اسمي نجيب سرور ٧
محمد فرحات
2024 / 12 / 20 - 09:23
---
كالفراش الملهوف لبقعة من النور، كان الفلاحون يتسللون لسماع القرآن بدارنا، يرتشفون أكواب الشاي الأسود المحلى. وكما يجذب النور الفراش، فإنه يجذب غيرها من حشرات لا تنفك عن الطواف حول مصدره.
بعدما فرغ المقرئ من وصلة ما بعد المغرب، وآوى الليل ليستريح قليلًا انتظارًا للسحور قبل صلاة الفجر، هرعت صراصير الغيط بصفيرها المزعج نحو ضوء الكلوب بهذه الدار الوحيدة، بقعة النور وسط ظلام دامس لا يُضاء بأمر الباشا.
خمسة من المطاريد الشراقوة يقتحمون الدار، يمزقون حرمتها، فيفزع من بها على وقع جلبتهم وزعيقهم المفزع. يحملون أريكة من صحن الدار، وينصبونها بالخارج. يجلسون ويبرطمون بأصواتهم المزعجة.
تفز أمي من نومها بوجه ارتسمت عليه من آيات الحزم والقوة ما يستحق أن يرسمه صاحب الموناليزا، فيخلد ملامح القوة بوجه امرأة، كما خلد تلك البسمة الغامضة على وجه الموناليزا الأوروبية الملامح.
أتشعلق في ذيلها كبروز ناتئ من جسدها العفي، لا ينفصل عنه طيلة مكوثه بالدار. تقودني بخطوات سريعة متلاحقة، غير مترددة، كأنها تنفذ خطة مبيتة من زمن. تتوجه نحو خزانة الخبز الطينية، فتزيل طبقات من البرسيم والخبز، وتمسك بطبنجة. تعمرها بأعيرة اختُزنت في كيس من القماش بسرعة ومهارة، وكأنها قد دُربت على ذلك ومارسته مرارًا.
ينزل رأفت من على ظهر الفرن، وهو يسب الباشا والعمدة والخفراء والمطاريد والأحياء والميتين. يركض بجسده الفارع، الذي تشكل بذات جسد أبي الغائب، ليلحق بأمي وأنا المتشعلق بذيلها. يحاول من الحين للآخر اختطاف الطبنجة من يدها، فتخبط يده بكعب الطبنجة.
كانت أمي قد تيقنت أنه لو تركت الطبنجة لرأفت، لصوّر قتيلًا من المطاريد، لتظهر حاسرة الرأس أمام المطاريد الشراقوة الخمس. تصوب الطبنجة نحو صدورهم، وتشخط بصوت كأعيرة الطبنجة المنتظرة لمسة على الزناد.
فيبتلع الشراقوة عربدتهم مشدوهين من منظرها، مصوبين أنظارهم نحو فوهة الطبنجة، غير مصدقين أنفسهم.
"قوم فز أنت وهو من هنا، أحسن أفرغ الطبنجة دي في بطونكوا."
"ادخلي يا ست انتي واحترمي نفسك."
"أنا اللي احترم نفسي ولا انتوا؟"
(لا يكف رأفت، كحصان جامح، في هذا الوقت عن السب واللعن للجميع، في وصلة من هستيريا الغضب الأعمى. يعيد المحاولات مرة إثر الأخرى لاختطاف الطبنجة من يد أمه. تدفعه أمه بقوة، فهي لا تشك، ولا يشك الشراقوة، أنه لو أفلح في اختطافها لأفرغها في صدورهم وبطونهم. مما زاد على الموقف العصيب عصبية ألقت الرعب في صدورهم).
"احنا مستنين واحد."
"اللي انتو مستنينه مش هنا، ومش جاي. قوم فز أنت وهو من هنا، خللي ليلتكوا تفوت."
"ياستي، سعادة الباشا محّرج ع الكل ما حدش يولع كلوب. اطفي الكلوب واحنا نقوم."
"قول لسعادة الباشا، الكلوب مش حاينطفي في دار محمد أفندي سرور، والقرآن مش حايبطل، وخليه يعمل اللي يقدر عليه."
"اسمعي الكلام يا ستي، وادخلي دارك."
رفعت أمي المسدس، وحركت زرار الأمان استعدادًا لإطلاق أول عيار ناري. شعرتُ أن أمي على وشك إطلاق النار، فغاص قلبي في قدمي، وصمت رأفت منتظرًا سماع زغرطة أول عيار ناري.
فزَّ الشراقوة من أماكنهم واقفين، منتظرين ما سوف تفعله تلك النمرة الغاضبة، والتي لم يتوقعوا أبدًا فعلها. همت أمي بالضغط على زناد الطبنجة، وجدي التسعيني قد ظهر بالمشهد وهو يرتعد من غضب كتمته حكمة السنين الطوال.
يظهر فجأة الشيخ إسماعين متوجهًا للجامع ليؤذن لصلاة الفجر. تنادي أمي بصوتها الرعدي على الشيخ إسماعين، يدخل جدي للدار، يطفئ الكلوب، ويبتلع الشراقوة ريقهم، ويسرعون في الانصراف إلى حيث وجهتهم التي أتوا منها.
لا تسأل، يا عزيزي القارئ، عن كيفية انتشار الخبر بما فعلته فاطمة مع المطاريد. فهذا طبع القرى، لا يبيت فيها سرٌ أكثر من ساعة بليل، ثم ينسل من هجعته محدثًا طنينًا بكل آذان الرجال والنساء والصبية والصبايا.
جبَّرت ليلة الطبنجة انكسار عظم كرامتي يوم الحذاء، وكأن أمي أرادت بفعلها أن تعيد لي روحي وثقتي بنفسي. فأجد نفسي مدفوعًا كل ليلة لإضاءة الكلوب، وقراءة القرآن مما حفظنيه الشيخ إسماعين، مقلدًا صوت المقرئ الذي لم نره بعد فراره ليلة الطبنجة.
فيأتي الفلاحون يستمعون لما أتلوه من آيات القرآن، ويرتشفون ما تقدمه لهم أمي من شاي. أداوم على ذلك ليالٍ، إلى أن يهمس أحد الفلاحين لجدي فيبثه خوفه على الصبي المرتل للقرآن، أو على رأفت المنهمك في لعب الكرة بالجرن مع أقرانه.
فيقنعني جدي بالكف عن القراءة لقبح صوتي ولحني المستمر، وهذا حرام. فأكف مكرهًا، إلا أن الكلوب لم يُطفأ في دارنا طيلة ليالي هذا الشهر من رمضان.
مع مرور الأيام، لم يعد ضوء الكلوب وحده يكسر ظلام الليل في القرية. صار الجميع يتحدث عن تلك المرأة الحديدية التي واجهت المطاريد بثبات، وعن الطفل الذي حمل في صوته شجاعة لا تُوصف وهو يرتل آيات القرآن. أصبح بيتنا مقصدًا للفلاحين، ليس فقط لسماع القرآن أو ارتشاف الشاي، بل أيضًا للحديث عن تلك الليلة التي بدت وكأنها قصص من الأساطير.
لكن، لم يكن كل شيء كما يبدو. بدأت زيارات العمدة والخفراء تزداد، ليس بدافع الاطمئنان، بل بسبب تقارير وصلتهم بأن بيت محمد أفندي سرور بات "مصدر قوة" جديدة في القرية. كان ذلك يثير قلق الباشا، الذي لم يعتد أن ينافسه أحد على هيبته.
في إحدى الليالي، وبينما كنت أجلس في صحن الدار، أرتل بعض الآيات بصوتي الذي اعتدت ألا يلقى استحسانًا إلا من أمي، دخل رأفت وهو يحمل كرة من القماش كان قد صنعها بيديه، وطلب مني الانضمام إليه في اللعب. كنت أود أن أرفض، لكن نظراته تلك الليلة كانت مختلفة، وكأنها تحمل رسالة خفية.
"تعال نلعب يا ولد... مش كل حاجة قرآن وكلوب."
ترددت، ثم نهضت، لأكتشف أن رأفت كان يخطط لشيء أكبر من مجرد لعبة. في طرف الجرن، جمع رأفت بعض الصبية، وأخذ يشرح لهم ما حدث تلك الليلة مع المطاريد. كانت ملامحه حادة، وكلماته تحمل وميضًا من الغضب الذي ورثه عن أمي.
"مش حنفضل طول عمرنا تحت رحمة الباشا والمطاريد. شوفوا أمي عملت إيه، دي واحدة ست! إحنا رجالة ولازم نكون قد التحدي."
كانت كلماته تلتهب في آذان الصبية، وفي تلك اللحظة، شعرت أن شيئًا ما يتغير في القرية. كان رأفت يحاول أن يشعل شرارة ثورة صغيرة، لا تبدأ بسلاح، بل بإيمان أن لكل شخص الحق في الدفاع عن كرامته، حتى لو كانت الكرامة مخبأة تحت نور كلوب صغير.
مرت أسابيع قليلة، وكأن القرية تستعد لشيء ما. بدأت عيون الباشا والخفراء تراقب بيتنا أكثر من المعتاد. لكن أمي لم تهتز. كانت كل ليلة توقد الكلوب، تحضر الشاي، وتجلس لتستمع إلى ترتيلي الذي وإن كان مكسورًا، كان يحمل في داخله عزيمة أمي وروحها التي لا تعرف الانكسار.
وفي ليلة رمضانية هادئة، سمعت أصوات خطوات تقترب من الدار. لم تكن تلك المرة الأولى التي يقترب فيها أحد من بيتنا ليلاً، لكن هذه المرة كان الصوت مختلفًا. نظرت أمي من النافذة، فرأت مجموعة من الرجال يحملون شيئًا ثقيلًا.
اقتربوا من صحن الدار، وطرقوا الباب. فتحت أمي بثبات، لتجد الشيخ إسماعين معهم. كان يحمل صندوقًا صغيرًا، ووجهه تعلوه ملامح التوتر.
"يا فاطمة... دي أمانة، خبيها في الدار وما تخرجيهاش إلا وقت الضرورة."
كان في الصندوق مسدس آخر، وعدة ذخائر، ورسالة مختومة بختم لا تعرفه أمي. نظرت أمي إلى الشيخ، وسألته بحدة:
"إيه الحكاية؟"
لكن الشيخ لم يجب، بل أشار إلى السماء وقال:
"اللي فوق يعلم، واللي جاي أشد من اللي فات."
لم تنم أمي تلك الليلة. ولم نعلم وقتها أن تلك الأمانة كانت الشرارة الأولى لأحداث غيّرت مجرى حياتنا، وأعادت تشكيل تاريخ القرية بأكملها.
---