الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها النظرية السوسيولوجية العامة التي ينطلق منها أو يسترشد بها معظم علماء الاجتماع
غازي الصوراني
2024 / 12 / 13 - 20:13
المادية التاريخية التي مضي على ظهورها أكثر من قرن ونصف من الزمان مازالت تشكل موقفاً نظرياً واضحاً محدداً ,أسهم في علم الاجتماع ونظريته .
وقد يتراءى للذهن أن ماركس لم يدرس الصراع الاجتماعي مباشرة , لكنه درس الصراع الطبقي , فهل كل ما ينطبق على هذا الصراع الطبقي ينطبق أيضاً على الصراع الاجتماعي؟.
ومع التسليم بإمكانية طرح تساؤل من هذا النوع , فإن البحث الراهن يشير إلى أن الصراع الطبقي , هو بالضرورة صراع اجتماعي , هذا في الوقت الذي لا يعد فيه كل صراع اجتماعي صراعاً طبقياً, فهناك أبعاد أخرى كثيرة للصراع الاجتماعي يرتبط تصنيفها بالسياق البنائي الذي تحدث من خلاله , وبأطراف هذا الصراع . وعلى هذا فمحاولة " ماركس " تفيد في تصور الصراع الاجتماعي باعتبار الصراع بين الطبقات احد حالاته.
هذا بالإضافة إلى أن ماركس لو كان درس أي حالة أخرى من حالات الصراع – غير الصراع الطبقي , لكان فسرها مثلما فسر الصراع الطبقي , لان التفسير المادي هو التفسير الأساس في النظرية الماركسية .
وقد يوحي العنوان الحالي بتساؤل عن التركيز على المادية دون سواها من مكونات فكر ماركس . ويأتي الرد على هذا من أن كثيراً من الباحثين في الاتجاه الماركسي في علم الاجتماع , يرون أن المادية الجدلية هي الإطار العام الذي ينطبق على الطبيعة و الإنسان , والكون والبشر , في حين أن المادية التاريخية هي النظرية السوسيولوجية العامة التي ينطلق منها السوسيولوجيون الماركسيون , الذين عليهم أن يتبينوا وجود قوانينها العامة في تكوينات اجتماعية اقتصادية معينة , ومجتمعات واقعية محددة .
إن المادية التاريخية هي الإطار الأساسي لعلم الاجتماع , حيث تمده بالأسس النظرية والمنهجية , وتقدم له حلاً علمياً للسؤال السوسيولوجي المعرفي العام، الخاص بالمجتمع والذي يوضح العلاقة بين الوجود والوعي الاجتماعيين .
أولاً : التعريف بالمادية التاريخية :
يرى رواد الماركسية الذين من بينهم " فلاديمير لينين " وكذلك أنصار الاتجاه الماركسي في علم الاجتماع , أن المادية التاريخية مكوناً أساسياً وهاماً من مكونات النظرية الماركسية . وهي في ذات الوقت تمد علم الاجتماع بإطاره التصوري الأساسي , أو بعبارة أخرى تعد نظريته الأساسية التي تقدم إجابة علمية على المسألة السوسيولوجية المعرفية .
ويقصد هنا مسألة العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي , ذلك الوجود الذي تعتبره المادية التاريخية واقعا اجتماعياً موضوعياً مستقلاً عن الوعي , وتري الوعي انعكاسا وتصويرا أقل أو أكثر دقة ووضوحا له . وعلى الأساس فالمادية التاريخية هي إطار علم الاجتماع العلمي Scientific Sociology الذي يدرس القوانين العامة للتطوير الاجتماعي , وصور حدوثها وتحققها من خلال النشاط الاجتماعي التاريخي للانسان .
ولا تعني محاولة توضيح المادية التاريخية وتمييزها هنا , وجود أي نوع من أنواع الفصل بينها وبين المادية الجدلية , لان بناء الماركسية ومكوناته كل لا يتجزأ , وأي محاولة تهدف إلى مثل هذا الفصل تعد عزلاً للمكونات عن سياقها الأساسي .
فالقضايا النظرية وكذا الفروض العلمية التي تحويها المادية التاريخية , ما هي الا تطوراً وامتداداً واقعياً لقضايا المادية الجدلية وفروضها . وهذا يعني أنهما مترابطتان ومتكاملتان .
وإذا كانت المادية الجدلية تهتم بالوجود الموضوعي المستقل عن الوعي وبتطور العالم وقوانينه العامة . فالمادية التاريخية تهتم بالوجود الاجتماعي كواقع اجتماعي موضوعي مستقل عن الوعي الاجتماعي للإنسان وبتطور المجتمع وقوانينه ، وبذلك تحتل العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي في المادية التاريخية نفس المكان الذي تحتله علاقة الوجود بالوعي في المادية الجدلية .
وثمة سؤال يقفز إلى الذهن مؤداه : هناك علوم عديدة تدرس الحياة الاجتماعية , لكن , ما الذي يميز المادية التاريخية عن غيرها في دراسة هذه الحياة ؟ وكي تتم الإجابة على هذا السؤال لابد من وضع بعض النقاط في الاعتبار :
أولاً : العلاقات المتبادلة بين القوانين العامة للتطور الاجتماعي , وبين القوانين النوعية للتكوينات الاجتماعية الاقتصادية :
ثانياً : العلاقات المتداخلة بين القوانين العامة للتطوير الاجتماعي , وبين القوانين التي تحكم تطور الجوانب المختلفة للحياة الاجتماعية . ويفهم من هذا أن قوانين المادية التاريخية تحوي قسمين من القوانين :
1- القوانين العامة التي تظهر خلال كل التكوينات الاجتماعية مثل :
• القانون الذي يحدد دور أسلوب الإنتاج في التطور الاجتماعي.
• قانون اتساق علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج .
• قانون العلاقة بين الأساس والبناء الفوقي .
• القانون الذي يحدد العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي .
2- القوانين النوعية التي تتعلق بكل تكوين اجتماعي - اقتصادي , على حده، كقانون الأساس الاقتصادي للإقطاع , أو الرأسمالية أو الاشتراكية ...إلخ.
وعلى هذا فالقوانين العامة تعبر عن الارتباطات الضرورية بين الظاهرات الاجتماعية الأساسية في كل التكوينات الاجتماعية، الاقتصادية .
وأما القوانين النوعية فتعبر عن العلاقات التي تميز كل تكوين على حدة . وبهذا فالمادية التاريخية تركز على جوهر المجتمع وتجمع بين العام والنوعي.
وحتى تتضح الصورة أكثر، نجد أنه إذا كان معظم علماء الاجتماع البرجوازيين ينكرون وجود قوانين موضوعية للتطوير , حين أشار بعضهم إلى انه من الصعب معرفة هذه القوانين فضلا عن أن منهم من أنكر وجودها . فاستجلاء مناقشات هؤلاء توضح أن من ابرز المشكلات التي تحدد الحاجة إلى معرفة قوانين الحياة الاجتماعية , مشكلة التكرار في التاريخ التي يؤكد عديد من علماء الاجتماع البورجوازيين بصددها ,أنه نظراً للاختلاف البين بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والذي يأتي من أن العلوم الاجتماعية تضطلع بالتطورات الفردية ، ومن ثم يصعب وضعها تحت قانون عام، وفكرتهم المحورية تذهب إلى أن العلم الطبيعي والتاريخ يختلف كل منهما عن الآخر,وذلك كمقدمة لنتيجة فحواها أن ليس في التاريخ قوانين موضوعية.
والذي يهم هنا ،هو أنه إذا كان علم الاجتماع البورجوازي قد أحاط بهذه الفكرة كي يواجه بين العام والخاص، فإن المادية التاريخية تنظر إليهما من خلال وحدتهما الجدلية وتفاعلهما . فالتاريخ وحدة من المتفرد والمطرد، والعام والخاص .
وجماع القول أن كشف المادية التاريخية استطاع أن يسد ثغرتين أساسيتين ظلتا ملاحقتين للنظريات السوسيولوجيه السابقة عليها.
فقد كانت تلك النظريات مثالية حين حصرت نفسها في دراسة الدوافع الأيديولوجية للنشاط الإنساني, بجانب أنها لم تدرس المحرك الأساسي لهذه الدوافع, هذا من جانب, وأنها اهتمت فقط بدراسة دور الشخصيات الهامة في التاريخ, بجانب أنها لم تدرس الأفعال الاجتماعية للجماهير من جانب آخر. وأما بعض ما يميزها (المادية التاريخية) عما سبقها من محاولات نظرية في مجال علم الاجتماع فيمكن حصره على النحو التالي:
1- النظرة الموضوعية الاجتماعية للمجتمع.
2- إبراز القيمة العلمية لعلم الاجتماع من خلال تحديد إمكانات الوصول لقوانين تحكم التطور الاجتماعي اقتصادي.
3- إبراز قيمة الفعل الاجتماعي الإنساني والإدارة الإنسانية.
4- تقديم مفاهيم علمية, وقضايا, وفروض قابلة للاختبار العلمي.
5- إبراز ديناميات البناء الاجتماعي من خلال توضيح أهمية الصراع والتغير في هذا البناء
ثانياً: مفاهيم المادية التاريخية الأساسية :
تحوي المادية التاريخية مجموعه من المفاهيم العلمية, التي كثيراً ما ينتابها الخلط وعدم الوضوح في كثير من الكتابات. ولذلك فإن تحديد هذه المفاهيم يعد خطوه أساسية وهامة لفهم مكونات البناء النظري للمادية التاريخية وتفسيرها علمياً أقرب ما يكون إلى ما قصده روادها من صوغها.
1- الأساس (أو البناء التحتي) والبناء الفوفي:
يوضح هذان المفهومان الارتباط القائم بين العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وغيرها من علاقات قائمة داخل أي مجتمع من المجتمعات ، وإذا نظرنا إلى الأساس (البناء التحتي) فنجد أنه جماع لعلاقات الإنتاج التي تقيم البناء الاقتصادي للمجتمع.
ويعد مفهومي علاقات الإنتاج والأساس ، مفهومين مترادفين، مع أنهما لا يشيران إلى شيء واحد. فمفهوم علاقات الإنتاج يرتبط بمفهوم قوى الإنتاج, في حين أن مفهوم الأساس يرتبط بمفهوم البناء الفوقي, ذلك الذي يتضمن الأفكار والتنظيمات والنظم.
كما وتتضمن أفكار البناء الفوقي وجهات النظر السياسة والتشريعية والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية والمؤسسات والتي تحدد بدورها أيضاً – الأفكار – صور الوعي الاجتماعي وأشكاله, تلك الصور والأشكال التي تعكس مباشرة العلاقات الاقتصادية.
وبالرغم من أن ظاهرة البناء الفوقي تتحدد بالأساس أو البناء التحتي فإن لها تطورها واستقلالها النسبي. وثمة نظم وتنظيمات معينة ترتبط بكل شكل أو صوره من صور الوعي الاجتماعي. فالأحزاب السياسية مثلاً ترتبط بالأفكار السياسية ، وترتبط نظم الدولة بالأفكار السياسية والتشريعية, وترتبط الكنيسة وتنظيماتها بالأفكار الدينية... إلخ.
والأمر الذي يجدر بنا ذكره, أن لكل تكوين اجتماعي اقتصادي أساس محدد وبناء فوقي يطابق هذا الأساس. ولهذا ميز رواد الماركسية ومؤرخوها بين الأساس او البناء التحتي والبناء الفوقي للمشاعية البدائية والأساس والبناء الفوقي للاقطاع وللرأسمالية والاشتراكية.
ويجب الالتفات إلى أن الأساس والبناء الفوقي ليسا مكونين ثابتين, بل هما عرضة للتغير نتيجة احلال تكوين اجتماعي اقتصادي محل آخر. ومع أن البناء الفوقي لاي تكوين من التكوينات يستمد وجوده من الأساس الاقتصادي، ويأتي تعبير عنه ، إلا أنه ليس بناء سلبياً ، حيث يلعب دوراً ايجابياً وفعالاً في المسار التاريخي للبناء الاجتماعي ويؤثر في كل جوانبه وأبعاده بما في ذلك الاقتصاد الذي يعود وجود البناء الفوقي إليه.
2- علاقات الإنتاج:
مفهوم أساسي من مفاهيم المادية التاريخية ، يعكس العلاقات المادية الموضوعية التي توجد في أي مجتمع من المجتمعات مستقلة عن الوعي الإنساني. وتتشكل هذه العلاقات بين الناس من خلال عملية الإنتاج وتبادل الثروة المادية وتوزيعها وهي تعد جانباً ضرورياً لأي أسلوب للإنتاج.
فالناس ليس بمقدورهم إنتاج شيء دون حد أدنى من الاتحاد وتبادل الأنشطة .
وأما الأساس الذي ترتكز عليه هذه العلاقات فيتمثل في العلاقة بين ملكية وسائل الإنتاج وبين الملكية الجماعية لأعضاء المجتمع ، فإذا كانت الملكية مثلا ملكية خاصة , فلا مناص من نشوء علاقات السيطرة والتبعية بين الناس ، خصوصا اولئك الذين يملكون القليل من وسائل الإنتاج أو لا يملكون منها شيئا .
وعلى ذلك فوفقا لأساس الملكية الجماعية والملكية الخاصة , يظهر الشكلين الرئيسيين والممكنين لعلاقات الإنتاج الموجودة في التاريخ : الاشتراك والمساعدة المتبادلة , أو السيطرة والخضوع .
وأما الأشكال التي ظهرت فيها الملكية الجماعية في التاريخ فهي : ملكية العشيرة , والقبيلة , والكوميون , والملكية العامة أو ملكية المزارع الجماعية التعاونية ..إلخ.
وعن الملكية الخاصة فقد ظهرت هي الأخرى تاريخيا من خلال ثلاثة أشكال أساسية هي: العبودية , والإقطاع, والرأسمالية ، وهذه الأشكال تتطابق مع الأنماط الثلاثة لاستغلال الإنسان للإنسان .
3- القوى المنتجة :
تشمل هذه القوي , وسائل الإنتاج والناس المعدين بخبرة الإنتاج وعادات العمل .وتعبر هذه القوى عن اتجاهات الناس نحو موضوعات الطبيعة وقواها التي تستخدم في إنتاج الثروة المادية.
والعمال هم القوى الأساسية المنتجة في المجتمع , الذين يحسنون أدوات العمل ويستخدمون ثروات الطبيعة على نطاق واسع , ويثرون خبرتهم الإنتاجية , ويرفعون إنتاجية العمل.
وتعد حالة قوى الإنتاج مؤشرا على درجة قوة المجتمع الإنساني وسيطرته على الطبيعة .وتتطور هذه القوى باستمرار تطورا يبدأ أولاً وقبل كل شيء بإتمام أدوات العمل . وهذا التطور المستمر يحدد الحاجة إلى تطور علاقات الإنتاج وأسلوب الإنتاج .
ويظهر لنا التاريخ الإنساني انه في التكوينات الاجتماعية الاقتصادية القائمة على التعارض بين الطبقات , ينشأ عند مرحلة معينة من مراحل تطور الإنتاج المادي تناقض , وصراع , بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ,تبدأ فيه علاقات الإنتاج في التلكؤ أو التخلف وراء مستوى قوى الإنتاج , وتتحول من أسلوب لتطوير هذه القوى إلى معوق ومكبل لها عن حركتها .
4- أسلوب الإنتاج :هو طريقة تحددها الظروف التاريخية للمجتمع , للحصول على ضرورات الحياة كالمأكل والملبس والمسكن وأدوات العمل وما إلى ذلك ، ويعد هذا الأسلوب الأساس المحدد لنسق الاجتماعي . فالمجتمع وما تسوده من أفكار وآراء سياسية , ونظم تعتمد جميعها على أسلوب الإنتاج . ولذلك فتغير هذا الأسلوب يصاحبه تغير في النسق الاجتماعي ، ويعني كل أسلوب جديد للإنتاج , مستوى جديداً في تاريخ تطور الإنسان.
وهناك جانبان مترابطان لهذا الأسلوب هما : القوى المنتجة , وعلاقات الإنتاج . وتعد القوى المنتجة العامل المحدد والأكثر ثورية لهذا الأسلوب . فتطور الإنتاج الاجتماعي يبدأ من تغير القوى المنتجة ، ويصاحبه تغير علاقات الإنتاج ,بالتالي يعتمد تطور علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج وهذا لا ينفي ان علاقات الإنتاج تمارس تأثيراً ايجابياً وفعالاً على قوى الإنتاج . فهذه العلاقات تعجل من تطور القوى المنتجة ، وتصبح قوتها الدافعة نحو التطور عندما تكون متطابقة مع القوى المنتجة , ويحدث العكس عندما لا تكون متطابقة وإياها، فتعوق تطورها , وينشأ الصراع الفعلي بين القوى المنتجة الجديدة وبين علاقات الإنتاج القديمة ، ذلك الصراع الذي يفضي إلى القوة الاجتماعية داخل التكوينات القائمة على التناقض الطبقي.
5- التكوين الاجتماعي الاقتصادي: هونموذج تاريخي للمجتمع يقوم على أسلوب إنتاج محدد , ويظهر كمرحلة في تطور الجنس البشري إلى الأمام , من المشاعية البدائية مارا بالعبودية ثم الاقطاع فالرأسمالية ثم إلى التكوين الاشتراكي، ويعد هذا المفهوم حجر زاوية للتصور المادي للتاريخ , فقد جعل في الإمكان أولا تمييز حقبة تاريخية عن أخرى . وبدلاً من أن يكون الحوار حول المجتمع ككل , ساعد هذا المفهوم في دراسة الوقائع التاريخية داخل ارتباطات تكوينات محددة .
ثالثاً : التصور المادي التاريخي للصراع الاجتماعي :
يكاد يجمع مؤرخو الماركسية وشراحها على أن كتابي "بؤس الفلسفة" و "البيان الشيوعي" هما باكورة الماركسية الناضجة . ويكاد يجمع أيضاً بعض المهتمين بدراسة الصراع الاجتماعي على أن هذين الكتابين يحويان بين أفكارهما الإطار الماركسي لدراسة الصراع الطبقي ، فالصراع الطبقي لدى ماركس هو الشكل الأساسي لصراع الإنسان ونضاله ، كما أن الطبقة تحتل لديه مكانة خاصة . فهي ظاهرة أساسية ومقولة سوسيولوجية ، ووحدة لوصف وتحليل علاقات الإنتاج التي تسود مرحلة تاريخية من مراحل تطور المجتمع الإنساني وتغيره.
وفي كتابه "بؤس الفلسفة " عندما أراد ماركس ان يوضح بذور الصراع الطبقي ، قدم مثالاً حول أوضاع العمال بالمملكة المتحدة ( بريطانيا) , وأوضح من خلاله كيف أن الظروف الاقتصادية تؤثر في المصالح وتشكل الطبقات . ففي الظروف السائدة في المجتمع البورجوازي الصناعي – تتحول جماهير الشعب إلى عمال , حيث يخلق لها تجمع رأس المال موقفاً عاماً ومصالح عامة. الأمر الذي ترى من خلاله هذه الجماهير أنها في وضع يناقض رأس المال . وعلى هذا يكون الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية صراع طبقة ضد أخرى . وهو في جوهره صراع سياسي , لان ماركس لا يقول باقصاء الحركة السياسية بعيدا عن الاجتماعية ، فليس ثمة حركة سياسية ولا تكون في نفس الوقت حركة اجتماعية.
وإذا كان "بؤس الفلسفة " قد قدم لنا مثالاً , "فالبيان الشيوعي" يقدم الاستخلاصات العامة حول الصراع الطبقي . ففيه يقرر مؤلفاه : " ماركس وانجلز" ان تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات . فالحر والعبد , والنبيل والعامي, والسيد والإقطاعي والقن والمعلم والصانع . أي بالاختصار – المضطَهدون والمضطِهدون – كانوا في تعارض مستمر وكانت بينهم حرب مستمرة , تارة ظاهرة وتارة مستترة , حرب كانت تنتهي دائما , أما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره , واما بانهيار الطبقتين المتناقضتين معاً.
وإذا كان هذا القانون العام للصراع الطبقي ، فإن " ماركس وانجلز " حرصاً على ان يقدما الشواهد والأدلة بإعطاء أمثلة سريعة حول تطور المجتمع الإنساني , وأخرى أكثر تفصيلا حول المجتمع البورجوازي الذي نشأ على أنقاض المجتمع الإقطاعي .
وإذا وقفنا أولا على مفهوم الطبقة وبالتالي على قانون الصراع الطبقي ، نجد ماركس يقر ما يلي:" ..بالنسبة الى الآن يعزى إليَّ فضل لا في اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع الحديث أو حتى الصراع بينها فقد وصف هذا الوجود المؤرخون البورجوازيين قبلي بمدى طويلة , كما أن هؤلاء المؤرخين وصفوا أيضا التشريح الاقتصادي للطبقات، واما الجديد الذي فعلته فهو البرهنة على :
1. أن وجود الطبقات يرتبط فقط بمراحل تاريخية في تطور الإنتاج .
2. أن الصراع الطبقي – في الرأسمالية – يفضي إلى دكتاتورية البروليتاريا.
3. أن هذه الديكتاتورية نفسها تسعى إلى إلغاء كل الطبقات وإقامة المجتمع اللاطبقي .
أن المحدد الأساسي , أو المتغير الأساسي لنشوء الطبقة هو الملكية . وأما المتغير الوسيط بين المتغيرات الأساسي والمتغير التابع – الطبقة – فهو تقسيم العمل . وبعبارة أخرى فإن النقطتين الموضوعتين لتحديد نشأة الطبقة هما : الملكية وتقسيم العمل .
ويذهب ماركس إلى تأكيد ذلك بإشارته :" دعني الخص لك انه كلما نما الإنتاج الرأسمالي نما تقسيم العمل واتسع استخدام الآلات وكلما اتسع تقسيم العمل واستخدام الآلات اتسعت المنافسة بين العمال واتجهت أجورهم نحو الانكماش " وتلك أول الظروف الموضوعية لنشأة طبقة العمال , ويجب ملاحظة أن إشارة " ماركس " هذه لا تعني أنهما المحددان ( الملكية " الإنتاج " , وتقسيم العمل)- الوحيدان , لان هناك متغيرات أخرى تسهم في تكوين الطبقة , فالذي يجعل العمال بالأجر والرأسماليين وملاك الأرض يكونون ثلاث طبقات اجتماعية , هو الأجر الربح والريع , هذا بالإضافة إلى أن معرفتهم (الطبقات ) بمصالحهم ومصالح الطبقات الأخرى يوضح لهم ما هنالك من تعارض بين هذه المصالح . وبعبارة أخرى فان الذي يحدد الطبقة موقعها من ملكية وسائل الإنتاج . والذي يُكَوِّن الطبقة الأفراد المتصلون بمجرد دخولهم في علاقات مع طبقة أخرى . وغالباً ما يكون هؤلاء الأفراد في علاقة خصومة من خلال المنافسة , غير أنهم عن طريق المصالح المشتركة والوعي والصراع مع الطبقات الأخرى , يطورون طبقتهم , ويصبح لهذه الطبقة وجود مستقل أكبر من مجموع أفراده .
وعلى هذا فالطبقة لدى "ماركس " كما يشير " لينين" جماعات من الناس يمكن لأحدها أن تستغل عمل الأخرى نظراً للمواقع المختلفة التي تحلها كل منها في نظام محدد من الاقتصاد الاجتماعي. واتساقا مع تصور الطبقة هذا , من جانب ,ومع انطلاق "ماركس" من ظروف الإنتاج الاجتماعي- الأساس الاقتصادي – من جانب أخر , يري ان اصطلاحات الريع Rent والمصلحة Interest والربح Profit ليست بعد سوى مسميات لجوانب ثلاثة من فائض القيمة الذي يشير إلى ذلك الجزء من القيمة الكلية للسلعة , الذي يتحقق من خلال فائض العمل أو من الأجر غير المدفوع المتضمن فيها . وهذه الجوانب الثلاثة تشتق بالتساوي من هذا الفائض , ومنه وحده .
وأما فيما يتعلق بتفسير " ماركس " للصراع الطبقي , فهو تفسير يرتبط بنظريته العامة ومفهومه المادي ان لم يكن في قلب هذه النظرية وفي بؤرة هذا المفهوم . وإذا أردنا توضيح ذلك لا نجد أدق من تلخيص " ماركس " نفسه لمفهومه وتفسيره حيث كتب يقول : " ان النتيجة العامة التي توصلت إليها، يمكن ضوغها باختصار كالأتي : يدخل الناس عن طريق الإنتاج الاجتماعي لحياتهم في علاقات إنتاج محددة , لا غنى عنها وتكون مستقلة عن إرادتهم . وهي علاقات تواكب المرحلة المحددة لتطور إنتاجهم المادي . ويتكون البناء الاقتصادي للمجتمع من جماع هذه العلاقات . وهو بناء يعد أساسا حقيقا يظهر وفقا له البناء الفوقي , القانوني والسياسي الذي تصاحبه أشكال محددة للوعي الاجتماعي .
فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد وبصفة عامة مسار Process الحياة الاجتماعية والسياسية فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم , بل على العكس , فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم . وتدخل القوى المادية للمجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطورها , في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة ,أو مع علاقات الملكية التي تعمل من خلالها . ومن خلال أشكال تطور القوى المنتجة تتغلب هذه العلاقات على قيودها ومن ثم تبدأ مرحلة الثورة الاجتماعية .
وهذا يعني أن العلاقات الاجتماعية التي ينتج من خلالها الأفراد العلاقات الاجتماعية للإنتاج ، تتغير وتتطور بتغير وتطور وسائل الإنتاج المادي ،والقوى المنتجة .وتقيم علاقات الإنتاج هذه في مجملها ما يسمي بالعلاقات الاجتماعية وما يسمي بالمجتمع ، وخاصة بالمجتمع في مرحلة محددة من مراحل تطوره التاريخي .
ولكي يوضح الكيفية التي قادته بها هذه الفكرة في دراسة الصراع وتفسيره وكيف تنسق هذه العبارات والقضايا المجردة مع دراسة ظاهرة واقعية محسوسة من جانب وكيف يمكن اختبار قدرة تصوره العام للصراع على دراسة أي مظهر من مظاهر هذا الصراع في المجتمع من جانب آخر , حاول ماركس أن يفي بكل هذا بدراسته للصراعات الطبقية في فرنسا بين عامي 1848- 1850 , والتي لم يقدم فيها أمثلة من التاريخ والماضي بل اراد ان يدرس جزءا من التاريخ المعاصر له .
وباختصار فقد تتبع " ماركس الأحداث والتطورات الاقتصادية عشية الثورة وإبانها , حيث كان الحكم , ووسائل الإنتاج في أيدي ارستقراطية المال التي اعتلت العرش , وصاغت بناء فوقيا يخدم مصالحها , فأملت القوانين على المجالس النيابية , ووزعت الأدوار السياسية بين أعضائها . وجاهدت هذه الارستقراطية في سبيل زيادة ثرائها باستغلال ثروات الآخرين. واستغلت الوضع الاقتصادي للدولة المستقلة بالديون , ولم لم تحقق تراكم الثروة هذا, وبهذا السبيل , فما هي أهمية الحكم وما أهمية البقاء في السلطة السياسة ان لم تكن وسيلة نحو مزيد من الغنى والثراء.
المادية التاريخيةوالتراث السوسيولوجي :
وبناء على ما سبق , فإنه إذا كان قد ترتب على اهتمام ماركس بالصراع , ودن أن يقصد هو ذلك إهمال دراسته فيما بعد , سواء في المجتمعات الاشتراكية او الرأسمالية , لدواعي أيديولوجية . فإن تأثيره في علم الاجتماع , يفصح عن نفسه من خلال تحليل تراث هذا العلم ومقارنة المحاور الأساسية في المادية التاريخية بما سبقها من جهود وأفكار سوسيولوجية , وما ألْحَقَ بها من محاولات للتنظير داخل إطار النظرية السوسيولوجية العامة .
ففيما يتعلق بإسهامه في استقلال علم الاجتماع مثلا يمكن لنا ان نصوغ قضية نظرية , ثم نحاول مناقشتها , وهي قضية تذهب إلى : أنه إذا كان علم الاجتماع قد ولد على يد العلامة العربي ابن خلدون وَعُمِّد على يد " اوجيست كونت " فقد وصل إلى البلوغ على يد "كارل ماركس ".
وإذا كانت بعض النظريات خاصة وضعية "كونت " نظرت إلى الإنسان على انه "كم " ليس من حقه إحداث التغيير , فماركس يبرز وبوضوح أهمية الإنسان , وقدرته الخلاقة , فقد عده أولا: جزءاً من الطبيعة نتيجة لتطوره , ومن ثم فهو يخضع في تطوره لقوانين عامة للتطور. وعده ثانياً جزءاً من المجتمع ونتاجاً لتطوره , ومن ثم فهو يخضع في تطوره للقوانين النسبية للنمو . وعده ثالثاً نتاجاً للخلق الذاتي , بمعنى أن الإنسان صانع التاريخ , إذ يغير ويخلق ظروف وجوده ,كإنسان اجتماعي , مشروط بشروط الطبيعة والمجتمع .
خلاصة :
يوجز د.عبد الباسط عبد المعطي أهم أبعاد الصراع لدى ماركس فيما يلي :
أولاً : الصراع يعد أساس من أبعاد المجتمع الإنساني , فتاريخ الإنسان سجل لصراعه .
ثانياً : تعد الطبقة مفهوماً محورياً في دراسة الصراع الطبقي , فهي وحدة للوصف والتحليل, لان الشكل الأساسي للصراع الاجتماعي هو الصراع الطبقي .
ثالثاً : تتحدد الطبقات عن طريق المواضع التي تحتلها كل جماعة من ملكية قوى الإنتاج ووسائله , ويسهم في تكوينها الوعي الذي يعتمد على الوجود، والصراع الذي يسهم في نضوج المصالح وبلورتها .
رابعاً : يفسر الصراع تفسيراً بنائياً فهو يرتبط بقطاعي البناء : الأساس أو البناء التحتي والبناء الفوقي , فالأول يحدد مصدر الصراع بالتناقضات بين العلاقات الاجتماعية التي تحددها علاقات الإنتاج , والثاني يكسبه طابعاً سياسياً هو بالضرورة اجتماعي.
خامسا : تنحصر أهم مظاهر وجود الصراع أو المؤشرات التي تشير إليه , في تناقض المصالح بين أطراف الصراع , ووعي كل طرف بمصالحه ومصالح الطرف الآخر.
سادساً: يشير مفهوم الصراع إلى وجود نضال بين طرفين على الأقل – طبقتين لكل منهما مصالح يسعي إلى تحقيقها , وهذا التدقيق يفسر بمصالح الطرف الآخر. فمصالح العمال في مزيد من الأجر يعني خسارة أصحاب رؤوس الأموال من الربح .
سابعاً : نظراً لان البناء التحتي أو الأساس يؤثر في البناء الفوقي , فمن يملك قوى الإنتاج بنصيب أكبر , تتاح له فرص ووسائل أكبر وأكثر فاعلية في صراعه مع غيره .
ثامناً : هناك تساند متبادل بين الوعي الاجتماعي والصراع , فالأول يبلور الثاني , الذي يساعد بدوره على انضاج الوعي.
تاسعاً : تتركز الوظيفة الأساسية للصراع في تغيير المجتمع وإحلال تكوين اجتماعي – اقتصادي محل آخر . فالصراع في جوهره نتيجة للتراكم الكمي للتناقضات الاجتماعية داخل البناء الاجتماعي .تلك هي أهم أبعاد التصور الماركسي للصراع .
(تلخيص مكثف من كتاب : في النظرية المعاصرة لعلم الاجتماع – أ.د عبد الباسط عبد المعطي و د. عادل مختار الهواري)