩ Latour, Facing Gaia, 285–92.
85. ↩ Bruno Latour, “Love Your Monsters,” Breakthrough Institute, February 14, 2012, org. Latour took a more progressive and less irrationalist step in his final, posthumous book, but it is not a radical one. See Bruno Latour and Nikolaj Schultz, On the Emergence of an Ecological Class (London: Polity, 2022).
86. ↩ Slavoj Žižek, “The Persistence of Ontological Difference,” in Heidegger’s Black Notebooks, ed. Mitchell and Trawny, 186–200.
87. ↩ Slavoj Žižek, Less Than Nothing: Hegel and the Shadow of Dialectical Materialism (London: Verso, 2013), 6, 878–79.
88. ↩ Slavoj Žižek, “Ecology Against Mother Nature,” Verso Blog, May 26, 2015 Slavoj Žižek, “Censorship Today: Violence,´-or-Ecology as a New Opium for the Masses,” 2007, lacan.com Slavoj Žižek, Absolute Recoil: Toward a New Foundation of Dialectical Materialism (London: Verso, 2016), 7–12. Although critical of new materialism, Žižek sympathizes with its virulently antihumanist, antirealist perspective.
89. ↩ Slavoj Žižek, “Where Is the Rift?: Marx, Lacan, Capitalism, and Ecology,” Los Angeles Review of Books 20 (January 2020) Žižek, Less than Nothing, 207. Žižek claims that there are four relevant forms of materialism today: (1) reductionist vulgar materialism (cognitive psychology, neo-Darwinism), (2) atheism (Christopher Hitchens), (3) discursive materialism (Michel Foucault), and (4) “new materialism” (Deleuze). Marxism is deliberately excluded from his list. The only route to a viable “dialectical materialism,” he claims, contra Engels and Lenin, is through a “materialism without materialism” via Hegelian idealism taken to its-limit-s and reinterpreted by means of Jacques Lacan and Heidegger. His “new foundation of dialectical materialism” as a nihilistic philosophy of “less than nothing” finds its final justification not in Hegel´-or-Marx, but in Heidegger. Slavoj Žižek, Absolute Recoil, 5–7, 413–14.
90. ↩ Žižek, Less Than Nothing, 983–84, 207 Žižek, Absolute Recoil, 31, 107. Žižek presents the projection of catastrophe as destiny as a “radical solution,” in terms of a philosophical move. Yet, it cannot be seen as either “radical”´-or-a “solution,” but simply a projection of cosmic suicide as fate, given that no attempt is made, in his analysis, to point to a way of countering this “destiny.” For a critique of Žižek’s idiosyncratic and idealist approach to dialectics, see Adrian Johnston, A New Dialectical Idealism: Hegel, Žižek, and Dialectical Materialism (New York: Columbia University Press, 2018) see also Adrian Johnston, “Materialism without Materialism: Slavoj Žižek and the Disappearance of Matter,” in Slavoj Žižek and Dialectical Materialism, ed. Agon Hamza and Frank Ruda (London: Palgrave Macmillan, 2016), 3–22. As Johnston says, Žižek’s work constitutes a “betrayal, rather than reinvention, of dialectical materialism.” Johnston, “Materialism without Materialism,” 11.
91. ↩ Slavoj Žižek, “The Ukraine Safari,” Project Syndicate, October 13, 2022 Slavoj Žižek, “Pacifism Is the Wrong Response to the War in Ukraine,” Guardian, June 21, 2022 “Ukraine and the Third World,” Kurtay Academics, March 4, 2022, kurtayacademics.com Jonathan Cook, “A Lemming Leading the Lemmings: Slavoj Žižek and the Terminal Crisis of the Anti-War Left,” MintPress News, June 23, 2022. On the nuclear dangers of the New Cold War, see John Bellamy Foster, John Ross, and Deborah Veneziale, Washington’s New Cold War (New York: Monthly Review Press, 2022).