من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 12


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 13 - 18:17     

الحلقة الثانية عشر

د‌) ما هو مشترك بين الإقتصادية والإرهابية؟
جمعنا آنفا، في زاوية الملاحظات، بين "اقتصادي" من جهة، وإرهابي غير اشتراكي-ديموقراطي من جهة أخرى، فظهرا متضامنين مصادفة.
ولكن ثمة صلة تربط بينهما بوجه عام، صلة داخلية، ليست عرضية بل ضرورية. وسنعود إلى الحديث عنها فيما يأتي من البحث كما أنه من الضروري التطرق إليها فيما يخص مسألة تربية النشاط الثوري بالذات. لدى "الإقتصاديين" وإرهابيي اليوم جذر مشترك: هو بالضبط تقديس العفوية، الذي تكلمنا عنه في الفصل السابق كظاهرة عامة والذي سنتناوله الآن من حيث تأثيره في ميدان النشاط السياسي والنضال السياسي. وقد يبدو زعمنا هذا لأول وهلة متناقضا، إذ أن الفرق الظاهري كبير جدا بين أناس يضعون في المقام الأول "النضال الجاري المعتاد" وأناس يدعون الأفراد إلى نضال يتطلب الحد الأقصى من إنكار الذات. ولكن ليس ثمة هنا من تناقض. "فالاقتصاديون" والإرهابيون يقدسون قطبين مختلفين من التيار العفوي: "الإقتصاديون" يقدسون عفوية "الحركة العمالية الصرف" والإرهابيون يقدسون عفوية شديد سخط المثقفين الذين لا يعرفون أو لا يستطيعون أن يربطوا العمل الثوري بحركة العمال في كل واحد. وفي الحقيقة يصعب على من فقد إيمانه بهذه الإمكانية أو الذي لم يؤمن بها قط، أن يجد مخرجا لسخطه وهمته الثورية غير الإرهاب.
وهكذا، إن تقديس العفوية في الإتجاهين المذكورين ليس إلا البدء بتحقيق برنامج "Credo" المشهور: العمال ينصرفون إلى "نضالهم الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة" (وليعذرنا واضع "Credo" إذ نعرب عن أفكاره بكلمات مارتينوف! ونعتقد أن ذلك من حقنا ما دام "Credo" هو الآخر يقول أن العمال "يصطدمون" في نضالهم الإقتصادي "بالنظام السياسي")؛ أما المثقفون فيخوضون النضال السياسي بقواهم الخاصة، عن طريق الإرهاب طبعا! وهو استنتاج منطقي ومحتوم تماما لا بد من الإلحاح عليه، ولو كان الذين يشرعون بتحقيق هذا البرنامج لا يدركون هم أنفسهم حتميته. إن للنشاط السياسي منطقه المستقل عن إدراك الذين يدعون، عن حسن نية، إلى الإرهاب أو إلى إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه. إن جهنم مبلطة بالنوايا الطيبة، وفي هذه الحالة أيضا لا تمنع النوايا الطيبة من الانجرار العفوي في اتجاه "أهون السبل"، في اتجاه برنامج "Credo" البرجوازي الصرف.
كذلك ليس من قبيل المصادفات أن نرى الكثيرين من الليبراليين الروس - الليبراليين البينين أوالمقنعين بالماركسية- يحبذون الإرهاب بكل جوارحهم ويسعون لدعم نهوض الميول الإرهابية في الظرف الحاضر. ونرى أن ظهور "جماعة سفوبودا الاشتراكية-الثورية" التي وضعت نصب عينيها بالضبط مهمة مساعدة حركة العمال بكل الوسائل، ولكنها سجلت في برنامجها الإرهاب وتحرير نفسها، إن أمكن القول، من الاشتراكية-الديموقراطية - إن هذا الواقع قد بين مرة أخرى وأخرى روعة نفاذ بصر ب.ب. آكسيلرود الذي تنبأ بالمعنى الحرفي للكلمة منذ أواخر سنة 1897 نتيجة التردد الإشتراكي-الديموقراطي هذه ("حول مسألة المهام الحالية والتكتيك") ورسم "احتماليه" المشهورين.
إن جميع المجادلات والخلافات التي حدثت بعد ذلك بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس يحتويها هذان الاحتمالان كما تحتوي البذرة النبتة•. ويتضح أيضا من وجهة النظر المذكورة أن "رابوتشييه ديلو" التي لم تصمد أمام عفوية "الإقتصادية" لم تستطع أن تصمد كذلك أمام عفوية الإرهابية. ومن المهم جدا أن نشير هنا إلى الحجج الفريدة في بابها والتي قدمتها "سفوبودا" دفاعا عن الإرهاب. فهي " تنكر بصورة تامة" دور الإرهاب التخويفي ("بعث الثورية"، ص64)، ولكنها تشير في المقابل إلى "دوره التهييجي". وهذا بليغ الدلالة، أولا، بوصفه مرحلة من مراحل تفسخ وانحطاط دائرة الأفكار التقليدية (السابقة للإشتراكية-الديموقراطية) التي كانت ترغم على التمسك بالإرهاب.
فالإعتراف بأنه يستحيل الآن "تخويف" الحكومة بالإرهاب، وبالتالي بعث الانحلال فيها يعني، في الجوهر، شجب الإرهاب بصورة تامة بوصفه طريقة نضال، بوصفه ميدانا للنشاط يكرسه برنامج. وهو، ثانيا، أبعد في الدلالة بوصفه نموذجا يبين عدم فهم مهامنا الملحة في قضية "تربية نشاط الجماهير الثوري". بيد أن "سفوبودا" تبشر بالإرهاب بوصفه وسيلة "تهييج" لحركة العمال، بوصفه "حافزا قويا" لها. إن من الصعب تصور حجة تدحض نفسها بنفسها بوضوح أكبر! إننا نسأل: هل خلت الحياة الروسية من المساوئ لدرجة تحمل على اختراع وسائل خاصة "للتهييج"؟ أوليس من الواضح، من الناحية الأخرى، أن الذي لا يهتاج ولا يمكن أن يهتاج حتى من جراء الطغيان الروسي، سينظر كذلك إلى المبارزة الدائرة بين الحكومة وقبضة الإرهابيين وهو "ينكش أنفه"؟ والواقع أن شناعات الحياة الروسية تهيج جماهير العمال لدرجة كبيرة ، ولكننا لا نحسن، إن أمكن التعبير، جمع وتركيز كل قطرات وجداول التهيج الشعبي التي تنضح من الحياة الروسية بكميات أكبر جدا مما نتصور ونحسب جميعا، والتي ينبغي مع ذلك جمعها بالضبط في سيل واحد جارف. وهي مهمة ممكنة التحقيق تماما، يبرهن على ذلك بما لا يقبل الدحض نهوض حركة العمال هذا النهوض الكبير وما أشرنا إليه فيما تقدم من شدة تعطش العمال إلى المطبوعات السياسية. أما النداءات إلى الإرهاب فإنها مثل النداءات إلى إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، ليست إلا أشكالا مختلفة للتهرب من ألح واجبات الثوريين الروس: تنظيم التحريض السياسي بجميع أشكاله.
إن "سفوبودا" تريد أن تحل الإرهاب محل التحريض، معترفة صراحة بأن "دوره التهييجي ينتهي منذ أن يبدأ التحريض النشيط القوي بين الجماهير" (ص 68 من "بعث الثورية"). وهذا ما يدل بالضبط على أن الإرهابيين "والإقتصاديين" على حد سواء يستصغرون نشاط الجماهير الثوري، بالرغم من الشهادة الواضحة التي قدمتها حوادث الربيع، فهؤلاء يندفعون إلى البحث عن "مهيجات" مصطنعة، وأولئك يتحدثون عن "المطالب الملموسة".
وهؤلاء وأولئك لا يلتفون التفافا كافيا إلى رفع نشاطهم هم في ميدان التحريض السياسي وتنظيم التشهير السياسي. مع أن شيئا لا يمكن أن يحل محل هذا الأمر، لا في الوقت الحاضر ولا في أي وقت آخر
يتبع