أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - يوميات طبيب نفسي (نوفيلا-رواية قصيرة)















المزيد.....



يوميات طبيب نفسي (نوفيلا-رواية قصيرة)


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 22:13
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول: الصراع مع الذات

جلس خالد في زاوية غرفة الانتظار، يراقب عقارب الساعة تتحرك ببطء كأنها تتعمد استفزازه. كانت الغرفة هادئة، لكنها لم تكن مريحة. ألوان الجدران الباهتة وملصقات الصحة النفسية المنتشرة هنا وهناك جعلته يشعر كأنه في متحف لا ينتمي إليه. في يده اليمنى، كان يحرك خاتمًا فضيًا بعصبية، يديره حول إصبعه بشكل متكرر. عندما جاء دوره، وقف بثقل وكأن خطواته تُسحب من الأرض، وتوجه إلى الباب المفتوح حيث ينتظره الطبيب النفسي.
دخل خالد الغرفة وجلس قبالة الطبيب. كانت الغرفة بسيطة لكنها دافئة، طاولة خشبية صغيرة وكرسيان، ونافذة تطل على حديقة داخلية. كان كل شيء يبدو عاديًا، باستثناء خالد نفسه.
"أنا لست متأكدًا من جدوى هذا كله"، قال خالد بصوت خافت، محاولًا أن يلتقط أنفاسه. نظر إليه الطبيب مبتسمًا، ولم يرد على الفور.

بداية الحديث

"خذ وقتك، خالد"، قال الطبيب بهدوء، وكأن الكلمات مدروسة بعناية لتفتح بابًا كان موصدًا في داخله.
"أشعر أنني عالق... بيني وبين نفسي"، بدأ خالد بعد صمت ثقيل. "لا أعرف ما الذي أريده، ولا حتى من أنا. أحاول أن أكون أفضل، لكن كل شيء يبدو بلا معنى".
رفع الطبيب حاجبه قليلًا، ثم أومأ برأسه، كأنه يدعو خالد للاسترسال.
"منذ فترة طويلة، أشعر وكأنني أعيش حياتين. الأولى هي ما يراه الناس في الخارج، حيث أبتسم وأتصرف وكأن كل شيء على ما يرام. والثانية هي أنا الحقيقي، الذي يخاف، يشك، ويشعر بأنه لا شيء. هل تفهمني؟"

الجذور الخفية

ظل الطبيب يستمع دون أن يقاطع، وعندما توقف خالد، قال بهدوء: "متى بدأت تشعر بهذا الانقسام؟"
أطرق خالد برأسه وكأن السؤال أثقل عليه. ثم قال: "لا أعرف تحديدًا. ربما منذ الطفولة. كنت دائمًا أحاول أن أكون الأفضل. كنت أعتقد أن الحب مرتبط بما أقدمه، بما أنجزه. لكن مهما فعلت، لم أشعر أنه يكفي".
تدفقت الكلمات من خالد، وكأنها كانت تنتظر لحظة الخروج هذه. حكى عن طفولته في بيت يضج بالتوقعات العالية. كان والده شخصًا صارمًا، يرى أن النجاح هو السُلَّم الوحيد إلى القبول. أما والدته، فكانت حاضرة دائمًا، لكنها صامتة، كأنها ظل لا يملك صوتًا.
"كنت الأول في المدرسة، لكنني كنت أكره كل لحظة في تلك الأيام. كل نجاح كان يعيدني إلى السؤال نفسه: ماذا لو فشلت؟ هل سيحبونني وقتها؟"

التمزق الداخلي

كانت كلمات خالد تحمل وجعًا خفيًا، كأنها ندوب على سطح الروح. لم يكن صراعه مع العالم، بل مع نفسه. لم يكن يبحث عن حلٍّ سحري، بل عن فهم، عن شيء يمسك به وسط هذا التيه.
"وهل تشعر أنك قريب من معرفة الإجابة؟" سأل الطبيب بنبرة هادئة.
هز خالد رأسه بيأس، ثم قال: "أحيانًا أفكر أن الإجابة ليست هناك أصلًا. ربما هذه هي الحياة، محاولة مستمرة للفهم دون الوصول".

الصمت كساحة للمعركة

ترك الطبيب مساحة للصمت، تلك اللحظة التي يتردد فيها الصدى قبل أن يهدأ. كان خالد يحدق في الطاولة أمامه، عيناه مليئتان بشيء يشبه التعب.
ثم قال الطبيب: "ربما لا تحتاج إلى الإجابة الآن. ربما كل ما تحتاجه هو أن تمنح نفسك الإذن لتكون كما أنت، بدون البحث عن الكمال".
ابتسم خالد بسخرية، وقال: "هذا يبدو سهلاً عندما تقوله أنت، لكنه أشبه بالمستحيل بالنسبة لي".

بوادر التغيير

في الجلسات التالية، بدأ خالد يفتح أبوابًا جديدة. تحدث عن أحلامه التي لم يجرؤ على الاعتراف بها. عن رغبته في أن يصبح رسامًا، رغم أنه يعمل في شركة برمجيات لا تعني له شيئًا. تحدث عن حبه القديم الذي تركه لأنه كان يشعر أنه لا يستحقه.
بدأ خالد يكتشف أن صراعه مع ذاته ليس عدوًا، بل دعوة لإعادة النظر في حياته. لم تكن هناك حلول جاهزة أو لحظة مفاجئة تغير كل شيء، بل خطوات صغيرة، أشبه برسومات أولية على لوحة فارغة.

النهاية المفتوحة

في إحدى الجلسات الأخيرة، جلس خالد بصمت أطول من المعتاد. كان يبدو عليه شيء من الهدوء، لكنه لم يكن كاملًا. قال بهدوء: "لا أعرف ما إذا كنت سأصل إلى سلام حقيقي مع نفسي يومًا، لكن ربما هذا ليس الهدف. ربما الهدف هو أن أتعلم كيف أعيش مع هذا الصراع".
ابتسم الطبيب، ولم يقل شيئًا. فقط أومأ برأسه.
وفي الخارج، كان المطر يتساقط بخفة على نافذة العيادة، تاركًا خطوطًا متعرجة تشبه حياة خالد، ليست مستقيمة، لكنها تمضي قدمًا.


الفصل الثاني: غرفة الذكريات

دخلت سارة إلى العيادة وهي تشد معطفها حول جسدها النحيل، كأنها تخشى أن تتسلل إليها برودة المكان. كانت في منتصف الثلاثينيات، بشعر بني يتناثر حول وجهها الذي بدا شاحبًا لكنه جميل بطريقة تحمل حزنًا دفينًا. جلست على الكرسي المواجه للطبيب دون أن تخلع معطفها، وكأنها لا تنوي البقاء طويلًا.
لم تكن هذه الجلسة الأولى، لكن سارة كانت دائمًا تأتي بتردد. في كل مرة تحاول أن تقول ما يشغلها، تتراجع، كأن الكلام يمزق حنجرتها قبل أن يخرج.
"كيف كانت الأيام الماضية؟" سألها الطبيب بصوت هادئ.
نظرت إلى النافذة بدلًا من الرد، وكأنها تتفادى السؤال. ثم قالت أخيرًا: "كانت عادية... لكنني استيقظت هذا الصباح ووجدت نفسي عالقة في حلم قديم".

العودة إلى الماضي

بدأ الطبيب يلاحظ هذا النمط في جلساتها: سارة تعيش في غرفة ذكرياتها أكثر مما تعيش في الحاضر. كان الماضي يطاردها، يرافقها في كل خطوة، وكأنه شبح لا ينوي المغادرة.
"ما الذي رأيته في حلمك؟" سألها الطبيب، كسرًا للصمت.
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقول: "كنت أعود إلى بيت طفولتي. كان كل شيء كما تركته، حتى رائحة القهوة التي كانت تعدها أمي في الصباح. لكن هناك شيء كان مختلفًا... البيت كان فارغًا. الأثاث موجود، لكن لا أحد فيه. كنت أسمع صوت خطوات، وعندما أحاول أن أتبعها، أجد الأبواب تغلق في وجهي".

الألم المدفون

ظل الطبيب صامتًا، يعطيها المساحة لتكمل. تابعت سارة بصوت أقرب إلى الهمس: "أظن أنني أعود إلى ذلك البيت لأنني تركت شيئًا هناك... أو ربما لأنه تركني".
"ماذا تركتِ هناك؟" سأل الطبيب.
هزّت رأسها وكأنها ترفض الإجابة. ثم قالت: "أحيانًا أشعر أنني لم أغادر أبدًا. تركت طفولتي هناك، لكنني أيضًا تركت نفسي. عندما توفي والدي فجأة، كنت في الخامسة عشرة. شعرت أن البيت لم يعد لنا بعده، وأنني لم أعد أنا. كل شيء تغير... كل شيء".

البيت الذي غادر القلب

حكت سارة كيف اضطروا بعد وفاة والدها إلى ترك بيتهم القديم والانتقال إلى مدينة أخرى. كانت أمها تعمل ليل نهار لتعيلهم، بينما هي كانت تحاول أن تكون قوية لأجل شقيقها الأصغر. "كنت أمسك بيده وأقول له إن كل شيء سيكون على ما يرام، لكنني لم أكن أصدق ذلك حتى للحظة".
سألها الطبيب: "هل تعودين إلى ذلك البيت في أحلامك كثيرًا؟"
أومأت برأسها، ثم قالت: "دائمًا. كأنه يريدني أن أفعل شيئًا، لكنني لا أعرف ما هو".

الذاكرة كغرفة مغلقة

شعر الطبيب أن ذكريات سارة ليست مجرد حنين للماضي، بل نوع من السجن. كانت تعيش في ذلك البيت القديم، لا في الوقت الراهن. الحاضر بالنسبة لها مجرد لحظات عابرة لا تحمل معنى، بينما الماضي هو الغرفة التي تأويها.
"هل فكرتِ يومًا في العودة إلى ذلك البيت؟ أن تريه على حقيقته الآن؟"
نظرت إليه بدهشة، وكأن الفكرة لم تخطر ببالها من قبل. ثم قالت: "وماذا سأجد؟ أطلالًا؟ بيتًا مختلفًا يسكنه غرباء؟ لا أريد أن أراه... لا أريد أن أدمر الصورة التي أحتفظ بها في رأسي".
"لكن أليس هذا ما يفعله بكِ؟ تلك الصورة؟"

محاولة للشفاء

في الجلسات التالية، بدأ الطبيب يساعدها على مواجهة ذكرياتها بطريقة مختلفة. بدلًا من أن تكون ضحية لها، دعاها إلى أن تعيد ترتيبها.
"ذكرياتكِ ليست عدوكِ، لكنها أيضًا ليست الواقع. ربما تعودين إلى ذلك البيت لأنك لم تودعيه بشكل صحيح".
لم يكن الحديث سهلاً، لكنه بدأ يفتح أبوابًا جديدة لسارة. كانت الجلسات تشبه رحلة في متاهة، كل خطوة تقودها إلى ممر جديد.

رحلة العودة

بعد شهر من النقاشات، قررت سارة أن تزور بيت طفولتها. أخبرت الطبيب أنها تشعر بالخوف، لكنه خوف ممزوج بشيء من الفضول.
عندما وقفت أمام الباب، شعرت أن كل شيء بدا أصغر مما تتذكره. الحديقة التي كانت تبدو لها شاسعة عندما كانت طفلة، أصبحت مجرد مساحة صغيرة مهملة. الباب الذي كان يفتح على حياة مليئة بالصخب، بدا الآن مثل مدخل إلى عالم غريب.
طرقت الباب، ولم يفتح أحد. كان البيت مهجورًا. نظرت من النافذة ورأت الغرف خالية، تمامًا كما في حلمها. لكنها هذه المرة لم تشعر بالخوف، بل بشيء يشبه الراحة.

النهاية المفتوحة

عندما عادت إلى العيادة، كانت سارة تبدو مختلفة. لم تكن سعيدة بالمعنى التقليدي، لكنها كانت أكثر هدوءًا.
قالت للطبيب: "لا أعرف ما إذا كنت قد تجاوزت الأمر، لكنني أشعر أنني أقل ثقلًا. ربما كان كل ما أحتاجه هو أن أرى أن البيت لم يعد هناك كما كنت أظن".
ابتسم الطبيب، ثم قال: "الذكريات تشبه البيوت القديمة. نحن نتركها خلفنا، لكنها لا تتركنا إلا إذا واجهناها".
غادرت سارة العيادة في ذلك اليوم وهي تشعر بشيء يشبه البداية، بداية حياة لم تكن فيها أسيرة لتلك الغرفة التي حملتها طويلًا في داخلها.




الفصل الثالث: متاهة القلق

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا عندما دخل يوسف إلى العيادة للمرة الأولى. شاب في أوائل الأربعينيات، طويل القامة لكنه يمشي وكأن أثقال العالم تعتلي كتفيه. كان يرتدي بذلة أنيقة، لكن تعابير وجهه ويديه المرتعشتين فضحتا اضطرابًا داخليًا لم تنجح الملابس الرسمية في إخفائه.
جلس على الكرسي المقابل للطبيب، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتكلم، وكأنه يجمع شتات شجاعته. قال أخيرًا بصوت متوتر: "لا أعرف كيف أبدأ... أشعر أنني محاصر داخل رأسي".

الحياة تحت سطوة الخوف

كان يوسف يعاني من القلق المزمن منذ سنوات، لكنه لم يفكر في طلب المساعدة إلا عندما بدأت الأعراض تسيطر على كل تفاصيل حياته. أخبر الطبيب عن نوبات القلق التي كانت تصيبه دون سابق إنذار.
"تبدأ بشيء بسيط"، قال وهو يمسك يده بإحكام. "كفكرة عابرة: هل أغلقت الباب؟ ثم تتحول إلى دوامة لا نهاية لها: ماذا لو لم أغلقه؟ ماذا لو دخل لص وأخذ كل شيء؟ وفي النهاية أجد نفسي أقف أمام الباب، أتأكد مرة أخرى... وأحيانًا عشر مرات".
"وهل هذا يتكرر مع أمور أخرى؟" سأله الطبيب.
ضحك يوسف ضحكة مريرة وقال: "كل شيء... كل شيء يتحول إلى سؤال بلا إجابة. هل كتبت التقرير بشكل صحيح؟ ماذا لو نسيت أن أذكر نقطة مهمة؟ ماذا لو فسره المدير بشكل خاطئ؟ ماذا لو طُردت من عملي؟"

الجسد كمرآة للقلق

لم يكن القلق محصورًا في ذهن يوسف فقط. حكى عن الأعراض الجسدية التي كانت تداهمه: خفقان القلب، التعرق البارد، آلام المعدة التي أصبحت رفيقة دائمة له.
"أحيانًا أستيقظ في منتصف الليل، وأنا أشعر وكأنني أغرق. قلبي ينبض بجنون، وكأنني على وشك الموت. لكن عندما أذهب إلى الطبيب، يقولون إن كل شيء طبيعي. كيف يكون طبيعيًا وأنا أشعر بهذا الشكل؟"

الجذور الخفية

بدأ الطبيب يستكشف مع يوسف جذور هذا القلق الذي تحول إلى وحش يطارده في كل لحظة. سأل عن طفولته، عن علاقاته، وعن اللحظات التي شعر فيها أنه فقد السيطرة على حياته.
تردد يوسف في البداية، لكنه بعد عدة جلسات بدأ يفتح أبوابًا كان يخشى الاقتراب منها. حكى عن والده، الرجل الصارم الذي لم يكن يقبل بأي خطأ. "كان دائمًا يقول لي: العالم لا يرحم الضعفاء. عليك أن تكون الأفضل، أن تكون مثاليًا. وكان كل خطأ صغير كأنه إعلان عن فشلي أمام الجميع".
حكى أيضًا عن حادثة تركت أثرًا عميقًا فيه: في سن المراهقة، كان مسؤولًا عن مشروع مدرسي، لكنه نسي تسليم جزء مهم منه. لم تكن العواقب كبيرة، لكن نظرة والده وكلماته الحادة جعلته يشعر أنه لا يستحق الاحترام أو الثقة.
"منذ ذلك اليوم، أصبحت أتحقق من كل شيء ألف مرة. وكأنني أحاول أن أتجنب أي خطأ مهما كان صغيرًا. لكن بدلًا من أن أشعر بالأمان، أصبحت أشعر بالخوف أكثر".

الحاضر كمتاهة

لم يكن الماضي وحده هو ما يؤرق يوسف. حكى عن حياته اليومية وكيف أصبحت متاهة من القلق. "حتى الأشياء البسيطة مثل شراء البقالة تتحول إلى مهمة مرهقة. أقف أمام الأرفف، وأفكر: هل أحتاج هذا المنتج حقًا؟ ماذا لو اشتريته وندمت لاحقًا؟ وأحيانًا أترك كل شيء وأخرج دون شراء أي شيء".
سأل الطبيب: "وهل تحدث هذه الأفكار في كل وقت؟ أم في مواقف محددة؟"
"في كل وقت"، قال يوسف بحزن. "حتى وأنا جالس هنا الآن، أفكر: هل كان يجب أن آتي؟ هل يمكن لهذا أن يساعدني؟ ماذا لو كنت أضيع وقتي ووقتك؟"

خطوات نحو الضوء

بدأ الطبيب مع يوسف بخطوات صغيرة. تحدث عن أهمية مواجهة الأفكار بدلًا من الهروب منها. "الأفكار ليست حقائق، يوسف. القلق يجعلنا نصدق أننا في خطر دائم، لكن هذا ليس حقيقيًا. علينا أن نتعلم كيف نفرق بين الخوف والحقيقة".
في البداية، كانت هذه الكلمات تبدو نظرية جدًا بالنسبة ليوسف. لكنه مع الوقت، ومع بعض التمارين البسيطة، بدأ يلاحظ الفرق. كان الطبيب يطلب منه أن يكتب مخاوفه على ورقة، ثم يسأل نفسه: "ما أسوأ شيء يمكن أن يحدث؟ وما مدى احتمالية حدوثه فعلًا؟"
كانت الإجابات دائمًا تكشف له أن معظم مخاوفه ليست واقعية كما كان يعتقد.

التغيير البطيء

لم يكن الأمر سهلًا أو سريعًا. كانت هناك أيام يتحسن فيها يوسف، وأيام أخرى يعود فيها إلى دوامة القلق. لكن الفارق أنه أصبح يدرك الآن أن القلق ليس قوة خارقة تسيطر عليه، بل حالة يمكن التعامل معها.
في إحدى الجلسات، قال للطبيب: "اليوم، كنت في اجتماع مع المدير، وأخطأت في ذكر نقطة معينة. شعرت بالخوف في البداية، لكنني قلت لنفسي: هذا طبيعي. الجميع يخطئ. ولم يحدث شيء سيئ فعلًا".
ابتسم الطبيب وقال: "هذا تقدم كبير، يوسف. القلق لا يختفي تمامًا، لكنه يصبح أقل تأثيرًا عندما نتعلم كيف نواجهه".

النهاية المفتوحة

بعد عدة أشهر من العلاج، كان يوسف أكثر قدرة على التعامل مع يومه. لم يكن قد تخلص من القلق تمامًا، لكنه تعلم كيف يسيطر عليه بدلًا من أن يسيطر عليه القلق.
في إحدى الجلسات الأخيرة، قال للطبيب: "أشعر وكأنني في متاهة، لكنني أملك الآن خريطة. ربما لن أخرج منها بسرعة، لكنني أعرف الطريق".
ابتسم الطبيب، ولم يقل شيئًا. كان يعرف أن يوسف قد بدأ رحلته نحو الشفاء، وأن الباقي يعتمد عليه.
عندما غادر يوسف العيادة ذلك اليوم، كانت السماء تمطر بخفة، لكنه لم يركض كعادته ليحتمي. مشى بهدوء تحت المطر، وكأنه يستمتع به للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.


الفصل الرابع: انكسارات الهوية

في ظهيرةٍ مشمسة، دخلت سلوى العيادة. امرأة في أواخر الثلاثينيات، بشعر أسود ناعم يتدلى على كتفيها ووجه شاحب يحمل مزيجًا غريبًا من الجمال والإنهاك. كان مشيها واثقًا، لكنها عندما جلست أمام الطبيب، بدا وكأنها تتلاشى تدريجيًا، وكأن حضورها كان مجرد وهم.
لم تبدأ الحديث فورًا. اكتفت بالنظر إلى الأرض، بينما أصابعها تعبث بخاتم فضي يحيط بإصبعها الأوسط. بدا كأنها تحاول أن تجد الكلمات، أو ربما تحاول الهروب منها.
قال الطبيب بهدوء، كمن يفتح نافذة صغيرة في غرفة مغلقة: "كيف أساعدك اليوم؟"
نظرت إليه أخيرًا، عيناها مثل بحيرة عميقة مضطربة، وقالت بصوت خافت:
"أنا لا أعرف من أكون بعد الآن."
الوجوه المتعددة
حكت سلوى عن حياتها التي بدت، على السطح، مثالية. أم لطفلين، زوجة لرجل ناجح، تعمل كمديرة تنفيذية في شركة معروفة. كل شيء يبدو مُنجزًا، مكتملًا. لكنها، وسط كل هذا، كانت تشعر بأنها شخصية ممزقة، كأنها ترتدي أقنعة متعددة لا تعرف أيها هو وجهها الحقيقي.
"في العمل، أنا المديرة الحازمة. في المنزل، أنا الزوجة المثالية. مع أصدقائي، أحاول أن أكون المرحة التي تملأ المكان بالحياة. لكن عندما أكون وحدي... أشعر وكأنني لا أملك شيئًا. كأن كل هذه الأدوار ليست أنا."
كانت كلماتها تحمل مرارة عميقة، وكأنها تحكي عن كائن غريب يحيا داخلها، يتنفس معها، لكنه يستهلكها ببطء.

الانعكاسات المكسورة

طلب الطبيب منها أن تحكي أكثر عن شعورها، كيف بدأت هذه الحالة، ومتى بدأت تشعر بالانفصال عن نفسها.
تذكرت لحظة بسيطة لكنها كانت البداية:
"كان ذلك قبل عامين. كنت أضع مكياجًا في المرآة قبل اجتماع عمل. وفجأة، شعرت أنني أنظر إلى شخص غريب. لم أتعرف على المرأة التي أمامي. وكأن المرآة كسرت، أو ربما أنا التي انكسرت."
كانت هذه اللحظة الشرارة الأولى. بعدها، أصبحت تشعر بهذا الانفصال في كل لحظة من حياتها. أثناء اللعب مع أطفالها، في أحاديثها مع زوجها، وحتى في اللحظات التي يجب أن تكون فيها سعيدة.
قالت: "أشعر كأنني أعيش في فيلم، لكنني لست البطلة. أنا مجرد متفرجة. أراقب حياتي وهي تمر أمامي دون أن أعيشها حقًا."

صوت الطفلة الضائعة

مع الوقت، بدأ الطبيب يغوص أعمق في قصتها. سألها عن طفولتها، عن اللحظات التي شكلتها، عن الأحلام التي تركتها خلفها.
كان الحديث عن الطفولة صعبًا على سلوى. لكنها اعترفت في النهاية بأنها كانت طفلة تبحث دائمًا عن القبول.
"كنت الابنة الكبرى. كان علي دائمًا أن أكون المسؤولة، المثالية. عندما كنت أرغب في شيء، كان علي أن أقنع نفسي أنه ليس مهمًا. كنت أضع الآخرين أولًا دائمًا. أعتقد أنني تعلمت أن أدفن رغباتي، أن أدفن نفسي."
سألها الطبيب: "هل تتذكرين شيئًا كنت تحبينه في طفولتك؟ شيئًا كان يجعلك تشعرين أنك أنتِ؟"
ابتسمت للمرة الأولى منذ بدء الجلسة، وقالت:
"كنت أحب الرسم. كنت أرسم لساعات. لم يكن هناك شيء يجعلني أكثر سعادة من إمساك فرشاة ورسم أي شيء يأتي إلى ذهني. لكنني توقفت عندما كنت في الخامسة عشرة. قيل لي إن الرسم لن يفيدني بشيء. وأنه يجب أن أركز على دراستي، على مستقبلي."
كان الحديث عن الرسم مثل استرجاع ظلٍ قديم لنفسها الحقيقية. ظلٌ اختفى لكنها لا تزال تتذكره.

الرماد والجذور

تحدث الطبيب عن الهوية كجذر شجرة. كيف أن الحياة تضيف إلينا أوراقًا وفروعًا، لكن الجذر يظل هناك، تحت الأرض، ينتظر من يغذيه.
لكن سلوى قاطعته وقالت بحدة غير متوقعة:
"وأنا جذوري محترقة. أشعر أنني رماد. كيف يمكن أن تنمو شجرة من رماد؟"
كان صوتها يحمل ألمًا عميقًا، وكأنها تقاوم فكرة الأمل بحد ذاتها.
لكنه لم يحاول أن يقنعها. بدلًا من ذلك، قال بهدوء:
"ربما لا تنمو الشجرة كما كانت من قبل. لكن الرماد يمكن أن يصبح أرضًا خصبة لشيء جديد."
كانت كلماته بسيطة، لكنها جعلتها تفكر. ماذا لو كان الرماد الذي تشعر به هو بداية لشيء آخر، وليس النهاية؟

النهاية المفتوحة

في الجلسات التالية، بدأ الطبيب وسلوى في استكشاف طرق لإعادة الاتصال بنفسها. كانت البداية صغيرة جدًا: خصصت عشر دقائق يوميًا للرسم.
قالت في إحدى الجلسات: "عندما أرسم، أشعر وكأنني أعود إلى نفسي. وكأنني أجد جزءًا صغيرًا مما فقدته."
لكن الطريق لم يكن مستقيمًا. كانت هناك لحظات من التقدم، ولحظات من الانتكاس.
في جلسة أخيرة قبل أن تأخذ استراحة من العلاج، قالت للطبيب:
"لا أقول إنني أصبحت بخير تمامًا. لكنني على الأقل أشعر أنني أقترب من شيء حقيقي. ربما لن أجد نفسي بالكامل. لكنني على الأقل لم أعد أخاف من البحث عنها."
عندما غادرت العيادة، كانت السماء تمطر بخفة. سارت تحت المطر دون مظلة، وابتسمت عندما شعرت بقطرات الماء تلمس وجهها.
هناك، تحت المطر، شعرت لأول مرة منذ سنوات طويلة بشيء يشبه الحرية.


الفصل الخامس: الصدى الأخير

الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، والمكتب يلفه صمت ثقيل لا يكسره سوى صوت عقارب الساعة. كان الطبيب جالسًا أمام أوراقه، يراجع ملاحظاته عن الجلسات السابقة، حين تلقى مكالمة طارئة من الشرطة. صوت متوتر على الجانب الآخر أبلغه بأن رجلاً حاول إلقاء نفسه من أعلى جسر المدينة، وأنهم تمكنوا من إنقاذه قبل السقوط، لكن الرجل لم ينطق بكلمة سوى اسم الطبيب.
بعد نصف ساعة، كان الطبيب في غرفة صغيرة بمستشفى الطوارئ. يجلس أمام علي، الرجل الأربعيني الذي بدا وكأنه يعيش على أطراف عالمين. وجهه نحيل، وجسده منحنٍ كأن ثقلاً غير مرئي يحمله.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يلتقي فيها علي بالطبيب. لقد كان مريضًا قديمًا توقف عن المجيء قبل عامين. لكن الآن، عاد وكأن الزمن قد طواه وجعله هشًا أكثر مما كان.

الفراغ الذي يبتلع

بعد دقائق من الصمت، رفع علي رأسه ونظر إلى الطبيب. عيناه غائمتان، كأنهما مرآتان لا تعكسان شيئًا. قال بصوت خافت:
"لم أكن أريد أن أموت، دكتور. لكنني أيضًا لا أستطيع أن أعيش."
توقف للحظة، ثم تابع:
"كل شيء أصبح فارغًا. الأشياء التي كنت أحبها... فقدت طعمها. الوجوه التي كنت أعرفها... أصبحت غريبة. حتى أنا... لا أعرف من أكون."
حكى علي عن شعوره وكأنه يعيش في ظل نفسه، وكأن حياته أصبحت سلسلة من اللحظات المتكررة بلا معنى. حاول أن يجد السعادة في العمل، في العائلة، في السفر، لكنه في كل مرة كان يعود إلى نفس النقطة: فراغ كبير يتوسط حياته، يمتص كل شيء.
"أتذكر حين كنت صغيرًا، كنت أستطيع أن أضحك بسهولة. كنت أستطيع أن أستمتع بأبسط الأشياء. لكن الآن... كل شيء ثقيل. وكأنني أعيش في صحراء لا تنتهي."

الصوت الذي لا يُسمع

سأل الطبيب علي عن اللحظة التي بدأ فيها هذا الشعور. متى بدأ الفراغ يسيطر؟
تردد علي قليلاً، ثم قال:
"لا أذكر بالضبط. ربما عندما توفي أبي. أو ربما قبل ذلك. لكنه كان هناك دائمًا، مثل صوت خافت في الخلفية. ثم بدأ يكبر تدريجيًا، حتى أصبح الصوت الوحيد الذي أسمعه."
تحدث عن والده، رجل صارم لكنه كان رمزًا للأمان في حياته. عندما مات، شعر علي وكأن الأرض تخلت عنه. حاول أن يملأ الفراغ الذي خلفه والده بالعمل، بالعلاقات، بأي شيء، لكنه لم ينجح.
قال بصوت أشبه بالاعتراف:
"أحيانًا أشعر أنني أصبحت مثل أبي. صارم، صامت، أتحرك من يوم لآخر بلا أي شعور. لكنني في الوقت نفسه أفتقده بشكل لا يمكن وصفه."

المرآة والظل

في الجلسات التالية، بدأ الطبيب يفتح الأبواب المغلقة في ذهن علي. تحدثوا عن طفولته، عن اللحظات التي شكّلته، عن الأدوار التي فرضت عليه دون أن يختارها.
تحدث علي عن صورة والده التي كانت تسيطر على حياته. كيف كان دائمًا يحاول أن يكون "الرجل المثالي" الذي أراده والده. لكنه في داخله، كان هناك طفل صغير يشعر بأنه غير كافٍ.
"كنت أبحث دائمًا عن رضاه. كنت أريد أن أسمع منه كلمة واحدة: أنا فخور بك. لكنه لم يقلها أبدًا. حتى عندما كنت أنجح في شيء، كان ينظر إلي وكأنني لم أفعل ما يكفي."
لكن الحديث لم يكن عن الأب فقط. بل عن صوت آخر، صوته الخاص، الذي ظل مكبوتًا طوال حياته.
قال الطبيب: "ربما ما تسمعه الآن، ذلك الصدى الذي يملأ فراغك، هو صوتك. صوتك الذي لم تسمح له بالخروج."

اللحظة المفتوحة

في إحدى الجلسات، طلب الطبيب من علي أن يكتب رسالة إلى والده، رسالة يقول فيها كل ما لم يستطع قوله.
أخذ علي الورقة والقلم، وظل جالسًا أمامهما لفترة طويلة. ثم بدأ يكتب.
عندما أنهى، قرأ الرسالة بصوت مرتعش:
"أبي، كنت أبحث عنك دائمًا. كنت أبحث عن صورتك في كل شيء. لكنني الآن أدرك أنني بحاجة إلى أن أبحث عن نفسي. أحبك، لكنني أحتاج إلى أن أعيش بعيدًا عن ظلك."
كانت الكلمات بسيطة، لكنها حملت ثقلًا كبيرًا.
في نهاية الجلسة، نظر علي إلى الطبيب وقال:
"لا أقول إنني بخير الآن. لكنني أشعر وكأنني بدأت أسمع صوتي. ربما يحتاج الأمر وقتًا، لكنني أريد أن أستمر."

النهاية الرمزية

بعد أشهر من العلاج، قرر علي أن يسافر إلى قريته القديمة، المكان الذي ولد فيه. كتب للطبيب بطاقة بريدية من هناك. لم تكن طويلة، لكنها كانت تحمل معنى عميقًا:
"عدت إلى المكان الذي بدأ فيه كل شيء. ولم أجد أبي. لكنني وجدتني."
ترك الطبيب البطاقة على مكتبه، وتأملها للحظات. لم يكن هناك شيء نهائي في القصة. لا تعافٍ كامل، ولا إجابة محددة. فقط خطوة صغيرة نحو صوت كان ضائعًا في الصدى.


الفصل السادس: الحلم الذي أكلته المدينة

كانت الغرفة ضيقة ومكدسة بالملفات، لكن الطبيب النفسي كان قد تعوّد على هذا النوع من الفوضى التي تعكس ثقل الأرواح التي تمر من هنا. في هذا اليوم تحديدًا، كان ينتظر فتاة تدعى لينا. لا يعرف عنها سوى أنها شابة في منتصف العشرينات أُحيلت إليه بعد حادثة غريبة، عندما بدأت تتجول في أحد شوارع المدينة المكتظة وهي ترتدي ثوب زفاف ممزقًا، وتردد كلمات غير مفهومة.
حين دخلت لينا إلى المكتب، بدا وجهها شاحبًا وعيناها هاربتين من شيء لم يره الطبيب بعد. جلسَت بصمت، لكنها لم تكن تنظر إلى الطبيب؛ عيناها كانتا ثابتتين على النافذة الصغيرة خلفه، كأنها تبحث عن مخرج أو معنى.
"لينا، هل ترغبين في الحديث اليوم؟"
صمتت لوهلة، ثم همست وكأنها تكلم نفسها: "هل تعتقد أن الأحلام يمكن أن تتحول إلى وحوش؟"

المدينة التي تبتلع الأرواح

بدأت لينا تسرد قصتها شيئًا فشيئًا، كمن يجمع فتات ذكرى متناثرة. كانت قد انتقلت إلى المدينة قبل عامين، هاربة من قريتها الصغيرة التي خانها الحلم فيها. قالت إنها جاءت إلى هنا حاملة قلبًا مليئًا بالأحلام الكبيرة: أن تصبح مصممة أزياء مشهورة، أن ترى اسمها على لافتات ضخمة، أن تغزو العالم بألوانها وأفكارها.
لكن المدينة لم تستقبلها كحاضنة للحلم، بل كوحش بارد. عملت لينا في وظيفة مملة كموظفة استقبال في مكتب صغير، وكانت كل يوم تمر بشوارع المدينة كمن يسير في متاهة. بدأت تشعر كأن الجدران تضيق حولها، وكأن ضجيج السيارات والأصوات الصاخبة يبتلع شيئًا من روحها يومًا بعد يوم.
"كنتُ أظن أن المدينة هي المفتاح، لكنها أصبحت القفص."
ثوب الزفاف والمرآة المكسورة
سألها الطبيب عن ثوب الزفاف، لماذا ارتدته في ذلك اليوم؟
نظرت إليه بارتباك، ثم ضحكت ضحكة باهتة: "كان حلمي الأخير."
بدأت تروي قصة حبها مع خالد، شاب التقت به في المدينة. كان خالد يشبهها في أحلامه، لكنه كان أكثر واقعية منها. تحدث عن مشروع صغير، عن بيت دافئ، عن حياة بسيطة. لكنها أرادت أن تحيا الحياة بأقصى ألوانها، أرادت كل شيء.
"كنت أحبه، لكنه كان دائمًا يقول لي إنني أعيش في عالم خيالي. ربما كان محقًا. عندما تركني، شعرت أنني فقدت شيئًا أكبر من الحب. فقدت ثقتي بنفسي. كان ثوب الزفاف رمزًا لكل شيء حلمت به، لكنه أصبح مجرد قطعة قماش لا معنى لها."

المدينة التي لا تنام

أخبرت لينا الطبيب عن الليالي التي قضتها تتجول بلا هدف، عن الأرصفة التي جلست عليها وهي تحاول تذكر لماذا جاءت إلى هنا. قالت إن المدينة كانت تسخر منها، تهمس لها في كل شارع: "ليس مكانك هنا. لن تنجحي."
"بدأت أسمع أصواتًا، دكتور. أصوات المدينة، كأنها تتحدث معي. كنت أسمعها تقول إنني مجرد فتاة عابرة، أنني لن أترك أثرًا هنا."

اللحظة التي انفجر فيها الحلم

سألها الطبيب عن اللحظة التي قررت فيها ارتداء ثوب الزفاف. قالت إنها كانت تمر بجانب واجهة محل قديم عندما رأت انعكاسها في الزجاج. لكنها لم تتعرف على نفسها. شعرت كأن الفتاة التي كانت تعرفها قد تلاشت تمامًا، وحلّت محلها نسخة باهتة وغريبة.
"أردت أن أستعيدها، أردت أن أذكّر نفسي بمن كنت. فتحت خزانة الملابس وأخرجت ثوب الزفاف الذي اشتريته قبل أن ألتقي بخالد. ارتديته ومشيت في الشارع. كنت أبحث عن شيء، أي شيء يربطني بي مجددًا."

النهايات المفتوحة

في الجلسات التالية، حاول الطبيب أن يساعد لينا على تفكيك علاقتها بالمدينة، بالأحلام، وبنفسها. لم يكن الأمر سهلًا؛ كانت المدينة في ذهنها كائنًا حيًا، كأنها عدو خفي لا يمكن الهروب منه.
في إحدى الجلسات، قال لها الطبيب:
"ربما لم تكن المشكلة في المدينة، بل في الحلم نفسه. ربما كان الحلم أكبر من أن يُحتوى في مكان واحد."
نظرت إليه لينا بصمت، ثم قالت:
"أحيانًا أفكر... ربما كان عليّ أن أحلم بشيء أصغر. شيء يمكنني الإمساك به."
لكن الطبيب لم يكن متأكدًا. لم يكن يريد أن يقنعها بتقليص أحلامها، بل أن تجد طريقًا جديدًا لتحقيقها.

الرسالة الأخيرة

بعد عدة أشهر، توقفت لينا عن الحضور. لم يعرف الطبيب إن كانت قد تركت المدينة أم وجدت طريقًا جديدًا. لكنه تلقى منها رسالة صغيرة، مكتوبة بخط يدها:
"المدينة لم تأكلني. لكنها لم تتركني أعيش فيها أيضًا. قررت أن أرحل. ليس هروبًا، بل بحثًا عن مكان آخر. ربما الحلم كان يحتاج إلى أرض أكثر هدوءًا لينمو."
قرأ الطبيب الرسالة أكثر من مرة، وتأمل الكلمات. لم تكن النهاية واضحة، لكنها كانت مليئة باحتمالات مفتوحة، كأن لينا كانت تقول إن الأحلام ليست ثابتة، وأنها تتحول كما تتحول الأرواح التي تحلم بها.


الفصل السابع: الظل الذي يمشي وحيدًا

في إحدى أمسيات الشتاء الثقيلة، عندما يختلط البرد بضباب يلف المدينة كوشاح غامض، دخل رجل إلى عيادة الطبيب النفسي. كان يبدو كأنه قادم من زمن آخر؛ مظهره مرتب بشكل دقيق، ومعطفه الطويل يتماشى مع حذاء لامع، لكنه يحمل على كتفيه هالة ثقيلة لا تخطئها العين.
عرّف نفسه باسم آدم. قال إنه يعمل محاسبًا في شركة كبرى، وإن حياته رتيبة ومنظمة إلى حد الاختناق. جلس على طرف الأريكة كأن المكان لا يتسع له، وسحب علبة سجائره ووضعها على الطاولة دون أن يشعل أي سيجارة.
"لست متأكدًا لماذا أنا هنا، دكتور. لكنني أشعر أن شيئًا ما بداخلي ينكسر ببطء."

الظل الذي لا يغادر

بدأت جلسات الطبيب مع آدم كأنها محاولة لفهم حياة خالية من أي تفاصيل خارجة عن المألوف. كان يوم آدم يبدأ وينتهي بالطريقة نفسها منذ سنوات طويلة. يذهب إلى العمل، يعود إلى شقته الصغيرة، يشاهد التلفاز، ثم يخلد إلى النوم.
"حياتي أشبه بساعة متوقفة. لا شيء يحدث. لكن في الوقت نفسه، أشعر أن هناك شيئًا معي دائمًا. ظل... لا أعرف كيف أصفه. لكنه يلاحقني."
تحدث آدم عن شعور غامض يرافقه منذ صغره، كأن هناك عينًا تراقبه أو وجودًا يتنفس قربه. لم يكن ظلًا مرئيًا، بل شعورًا داخليًا بالثقل، كأن شيئًا ما يعيق خطواته دون أن يعرف مصدره.

ذاكرة مكسورة

مع تقدم الجلسات، بدأ الطبيب يغوص في طفولة آدم. اكتشف أن آدم كان طفلًا هادئًا ومنطويًا، يعيش مع والدين صارمين لا يعترفان إلا بالإنجازات. كان والده رجلًا عسكريًا يضع النظام فوق كل شيء، ووالدته امرأة لا تُظهر عاطفتها إلا نادرًا.
"أتذكر دائمًا كيف كان والدي يعاقبني عندما أخطئ، حتى في أبسط الأمور. كان يقول لي إن الخطأ هو الطريق إلى الضعف، وإن الضعفاء لا مكان لهم في هذا العالم."
توقف آدم عن الكلام للحظة، ثم تابع:
"لكنني لا أتذكر أنه عانقني أبدًا. لا أتذكر أي لحظة جعلني أشعر أنني كافٍ كما أنا."
كانت طفولة آدم سلسلة من المحاولات لإرضاء الآخرين، ليكون الابن المثالي الذي لا يخطئ، الذي يتحرك داخل حدود مرسومة بدقة. لكنه في داخله، كان يشعر دائمًا بأنه محاصر.

المرآة المشروخة

في إحدى الجلسات، طلب الطبيب من آدم أن يتأمل نفسه في المرآة. أن يصف ما يراه.
نظر آدم إلى المرآة طويلًا، ثم قال:
"أرى رجلًا مجهولًا. أرى وجهًا يبدو مألوفًا، لكنه ليس أنا."
عندما سأل الطبيب ماذا يقصد، أوضح آدم أنه يشعر وكأن شخصيته الحقيقية مدفونة تحت طبقات من التوقعات والقيود. كأن الظل الذي يشعر به هو جزء من ذاته المنسية، الذات التي تم تكميمها وإخفاؤها تحت وطأة النظام والانضباط.
"أحيانًا أستيقظ في الليل وأسمع صوتًا في رأسي يقول لي: ’هذا ليس أنت.‘ لكنني لا أعرف من أنا."

اللحظة التي تشققت فيها الجدران

في إحدى الليالي، استيقظ آدم على صوت غريب في شقته. لم يكن هناك أحد، لكن الشعور بالظل كان أكثر حضورًا من أي وقت مضى. شعر بشيء داخله يتحطم، كأن الجدران التي بناها حول نفسه بدأت تنهار.
"كنت أرى طفلاً صغيرًا يقف في الزاوية. لم يكن خائفًا، لكنه كان ينظر إلي وكأنه ينتظر مني أن أقول له شيئًا. ثم اختفى."
كان هذا الطفل، كما أدرك آدم لاحقًا، هو ذاته القديمة، النسخة التي حاول أن يدفنها لسنوات.

البحث عن الظل

في الجلسات التالية، بدأ الطبيب يساعد آدم على إعادة بناء علاقته مع نفسه. لم يكن الأمر سهلًا؛ كان كل تقدم صغير يقابله مقاومة داخلية قوية. لكن شيئًا ما بدأ يتغير.
في إحدى الجلسات، قال آدم للطبيب:
"ربما الظل الذي كنت أهرب منه لم يكن عدوي. ربما كان دليلًا. ربما كان يحاول أن يقودني إلى شيء ضائع."

النهاية المفتوحة

في نهاية رحلة العلاج، قرر آدم أن يأخذ إجازة طويلة من عمله وأن يسافر إلى مكان بعيد، مكان لا يعرف فيه أحد. أراد أن يعيد اكتشاف نفسه بعيدًا عن التوقعات والقيود.
ترك للطبيب رسالة قبل أن يغادر. كانت مكتوبة بعناية، كأنها محاولة لترتيب أفكاره:
"طوال حياتي كنت أبحث عن النور، لكنني أدركت الآن أن النور والظل ليسا أعداء. كلاهما جزء مني. وربما، فقط ربما، أستطيع أن أعيش بينهما."
قرأ الطبيب الرسالة ببطء، ثم أعاد طيها ووضعها في درج مكتبه. لم يكن يعلم ما إذا كان آدم قد وجد الإجابات التي يبحث عنها، لكنه شعر أن رحلته كانت بداية لفهم أعمق. الظل الذي كان يخشاه لم يكن سوى مرآة تعكس جزءًا من روحه، جزءًا كان ينتظر أن يُرى.


الفصل الثامن: النافذة المغلقة

ذات صباح رمادي، تسللت إلى عيادة الطبيب فتاة نحيلة، ترتدي معطفًا رماديًا متآكل الأطراف كأنها تستعير وجودها من الغبار. كانت تنظر حولها بارتباك، تتفحص المكان كأنها تخشى أن تترك فيه أثرًا. جلست بصمت، تشابكت أصابعها فوق ركبتيها، وبدأت تخفض رأسها كمن يخشى أن تُكشف ملامحه.
"اسمي ندى،" قالت أخيرًا بصوت بالكاد يسمع. "لكنني لست متأكدة إن كان هذا يعني شيئًا."
نظر إليها الطبيب بصبر، منتظرًا أن تفتح الأبواب التي أغلقتها على نفسها. لكن كلماتها جاءت متقطعة، كأنها تخشى أن تفلت منها الحقيقة فتغرقها.

العالم خلف الزجاج

ندى، في الثالثة والعشرين من عمرها، تقضي أيامها في غرفة صغيرة تطل على شارع مزدحم. كانت تجلس لساعات طويلة على كرسي قرب نافذتها المغلقة، تراقب العالم من خلف الزجاج.
"لا أفتح النافذة أبدًا. هناك شيء مخيف في الخارج. شيء لا أستطيع تسميته، لكنه يربكني."
حكت للطبيب عن عالمها المحدود: غرفة كأنها صندوق مغلق، نافذة كأنها عين مراقبة، وسرير لا يغادره النعاس إلا نادرًا. كانت حياتها تتشكل من مراقبة الآخرين دون أن تكون جزءًا منهم.
"أرى الناس يمشون. يضحكون. يركضون تحت المطر. أحيانًا أريد أن أفتح النافذة وأصرخ، لكنني لا أعرف ماذا أقول."

الزائر الصامت

مع كل جلسة، بدا أن ندى تخوض معركة غير مرئية. حكت عن حلم متكرر يزورها فيه رجل مجهول الوجه، يرتدي عباءة سوداء، ويقف قرب نافذتها المغلقة. كان ينظر إليها بصمت دون أن يطرق الزجاج أو يحاول الدخول.
"لا أفهم ماذا يريد. لكنه يجعلني أشعر بالخوف... وبالحزن أيضًا."
كان هذا الزائر، كما فسر الطبيب، رمزًا لوحدة عميقة تسكن ندى. لكنه لم يخبرها بذلك. أدرك أن الحكاية يجب أن تكتمل على وتيرتها الخاصة.

القصة غير المكتملة

مع الوقت، بدأ الطبيب يفهم أن ندى كانت تعيش في خوف دائم من المواجهة. قالت له مرة:
"الحياة مثل كتاب مليء بالفصول، لكنني لا أجرؤ على كتابة شيء. أخشى أن أرتكب خطأً، أن أكتب جملة غير صحيحة، فأصبح أسيرة لحكاية لا أستطيع تغييرها."
كانت ترى الحياة كنافذة مغلقة، تخشى فتحها خشية أن تقتحمها الفوضى أو أن تحملها الرياح بعيدًا.

الأيام التي لا تنتهي

في إحدى الجلسات، سألها الطبيب:
"كيف تمضين أيامك؟"
"أراقب الساعة. أحيانًا أحسب الثواني. هناك شيء مطمئن في التكرار، لكنه يجعلني أشعر بالفراغ أيضًا."
أدرك الطبيب أن ندى كانت تعاني من اضطراب عميق في علاقتها بالزمن. كان الماضي كظل ثقيل يطاردها، والمستقبل كصحراء ممتدة لا ترى لها نهاية.

اللحظة التي تشققت فيها النافذة

ذات ليلة، بينما كانت ندى تجلس قرب نافذتها المغلقة، سمعت صوت ارتطام خفيف. كان طائرًا صغيرًا يحاول الدخول. بقي يحوم حول الزجاج، يضربه بجناحيه مرة بعد أخرى، ثم اختفى في الظلام.
"شعرت بشيء غريب،" قالت للطبيب في الجلسة التالية. "كأنني أنا هذا الطائر. كأنني أضرب جناحيّ بلا جدوى."
لأول مرة منذ سنوات، مدت يدها نحو النافذة، لكنها لم تفتحها. تركت أصابعها تلامس الزجاج البارد، وكأنها تبحث عن شقوق صغيرة قد تعبر من خلالها.

الأسئلة التي بلا إجابة

مع استمرار الجلسات، بدأت ندى تطرح أسئلة على نفسها.
"ماذا لو فتحت النافذة؟ ماذا لو سقطت؟ ماذا لو اكتشفت أنني لا أعرف كيف أطير؟"
لكنها لم تجد إجابات. الأسئلة بقيت كضوء خافت ينير زاوية مظلمة من روحها، كإشارة إلى أن الطريق لم يُغلق بعد.

النهاية المفتوحة

في آخر جلسة لها مع الطبيب، قالت ندى بصوت أكثر ثباتًا:
"لا أعرف متى سأفتح النافذة، لكنني أعتقد أنني سأفعل ذلك يومًا ما. ربما ليس اليوم. وربما ليس غدًا. لكنني أريد أن أرى العالم دون زجاج بيننا."
غادرت ندى العيادة تلك الليلة وهي تحمل شعورًا غريبًا، مزيجًا من الخوف والأمل. لم تكن متأكدة من الخطوة التالية، لكنها بدأت تدرك أن النافذة المغلقة لم تكن سوى انعكاس لروحها، وأنها الوحيدة التي تملك المفتاح.
جلس الطبيب في مكتبه، يفكر في ندى. لم يكن يعلم إن كانت ستفتح النافذة يومًا، لكن فكرة أنها بدأت ترى الظلال كجزء من الضوء كانت كافية لتمنحه الأمل في أنها ستجد طريقها، بطريقتها الخاصة.


الفصل التاسع: الطائر الذي لا يعرف العودة

في أحد الأيام، جاء إلى العيادة رجل لم يكن يشبه أي شخص آخر. كان وجهه يحمل علامات الزمن، لكن في عينيه كانت هناك غربة، وحزن عميق متراكم على شكل غيوم لا تهطل أبدًا. كان يرتدي سترة رمادية داكنة، يتنقل بها كما لو أنها جزء من جسده، كأنها طيفه الذي لا ينفصل عنه.
قال اسمه "سامي"، لكن لا أحد كان يعرف من هو حقًا. لا أحد يعرف لماذا أتى إلى هذه العيادة، أو حتى لماذا كانت ملامحه غريبة إلى هذا الحد. كان حديثه مختصرًا، كلامه مليئًا بالفراغات. لكنه كان يبتسم بطريقة غريبة، ابتسامة لا تُعبر عن الفرح أو الحزن، بل عن حالة من اللامبالاة الجمالية.

الطائر في القفص

جلس سامي على الأريكة، وقال بصوت هادئ:
"أشعر أنني طائر في قفص ضيق. لا أستطيع الهروب، لكنني لا أريد الهروب أيضًا. لكنني أيضًا لا أعرف لماذا أنا هنا."
لم يكن كلامه واضحًا. كان يبدو أن كل كلمة تحمل معاني مختلفة في أبعادها الخاصة، وكأن اللغة نفسها لا يمكنها حمل ثقل مشاعره.
سأله الطبيب:
"ماذا يعني لك أن تكون طائرًا في قفص؟"
أجاب سامي، بينما كانت عيناه تبتعدان عن الطبيب:
"أعني أنني أعيش في مكان مغلق. أنني هنا، لكنني لا أستطيع التنفس كما ينبغي. حياتي أصبحت مجرد ظل لحياة أخرى، كأنني أراقبها من بعيد."
كان حديثه متقطّعًا، وكأن كل جزء من حياته كان بعيدًا عن الآخر، عالقًا في أفق لا نهائي. شعر الطبيب أن سامي لا يبحث عن حل، بل عن فهم لما يحدث داخل ذاته، وهذا الفهم كان مفقودًا منذ زمن بعيد.

الرحلة التي انتهت قبل أن تبدأ

في الجلسات التالية، بدأ سامي يروي قصته. لقد كان طفلًا عاش في قريته الصغيرة بعيدًا عن العالم. لكن تلك الحياة التي كان يراها من خلال نافذة حجرية قديمة، لم تكن كافية له. كان يريد أن يطير، أن يغادر، أن يبتعد عن هذه الحدود الضيقة.
لكنه لم يعرف إلى أين يذهب. كان دائمًا يشعر أنه لا يملك وجهة، وأنه كلما ابتعد عن ماضيه، زاد ضياعه.
"لقد هربت، ولكنني وصلت إلى مكان آخر مغلق،" قال سامي ذات يوم. "كنت أظن أن الهروب يعني الحرية، لكنني اكتشفت أنني كنت أهرب من نفسي فقط."

الضياع في الزمن

لقد ناضل سامي مع الزمن طوال حياته. لم يعرف إن كان هو الذي يمر، أم أن الزمن هو الذي يمر به. وكلما تقدم، كانت الأيام تتحول إلى بعض الأشياء المعلقة في الهواء، كخيوط العنكبوت التي يراها في صباحات شتوية باردة.
قال سامي:
"أشعر وكأنني أعيش بين الماضي والمستقبل، لكنني لا أستطيع أن ألتقي بأي منهما. هما دائمًا بعيدان عني، وأحاول الركض نحوهما، لكن كل خطوة تجعلني أكثر بعدًا."
كان الزمن بالنسبة له شيء غير قابل للامتلاك، يشبه الرياح التي لا يمكن الإمساك بها. لم يكن هناك لحظة في حياته يشعر فيها أن الزمن يسير كما ينبغي، أو أن له مكانًا داخل هذا العالم الذي لا يعرفه تمامًا.

السراب الذي يلاحقه

ذات يوم، بينما كان يجلس مع الطبيب، بدأ سامي يتحدث عن "السراب" الذي يلاحقه. كان السراب بالنسبة له صورة مستمرة لما يعتقد أنه يجب أن يكون عليه، لكنه لم يستطع أبدًا أن يحقق هذا الكمال. كان السراب يلوح أمامه في كل زاوية، في كل قرار، وفي كل بداية جديدة يراها.
"أظن أنني طائر يلاحق سرابًا،" قال سامي، بينما كان يحدق في الفراغ. "لكنني لا أستطيع التوقف، لأنني إذا توقفت، سأفقد الهدف. لكنني أيضًا لا أستطيع الوصول إليه."
كان يتحدث عن هدف غير موجود، وركض مستمر نحو شيء غير قابل للتحقيق. لكن هذا الركض كان يشكل جوهر حياته، وكان الفراغ هو ما يبقيه على قيد الحياة.

الأسطورة الخاصة به

سأله الطبيب يومًا:
"إذا كنت تشعر أنك طائر في قفص، فما الذي سيحررك؟"
نظر إليه سامي بتمعن، ثم ابتسم ابتسامة مشبعة بالحزن:
"ربما فقط أن أجد نفسي في مكان لا يتوقع مني أحد أن أكون فيه. ربما لو توقفت عن الركض، وقررت أن أكون فقط أنا، دون أي هدف أو معنى، ربما سأكون حرًا."
لكن سامي لم يصدق تمامًا ما قاله. كان يعلم أن الخوف من التوقف أكبر من رغبته في الوصول. كان يعلم أن الهروب من ذاته هو نفسه ما يبقيه على قيد الحياة.

النهاية التي لا تعرف حدودًا

في آخر جلسة له، قال سامي وهو يقف ليغادر العيادة:
"لا أعتقد أنني سأعود. أنا مثل الطائر الذي لا يعرف العودة. لكنني سأستمر في الطيران، حتى لو كنت أركض وراء سراب."
لم يعرف الطبيب إن كان هذا الوداع حقيقيًا أم مجرد فصل آخر من حياة سامي الذي لا يمكنه التخلي عن خيوط السراب التي تمسك بها. لكن الحقيقة التي كانت ظاهرة أمامه هي أن سامي كان يبحث عن شيء لا يمكن لأي أحد أن يراه سوى هو، في مكان بعيد لا يوجد فيه إلا ظلاله وأفكاره.
غادر سامي العيادة، تاركًا وراءه هذا السؤال العميق: هل الطائر الذي لا يعرف العودة يطير إلى الحرية، أم يطير إلى المزيد من القيود؟



الفصل العاشر: الأصداء التي لا تموت

دخلت فاطمة إلى العيادة بهدوء، كأنها تتسلل عبر الزمان والمكان. كانت متوسطة العمر، وجهها لم يعكس آثار السنوات بقدر ما كان يحمل شيئًا غير مرئي، شيء غير مألوف في ملامحها، وكأنها تتحدث بلغة غير مرئية. جلسَت على الكرسي، وجلستْ عيناها ثابتتين، مطبقة على مساحة ما بين الحائط والنافذة، كما لو أنها تبحث عن شيء عابر في الهواء، أو أن هناك نقطة في الزمان تستحق أن تُستعاد.
"أنا هنا، ولكنني لا أستطيع أن أكون هنا." قالت، بنبرةٍ دافئة، لكن متعبة.
ظن الطبيب في البداية أنها تمزح، لكنه أدرك أن هذه الجملة هي مقدمة لرحلة أعمق. رحلتها لم تكن عادية، بل كانت رحلة في أعماق المكان والزمان، في الخفاء الذي كان يلازمها مثل ظل لا يفارق. لم تكن تخاف، لكن خوفها كان ذا طبيعة غير مألوفة، خوفًا غير موجه لشيء معين، بل كان ينبع من أشياء غير مرئية.

الزمن بين يديها

فاطمة لم تكن تعرف متى بدأ ذلك الشعور الذي لم ينتهِ، شعور بأنها على حافة شيء ما، على الحافة بين الحلم والواقع. كانت حياتها كأنها سلسلة من اللحظات التي تتقاطع، لكنها لا تكتمل أبدًا. "كل شيء في حياتي كان غير مكتمل،" قالت، "حتى اللحظات التي عشتها كانت مبعثرة مثل خيوط غير مرئية."
الطبيب كان يحاول استيعاب كلماتها، لكنه كان يشعر أنه يواجه شيئًا مختلفًا، شيئًا أكبر من أن يُفهم بسهولة. كانت كلماتها مجرد إشارات ضبابية في بحر لا نهائي، وكأنها تروي قصة لا يمكن لها أن تكتمل أبداً.
"أين تكونين عندما لا تكونين هنا؟" سألها الطبيب بعد لحظة من الصمت، وكأن السؤال كان يشق الطريق إلى أعماقها.
فاطمة هزت رأسها بخفة، وعينيها كانتا متجهتين نحو نقطة ما في الفراغ. "أجد نفسي في أماكن لا أعرف كيف وصلت إليها. وفي لحظات، أشعر أنني لا أملك أي ذاكرة عن نفسي. أبحث عن شيء لكنني لا أستطيع أن أمسك به."

الرغبة في الزمان الضائع

بدأت فاطمة تروي قصة قديمة، عن طفولتها التي كانت مليئة بالمسافات الغائبة، كانت تحب الجلوس في زوايا المنزل المظلمة، حيث لا يستطيع أحد أن يراها. كانت تحب الأماكن الضبابية، تلك التي لا تسأل فيها أسئلة. تقول: "كنت في تلك الأماكن وحدي، وحين أعود إلى الضوء، أجد أنني فقدت شيء ما. شعور بأنني كنت أعيش هناك، في تلك الزوايا، أكثر من أي مكان آخر."
لم تستطع فاطمة أن تشرح بوضوح ما الذي كانت تبحث عنه هناك، لكنها كانت تعرف أنها تبحث عن شيء لا وجود له في عالم الواقع. كانت مشاعرها تتلاشى في الزمن، تتناثر وتنسحب ببطء، لكن في عمقها كان شيء ما يقاوم النسيان.

الألم الخفي

هل تشعرين بالألم؟ سألها الطبيب.
ابتسمت فاطمة ابتسامةً مشحونة بالمرارة، وقالت: "الألم ليس ما أشعر به. أنا لا أستطيع أن أصفه بالألم، بل هو شعور غريب، شعور بأنني في حالة من العدم، في حالة من الفراغ الذي لا يملأه شيء."
لكن ما لم تقله كان أكبر من الكلمات. في أعماق فاطمة، كان هناك نزيف غير مرئي. كان هناك شيء اختفى منذ زمن بعيد، شيء تركها في حالة من الشك والتشتت، وكأنها كانت تُركت في مكان ما بين الذاكرة والنسيان.

أصداء الماضي

عندما كانت فاطمة صغيرة، كانت تحب الجلوس مع جدتها. كانت الجدة تحمل لها حكايات لا تنتهي عن الماضي، عن أماكن بعيدة عن هذا الزمن. لكن مع مرور الوقت، شعرت فاطمة أن تلك الحكايات كانت تبتعد عنها شيئًا فشيئًا. كما لو أن الجدة كانت تحكي عن مكان لا يمكنها الوصول إليه، عن زمن لا يتواجد سوى في كلمة أو في صورة ضبابية.
"أعتقد أنني فقدت الماضي." قالت فاطمة ذات مرة في جلسة، "لا أستطيع تذكره كما كان، هو مجرد أصداء تتلاشى، ومع كل مرة أعود فيها إلى تلك الذكريات، أجد أنني فقدت شيئًا أكثر."

الزمن الذي لا يعود

تلك الذكريات كانت تتقاطع مع الحاضر، لكنها كانت دائمًا تنكسر عند حافة الوعي. كانت فاطمة تشعر بأن كل لحظة عاشتها في الماضي قد تم مسحها بطبقة من ضباب لا يمكن محوه، وأن الزمن الذي كان قد انقضى قد عاد إليها بشكل متقطع، مثل ومضات ضوء على سطح ماء عكر.
"متى بدأ شعورك بهذا الضياع؟" سألها الطبيب.
أجابته فاطمة بصوت خافت، كما لو أنها تتحدث عن شيء لا يستطيع أحد أن يفهمه: "عندما تركني الماضي. شعرت أنني أعيش في مكان يتواجد بين الزمنين، بين الوقت الذي مضى والذي لم يأت بعد. لكنني لا أستطيع أن أقول متى كان ذلك، لأن الزمن نفسه أصبح شيئًا غير واقعي بالنسبة لي."

الرحلة المفقودة

بينما كانت الجلسات تتوالى، بدأ الطبيب يشعر أنه يواجه لغزًا معقدًا، مع طيف من الماضي يرفض أن ينقشع. كان لدى فاطمة رغبة عميقة في العودة إلى شيء قديم، شيء بعيد عن الوقت الذي تعيش فيه. كانت الحياة بالنسبة لها كأنها سفينة لا تعرف أين سترسو، ولكنها تبحر باستمرار في البحر اللامتناهي.
وفي يوم من الأيام، بينما كانت فاطمة تغادر العيادة، التفتت إلى الطبيب وقالت:
"أظن أنني سأظل دائمًا في المكان الذي لا يمكنني الوصول إليه، في الزمن الذي لا يعود. ولكنني لا أستطيع أن أتوقف عن البحث، حتى لو كنت أعرف أنني أبحث عن شيء لا أستطيع الوصول إليه."
وعندما غادرت، شعر الطبيب أن كلماتها لم تكن مجرد كلام، بل كانت أصداء تتردد في الفراغ، مثل خطوات لا عودة لها. كانت الكلمات تترك أثرًا لا يمحى، وكانت فاطمة قد اختارت أن تظل في تلك الرحلة التي لا تكتمل.


الفصل الأخير: الانكسار والتموج

كانت العيادة تغمرها أضواء مصطنعة خافتة، ينعكس الضوء على الجدران كما لو أن الزمن نفسه قد تحوّل إلى أفق غير مرئي. ساعات اليوم تمشي ببطء غريب، وقد كان الطبيب يشعر بذلك التأثير الغريب. كل شيء كان ساكنًا، حتى الهواء كان يبدو مترددًا في قراره. وكانت الكراسي في غرفة الانتظار كأنها شاهدة صمت عميق، لا تُحدث سوى القليل من الحركة عندما يمر أحدهم، مثل الزهور التي تسقط بتردد في الرياح الخفيفة. لكن هنا، في قلب هذه العيادة، كان كل شيء بعيدًا عن السكون، كان كل شيء يحمل معه عبء حركة لا تُرى.
في زوايا الغرفة، هناك تلك الجدران المكللة بالتجارب، وجوه مختلفة تُشاهد بانتظام، قصص تُكتب ثم تُحرق ثم تُكتب من جديد، كأن كل زيارة هي صفحة جديدة تُضاف إلى كتاب مفتوح من دون عنوان. كان الطبيب يجلس وراء مكتبه، نظراته تنزلق على الأوراق، لكنه لم يكن يقرأ، لم يكن يتابع العلاج الروتيني الذي يقدمه. كان يشعر بنظراته تتخلى عن الورق ليغرق في بحار من الأسئلة التي كان يخشى أن يطرحها لنفسه.

الزمن بين الوهم والواقع

وكان يلاحظ شيئًا آخر، شيئًا لم يعد يستطيع تجاهله: إن المرضى لم يكونوا مجرد أشخاص جاؤوا له بهدف العلاج، بل كانوا مرآة حية لعالمه الداخلي. فكل مريض كان يحكي له حكايته، لكنها لم تكن مجرد حكاية فردية. كانت قصصًا مترابطة، تُسجل على جدران هذا العالم المظلم الذي لا يكاد يرى نهايته. كان يشعر وكأنهم جميعًا، بمختلف قصصهم وأزماتهم، يعيشون في نفس الفضاء، يتنفسون نفس الهواء، يشاركون نفس الأسئلة التي تبحث عن إجابات.
كان هذا العالم الذي يحمل المرضى والحكايات يتشكل أمامه كلوحة فنية معقدة، تفاصيلها تختلط ما بين الضوء والظلام، بين الأمل واليأس، وبين الصراعات التي لا تنتهي. وفي هذا الفراغ الغريب، كان الطبيب يشعر بنوع من الانجذاب للمجهول. هل كانت حياته، كما حياة هؤلاء المرضى، محكومة بشروطٍ لا يستطيع الهروب منها؟ هل كانت أسئلته الخاصة تجذبه نحو تلك الحواف المظلمة التي يراها فيهم؟

خيوط الوجود المعقدة

كانت فاطمة، مثلما عرفها، واحدة من أكثر الحالات التي تركت في نفسه أثرًا عميقًا. لم تكن تعاني من شيء محدد، ولا يمكن وصف حالتها بشكل دقيق. كانت مجرد شعور، شعور دائم بالضياع، وكأنها تتنقل في عالم من غير جذور. كانت ترى في حياتها سلسلة من الدوائر المفرغة التي لا نهاية لها، محاطة دائمًا بالخيبات، بالمشاعر المفقودة، والمواقف التي لم تكتمل. لا تستطيع أن تلمس الحقيقة في حياتها، ولا حتى في خيالها.
وفي كل مرة كانت تجلس فيها أمامه، كانت كلماتها تنساب كحبات رمل تتساقط على الطاولة، تتناثر، ثم تتلاشى. كان الطبيب يعلم أن علاجها لن يكون مجرد تحديد تشخيص أو تقديم دواء. كان يعلم أن ما تحتاج إليه فاطمة هو أكثر من مجرد علاج نفسي؛ كانت بحاجة إلى إيجاد نفسها، لكنها لم تكن تعلم كيف. كانت بحاجة إلى تعلم كيف تعيش في هذا العالم، كيف تعثر على طريقها وسط الزحام.

اللعب مع الذكريات

أما سامي، فكان يواجه شيئًا آخر. كان يشبه فاطمة في كونه غارقًا في دوامة لا يستطيع الخروج منها. لكن سامي لم يكن يهرب من نفسه فقط، بل كان يهرب من الزمن نفسه. كان يرى أن حياته تتغير أمام عينيه، لكنه لم يكن يشارك في هذا التغيير. كان يمضي أيامه في مكان ما بين الماضي والمستقبل، كمن يعيش في معركة مستمرة بين ما كان عليه وما كان يمكن أن يكون. كانت ذاكرته الممزقة تتنقل بين اللحظات السعيدة التي مرّت، والتي لم يكن قادرًا على استعادتها، وبين الكوابيس التي بدأت تلتهم يقظته.
كان الطبيب يلاحظ، كل مرة، أن سامي كان يأتي إليه وهو يحمل جروحًا قديمة، جروحًا لا تلتئم، حتى لو مر وقت طويل. كان يعترف له أحيانًا بأن الألم الذي يشعر به لم يكن مجرد ألم جسدي، بل كان ألمًا عاطفيًا مُتجذرًا، كان عبارة عن زهور نمت في الظلام، تحمل بذورًا غير مرئية تنتظر الوقت المناسب لتتفتح. كان سامي يحاول أن يجد طريقة للتصالح مع تلك الجروح، لكنه كان في نفس الوقت يخشى الاقتراب منها، يخشى أن تفتح في نفسه أبوابًا لا يستطيع إغلاقها.

التموجات الخفية للروح

كان الطبيب قد بدأ يشعر بشيء غريب: كأن الحياة تتشكل من تموجات غير مرئية، كأن كل مريض كان يواجه تحدياته الخاصة، لكن هذه التحديات كانت تحمل في طياتها توترات نفسية عميقة، مشاعر غير مكتملة، ورغبات دفينة لا تجرؤ على الظهور. كان يشعر بأن كل واحد منهم كان يعكس جوانب متعددة من الحقيقة، جوانب تمحوها الأيام ثم تترك وراءها أثرًا دائمًا.
كانت رنا، مثل غيرها، تحمل همومًا في أعماقها لا تجد لها تفسيرًا. كانت تتساءل، في كل مرة، عن هويتها، عن مستقبلها، وعن معنى كل تلك الصراعات التي تشهدها. كانت تشعر أن حياتها قد أضاعت فرصًا كثيرة، وأن الزمن كان يتنكر لها، يمر دون أن تقدر على اللحاق به. كانت تسعى إلى الهروب من الماضي، ولكن الماضي كان يلاحقها في كل خطوة. كما لو أن لا شيء يمكنه أن يحررها من نفسها.
كانت كلمات الطبيب تطوف في فمها، ولكنها لم تكن تشعر بها. لم تكن تلك الكلمات قادرة على أن تعيد لها التوازن الذي تبحث عنه. كانت في حالة من التمزق المستمر، بين رغبتها في أن تكون أكثر قوة، وبين خوفها من المواجهة.

الصراع الأبدي مع الذات

لكن في النهاية، كانت الحقيقة أن الجميع، في هذا الغمر، في هذه العيادة، كانوا يعيشون في عالم مشترك، ولكنهم لا يستطيعون التواصل بشكل حقيقي. كانوا جميعًا يحاولون أن يتجاوزوا ظلال أنفسهم، كانوا يحاولون فهم العالم ولكنهم لا يستطيعون إدراكه بشكل كامل. كانت الأسئلة تنمو في كل زاوية، ولا توجد إجابة واحدة شافية. الجميع يحاول الهروب من الألم، لكن الألم لا يختفي؛ بل يزداد تعقيدًا.
كانت الحياة تمضي في حركتها الدائمة، والأطباء، والمرضى، والجميع، كانوا يتأرجحون في تلك الحركات التي لا تنتهي. كانوا جميعًا عالقين في دائرة كبيرة، وكلما حاول أحدهم الهروب، كانت الدائرة تلتف حوله أكثر.
وفي تلك اللحظة، حيث كان كل شيء يصل إلى ذروته، فكّر الطبيب في حياته. هل كانت حياته هي أيضًا مجرد تموجات؟ هل كان هو نفسه أحد أولئك المرضى الذين جاءوا ليبحثوا عن العلاج ولكنهم لا يستطيعون شفاء أنفسهم؟

نهاية غير مكتملة

كما ابتسم وهو يغلق دفتر الملاحظات أمامه، شعر بشيء غريب: كانت الحياة، بكل تعقيداتها وألغازها، بحاجة إلى أن تظل كما هي. لا يمكن لأحد أن يقدم حلاً نهائيًا، لأن الحل نفسه كان يكمن في السؤال. كما لو أن كل إجابة جديدة هي مجرد باب يفتح على مزيد من الأسئلة.
وهكذا، انتهى اليوم، لكن لم تنتهِ الأسئلة. كان الطبيب يغلق عينيه كما لو كان يود أن يغفو في عالم غير مرئي، حيث تلتقي التموجات، وتتشابك الأوجاع، وتستمر الحياة في البحث عن معانٍ جديدة. وفي النهاية، كان يعرف أن لا شيء سينتهي، بل سيستمر، كما هو الحال مع الجميع، إلى الأبد.

‏‎في تلك اللحظة التي أوشكت فيها الأسئلة أن تبتلع أفكاره، نظر الطبيب إلى الخارج عبر النافذة التي تعلو مكتبه. المطر كان يهطل بهدوء، قطرات صغيرة تتساقط كما لو أنها تهمس بقصص لم تُحكَ. كانت الغرفة مغمورة بضوء خافت، وبدا كأن الزمان يتلاشى بين الحاضر والماضي. لكنه قرر أخيرًا أن يكتب شيئًا لم يكتبه من قبل، أن يضع نفسه في القصة التي كان يهرب منها طوال حياته المهنية.
‏‎مد يده إلى دفتر ملاحظاته، وكتب اسمه للمرة الأولى: "د. يوسف العريان". كان هذا الاسم الذي ظل مختبئًا، يتردد في أروقة عقله كما تتردد الخطوات في ممرات العيادة. لم يكن الأمر مجرد تسجيل لاسمه؛ بل كان إعلانًا داخليًا، اعترافًا بأنه، مثل المرضى الذين يأتيهم، كان يبحث عن شيء ما، عن معنى لا يقدر على الإمساك به.

لحظة الانعكاس
‏‎
بينما كان ينظر إلى دفتر الملاحظات الذي حمل اسمه، شعر بشيء غريب. كأن العالم قد انقسم إلى قسمين: قسم يعكس حقيقته كطبيب، وقسم آخر يعكس إنسانيته التي لطالما خبأها وراء الجدران البيضاء للعيادة. أدرك أن كل كلمة خطها على هذه الصفحات لم تكن مجرد تسجيل لحالات مرضى؛ بل كانت انعكاسًا لنفسه المكسورة، التي تبحث عن إجابات مثلهم تمامًا.
‏‎نهض من مقعده وتوجه نحو لوحة قديمة معلّقة على الحائط، لوحة كان قد اشتراها منذ سنوات ولم يفهم سبب انجذابه لها. كانت اللوحة تمثل بحيرة ساكنة، على سطحها دوائر صغيرة تتشكل من سقوط قطرات مطر. لم يلاحظ من قبل أن كل دائرة، مهما بدت معزولة، كانت تلتقي مع دوائر أخرى، لتخلق شبكة معقدة من التموجات.
‏‎
تمتم يوسف لنفسه:
"ربما نحن جميعًا تلك التموجات. ربما كل ألم وكل سؤال يترك أثراً لا يراه أحد، لكنه يتداخل مع آلام وأسئلة الآخرين. ربما الحل ليس في الإجابة، بل في الاستماع إلى صدى السؤال داخلنا."

دائرة متصلة
‏‎
جلس يوسف مرة أخرى، ولكنه هذه المرة لم يكن يشعر بالعبء ذاته. كان يدرك أن دوره كطبيب لا يعني أنه يمتلك الحلول، بل يعني أنه مرآة، يعكس من خلالها المرضى ظلال أرواحهم، بينما يعكسون له حقيقة نفسه.
‏‎ومع نهاية اليوم، كتب على الغلاف الداخلي لدفتر ملاحظاته جملة وحيدة، جملة أراد أن تبقى شاهدة على هذه اللحظة التي قرر فيها مواجهة تموجات حياته:
"الحياة ليست حلقة مغلقة، بل سلسلة من الانكسارات التي تنسج تموجاتها معًا. وفي هذا النسيج، نوجد."
‏‎ثم أغلق الدفتر، وكأن إغلاقه كان إعلانًا عن بداية جديدة، ليس فقط لمرضاه، بل له أيضًا.



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعب السوري بين أفق الجولاني والتحدي الإسرائيلي
- أنشودة للمهاجر الغريب
- مراثي النسيان
- اليمن: مقاومة المبدأ في وجه العالم
- حين يصبح القلب باباً
- خيبة الضوء ووشوشة الظلال
- عودة المجد
- في طيات الأنفاس
- سهم باشان: بين الرمزية التوراتية وعقدة القوة
- اضطراب ما بعد الصدمة: قراءة في سياق الانهيار السياسي والاجتم ...
- الخيال والواقع في العالم الافتراضي: نظرة فلسفية
- أطياف الرحيل
- تأثير النيوليبرالية: تحولات الملكية، علاقات الإنتاج، ودور ال ...
- ‎ليس للسوق وجهٌ في مرايا العشق
- حين يكتب الشوق قصيدته
- حكايات
- قصيدة للسفر وأخرى للعود
- تصريح ترامب وتهديده للفلسطينيين: قراءة في خطاب مأفون
- اسمي العالق في الرمل
- بحثاً عن الحقيقة


المزيد.....




- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
- مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
- الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا ...
- -الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء ...
- لماذا يعد -رامايانا- أكثر أفلام بوليود انتظارا؟
- الفنان السوري مازن الناطور للمتظاهرين: صبرتوا 55 سنة مش قادر ...
- القضاء الأميركي يرفض إلغاء إدانة ترمب في قضية الممثلة الإباح ...
- كأنه حقيقة.. فنان يطوّع الذكاء الاصطناعي لينشئ عالمًا من الص ...
- - سينما تدور-.. حتى يصبح الفن السابع في متناول الجميع بتونس ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - يوميات طبيب نفسي (نوفيلا-رواية قصيرة)