من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 13
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 14 - 14:07
الحلقة الثالثة عشر
هـ) الطبقة العاملة مناضل طليعي من أجل الديموقراطية
لقد رأينا أن القيام بالتحريض السياسي بأوسع شكل، وبالتالي تنظيم التشهير السياسي الشامل، هو مهمة ضرورية دون قيد أو شرط، هو مهمة النشاط ذات الضرورة الأكثر إلحاحا، إذا كان هذا النشاط إشتراكيا-ديموقراطيا حقا. ولكننا خلصنا إلى هذا الاستنتاج منطلقين فقط من حاجة الطبقة العاملة الملحة إلى المعرفة السياسية والتربية السياسية. إلا أن طرح المسألة على هذا الشكل وحده يكون ضيقا جدا ويغفل المهام الديموقراطية العامة التي تواجه كل اشتراكية-ديموقراطية بوجه عام والاشتراكية-الديموقراطية الروسية المعاصرة بوجه خاص. ولكيما نشرح هذا الأمر بأوضح شكل سنحاول تناول المسألة من الناحية "الأقرب" إلى "الإقتصاديين"، من الناحية العملية بالضبط. إن "كل الناس متفقون" على ضرورة إنماء وعي الطبقة العاملة السياسي. والسؤال هو: كيف نقوم بذلك وماذا ينبغي للقيام بذلك؟ إن النضال الإقتصادي لا "يصدم" العمال إلا بمسائل موقف الحكومة من الطبقة العاملة. ولذلك مهما بذلنا من جهد في "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه"، لا نستطيع أبدا أن نصل إلى إنماء وعي العمال السياسي (إلى درجة الوعي السياسي الإشتراكي-الديموقراطي) ضمن إطار هذه المهمة، لأن هذا الإطار نفسه ضيق.
إن صيغة مارتينوف ذات قيمة في نظرنا، لا لأنها تدل على موهبة مارتينوف في التشويش، بل لأنها تدل بجلاء على الخطأ الرئيسي الذي يقترفه جميع "الإقتصاديين"، ونعني الاعتقاد بأنه يمكن إنماء وعي العمال السياسي الطبقي من داخل نضالهم الإقتصادي، إن أمكن القول، أي انطلاقا من هذا النضال وحده (أو منه بصورة رئيسية على الأقل).
وهذا الرأي مغلوط من أساسه، وبما أن "الإقتصاديين"، من غضبهم علينا لجدالنا إياهم، لا يريدون أن يعملوا الفكر في مصدر خلافاتنا، يكون الحاصل أننا لا نفهم بعضنا بعضا بالمعنى الحرفي للكلمة ونتكلم بلغات مختلفة. إن الوعي السياسي الطبقي لا يمكن حمله إلى العامل إلا من الخارج، أي من خارج النضال الإقتصادي، من خارج دائرة العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال. فالميدان الوحيد الذي يمكن أن نستمد منه هذه المعرفة هو ميدان علاقات جميع الطبقات والفئات تجاه الدولة والحكومة، ميدان علاقات جميع الطبقات بعضها تجاه بعض.
ولذلك، على سؤال: ماذا ينبغي لحمل المعرفة السياسية إلى العمال؟ لا يمكن تقديم ذلك الجواب الوحيد الذي يكتفي به في معظم الحالات المشتغلون في الميدان العملي، فضلا عن أولئك الذين يميلون منهم إلى "الإقتصادية"، ونعني جواب: "التوجه إلى العمال". فلكيما يحمل الإشتراكيون-الديموقراطيون إلى العمال المعرفة السياسية ينبغي لهم التوجه إلى جميع طبقات السكان، ينبغي لهم أن يرسلوا فصائل جيشهم إلى جميع الجهات. إذا كنا قد تعمدنا هذه الصيغة الخشنة، إذا كنا قد تعمدنا هذا التبسيط الجارح في التعبير، فليس منشأ ذلك الرغبة في الاغراب، بل الرغبة في "صدم" "الإقتصاديين" صدما بتلك المهام التي يغفلونها بشكل لا يغتفر، بذلك الفرق الذي لا يريدون فهمه، والموجود بين السياسة التريديونيونية والسياسة الاشتراكية-الديموقراطية. ولذلك نطلب إلى القارئ أن يتذرع بالصبر وأن يصغي إلينا بانتباه حتى النهاية.
خذوا نموذج الحلقة الاشتراكية-الديموقراطية الأوسع انتشارا في السنوات الأخيرة وأمعنوا النظر في عملها. إن لها "صلات بالعمال" وإنها لقانعة بذلك، وهي تنشر المنشورات التي تندد فيها بما يجري في المعامل من التجاوزات وبسلوك الحكومة الممالئ للرأسماليين وبالطغيان البوليسي. والحديث في اجتماعات العمال لا يخرج في المعتاد عن إطار المواضيع نفسها أو يكاد لا يخرج عنها؛ أما المحاضرات والأحاديث عن تاريخ الحركة الثورية وعن قضايا سياسة حكومتنا في الحقلين الداخلي والخارجي وعن مسائل التطور الإقتصادي في روسيا وفي أوروبا وعن وضع هذه أو تلك من الطبقات في المجتمع الراهن، الخ.، فهي نادرة جدا، ولا يخطر ببال أحد أن يعقد وينمي الصلات بصورة دائبة في طبقات المجتمع الأخرى.
والحق أن المثل الأعلى للمناضل، في نظر أعضاء مثل هذه الحلقة، هو، في معظم الأحيان، أشبه كثيرا بسكرتير التريديونيون منه بالاشتراكي، الزعيم السياسي. وبالفعل، إن سكرتير أي تريديونيون، سكرتير تريديونيون إنكليزي، مثلا، يساعد العمال دائما على القيام بالنضال الإقتصادي، وينظم التشهير بالحياة في المعامل، ويشرح الظلم الكامن في القوانين والتدابير التي تقيد حرية الإضراب وحرية إقامة مراكز الحراسة (لتنبيه الجميع وكل فرد إلى أن عمال هذا المعمل أو ذاك مضربون) ويبين تحيز الحكم الذي ينتمي إلى طبقات الشعب البرجوازية، الخ.، الخ.. وباقتضاب، إن كل سكرتير لتريديونيون يقوم ويساعد على القيام بـ"النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة". ولسنا نغالي مهما ألححنا في القول أن ذلك ليس بعد بالاشتراكية-الديموقراطية، وأن المثل الأعلى للإشتراكي-الديموقراطي لا ينبغي أن يكون سكرتير التريديونيون، بل الخطيب الشعبي الذي يحسن الرد على كل مظهر من مظاهر الطغيان والظلم بصرف النظر عن مكان حدوثه وعن الفئة أو الطبقة التي يصيبها هذا الطغيان والظلم، يحسن تلخيص جميع هذه المظاهر ويخلق منها لوحة تامة للطغيان البوليسي وللإستثمار الرأسمالي، يحسن الاستفادة من كل أمر تافه لكي يعرض أمام الجميع عقائده الاشتراكية ومطالبه الديموقراطية ولكي يشرح للجميع ولكل فرد الأهمية التاريخية العالمية لنضال البروليتاريا التحريري. قارنوا مثلا بين روبرت نايت (السكرتير والقائد المعروف لجمعية عمال المراجل، وهي من أقوى التريديونيونات في إنكلترا) وولهلم ليبكنخت، وطبقوا عليهما المتضادات التي لخص بها مارتينوف خلافاته مع "الإيسكرا"، تروا – وإني لأبدأ بتصفح مقال مارتينوف - أن ر. نايت قد تفوق جدا في "مناداة الجماهير إلى أعمال معينة ملموسة" (ص 39) وأن و. ليبكنخت قد تفوق "في الإنصراف إلى شرح ثوري للنظام الراهن بأكمله أو لمظاهره الجزئية" (ص ص 38-39)؛ وأن ر. نايت قد "صاغ مطالب البروليتاريا المباشرة وبين طرق تحقيقها" (ص 41) وأن و. ليبكنخت قد قام بذلك دون أن يستنكف من أن "يقود في الوقت نفسه العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة" ومن أن "يملي عليها برنامجا إيجابيا للعمل"• (ص 41)؛
وأن ر. نايت قد بذل جهده على وجه الدقة "ليضفي الطابع السياسي، بقدر الإمكان، على النضال الإقتصادي نفسه" (ص 42) وأنه كان بارعا في "مطالبة الحكومة بإجراءات ملموسة تبعث الأمل ببعض النتائج الحسية" (ص43)، في حين أن و. ليبكنخت قد بذل جهدا أكبر بكثير في "التشهير" "الوحيد الجانب" (ص 40)؛ وأن ر. نايت قد أضفى أهمية أكبر على "تقدم النضال الجاري المعتاد" (ص 61)، وأن و. ليبكنخت قد أعار أهمية أكبر "للدعوة إلى الأفكار البراقة المتبلورة (ص 61)؛ وأن و. ليبكنخت قد جعل من الجريدة التي يشرف عليها "جريدة للمعارضة الثورية تشهر بأوضاعنا، ولا سيما بالأوضاع السياسية، ما دامت تصطدم بمصالح مختلف فئات السكان" (ص 63)، في حين أن ر. نايت قد "عمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري" (ص 63)، - إذا فهمنا "الصلة العضوية الوثيقة" بمعنى تقديس العفوية الذي درسناه أعلاه استنادا إلى مثل كريتشيفسكي ومارتينوف،- و"ضيق ميدان تأثيره" متأكدا على غرار مارتينوف طبعا من أنه "يزيد بذلك تركيز التأثير نفسه" (ص 63). وبكلمة، ترون أن مارتينوف يهوي de facto بالاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى التريديونيونية، لا بالطبع لأنه لا يريد الخير للإشتراكية-الديموقراطية، بل لأنه يتسرع بعض الشيء في تعميق بليخانوف، بدلا من أن يبذل جهده لفهمه. ولكن لنعد إلى بحثنا. لقد قلنا أنه يجب على الإشتراكي-الديموقراطي، إذا كان اعترافه بضرورة إنماء وعي البروليتاريا السياسي الشامل لا يقف عند حد القول، أن "يتوجه إلى جميع طبقات السكان".
وهنا تطرح الأسئلة التالية: كيف نقوم بذلك؟ ألدينا من القوى ما يكفي لذلك؟ هل من صعيد لمثل هذا العمل في جميع الطبقات الأخرى؟ ألا يعني هذا تراجعا، أو يؤدي إلى التراجع عن وجهة النظر الطبقية؟ لنتناول هذه المسائل. ينبغي لنا أن "نتوجه إلى جميع طبقات السكان" بوصفنا نظريين وبوصفنا محرضين وبوصفنا منظمين. لا يشك أحد في أنه ينبغي لعمل الاشتراكيين-الديموقراطيين النظري أن يتجه لدراسة جميع خصائص الوضع الإجتماعي والسياسي لمختلف الطبقات. ولكن العمل في هذا الإتجاه قليل - قليل جدا، أقل بكثير من العمل الذي يجري لدراسة خصائص حياة المعامل، إنكم تصادفون في اللجان والحلقات أناسا يتعمقون في تخصص في دراسة هذا الميدان أو ذاك من ميادين إنتاج الحديد، ولكنكم لا تصادفون تقريبا مثلا يستدل منه على أن أعضاء المنظمات (المضطرين كما يحدث في كثير من الحالات إلى ترك النشاط العملي لسبب من الأسباب) ينصرفون بصورة خاصة إلى جمع مواد حول قضية من قضايا الساعة في حياتنا الإجتماعية والسياسية يمكن أن تتيح للإشتراكية-الديموقراطية فرصة العمل بين فئات السكان الأخرى.
ونحن، عندما نتكلم عن ضعف الإستعداد لدى معظم قادة حركة العمال الحاليين، لا يسعنا إلا أن نذكر التحضير في هذا الحقل أيضا، إذ أنه مرتبط كذلك بالمفهوم "الإقتصادي" "للصلة العضوية الوثيقة بالنضال البروليتاري". ولكن الأمر الأهم طبعا هو الدعاية والتحريض بين جميع فئات الشعب. إن ما ييسر هذا الواجب على الإشتراكي-الديموقراطي في أوروبا الغربية إنما هي الإجتماعات والتجمهرات العامة التي يحضرها كل راغب، وييسره البرلمان الذي يتكلم فيه أمام نواب من جميع الطبقات. أما نحن فليس لدينا برلمان ولا حرية اجتماع. ولكننا نحسن مع ذلك تنظيم إجتماعات للعمال الذين يريدون أن يصغوا إلى إشتراكي-ديموقراطي. وينبغي لنا أن نحسن كذلك تنظيم اجتماعات يحضرها ممثلو جميع طبقات السكان الذين يريدون أن يصغوا إلى ديموقراطي. لأنه ليس باشتراكي-ديموقراطي من ينسى عمليا أن "الشيوعيين يؤيدون كل حركة ثورية"(75)، وأننا تبعا لذلك ملزمون بأن نعرض أمام الشعب كله ونشدد على المهام الديموقراطية العامة دون أن نخفي لحظة واحدة عقائدنا الاشتراكية. ليس باشتراكي-ديموقراطي من ينسى عمليا أنه ملزم بأن يكون أول من يطرح ويشحذ ويحل كل مسألة من المسائل الديموقراطية العامة. قد يقاطعنا القارئ غير الصبور قائلا: "إن الجميع دون استثناء متفقون على ذلك!" وإن التعليمات الجديدة إلى هيئة تحرير "رابوتشييه ديلو"، هذه التعليمات التي اتخذت في آخر مؤتمر "للإتحاد"، تقول بصراحة: "ينبغي أن يستفاد، من أجل الدعاية والتحريض السياسيين، من جميع ظواهر وأحداث الحياة الإجتماعية والسياسية التي تمس البروليتاريا إما مباشرة بوصفها طبقة على حدة وإما بوصفها طليعة جميع القوى الثورية في النضال من أجل الحرية" ("مؤتمران"، ص 17. حرف التأكيد لنا).
أجل، إنها لكلمات طيبة وصحيحة كل الصحة، ونكون راضين كل الرضى لو فهمتها "رابوتشييه ديلو"، ولو لم تقل إلى جانب هذه الكلمات ما يناقضها. إذ لا يكفي اتخاذ اسم "الطليعة"، أو الفصيلة الأمامية؛ بل ينبغي أن نعمل بشكل يحمل جميع الفصائل الأخرى على أن ترى وعلى أن تعترف بأننا نسير في المقدمة. ونحن نسائل القارئ: هل ممثلو "الفصائل" الأخرى من البلاهة بحيث يصدقوننا لمجرد ادعائنا بأننا "الطليعة"؟ بحسبكم أن تتصوروا هذا المشهد: يذهب اشتراكي-ديموقراطي إلى "فصيلة" الراديكاليين الروس المثقفين أو الدستوريين الليبراليين ويقول: نحن الطليعة؛ "وتواجهنا الآن المهمة التالية: كيف نضفي الطابع السياسي، بقدر الإمكان، على النضال الإقتصادي نفسه". وما أن يسمع هذا الخطاب راديكالي أو دستوري ذكي لدرجة ما (والأذكياء على كل حال كثيرون بين الراديكاليين والدستوريين الروس) حتى يبتسم ويقول (في نفسه طبعا، لأنه في معظم الحالات ديبلوماسي خبير): "كم هي ساذجة هذه "الطليعة"! إنها عاجزة حتى عن أن تفهم أن إضفاء الطابع السياسي على نضال العمال الإقتصادي نفسه هو مهمتنا، مهمة ممثلي الديموقراطية البرجوازية المتقدمين. فنحن أيضا كشأن جميع البرجوازيين في أوروبا الغربية، نريد أن نجذب العمال إلى السياسة، ولكن السياسة التريديونيونية على وجه الضبط، لا السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. فالسياسة التريديونيونية لطبقة العمال هي على وجه الدقة السياسة البرجوازية لطبقة العمال. وعندما تضع هذه "الطليعة" صيغة لمهمتها فهي بالضبط تضع صيغة السياسة التريديونيونية! فليقولوا عن أنفسهم أنهم إشتراكيون-ديموقراطيون ما طاب لهم ذلك. فأنا لست في الحقيقة طفلا أغضب لمجرد الألقاب! المهم أن لا ينجروا مع هؤلاء الأشرار أصحاب العقيدة الجامدة، الأرثوذكس، المهم أن يتركوا "حرية النقد" إلى الذين يجرون الاشتراكية-الديموقراطية عن غير وعي إلى المجرى التريديونيوني!" وتنقلب بسمة هذا الدستوري الناعمة إلى قهقهة عاصفة عندما يعلم أن الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين يتكلمون عن دور الاشتراكية-الديموقراطية الطليعي في هذا الوقت الذي تكاد فيه العفوية تسيطر سيطرة تامة في حركتنا لا يخشون شيئا كخشيتهم "الإنتقاص من شأن العنصر العفوي"، كخشيتهم "التقليل من أهمية تقدم النضال الجاري المعتاد بالقياس إلى الدعوة للأفكار البراقة والمتبلورة"، الخ.، الخ.! أهي فصيلة "الطليعة" التي تخشى أن يسبق الوعي العفوية، التي تخشى وضع "مشروع" جرئ ينتزع اعتراف الجميع حتى من الذين يفكرون على نمط آخر! أتراهم يخلطون بين كلمة الطليعة وكلمة المؤخرة؟ اعملوا الفكر حقا في حجة مارتينوف التالية. إنه يقول في الصفحة 40 أن تكتيك "الإيسكرا" التشهيري ذو وجه واحد وأننا "مهما بذرنا من بذور الحذر والحقد حيال الحكومة، لا نبلغ الهدف ما لم يتيسر لنا تنمية همة اجتماعية نشيطة لدرجة تكفي لإسقاطها". ونقول بين قوسين أن هذا هو ما قد عرفناه من الإهتمام بإنماء نشاط الجماهير مع النزوع إلى التقليل من نشاطهم أنفسهم. ولكن القضية لا تكمن في هذا الآن. إن مارتينوف يتحدث هنا، إذن، عن الهمة الثورية ("من أجل الإسقاط"). وإلى أي استنتاج يخلص؟ بما أن الفئات الإجتماعية المختلفة تتجه حتما في الوقت العادي اتجاهات مختلفة، "يتضح نظرا لذلك أننا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين لا نستطيع أن نقود في وقت واحد العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة، لا نستطيع أن نملي عليها برنامجا إيجابيا للعمل، لا نستطيع أن نبين لها الطرق التي ينبغي لها أن تتبعها في نضالها اليومي من أجل مصالحها…
أما الفئات الليبرالية فتهتم هي نفسها بالنضال النشيط من أجل مصالحها المباشرة، ذلك النضال الذي يصدمها وجها لوجه بنظامنا السياسي" (ص 41).
وهكذا فإن مارتينوف ما إن بدأ بالكلام عن الهمة الثورية، عن النضال النشيط من أجل إسقاط الحكم المطلق، حتى انزلق إلى الهمة المهنية، إلى النضال النشيط من أجل المصالح المباشرة! غني عن القول أننا لا نستطيع أن نقود نضال الطلاب والليبراليين وغيرهم، من أجل "مصالحهم المباشرة"، ولكن الحديث لم يدر في هذا الموضوع يا أيها "الإقتصادي" المحترم! لقد تحدثنا عن اشتراك مختلف الفئات الإجتماعية الممكن والضروري في إسقاط الحكم المطلق. وهذا "العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة" لا نستطيع قيادته وحسب، بل يجب علينا أن نقوده حتما، إذا كنا نريد أن نكون "الطليعة". أما "صدم" طلابنا وليبيراليينا وغيرهم "وجها لوجه بنظامنا السياسي" فهو أمر لا يهتمون هم به وحسب، بل إنه الأمر الذي تهتم به قبل الجميع وأكثر من الجميع، الشرطة نفسها، وموظفو الحكومة الاستبدادية أنفسهم. ولكن ينبغي لنا "نحن" إذا كنا نريد أن نكون ديموقراطيين طليعيين، أن نهتم بصدم المستائين على وجه الخصوص من الحالة السائدة في الجامعات وحدها، أو في الزيمستفوات وحدها، الخ.، بفكرة أن النظام السياسي كله غير صالح. ينبغي لنا أن نأخذ على عاتقنا مهمة تنظيم نضال سياسي شامل تحت قيادة حزبنا نحن بشكل يمكن سائر الفئات المعارضة على اختلافها من أن تقدم لهذا النضال ولهذا الحزب، ويجعلها تقدم بالفعل ما في وسعها من مساعدة. ينبغي لنا أن نخلق من الاشتراكيين-الديموقراطيين المشتغلين في الميدان العملي، قادة سياسيين يحسنون قيادة جميع مظاهر هذا النضال الشامل، يحسنون في اللحظة المناسبة "إملاء برنامج إيجابي للعمل" على الطلبة الذين هم في غليان، وعلى الزيمستفويين الساخطين، وعلى أتباع البدع الغاضبين وعلى المعلمين الشعبيين المظلومين، الخ.، الخ.. ولذا ليس بصحيح على الإطلاق ما يزعمه مارتينوف من أننا "لا نستطيع أن نبرز حيال هذه الفئات إلا في دور سلبي، إلا في دور المشهر بالأوضاع… لا نستطيع سوى تبديد آمالها في مختلف اللجان الحكومية" (حرف التأكيد لنا). إن مارتينوف يبرهن بقوله هذا أنه لا يفهم أي شيء على الإطلاق في مسألة دور "الطليعة" الثورية الحقيقي. وإذا ما أخذ القارئ ذلك بعين الإعتبار، اتضح له المعنى الحقيقي لكلمات مارتينوف هذه: ""الإيسكرا" هي جريدة المعارضة الثورية وهي تشهر بأوضاعنا والسياسية منها بصورة رئيسية ما دامت تصطدم بمصالح مختلف فئات السكان. أما نحن فنعمل وسنعمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري. ونحن بتضييقنا ميدان تأثيرنا نزيد بذلك تركيز التأثير نفسه" (ص 63). إن المعنى الحقيقي لهذا الإستنتاج هو أن الإيسكرا" تريد رفع مستوى السياسة التريديونيونية لطبقة العمال (التي يكتفي بها المشتغلون في الميدان العملي عندنا في حالات كثيرة، إما لسوء الفهم أو لعدم الإستعداد أو بسبب الإعتقاد) إلى مستوى السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. أما "رابوتشييه ديلو" فتريد أن تهوي بالسياسة الاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى السياسة التريديونيونية. وهي في أثناء ذلك تؤكد للجميع ولكل بمفرده أن هذين "موقفان قابلان للاتفاق كليا في القضية العامة" (ص 63)O, sancta simplicitas! وبعد، هل نملك من القوى ما يكفي لتوجيه دعايتنا وتحريضنا إلى جميع طبقات السكان؟ نعم، بكل تأكيد. "فاقتصاديو"نا الذين يميلون في كثير من الأحيان إلى إنكار ذلك، يغفلون الخطوة الكبرى التي خطتها حركتنا إلى الأمام منذ سنة 1894 (تقريبا) حتى سنة 1901. فهم لكونهم "ذيليين" حقا يعيشون في الغالب بتصورات عهد بداية الحركة الذي انصرم منذ وقت بعيد. في ذلك الحين كانت قوانا في الحقيقة قليلة جدا، في ذلك الحين كان من الطبيعي والمشروع أن نلح على الإنصراف بكل قوانا إلى العمل بين العمال وأن نشجب بشدة كل انحراف عنه، فقد كانت المهمة كلها تنحصر آنئذ في توطيد مواقعنا في صفوف الطبقة العاملة. أما اليوم فقد انجذبت إلى الحركة قوى كبرى، وإلينا تتجه نخبة ممثلي الجيل الناشئ من الطبقات المثقفة، ويضطر دائما وأبدا للإقامة في جميع الأقاليم أناس ساهموا في الحركة أو لديهم رغبة بالمساهمة فيها، أناس يميلون إلى الاشتراكية-الديموقراطية (بينما كان الإشتراكيون-الديموقراطيون الروس يعدون على أصابع اليد في سنة 1894). إن أحد النواقص الأساسية، السياسية والتنظيمية، في حركتنا، هو كوننا لا نحسن استخدام جميع هذه القوى وتكليف الجميع بالعمل الملائم لهم (وسنتكلم عن ذلك بمزيد من التفصيل في الفصل التالي). والأكثرية الكبرى من هذه القوى محرومة تماما من كل إمكانيات "التوجه إلى العمال" بشكل لا مجال معه إلى الحديث عن خطر تحويل القوى عن قضيتنا الأساسية. ولكيما نقدم للعمال المعرفة السياسية الحية الشاملة الحقيقية، يجب أن يكون لدينا "رجالنا"، يجب أن يكون لدينا اشتراكيون-ديموقراطيون في كل مكان، في جميع الفئات الإجتماعية وفي جميع المواقع التي توفر إمكانية معرفة النوابض الداخلية لآلة دولتنا. ونحن بحاجة إلى هؤلاء الناس لا للدعاية والتحريض وحسب، بل أيضا، وعلى وجه الخصوص، للتنظيم. وهل من صعيد للعمل بين جميع طبقات السكان؟ إن من لا يرى ذلك يثبت مرة أخرى أن وعيه متخلف عن نهوض الجماهير العفوي. لقد أثارت الحركة العمالية ولا تزال تثير لدى بعضهم الإستياء، ولدى آخرين الأمل بتأييد المعارضة، ولدى قسم ثالث إدراك تعذر الحكم المطلق وحتمية انهياره. إننا لا نكون "ساسة" واشتراكيين-ديموقراطيين إلا بالقول (كثيرا جدا ما يحدث ذلك في الحياة) إذا لم ندرك أن من واجبنا أن نستفيد من جميع مظاهر الاستياء على اختلافها، أن نجمع وندرس جميع بذور الاحتجاج ولو كان في حالة جنينية. ناهيك عن أن الملايين والملايين من الفلاحين الكادحين والحرفيين وصغار المنتجين وغيرهم، ستصغي على الدوام بتعطش إلى دعاية اشتراكي-ديموقراطي ماهر إلى حد ما.
ولكن هل من الممكن أن نشير ولو إلى طبقة من طبقات السكان تخلو من أشخاص وجماعات وحلقات من الساخطين على الاستبداد والطغيان، والقابلين بالتالي لدعاية الإشتراكي-الديموقراطي، المفصح عن أشد الأماني الديموقراطية العامة إلحاحا؟ وإذا أراد أحد أن يكوّن لنفسه صورة ملموسة عن هذا التحريض السياسي للإشتراكي-الديموقراطي بين جميع طبقات السكان وفئاتهم، فنحن ندله على التشهير السياسي بمعنى الكلمة الواسع بوصفه الوسيلة الرئيسية (ولكن لا الوحيدة طبعا) لهذا التحريض. لقد كتبت في مقالي "بم نبدأ؟" ("الإيسكرا"، العدد 4، أيار - مايو- سنة 1901)، هذا المقال الذي سنتحدث عنه بتفصيل فيما يأتي من البحث: "ينبغي لنا أن نوقظ الشغف إلى التشهير السياسي في جميع فئات السكان الواعين بعض الشيء ولا ينبغي أن نتهيب حيال ما نراه اليوم من ضعف وندرة ووجل من الناحية السياسية في أصوات التشهير. فسبب ذلك ليس البتة تسليم الجميع بالطغيان البوليسي، سبب ذلك هو كون الناس القادرين على التشهير والمستعدين له، لا يجدون منبرا يرفعون منه أصواتهم، لا يجدون بيئة تصغي إلى الخطباء بانتباه وتشجعهم، لا يرون هنا وهناك في الشعب قوة تستحق جهد التوجه إليها بالشكاية من الحكومة الروسية "ذات الحول والطول"… وفي وسعنا اليوم ومن واجبنا إنشاء منبر للتشهير بالحكومة القيصرية أمام الشعب كله. وهذا المنبر ينبغي أن يكون الجريدة الاشتراكية-الديموقراطية". والبيئة المثلى لهذا التشهير السياسي هي بالذات الطبقة العاملة التي تحتاج قبل كل شيء وأكثر ما تحتاج إلى المعرفة السياسية الحية والشاملة، الطبقة العاملة التي تفوق الجميع في قدرتها على تحويل هذه المعرفة إلى نضال نشيط وإن كان لا يبعث الأمل بأية "نتائج حسية". أما منبر التشهير أمام الشعب كله فلا يمكن أن يكون غير جريدة لعامة روسيا.
"فبدون جريدة سياسية لا يمكن في أوروبا الراهنة تصور حركة جديرة بأن توصف بأنها سياسية". وروسيا من وجهة النظر هذه هي أيضا دونما شك من أوروبا الراهنة. فمنذ أمد بعيد غدت الصحافة عندنا قوة، وإلا لما أنفقت الحكومة عشرات الألوف من الروبلات لرشوتها ولتمويل أناس من أمثال كاتكوف وميشيرسكي.
وليس بالحادث الجديد في روسيا ذات الحكم المطلق أن تحطم الصحف السرية حواجز الرقابة وتجبر الجرائد العلنية والمحافظة على التحدث عنها جهارا. فقد حدث ذلك في سنوات العقد الثامن وحتى في سنوات العقد السادس.
ولكم ازدادت اليوم سعة وعمقا الفئات الشعبية المستعدة لقراءة الصحف السرية وللتعلم منها "كيف تحيا وكيف تموت"، على حد تعبير عامل وجه رسالة إلى "الإيسكرا" (العدد 7). إن التشهير السياسي هو إعلان الحرب على الحكومة مثلما أن التشهير الإقتصادي هو إعلان الحرب على صاحب المعمل. ويكتسب إعلان الحرب هذا أهمية معنوية تزداد بمقدار ما تتسع وتقوى حملة التشهير هذه، وبمقدار ما تزداد عددا وعزما الطبقة الإجتماعية التي تعلن الحرب لتبدأ الحرب. ولذلك فالتشهير السياسي هو بحد ذاته وسيلة قوية من وسائل تفسيخ النظام المعادي، وسائل فصل العدو عن حلفائه الطارئين أو المؤقتين، وسائل بذر بذور العداء والحذر بين المشتركين الدائمين في السلطة الإستبدادية. لا يمكن أن يصبح طليعة للقوى الثورية في زمننا غير الحزب الذي ينظم تشهيرا يسترعي انتباه الشعب كله حقا. ولكلمة "الشعب كله" مضمون كبير جدا. والأكثرية الكبرى من المشهرين الذين لا ينتسبون إلى الطبقة العاملة (والحال أن من يريد أن يكون الطليعة ينبغي له أن يجذب الطبقات الأخرى) هم ساسة حُصفاء وأناس عمليون رابطو الجأش، يعرفون حق المعرفة مبلغ خطر "الشكوى" حتى من موظف صغير، ناهيك عن الحكومة الروسية "ذات الحول والطول". وهم لن يتوجهوا إلينا بالشكوى، إلا عندما يرون أنها ستكون فعلا ذات تأثير، وأننا قوة سياسية. ولكيما نصبح مثل هذه القوة في نظر الآخرين لا يكفي أن نعلق لافتة "الطليعة" على نظرية المؤخرة وممارستها، بل ينبغي لنا أن نعمل بدأب وإصرار على رفع مستوى وعينا ومبادرتنا وهمتنا. سيسألنا، ولقد سألنا بالفعل، المتحمس حماسا يفوق المعقول "للصلة العضوية الوثيقة بالنضال البروليتاري": - ولكن إذا كان ينبغي لنا أن نأخذ على عاتقنا تنظيم تشهير بالحكومة يستدعي انتباه الشعب كله حقا، فبم يتجلى طابع حركتنا الطبقي؟ - إنه يتجلى في كون تنظيم هذا التشهير الذي يسترعي انتباه الشعب كله يجري بالذات من قبلنا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين؛ - يتجلى في كون شرح جميع القضايا التي يثيرها التحريض سيجري على الدوام بالروح الاشتراكية-الديموقراطية دون أي تسامح بتشويه الماركسية عن قصد أو غير قصد؛ - يتجلى في كون هذا التحريض السياسي الشامل سيجري من قبل حزب يوحد في كل لا يتجزأ، الهجوم على الحكومة باسم الشعب كله وتربية البروليتاريا تربية ثورية مع الإحتفاظ باستقلالها السياسي، وقيادة نضال الطبقة العاملة الاقتصادي والاستفادة من اصطداماتها العفوية مع مستثمريها، هذه الإصطدامات التي تستنهض وتجذب إلى معسكرنا فئات جديدة وجديدة من البروليتاريا! ولكن إحدى السمات المميزة جدا "للإقتصادية" هي بالضبط عدم فهم هذه الصلة، بل قل عدم فهم هذا التوافق بين ما تحتاج إليه البروليتاريا أشد الحاجة (التربية السياسية الشاملة عن طريق التحريض والتشهير السياسيين) وما تحتاج إليه الحركة الديموقراطية العامة. وعدم الفهم هذا لا يتجلى في العبارات "المارتينوفية" وحسب، بل يتجلى أيضا في استشهادات بوجهة نظر طبقية مزعومة، استشهادات يطابق معناها هذه العبارات كل المطابقة. إليكم، مثلا، كيف يفصح عن ذلك واضعو الرسالة "الإقتصادية" في العدد 12 من "الإيسكرا": "إن نقص "الإيسكرا" الأساسي نفسه (المغالاة في أهمية الإيديولوجيا) هو سبب عدم تماسكها في المسائل المتعلقة بموقف الاشتراكية-الديموقراطية من مختلف الطبقات والإتجاهات الإجتماعية. إن "الإيسكرا"، بعد أن حلت، عن طريق الحسابات النظرية…" (لا عن طريق "نمو المهام الحزبية النامية مع نمو الحزب…") "مهمة الإنتقال الفوري إلى النضال ضد الإستبداد، وبما أنها تشعر، في أكبر الظن، بكل صعوباتها بالنسبة للعمال في الأوضاع الراهنة"…
(إنها لا تشعر وحسب، بل تعلم حق العلم أن هذه المهمة تبدو للعمال أسهل مما هي بالنسبة للمثقفين "الإقتصاديين" المعتنين بالأطفال الصغار، لأن العمال مستعدون للنضال حتى من أجل مطالب لا تبعث، إذا استعملنا تعابير مارتينوف الخالدة الذكر، أي أمل "بنتائج حسية")… "وبما أنها لا تستطيع مع ذلك أن تصبر حتى يستجمعوا القوى اللازمة لهذا النضال، فنراها تأخذ في البحث عن حلفاء في صفوف الليبراليين والمثقفين…". أجل، أجل. لم يعد في وسعنا حقا أن "نصبر" و"ننتظر" حلول ذلك الزمن السعيد الذي وعدنا به منذ عهد بعيد "التوفيقيون" على اختلاف مللهم ونحلهم، ذلك الزمن الذي يكف فيه "إقتصاديو"نا عن إلقاء تبعة تأخرهم هم على العمال وعن تبرير ضعف همتهم بما يزعمونه من عدم كفاية قوى العمال. إننا نسأل "إقتصادييـ"نا: بم ينبغي أن يتلخص "قيام العمال بتجميع القوى اللازمة لهذا النضال"؟ أليس واضحا أن ذلك يتلخص في تربية العمال السياسية، في التشهير أمامهم بجميع مظاهر الحكم المطلق البغيض القائم عندنا، أليس من الواضح أننا، من أجل القيام بهذا العمل بالذات، بحاجة إلى "حلفاء في صفوف الليبراليين والمثقفين" على استعداد لمشاطرتنا ما عندهم من التشهير بالحملة السياسية التي تشن على الزيمستفويين(76) وعلى المعلمين والإحصائيين والطلاب الخ.؟ هل من الصعب في الحقيقة فهم هذا "الأمر العويص" المدهش؟ أولم يؤكد لكم ب.ب. آكسيلرود منذ سنة 1897 أن: "مهمة اكتساب الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس للأنصار والحلفاء من مباشرين وغير مباشرين بين الطبقات غير البروليتارية يحددها بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية طابع الدعاية في البيئة البروليتارية نفسها"؟ ومع ذلك ما يزال مارتينوف وأضرابه وغيرهم من "الإقتصاديين" يتصورون أنه ينبغي للعمال في البدء أن يجمعوا القوى (من أجل السياسة التريديونيونية) "عن طريق النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة"، لكي "ينتقلوا" بعد ذلك فقط، على ما يبدو، من "تربية النشاط" التريديونيونية إلى النشاط الإشتراكي-الديموقراطي! ويضيف "الاقتصاديون" قائلين: "…إن "الإيسكرا" في بحثها كثيرا ما تحيد عن وجهة النظر الطبقية، طامسة التناقضات الطبقية وواضعة في المقام الأول شيوع الإستياء من الحكومة، وإن كانت دواعي هذا الإستياء ودرجاته متفاوتة جدا لدى "الحلفاء".
وهذا هو، مثلا، موقف "الإيسكرا" من الزيمستفو"… فـ"الإيسكرا"، على حد زعمهم، "تعد النبلاء، المستائين من صدقات الحكومة، بأن الطبقة العاملة ستساعدهم، وهي تفعل ذلك دون أن تنبس بكلمة عن التنافر الطبقي بين هاتين الفئتين من السكان". وإذا ما رجع القارئ إلى مقالي "الحكم المطلق والزيمستفو" ("الإيسكرا"، العددان 2 و4)، المقالين اللذين يشير إليهما، في أكبر الظن، واضعو الرسالة، يرى أن هذين المقالين يتناولان موقف الحكومة من "التحريض الرخو الذي تقوم به الزيمستفو البيروقراطية المراتبية" ومن "مبادرة الطبقات المالكة نفسها". وقد جاء في المقال أن العامل لا يجوز له أن يقف موقف عدم الإكتراث من نضال الحكومة ضد الزيمستفو وأن الزيمستفويين مدعوون إلى ترك الخطابات الرخوة وإلى قول كلمتهم بقوة وحزم عندما تقف الاشتراكية-الديموقراطية الثورية في وجه الحكومة بكل قامتها. ما هو الأمر الذي لا يوافق عليه هنا واضعو الرسالة؟ لا ندري. ترى هل يحسبون أن العامل "لن يفهم" كلمات: "الطبقات المالكة" و"الزيمستفو البيروقراطية المراتبية"؟ هل يحسبون أن دفع الزيمستفويين إلى الإنتقال من الكلمات الرخوة إلى الكلمات الحازمة "مغالاة في أهمية الإيديولوجيا؟". هل يظنون أن العمال "سيجمعون القوى" للنضال ضد الحكم المطلق إذا كانوا لا يعرفون موقف الحكم المطلق من الزيمستفو أيضا؟ كل هذه الأمور لا نعرفها.
إنما هنالك أمر جلي: وهو أن واضعي الرسالة يتصورون المهام السياسية التي تواجه الاشتراكية-الديموقراطية تصورا غامضا جدا. ويظهر ذلك بجلاء أكبر من عبارتهم: "وهذا هو أيضا" (أي أنه "يطمس" أيضا "التناحرات الطبقية") "موقف "الإيسكرا" من حركة الطلاب". فبدلا من نداء العمال إلى أن يعلنوا بمظاهرة علنية أن المصدر الحقيقي للعنف والطغيان والإستهتار المنفلت ليس الطلاب، بل الحكومة الروسية ("الإيسكرا" العدد 2)، كان علينا، على ما يبدو، أن ننشر حججا مستوحاة من "رابوتشايا ميسل"! وهذه الأفكار تصدر عن اشتراكيين-ديموقراطيين في خريف سنة 1901، بعد أحداث شباط (فبراير) وآذار (مارس)، وعلى أبواب نهضة طلابية جديدة تظهر أن "عفوية" الإحتجاج على الحكم المطلق تسبق في هذا الميدان أيضا القيادة الواعية للحركة من قبل الاشتراكية-الديموقراطية.
إن نزوع العمال العفوي إلى الدفاع عن الطلاب الذين انهالت عليهم عصى الشرطة والقوزاق يسبق نشاط المنظمة الاشتراكية-الديموقراطية الواعي! ويستطرد واضعو الرسالة: "ومع ذلك فـ"الإيسكرا" تشجب بشدة في مقالات أخرى كل مساومة، وتأخذ جانب الدفاع، مثلا، عن عدم تسامح الغيديين". إننا ننصح الذين يدعون عادة بغرور وخفة بالغين أن الخلافات الموجودة في بيئة الاشتراكيين-الديموقراطيين الحاليين غير جوهرية وأنها لا تبرر الإنشقاق، - بأن يمعنوا الفكر في هذه الكلمات. فهل يمكن أن يتعاون في منظمة واحدة، تعاونا مثمرا، أناس يؤكدون أننا لم نفعل غير النزر اليسير في تبيان عداء الحكم المطلق لمختلف الطبقات وفي اطلاع العمال على معارضة مختلف الفئات للحكم المطلق، مع أناس يرون في هذا الأمر "مساومة"، مساومة، على ما يبدو، مع نظرية "النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة"؟ لقد تحدثنا، بمناسبة مرور أربعين سنة على تحرير الفلاحين، عن ضرورة إدخال النضال الطبقي في القرية (العدد 3)(77)، وتحدثنا بمناسبة مذكرة فيته(78) السرية عن التضاد بين الإستقلال الإداري الذاتي والحكم المطلق (العدد 4)؛ وهاجمنا، بمناسبة القانون الجديد، ما يظهره ملاكو الأراضي والحكومة التي تخدمهم من ميل إلى نظام القنانة (العدد 8)(79) ورحبنا بمؤتمر الزيمستفوات السري وشجعنا الزيمستفويين على ترك الإسترحامات المهينة والإنتقال إلى النضال (العدد 8)•؛ لقد شجعنا الطلاب الذين أخذوا يدركون ضرورة النضال السياسي والذين شرعوا بهذا النضال (العدد 3) وقرعنا في الوقت نفسه "بلادة الذهن الوحشية" التي أظهرها أنصار الحركة "الطلابية الصرف" الذين دعوا الطلاب إلى عدم الإشتراك في مظاهرات الشوارع (العدد 3، لمناسبة النداء الصادر عن لجنة الطلاب التنفيذية بموسكو في 25 شباط - فبراير)؛ وقد فضحنا "الأحلام الجوفاء" و"النفاق والكذب" من جانب المحتالين الليبراليين في جريدة "روسيا"(80) (العدد 5) وأشرنا في الوقت نفسه إلى جنون السجن الحكومي الذي "ينكل بكتاب مسالمين وبأساتذة وعلماء شيوخ، وبزيمستفويين ليبيراليين مرموقين" (العدد 5: "غارة بوليسية على الأدب")؛ لقد فضحنا جوهر برنامج "عناية الدولة بتحسين ظروف حياة العمال" ورحبنا بـ"الإعتراف القيم" التالي: "درء المطالب النابعة من أسفل، بإصلاحات من أعلى، خير من انتظار حدوث الاحتمال الأول" (العدد 6)؛ لقد شجعنا الإحصائيين المحتجين (العدد 7) ونددنا بالإحصائيين كاسري الإضراب (العدد 9). إن من يرى في هذا التكتيك تعمية لوعي البروليتاريا الطبقي ومساومة مع الليبرالية يثبت بالتالي أنه لا يفهم على الإطلاق المعنى الحقيقي لبرنامج "Credo" ويطبق de facto هذا البرنامج بالذات مهما تبرأ منه! لأنه يجر بذلك الاشتراكية-الديموقراطية إلى "النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة" ويتقهقر أمام الليبرالية بتخليه عن مهمة التدخل النشيط في كل مسألة "ليبيرالية" وعن تحديد موقفه هو، موقفه الإشتراكي-الديموقراطي، من هذه المسألة.
يتبع