التقشف كمقدمة للفاشية
حازم كويي
2024 / 12 / 14 - 18:15
التقشف كمقدمة للفاشية
ترجمة وإعداد:حازم كويي
ترى كلارا ماتي* أن التقشف مُرادف تقريباً للسياسة الاقتصادية الحالية. فبدلاً من رؤيتها كأداة موضوعية للسيطرة على الاقتصاد، فهي أداة للصراع الطبقي من أعلى: يعمل التقشف على الحفاظ على نظام إجتماعي وسياسي معين. وتضمن القيود البنيوية المفروضة على الإنفاق الاجتماعي والأجور، أن يكون شعار "إعمل بجد وإدخر أكبر قدر ممكن" أكثر من مجرد شكل من أشكال الانضباط بالنسبة لأغلبية السكان - فهو السبيل الوحيد للبقاء. وتؤدي تدابير التقشف المتعلقة بالسياسة المالية والنقدية والصناعية معاً إلى حرمان الأجُراء من الموارد بشكل دائم. ويؤدي هذا إلى تفاقم ظروفهم المعيشية غير المُستقرة وإلى إعادة توزيع الثروة الاجتماعية من القاعدة إلى القمة، وهو ما يستفيد منه المستثمرون الماليون بشكل خاص لإولئك الذين هم في القمة.
تشير سياسة التقشف المالي إلى التخفيضات في الإنفاق الاجتماعي للدولة (على الصحة والتعليم والإسكان)، والتي عادة ما يُقررها البرلمان، وإلى سياسة ضريبية تنازلية. وهذا يعني زيادة ضرائب الاستهلاك، التي تُثقل كاهل الفقراء، في حين يدفع الأغنياء ضرائب أقل. ويتجلى التقشف النقدي في المقام الأول في هيئة زيادات في أسعار الفائدة، وهو ما يسعد الدائنين، في حين أن الأسر التي تعتمد على القروض من أجل بقائها اليومي لا تستطيع أن تدفع فواتيرها إلا بصعوبة. ومع إرتفاع تكاليف القروض، يتزايد أيضاً الإنفاق الحكومي على مشاريع البناء العامة والخدمات الاجتماعية، مما يؤثر بشكل خاص على سوق العمل. ويؤدي إنخفاض عدد الوظائف الشاغرة وإرتفاع معدلات البطالة إلى إنخفاض قدرة العمال على المساومة. أخيراً، تعني تدابير التقشف في السياسة الصناعية جميع التدخلات التي تقوم بها الدولة بشكل مباشر في علاقات العمل نيابة عن أصحاب العمل، سواءاً كان ذلك من خلال الخصخصة أو إلغاء القيود التنظيمية أو عرقلة النقابات.
يشير الفهم السائد للتقشف إلى الجوانب النقدية، ولكن في كل مكان تقريباً أدت الهجمات على النقابات إلى إضعاف حقوق العمال الفردية والجماعية، وبدلاً من الرعاية الاجتماعية هناك الآن تعمل على توسيع قطاع الأجور المنخفضة ودعمه من قبل الدولة.
ولا يتعلق الأمر بالمبلغ الذي تنفقه الحكومة، بل يتعلق بالأشياء التي تنفق عليها الأموال، وعلى وجه الخصوص كيف يؤدي هذا إلى تعميق الفجوة بين القلة التي تستفيد من هذا النظام والكثيرين الذين يخسرون. وكما هو معروف، فقد أثبت العالم السياسي والاقتصادي مارك بليث، أن تدابير التقشف لا تخدم في واقع الأمر الأهداف الرسمية مثل خفض الدين الوطني أو تحفيز النمو الاقتصادي. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يزالون يستخدمون ذلك؟
أحد التفسيرات التي تنبثق من العودة إلى التاريخ، هو أن رأس المال كان يعتمد دائماً على الحماية. إن ما تحققه سياسة التقشف لا يؤدي إلى إستقرار الاقتصاد بقدر ما يحقق ترسيخ العلاقات الطبقية. تاريخياً، لم تكن سياسة التقشف تهدف قط إلى الحد من التضخم أو الانضباط المالي الحكومي. بل إن التقشف يوفر أفضل الظروف لتحقيق أرباح عالية، في حين أن أغلبية السكان ــ غير الممثلة سياسياً ناقصاً ــ محكوم عليها بالتخلي عن أي خطط أو طموحات نحو إضفاء الديمقراطية على الاقتصاد. الأجور المنخفضة وإجراءات التقشف المستمرة تفرض عليهم "حياة صعبة".
ومثلت ما تسمى بالسنوات الحمراء في عامي 1919 و1920 لحظة خاصة للغاية في تاريخ الرأسمالية، حيث لم تعد الركيزتان اللتان تدعمانها - الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والعمل المأجور - مقبولتين من قبل قطاعات كبيرة من السكان. كان إستياء الناس وإحتجاجاتهم مدفوعين، من بين أمور أخرى، بما شهدوه أثناء التعبئة في الحرب العالمية الأولى: فقد قامت الحكومات في إيطاليا وبريطانيا العظمى بتكييف إقتصاداتها بأكملها، وخاصة الإنتاج الصناعي والأجور المدفوعة هناك، لتتوافق مع الاقتصاد الوطني. تكييف متطلبات بلدانهم مع آلات الحرب. لقد تم إلغاء "النظام الطبيعي" للرأسمالية لتلبية احتياجات الدولة هذه. الآن أرادت الحكومات العودة إلى الظروف القديمة.
وصلت حركة المجالس العمالية في إيطاليا إلى ذروتها في صيف عام 1920 ومثلت إختراقاً مؤسسياً، بفضل تنظيمها الأفقي الجذري وإجراءات التناوب الصارمة للمنصبين، فقد وفرت تمثيلاً للجماهير العريضة من العمال. كان الهدف من هذه الهياكل هو تشكيل جوهر الدولة الجديدة التي لم تعد معزولة عن السكان. كانت الفكرة الأولية هي أن الديمقراطية السياسية لا معنى لها إذا لم تكن مبنية على ديمقراطية الاقتصاد. كان الابتعاد عن علاقات الإنتاج الهرمية جزءاً من الابتعاد الأساسي عن النظرة العالمية الهرمية. لم يستغرق رد الحكام على وعي العمال هذا وتعبئتهم وقتاً طويلاً: كان مركز هجومهم المضاد هو سياسة التقشف الصارمة.
لعبت كل من المؤسسات الليبرالية الدولية والإيطالية (بما في ذلك شخصيات مثل لويجي إينودي، الذي أشاد صراحةً ببرنامج موسوليني الاقتصادي في عشرينيات القرن العشرين) دوراً أساسياً في توطيد الدكتاتورية الفاشية. لقد دعموهم أيديولوجياً ومادياً، بما في ذلك القروض العامة والخاصة. لم تكن هذه حالات معزولة؛ فقد دعم جزء كبير من النخب الليبرالية في إيطاليا وإنكلترا موسوليني وسياساته التقشفية. وشملت هذه وسائل الإعلام الرائدة الليبرالية إقتصاديا مثل التايمز والإيكونوميست. تُظهر البرقيات من السفارة البريطانية في روما والوثائق من بنك إنكلترا أيضاً ارتياحاً غير مخفي لحكم موسوليني في عشرينيات القرن الماضي. لماذا؟ لأنه كان فعالاً للغاية في فرض تدابير التقشف على حساب الطبقة العاملة الإيطالية التي استفاد منها المستثمرون الأجانب الليبراليون.
ويمثل مونتاكو نورمان، الذي كان آنذاك محافظ بنك إنكترا ورمزاً شعبياً آخر لليبرالية، ازدواجية خاصة. اشتكى نورمان من أن فاشية موسوليني كانت تميل إلى قمع كل المعارضة. "كل ما ينحرف" "يتم القضاء عليه" و"أختفى كل شكل من أشكال المعارضة". وفي الوقت نفسه، توقع نورمان: "ومع ذلك، ربما يكون هذا هو الشكل المناسب للحكومة الإيطالية، على الأقل في الوقت الحالي". سنوات ضمنت بلا شك النظام في خضم الفوضى. كان هذا ضرورياً بالتأكيد حتى لا يتأرجح البندول كثيراً في الاتجاه المعاكس. لقد كان الدوتشي هو الرجل المناسب تماماً في الوقت المناسب.»
هذه التصريحات وما شابهها لا تترك مجالا للشك: كل المخاوف بشأن إساءة استخدام الفاشيين للسلطة السياسية احتلت المرتبة الثانية بعد الإعجاب بـ "نجاحات" سياسة التقشف، سواءاً كان ذلك في قمع الإضرابات، أو إستقرار ميزانية الدولة أو الزيادات العامة في الأجور. لقد رأى الليبراليون الاقتصاديون البريطانيون بوضوح العلاقة بين التقشف والقمع السياسي النموذجي للفاشية. وفي الوقت نفسه، يمكن الافتراض أنهم لن يكون لديهم أي إعتراض إذا عومل العمال البريطانيون بطريقة مماثلة لتلك التي يُعامل بها العمال في إيطاليا. في الواقع، دفع التكنوقراط البريطانيون نحو تنفيذ غير ديمقراطي لسياساتهم الاقتصادية المفضلة من خلال سلطة البنوك المركزية الوطنية المستقلة. حتى لو فعلوا ذلك بطرق مختلفة. وفي النهاية، كان لدى دعاة التقشف في إيطاليا وبريطانيا هدف مماثل: إنشاء وحماية نظام يفرض تضحيات يومية على الأغلبية الاجتماعية، ضد الاضطرابات وتدخل الدولة.
إذا ألقيت نظرة فاحصة على فاشية بنيتو موسوليني، فإن الاختلافات بين الديمقراطيات الليبرالية المفترضة والأنظمة الاستبدادية اليمينية التي نعتبرها اليوم أمراً مفروغاً منه والتي لديها أيضا شئ مطمئن بشأنها، تظهر في ضوء مختلف. وفي الواقع، فإننا نرى سياسات تقشفية ذات توجهات معادية للديمقراطية في معظم الحكومات الحالية، وإن كان بفروق دقيقة مختلفة. ولا ينبغي لنا أن ننسى الدور المركزي الذي لعبته القومية في فرض ذلك. القومية - سواء كانت حكومة جيورجيا ميلوني أو غيرها من الحكومات اليمينية المتطرفة اليوم وفي الماضي - تعمل على إخفاء عنف الدولة ضد عمالها (على سبيل المثال في شكل تخفيضات في المزايا الاجتماعية أو الضرائب غير العادلة) من خلال إلغاء جميع الاختلافات الطبقية ويحاول توحيد الجميع خلف العلم الوطني. والقومية هي أيضاً أستراتيجية تستخدمها الحكومات لصرف الانتباه عن أعداء الشعب الحقيقيين: النُخب الثرية والقوية، التي هي الوحيدة المُستفيدة من نظامنا الاقتصادي الحالي. وتعمل النزعة القومية على تغذية الاستياء ضد "المعارضين الخارجيين"، بما في ذلك العمال المهاجرين، الذين يعانون عادة بشكل أكبر من التقشف في بلدانهم الأصلية. وفي الوقت نفسه، يؤيد ساسة مثل بولسونارو، وترامب، وميلوني، وأوربان توسيع هذا النهج المناهض للعمال.
على سبيل المثال، أن التضخم ليست مشكلة يمكن مكافحتها بإجراءات إقتصادية بحتة، ولكنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلاقات القوة في عملية الإنتاج. إن نظرة على إستراتيجيات حماية رأس المال توضح أن نظامنا الاجتماعي والاقتصادي لا ينبغي قبوله باعتباره النموذج الوحيد للمستقبل. بل هو نتيجة للعمل الجماعي الذي يجعل البدائل للرأسمالية مستحيلة. ومن الممكن أن يساعد بناء قوة تعويضية جماعية في هذا الصدد. إن تحليل وكشف المنطق الكامن وراء النظام والغرض منه هو خطوة أولى في هذا الاتجاه.
إذا كانت سياسة التقشف جزءاً من الحمض النووي للدول الرأسمالية، فهذا يعني أيضاً: علينا أن نتبع نهجاً أكثر حسماً تجاهها، ولا يمكن تصور البدائل الحقيقية لها إلا خارج المنطق الرأسمالي. إن رؤية غرامشي بأن المعرفة المطلوبة لذلك، تنشأ من التعبئة الجماعية والتجارب مثل حركة المجالس المذكورة،والتي لها أمر بالغ الأهمية. وينمو خيالنا السياسي مع كل مشاركة في الأعمال الجماعية الرامية إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ربما يكون الحديث عن الانقسام سطحياً بعض الشئ. والأمر الأكثر أهمية من الناحية السياسية هو أن كلا المعسكرين يدعمان رأسمالية التقشف بشكل أعمى. إن الكينزية اليوم لا علاقة لها بإعادة التوزيع من الأعلى إلى الأسفل، بل إنها تفضل الإنفاق العام لدعم مُستثمري القطاع الخاص. وينطبق هذا أيضاً على مؤيدي التقشف الأكثر إعتدلاً. ولا أحد منهم يعارض التوسع الهائل للمجمع الصناعي العسكري أو الإعانات المالية التي تقدمها الشركات المالية الدولية الكبرى. وينبغي على اليسار أن ينظر إلى كلا المعسكرين باعتبارهما أعداءاً طبقيين. وتتجلى هذه الحقيقة الوحشية في الوقت الحالي بشكل أكثر وضوحاً من المذبحة التي يتعرض لها الفلسطينيون، والتي يدعمها الغرب مادياً وإيديولوجياً من خلال التورط في جرائم حرب وتقويض القانون الدولي بشكل كامل.
ونظراً للحجم المروع للدمار المستمر، فإن عدد القتلى في غزة مستمر في الارتفاع: فقد دُمرت المستشفيات في كل مكان، وتحولت الحقول إلى غبار، ومصادر المياه الملوثة، والقمامة والحطام في كل مكان على قطعة أرض شديدة السُمية حيث أصبحت حياة الإنسان مستحيلة. ووفقاً لهيئة الصحة الرسمية هناك، فقد قُتل بالفعل حوالي 41,000 من سكان قطاع غزة (حتى سبتمبر 2024)، ويعيش 20,000 يتيم في أنقاض المدن المتبقية، ويواجه نصف مليون شخص خطر المجاعة بسبب الحصار الإسرائيلي. ويمنع الجيش المساعدات الإنسانية، ويُعذب السجناء من قطاع غزة في السجون الإسرائيلية،والتي ظهرت في مقاطع فيديو مختلفة من قبل جنود الجيش الإسرائيلي مُسجلة. وفي هذه الأثناء، تواصل إسرائيل ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. ويستمر التطهير العرقي هناك وفي غزة دون عقاب.
تمثل الولايات المتحدة، التي لا تزال تحظى بدعم النخب الأوروبية، إتجاهاً عالمياً للرأسمالية التقشفية. في حين يتزايد الاستبعاد الاجتماعي والفقر بشكل كبير في الولايات المتحدة، كما يتضح من الانتشار المُقلق للتشرد، فإن الضرائب التي تدفعها بشكل كبير أسر الطبقة العاملة لا تستخدم لتعزيز دولة الرفاهية. بل على العكس من ذلك: فالدين الوطني ينمو من أجل إثراء كبار المساهمين، وتتدفق الأموال العامة بكميات كبيرة إلى الشركات الخاصة، وبالأخص في المجمع الصناعي العسكري. وفي الأشهر العشرة الأخيرة وحدها، وافق الكونغرس على تقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 12.5 مليار دولار. (وهذا لا يشمل أكثر من 100 منحة من برنامج التمويل العسكري الأجنبي، والتي هي خارجة عن سيطرة الكونغرس). وما يسمى بالمساعدة العسكرية يعني عقوداً مضمونة من قبل الحكومة لأكثر من 50 شركة متعددة الجنسيات مدرجة في كشوف المرتبات.
المتورطون في المذبحة في قطاع غزة: من جنرال موتورز إلى Ghost Robotics إلى Google وغيرها من شركات الذكاء الاصطناعي التي توفر خوارزميات التعامل مع الموت.
كلارا ماتي*: هي أستاذة إقتصاد، قامت بالتدريس سابقاً في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.صدر لها كتاب عام 2022 الذي نوقش كثيراً بعنوان "نظام رأس المال: كيف أخترع الاقتصاديون التقشف ومهدوا الطريق للفاشية"