ظهور وتطور الفلسفة الماركسية


خليل اندراوس
2024 / 12 / 14 - 12:52     


وضع الفلسفة الماركسية زعيما الطبقة العاملة العظيمان كارل ماركس (1818 – 1883) وفريدريك انجلز (1820 – 1895) وهذه الفلسفة ليست مجرد ثمرة عبقرية واضعيها، بل هي وليدة ذلك العصر ومطلب الزمن والتاريخ الإنساني.

ان ظهور الفلسفة الماركسية هو النتيجة الطبيعية للتطور التاريخي، وقد ولدتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية المناسبة، وكانت لها مقدمات علمية طبيعية واجتماعية واقتصادية وفلسفية معينة.

عند منتصف القرن التاسع عشر كانت الرأسمالية قد حلت محل الاقطاع في عدد من الدول الأوروبية وفي كندا والولايات المتحدة. والتطور الرأسمالي جلب معه تقدما كبيرا في الإنتاج وتطورا سريعا للتقنية والعلم والثقافة. كما ولدت الرأسمالية طبقة رأس المال وكذلك ولدت الطبقة العاملة، وفي ظل تطور الرأسمالية وخاصة الآن في ظل النظام الامبريالي العالمي تتفاقم التناقضات بين طبقة رأس المال والطبقة العاملة وبين الدول الامبريالية وبين الشعوب والقوميات المُضطهدة، حيث تسعى الدول الامبريالية وخاصة الولايات المتحدة على فرض الهيمنة المُطلقة على دول وشعوب العالم وخاصة الشرق الأوسط والأدنى، وما يجري الآن في غزة ولبنان وسوريا وباقي دول الشرق الأوسط اكبر مثل على ذلك في بداية ظهور المجتمع الرأسمالي دخلت الطبقة العاملة المحرومة من أبسط حقوقها الإنسانية في صراع طبقي نضالي ثوري عنيد ضد مستعبديها – طبقة رأس المال.

وهذا تجلى في ذلك الوقت في جمله من النضالات للبروليتاريا ضد طبقة رأس المال، فقد تمرد العمال الفرنسيون في مدينة ليون وعمال النسيج في سيليزيا بألمانية، وانتشرت الحركة الشارتية في إنجلترا على نطاق واسع وطالب العمال بظروف عمل أفضل، وأجور أعلى، ويوم عمل أقصر وهلمجرا.

لكن نضال الطبقة العاملة في ذلك الوقت كانت تلقائية وغير منظمة. ولم يكن العمال يرون بوضوح الأهداف النهائية التي يجب أن يناضلوا من اجلها، أو يعرفون الطرق والوسائل الحقيقية الفعالة للصراع ضد طبقة رأس المال. وهكذا ظهرت موضوعيا الحاجة لنظرية علمية ثورية جدلية تُمكن الطبقة العاملة من معرفة قوانين التطور الاجتماعي وإدراك حتمية هلاك النظام الرأسمالي، وحتمية الثورة وبناء مجتمع المستقبل مجتمع حرية الانسان والإنسانية المجتمع الشيوعي.

وهكذا تطور نضال الطبقة العاملة في ذلك الوقت في أواسط القرن التاسع عشر، واجه الغلم بمهمة بالغة الأهمية وهي مهمة وضع نظرية ثورية، مادية جدلية، تصبح سلاح أيديولوجي للطبقة العاملة في نضالها وصراعها ضد الرأسمالية، ضد طبقة رأس المال. وهذه هي الفلسفة الماركسية التي تمنحنا رؤيا مستقبلية لتطور المجتمع الإنساني.

لقد نزعت خيرة أدمغة البشرية الى فهم تاريخ المجتمع. وأنشأت مذاهب فلسفية ونظريات اقتصادية، ورسمت صور النظام الاجتماعي المثالي الذي انعكس فيه ايمان الشعب بانتصار مجتمع العدالة الاجتماعية القادم.

ولكن تخلف العلاقات الاجتماعية ونقص المعارف العلمية أضفيا على هذه النظريات طابعا طوباويا مثاليا.

ولكن في حوالي منتصف القرن التاسع عشر اختمرت المُمهدات اللازمة لنشوء الفلسفة المادية الجدلية التاريخية الفلسفة الماركسية. فقد أظهر تطور الرأسمالية بوضوح ما للاقتصاد كبناء تحتي للمجتمع من دور حاسم في البناء الفوقي للمجتمع في الحياة الاجتماعية. وهكذا في القرن التاسع عشر تهيأت التربة للنظرة الفلسفية الجديدة الشيوعية. ففي ذلك الحين كان الفكر الاجتماعي الطليعي، اعرابا عن مطالب الممارسة، قد طرح تلك المسائل التي كان يجب على التعاليم الماركسية ان تُجيب عليها، وأصبحت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والاقتصاد السياسي الإنجليزي، والاشتراكية الطوباوية الفرنسية هي الينابيع التي نشأت منها الفلسفة الماركسية.

كان هيغل وفورباخ الألمانيين الممثلين البارزين للفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وكان فضل هيغل أنه وضع نظرية عن التطور. ولكن هذه النظرية كانت محدودة لأن هيغل يعتقد أن الذي يتطور ليس الطبيعة بل فكرة مُطلقة هي أساس العالم وعلته النهائية. أما فورباخ فبالعكس، اثبت أن الطبيعة يمكن تفسيرها بذاتها دون اللجوء الى تصورات صوفية ولا علمية، عن الفكرة المطلقة، كما كان يطرح هيغل. ولكن آراء فورباخ كانت محدودة أيضا. فهو لم يستفيد من ما لنظرية هيغل عن التطور من أهمية هائلة ولم يستطع أن يطبقها على الطبيعة والتاريخ. وهكذا كانت نظريتا هيغل وفورباخ تضمان أفكارا أصبحت بمثابة نقطة انطلاق لإنشاء الفلسفة الماركسية.

وفي ميدان الاقتصاد السياسي كان الاقتصاديان البريطانيان سميث وريكاردو سلفين للماركسية. فبإثباتهما أن العمل هو ينبوع الثروات التي يصنعها الانسان هيأ التربة لإنشاء الاقتصاد السياسي العلمي.

وأما الاشتراكيون الطوباويون الكبار سان سيمون وفورييه، وأووين فقد انتقدوا النظام الرأسمالي انتقادا لا هوادة فيه ووضعوا خُططا لمجتمع مثالي خالص ومُتحرر من الاستغلال. ولكن نظرياتهم لم تُبين الطرق العملية المؤدية الى هذا الهدف.

وكان الاشتراكيون الطوباويون يرون في سذاجة ومثالية أن الطريق المُؤدي الى النظام المثالي هو تنوير المجتمع وأثارة الحوافز الأخلاقية عند المستغلين، طبقة رأس المال. ومع ذلك فقد يسرت نظرياتهم أمر تطور وانشاء الفلسفة المادية التاريخية الجدلية الماركسية.

لم يكن كارل ماركس وفريدريك انجلز مجرد متابعين لمن سبقهما من النظريين. وانما كيفا انطلاقا من مواقع النقد وطورا تراث الماضي الفكري وأنشأ نظرية جدلية علمية تاريخية تعبر عن المصالح الجذرية لأكثر الطبقات طليعية وثورية في المجتمع البرجوازي – البروليتاريا – الطبقة العاملة. وهكذا حقق مؤسسا الماركسية ماركس وانجلز ثورة في الفكر السياسي الاجتماعي وسلحا الطبقة العاملة بسلاح فكري علمي جدلي ثوري لتحويل العالم، من أجل بناء مجتمع المستقبل مجتمع حرية الانسان والإنسانية، مملكة الحرية على الأرض.

ان النظرية الماركسية في تبيانها لطرق تحويل المجتمع على الأسس الشيوعية، تنطلق من فهم علمي للعالم.

ولهذا فان أحد أهم الأجزاء المُكونة للماركسية هو الفلسفة – أي علم أعم قوانين تطور الطبيعة والمجتمع والمعرفة.

ولكن معرفة القوانين العامة وحدها لا تكفي لفهم أسباب حلول هذا النظام الاجتماعي محل ذاك. فبين جميع العلاقات الاجتماعية تشغل العلاقات الاقتصادية، أو الإنتاجية، المرتبة الأولى. وبدون فهم طبيعة هذه العلاقات لا يمكن الجواب على هذا السؤال: كيف الوصول الى الاشتراكية والشيوعية؟

ولهذا أصبح الاقتصاد السياسي – أي علم تطور العلاقات الإنتاجية، جزءا آخر من أهم الأجزاء المُكونة للماركسية. والجزء الثالث من أهم الأجزاء المكونة للماركسية هو نظرية الشيوعية العلمية التي تكشف بالاستناد الى الفلسفة الماركسية والاقتصاد (البقية ص 20)السياسي الماركسي، عن قوانين نشوء وتطور المجتمع الشيوعي.

ولكن الفلسفة الماركسية لم تنحصر في تطور الفلسفة والاقتصاد السياسي ونظرية الشيوعية العلمية، بل لقد حققت ثورة في جميع مجالات المعرفة عن المجتمع: في علم التاريخ، وفي علم الاخلاق، وفي علم الجمال، وفي علم اللغة، وفي الحقوق ..... الخ.

وإذا أردنا الحق فان كل هذه وغيرها من فروع المعرفة لم تصبح ذات طابع علمي حقا وصدقا الا عندما تسلحت بطرقة البحث الماركسية، أي بالأسلوب الماركسي في دراسة هذه أو تلك من ظواهر الطبيعة والمجتمع.

وهكذا فان الماركسية هي نظام مُنسجم من النظرات العلمية عن القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع، وعن حتمية انتصار الثورة الاشتراكية وعن طرق بناء الاشتراكية والشيوعية. ان جميع الأجزاء المُكونة للماركسية متصل بعضها ببعض، اتصالا لا ينفصم. فالفلسفة الماركسية هي نظرية علمية جدلية تاريخية شاملة ناجزة." والماركسية ليست عقيدة جامدة بل ارشاد للعمل" كما كان يحب لينين أن يُعيد ويُكرر القول.

ومبادئ النظرية الماركسية تغتني دائما بالتطور الاجتماعي الجاري وبمنجزات العلم الجديدة. ان الماركسية نظرية خلاقة جدلية متطورة. وأغنى لينين النظرية الماركسية بأفكار جديدة حيث تعمق ودرس قوانين الامبريالية بوصفها على مراحل الرأسمالية.

اعلى مراحل الرأسمالية. ووضع لينين نظرية الثورة الاشتراكية، واستراتيجية وتكتيك الحركة العمالية العالمية، ونظرية الحزب. وبتعميم الخبرة الأولى بعد انتصار ثورة أكتوبر عام 1917 أنشأ نظرية بناء الاشتراكية والشيوعية. وطور لينين جميع جوانب الماركسية، ولهذا بالضبط نقول:" الفلسفة الماركسية اللينينية. وهنا أود أن أقول بانه مهم جدا التشديد والتعمق في دراسة وفهم التطورات في مجتمعنا الحاضر.

المجتمع لا بل المرحلة الامبريالية من اجل الحصول على رؤية كاملة للأحداث في عصرنا الحاضر، وكذلك مهم جدا التعمق في دراسة تأثير هذه الفلسفة المادية الجدلية التاريخية على العالم.

فالفلسفة الماركسية تعكس تحليلا عميقا للبنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات فقد أثرت بشكل كبير على الفهم العام للصراعات الاجتماعية والاقتصادية وعلى شكل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمعات حاضرنا. فالماركسية تقدم تحليلا نقديا جدليا موضوعيا للنظام الاقتصادي الرأسمالي، وتتعمق في دراسة الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي وهو النظام الاقتصادي الذي يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتبادل السلع والخدمات عبر السوق. فالماركسية تقدم تحليلا نقديا للرأسمالية حيث ترى أنها تُؤدي الى تفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وخاصة طبقة راس المال والطبقة العاملة هذا التفاقم الذي يعمق الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي هذا الصراع الذي سيؤدي حتما الى الثورة الاجتماعية، والى وصول الإنسانية الى مجتمع المستقبل. مجتمع حرية الانسان والإنسانية المجتمع الاشتراكي كمرحلة يأتي بعدها المجتمع الشيوعي – "مملكة الحرية" على الأرض.

فالفلسفة الماركسية نشأت كسلاح فكري علمي ثوري جدلي روحي للطبقة العاملة في نضالها ضد طبقة راس المال. فان حزبية الفلسفة الماركسية البروليتارية تتجلى في المقام الأول في خدمتها المتفانية للطبقة العاملة وللشعب العامل.

وفي عدم تهادنها مع أيديولوجية وسياسة الطبقة البرجوازية طبقة راس المال، الرجعية والتي أصبحت في عصرنا الحالي أكثر يمينية وعنصرية وشوفينية، وتحالفها مع الحركة الصهيونية العالمية ودعمها لحرب إبادة الشعب الفلسطيني في غزة لا بل وفي أماكن تواجد الشعب الفلسطيني أكبر مثال على ذلك.

ويتطلب مبدأ حزبية الفلسفة الماركسية، كما قال لينين:" أن نتبع خطنا ونكافح كل خط القوى والطبقات المعادية لنا". (لينين – المؤلفات الكاملة -الطبعة الروسية – المجلد 18 – ص 264).

المراجع:

-أصول الفلسفة الماركسية – تأليف جورج بوليتزر -جي بيس – وموريس كافين – تعريب شعبان بركات -منشورات المكتبة العصرية -صيدا بيروت.

-الناس والعلم والمجتمع – اصدار دار التقدم – موسكو

أسس المعارف الفلسفية – أفاناسييف.

-مدخل الى المادية الجدلية – موريس كورنفورث.