صعود


محمد فرحات
2024 / 12 / 15 - 22:51     

...يمرّ بجانب فرشة الجرائد، لا يلتفت، فالجرائد الآن لم تعد تشبه جرائد أبيه، ولم تعد العناوين تحمل عبق الزمن الذي كان. يتأمل الفرشة من بعيد، كأنها مشهد من الماضي عالق في الزمن، يراه بوضوح لكنه لا يستطيع لمسه. يسير متثاقلاً، يحمل على كتفيه ما هو أكثر من سنوات العمر، يحمل غياب الأحبة، وسنوات الوحدة، وأياماً طويلة تكررت بلا تغيير.

عندما يصل إلى باب المنزل القديم، تتوقف قدماه للحظة. يمد يده المرتعشة نحو البوابة الخضراء التي بدأت تفقد لونها، ويضغط عليها ببطء. يفتح الباب، ويستقبله الصمت، ذلك الصمت الذي اعتاد عليه منذ سنوات طويلة. يدخل البيت، ينظر حوله، فلا يرى سوى أثاث غطاه الغبار، وصور قديمة تملأ الجدران، بعضها بدأ يفقد ألوانه، لكنه لا يزال يحتفظ بأصوات الضحكات التي كانت يوماً تسكن هذا المكان.

يجلس على كرسي أبيه الهزاز، يتحرك ببطء للأمام والخلف، بينما تسرح عيناه نحو السقف، وكأنهما تبحثان عن شيء ضاع في زحمة الأيام. فجأة، يسمع صدى صوت أبيه في ذاكرته، ذلك الصوت الجهوري الممزوج بالضحك: "بكره محدش يباريه في الرغي زيك انت وهو...". يبتسم الكهل الأشقر الأشيب، ثم تنهمر دمعة بطيئة.

ينظر نحو المطبخ، يتخيل أمه هناك، تناديه لتناول الغداء. يتذكر رائحة الملوخية الخضراء، أطباق المحشي، والبخار الذي كان يغلف الطبلية الخشبية. لكنه يعلم أن كل هذا لم يعد إلا في مخيلته. ينهض من كرسيه، يتجه نحو النافذة، ينظر إلى السماء التي بدأت تتلون بحمرة الغروب.

كان الطفل الكهل الأشقر الأشيب يجلس على كرسيه الهزاز، عيناه مثبتتان على السقف، بينما تتراقص الذكريات أمامه كأنها شريط قديم. صوت الأذان يتردد في أرجاء الحي، لكن قلبه كان يزداد خفقانًا، وكأن شيئًا غير مرئي يناديه.

أغمض عينيه، وجد نفسه في حلم مختلف. كان يقف على ربوة جامع سيدي شبل، لكن هذه المرة لم يكن وحيدًا. رأى والده، بوجهه الباسم وصوته الجهوري، يرتدي جلبابه الأبيض، ينتظره عند مدخل المسجد. كان المشهد مشرقًا على نحو غريب، الضوء يلف المكان، والنسيم يحمل عبيرًا عتيقًا.

تقدّم نحوه والده بخطوات ثابتة ومدّ يده إليه قائلاً:
"تعال يا بني، تأخرتَ كثيرًا، والجميع ينتظرك."

في تلك اللحظة، شعر الطفل الكهل بخفة لم يعهدها من قبل. لم يعد أشيب الشعر، ولا محني القامة، بل عاد طفلًا طويلًا أشقر، يمسك بيد والده كما كان يفعل في صباه. نظر إلى نفسه بدهشة، ثم ابتسم كأنما أدرك أن كل شيء قد اكتمل.

بدأا السير معًا، يتبادلان الحديث والضحكات. عبر الأب عن شوقه لتلك الأيام القديمة، وتحدّث الابن لأول مرة دون تلعثم أو صمت. سارا معًا نحو المسجد، وكانت أبوابه مفتوحة على مصراعيها، يخرج منها نور لا يمكن وصفه.

قبل أن يدخلا، استدار الطفل الكهل نحو الحي بنظرة أخيرة، رأى منزله القديم، الطبلية، الجرائد، وحتى كرسيه الهزاز. كان كل شيء ساكنًا، لكنه بدا مطمئنًا. ابتسم، ثم أمسك بيد أبيه بإحكام، وعبر العتبة.

حين أشرقت شمس الصباح، كان الكهل الأشقر الأشيب لا يزال جالسًا على كرسيه الهزاز. عيناه مغمضتان، وملامحه هادئة كأنه أخيرًا وجد السلام الذي بحث عنه طويلًا.