|
تشظي الذات وسقوط اليقين .. قراءة في جدلية الوجود والعبث في نص -أقمار المجون- للأديب واثق الجلبي
واثق الجلبي
الحوار المتمدن-العدد: 8198 - 2024 / 12 / 21 - 16:50
المحور:
الادب والفن
قراءة / فاطمة عبد الله نص "أقمار المجون" للأديب واثق الجلبي يعكس توجهاً فكرياً حداثياً يتقاطع مع رؤية جاك دريدا القائلة بأن "المعنى ليس حضوراً ثابتاً بل هو أثر يتولد من غياب المعنى الكامل ومن العلاقة بين الكلمات في سياقها". يتناثر النص في فضاء مليء بالغموض والإيحاء ليخلق تجربة مفتوحة على التأويل مشحونة برمزية تعكس عمقاً وجودياً وفلسفياً ما يجعل النص ليس مجرد حكاية ذات بنية واضحة بل تجربة تأملية تتشابك فيها اللغة مع أسئلة الذات والوجود مما يضع القارئ أمام تحديات ذهنية ونفسية. يتسم النص بتركيب لغوي كثيف وصور بلاغية واستعارات تعيد تشكيل المعنى مثل عبارات: "الجسر أنثى على شكل ذكر" و"الماء المخنث" حيث يعكس التلاعب الفني اختلاط الهويات وتشويش الحدود بين المفاهيم المتعارضة كالذكورة والأنوثة. حتى العنوان "أقمار المجون" يحمل تناقضاً رمزياً بين الجمال المنعكس في "الأقمار" وعبثية "المجون"، متماشياً مع توجه النص نحو تفكيك الثنائيات التقليدية كاليقين/الشك والمعنى/العبث. النص يعج بصور غرائبية تحفز القارئ على البحث عن معانٍ مختبئة وراء العبث الظاهر مثل "حبوب الإسبرين من مؤخرات الحصى"، التي تعكس سخرية سوداء من تناقضات الحياة بينما يعزز أسلوب التكرار الشعور بضياع الذات واغترابها كما يظهر في السؤال المتكرر: "هل دّل على نفسه بنفسه؟" الذي يعبر عن أزمة الهوية والبحث عن الذات. التناص الفلسفي واضح في النص حيث تتقاطع أفكاره مع فلسفات حداثية و وجودية إذ يبرز تأثير سارتر في صراع الذات مع تعريفها خارج المعاني المطلقة كما يظهر في العبارة: "من عرف نفسه سقط عنه قناع السؤال" إلى جانب تأثير نيتشه ورؤيته حول "موت الإله"، حيث تسود الحرية الفردية في ظل غياب المطلق كما تعكس العبارة: "وصل إلى شرفة موته ولأن الشرفات لا تعد ولا تحصى لم يعرها أي جرة ندم" استسلام الإنسان لحتمية الموت وتعدد المسارات المؤدية إلى المصير ذاته. النص يزخر بمواضيع فلسفية عميقة تتشابك لتُبرز مأساة الإنسان المعاصر وفي مقدمتها الاغتراب الوجودي الذي يتجلى في الصراع الداخلي مع الذات وتساؤلاتها المستمرة حول معنى الحياة. في العبارة: "أكلته الأحاجي ولم يجد نفساً صحيحاً يقذف ببركان ما يعتلجه من ظنون وأسئلة"، نلمس بوضوح عبثية كامو حيث يجد الإنسان نفسه أمام أسئلة لا إجابة لها مما يعكس ضياع الذات في مواجهة عالم مبهم. هذا الصراع الوجودي يتداخل مع ثيمات أخرى كفكرة الزمن والموت التي يستخدمها النص ليؤكد حتمية النهاية وعبثية الرحلة الإنسانية كما في العبارة: "وصل إلى شرفة موته". الزمن هنا ليس مجرد عنصر خطي بل فضاء مفتوح تتعدد فيه المسارات وكلها تؤدي إلى المصير ذاته مما يعزز الشعور بعبثية الوجود. على هذا النحو يبرز النص أيضاً فقدان اليقين والمعرفة حيث ينأى عن الحقيقة المطلقة ويدعو للتصالح مع الغموض. العبارة: "من عرف نفسه سقط عنه قناع السؤال" تجسد نقد هايدغر للفكرة التقليدية عن المعرفة إذ تتحول المعرفة إلى تجربة ذاتية متغيرة تُبقي الإنسان في حالة بحث دائم عن معنى غير قابل للتحديد. بهذا التداخل بين الاغتراب والزمن و الموت وفقدان اليقين يقدم النص رؤية فلسفية عميقة تعكس عبثية الوجود وضياع الإنسان في عالم يغمره الغموض و التناقضات. النص ينفتح على العبثية بصورة تتجاوز الفلسفة النظرية، ليعكسها من خلال السخرية السوداء التي تُلون أبعاده. في العبارة: "الماء المخنث يلتقط حبوب الإسبرين من مؤخرات الحصى"، يُبرز النص رؤية كافكاوية لعالم يضج بالفوضى واللامعقولية حيث تفقد الأشياء معانيها المألوفة وتتحول إلى رموز ساخرة تجسد عبثية الحياة وانعدام المنطق. هذه السخرية القاتمة لا تسخر من الواقع فحسب بل تعيد تشكيله بما يعزز الإحساس بفقدان المعنى وانهيار التماسك الوجودي. في خضم هذا العبث يظهر صراع آخر يتردد صداه عبر النص يتمثل في ثنائية التبتل والعبث. النص يضع الذات البشرية بين خيارين متناقضين: التبتل والانقطاع عن العالم في محاولة لبلوغ نقاء داخلي أو الاستغراق في عبثية الواقع كما يتضح في العبارة: "فانصب قائماً على محراب عماه بتبتلٍ أفقده حواسه كلها". هنا تتجلى مأساة الذات المنقسمة التي تتأرجح بين الرغبة في التحرر الروحي من جهة والانغماس في فوضى الحياة اليومية من جهة أخرى. بهذا التداخل بين السخرية السوداء وثنائية التبتل والعبث ينجح النص في تصوير حالة وجودية معقدة تعكس اغتراب الذات التي تبحث عن معنى وسط عالم تتقاطع فيه الفوضى مع الرغبة في الصفاء فيصبح الصراع نفسه جزءًا من عبثية الوجود. و بهذا ينجح نص "أقمار المجون" في تقديم رؤية أدبية تسلط الضوء على تشظي الذات وفقدان اليقين حيث يعيش الإنسان المعاصر في بحث مستمر عن المعنى في عالم غامض وعبثي. تساؤلات النص الفلسفية العميقة تجسد مأساة الإنسان المتنقل بين محاولات الفهم والتسليم باللاجدوى. يبقى السؤال المفتوح الذي يطرحه النص: هل يمكن للإنسان أن يجد ذاته في هذا الوجود المربك أم أنه محكوم عليه بالضياع المستمر؟ النص أقمارُ المجون هل دّل على نفسه بنفسه ؟ هل أمسك رأس الأسئلة فانفجرت في يديه مئة ألف حبة ؟ علام يبتلعُ لسان القلق بمزيد من معابر الهجران ؟ الجسرُ أنثى على شكل ذكر والماء المخنث يلتقط حبوب الإسبرين من مؤخرات الحصى ، هل هذا مقنع بالنسبة لمرآه الجثوم على أدبار أقمار المجون ؟ وصل إلى شرفة موته ولأن الشرفات لا تعد ولا تحصى لم يعرها أي جرة ندم فحدّث أنامله بسهولة ديون أوجاعه فانصب قائما على محراب عماه بتبتلٍ أفقدهُ حواسه كلها ، لم يعرف ذاتهُ ولم يتعب نفسه بتتبع خيوط معرفة ذوات الآخرين لأنه أراد أن ينطلق حتى بعد أن تجاوزت سنينه عدد نباتات الأرض والسماء ، أكلته الأحاجي ولم يجد نفسا صحيحا يقذف ببركان ما يعتلجه من ظنون وأسئلة ، ركل حطام السراب بقبضةِ تنور أعور واستمتع بمنظر الإشراق من خلف جدران القمامة حتى نكث وسط ومرق لكن ليس كما كان في السابق ، بدأ يراقب نفسه أخيرا ولهذا صام عن القراءة لأن من عرف نفسه سقط عنه قناع السؤال .
#واثق_الجلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معارضات يوسفية في الديوان الشعري ( يوسفيات ) للأديب واثق الج
...
-
يوسفيات الشاعر واثق الجلبي ... أنسنة الشعور وشمعة في عالم ال
...
-
قصة يوسف الإبن والنبي تتحول الى ملحمة فلسفية في الديوان الشع
...
-
حفريات معرفية متوارية في ثلاث روايات قصيرة للكاتب واثق الجلب
...
-
واثقيات 52 .. استعارات الظلام في أنوار الشموع
-
الآخر في قصيدة (الجن) للشاعر واثق الجلبي
-
أحكام البناء الهندسي في ( يوسفيات واثقية 46 ) للشاعرواثق الج
...
-
حامد الحمراني .. وداعا
-
الزمن الاستباقي وأنواعه في روايات واثق الجلبي .. التوظيف وال
...
-
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتا
...
-
كتاب ( أربع شخصيات عراقية من التاريخ ) الكاتب واثق الجلبي ..
...
-
واثق الجلبي .. الشغف وانفتاح الدلالة وتدجين المستحيلات
-
كلكامشيات
-
جماليات التشكيل اللغوي والتنغيم الموسيقي في قصيدة (لا أبالي)
...
-
واثقيات 28 ( نتوءات على وجه الحب للأديب واثق الجلبي )
-
أسئلة مثيرة في المجموعة القصصية ( قشرة الملح ) للأديب واثق ا
...
-
واثقيات 25 للشاعر واثق الجلبي .. منمنة العشق وقارورة الشهد
-
كتاب : ( أربع شخصيات عراقية من التاريخ) للكاتب واثق الجلبي .
...
-
واثق الجلبي .. بين استجلاء الذات وشعرية النص المسترسل
-
المجموعة القصصية (جني الأكفان) للكاتب العراقي واثق الجلبي ..
...
المزيد.....
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
-
والت ديزني... قصة مبدع أحبه أطفال العالم
-
دبي تحتضن مهرجان السينما الروسية
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|