من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 11


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 12 - 22:16     

الحلقة الحادية عشر

ج) التشهير السياسي و"تربية النشاط الثوري"
عندما عارض مارتينوف "الإيسكرا" بـ"نظريتـ"ـه عن "رفع مستوى نشاط جماهير العمال" كشف في الواقع عن نزوعه إلى الحط من مستوى هذا النشاط بإعلانه أن الوسيلة الأفضل، الوسيلة الأهم، الوسيلة "التي يمكن استعمالها بأوسع شكل" لإثارة هذا النشاط، أن ميدان هذا النشاط هو ذلك النضال الإقتصادي نفسه الذي يركع أمامه جميع "الإقتصاديين". إنه خطأ نموذجي، لأنه أبعد من أن يختص به مارتينوف وحده. والواقع أننا لا "نرفع مستوى نشاط جماهير العمال" إلا إذا لم نكتف بـ"التحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي".
ولما كان أحد الشروط الأساسية لضرورة توسيع التحريض السياسي هو تنظيم التشهير السياسي في جميع الميادين لأن تربية وعي الجماهير السياسي ونشاطها الثوري لا تمكن إلا عن طريق هذا التشهير، - كان هذا النوع من النشاط وظيفة من أهم وظائف الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بأكملها، لأن الحرية السياسية هي الأخرى لا تزيل هذا التشهير البتة، بل تغير اتجاهه بعض الشيء. فالحزب الألماني، مثلا، يعزز مواقعه ويوسع نفوذه لدرجة كبيرة بفضل حملة التشهير السياسي بالذات، التي يشنها بنشاط لا يفتر. ولا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعيا سياسيا حقا، إذا لم يتعود العمال الرد على كل حالة من حالات الطغيان والظلم والعنف وسوء الإستعمال على اختلافها وبصرف النظر عن الطبقة التي توجه إليها، على أن يكون الرد من وجهة النظر الاشتراكية-الديموقراطية، لا من أية وجهة نظر أخرى.
ولا يمكن أن يكون وعي جماهير العمال وعيا طبقيا حقا إذا لم يتعلم العمال الاستفادة من الوقائع والحوادث السياسية الملموسة والعاجلة (الملحة) حتما في الوقت نفسه، لمراقبة كل طبقة من الطبقات الإجتماعية الأخرى في جميع مظاهر حياتها العقلية والأخلاقية والسياسية، إذا لم يتعلموا أن يطبقوا في العمل التحليل المادي والتقدير المادي لجميع أوجه نشاط وحياة جميع طبقات السكان وفئاتهم وجماعاتهم. إن كل من يوجه انتباه الطبقة العاملة وقوة ملاحظتها ووعيها إلى نفسها فقط، أو إلى نفسها بالدرجة الأولى، ليس باشتراكي-ديموقراطي، لأن معرفة الطبقة العاملة لنفسها مرتبط ارتباطا لا ينفصم بمعرفتها معرفة واضحة تامة للعلاقات المتبادلة بين جميع طبقات المجتمع الراهن، معرفة ليست نظرية وحسب… والأصح أن نقول: ليست نظرية بمقدار ما هي مبنية على تجربة الحياة السياسية. ولذلك فإن ما ينادي به "اقتصاديونا" من أن النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى الحركة السياسية هو أمر ضار منتهى الضرر ورجعي منتهى الرجعية من حيث نتائجه العملية.
فلكيما يصبح العامل اشتراكيا-ديموقراطيا ينبغي له أن يكون لنفسه صورة واضحة عن الطبيعة الإقتصادية والسيماء الإجتماعية والسياسية للملاك العقاري والكاهن وصاحب الرفعة والفلاح والطالب والصعلوك، وأن يعرف نواحي قوتهم ونواحي ضعفهم، وأن يحسن فهم معاني مختلف العبارات الشائعة والسفسطات التي تخفي بها كل طبقة وكل فئة مطامعها الأنانية وحقيقة "دخيلتها"، وأن يعرف ما هي المؤسسات والقوانين التي تعكس هذه المصالح أو تلك وكيف تعكسها. وهذه "الصورة الواضحة" لا يستطيع العامل أن يجدها في أي كتاب: لا يستطيع أن يستمدها إلا من الصور الحية، إلا من التشهير الذي يذاع مباشرة إثر ما يجري حولنا في برهة ما ويصبح موضوعا يتحدث به الناس، جماعات أو أفرادا، أو يهمسون به على الأقل وما يتجلى في هذه أو تلك من الأحداث والأرقام والأحكام القضائية، الخ.، الخ..
إن هذا التشهير السياسي الذي يشمل جميع الميادين هو شرط أساسي لا بد منه لتربية نشاط الجماهير الثوري. لماذا لا يظهر العامل الروسي حتى الآن غير القليل من النشاط الثوري حيال ما يلقاه الشعب من وحشية الشرطة، حيال اضطهاد الشيع الدينية، حيال ضرب الفلاحين، حيال فضائح الرقابة، حيال تعذيب الجنود، حيال ملاحقة المبادرات الثقافية حتى أضعفها، وهلم جرا؟ أليس مرد ذلك إلى أن "النضال الإقتصادي" لا "يدفعه" إلى مثل هذا النشاط، وأن هذه الأمور "تبعث فيه الأمل" بقلة من "النتائج الحسية"، وتعطيه قلة من النتائج "الإيجابية"؟ لا.
إن ادعاء المرء بمثل هذا يعني، ونكرر ذلك، محاولة لعزو أخطائه هو إلى الآخرين، عزو تفاهته (أي البرنشتينية) إلى جماهير العمال. إننا، إذا كنا لم نستطع حتى الآن تنظيم التشهير بجميع هذه السفالات بما ينبغي من السعة والسرعة والوضوح، فسبب ذلك نحن، سبب ذلك تأخرنا عن حركة الجماهير.
إذا فعلنا ذلك (وهذا يجب علينا ونستطيع أن نفعله)، لرأينا حتى أكثر العمال تأخرا يدرك أو يحس أن الطالب وتابع البدعة الدينية، والفلاح والكاتب، يتلقى الإهانات والطغيان من تلك القوة السوداء نفسها التي تضغط عليه وتسحقه في كل خطوة من حياته، وما أن يحس حتى يرغب، حتى يرغب أشد الرغبة في أن يرد بنفسه، ويستطيع عندئذ أن ينظم: اليوم عرضا صاخبا في وجه المراقبين وغدا مظاهرة أمام دار حاكم قمع انتفاضة فلاحين، وبعد غد إلقاء درس على الدرك لابسي مسوح الكهان الذين يقيمون بأعمال محاكم التفتيش المقدسة، الخ.. إننا لم نعمل غير النزر القليل، لم نعمل تقريبا أي شيء لإلقاء تشهيرات بين جماهير العمال، تتناول مواضيع الساعة وتشمل جميع ميادين الحياة.
حتى أن الكثيرين منا لم يدركوا بعد واجبهم هذا، ويستمرون على زحفهم العفوي خلف "النضال الجاري المعتاد" ضمن إطار الحياة المعملية الضيق. إن القول في مثل هذه الظروف بأن ""الإيسكرا" تميل إلى التقليل من أهمية تقدم النضال الجاري المعتاد بالقياس إلى الدعوة للأفكار البراقة والمتبلورة" (مارتينوف، ص 61) - يعني جر الحزب إلى الوراء والدفاع عن عدم استعدادنا وعن تأخرنا، والإشادة بهما. أما نداء الجماهير إلى العمل فهو أمر يأتي من تلقاء نفسه متى وجد التحريض السياسي النشيط والتشهير الواضح الحي. إن إلقاء القبض على مجرم متلبسا بالجريمة والتشهير به على الفور أمام الجميع وفي كل مكان، هو عمل يؤثر بحد ذاته تأثيرا أقوى من كل "نداء"، يؤثر في الغالب تأثيرا يتعذر معه فيما بعد معرفة الذي "نادى" الجموع، والذي وضع مشروع هذه المظاهرة أو تلك، الخ.. والنداء - بمعنى الكلمة الملموس، لا بمعناها العام - لا يمكن أن يحدث إلا في ساحة العمل نفسه، ولا يمكن أن ينادي إلا السائر مباشرة بنفسه في الساحة. وواجبنا نحن الكتاب الاشتراكيين-الديموقراطيين هو أن نعمق التشهير والتحريض السياسيين وأن نوسعهما ونقويهما.
وللمناسبة لنقل الآن كلمة في "النداءات. لقد كانت "الإيسكرا" الجريدة الوحيدة التي نادت العمال، قبل حوادث الربيع(73)، إلى التدخل النشيط في مسألة لا تبعث فيهم على الإطلاق أي أمل بنتائج حسية - هي مسألة تجنيد الطلاب الإجباري. ففور إصدار قرار 11 كانون الثاني (يناير) بصدد "تجنيد 183 طالبا" وقبل الشروع بأية مظاهرة، نشرت "الإيسكرا" مقالا حول هذا الأمر (العدد 2، شباط - فبراير) ونادت جهارا "العامل إلى مساعدة الطالب"، نادت "الشعب" إلى الرد الصريح على هذا التحدي الفظ من قبل الحكومة. ونحن نسأل الجميع وكلا بمفرده: كيف نفسر هذا الواقع البليغ في دلالته - وهو أن مارتينوف الذي يتكلم عن "النداءات" بهذه الكثرة بل إنه يرفع "النداءات" إلى شكل خاص من أشكال النشاط، لم ينبس ببنت شفة عن هذا النداء؟ أفليس من النفاق بعد ذلك أن يعلن مارتينوف أن "الإيسكرا" لا ترى إلا ناحية واحدة لأنها لا "تنادي" بصورة كافية إلى النضال من أجل مطالب "تبعث الأمل بنتائج حسية"؟ لقد أحرز "اقتصاديو"نا، بما فيهم "رابوتشييه ديلو"، نجاحا لأنهم تكيفوا تبعا للعمال المتأخرين. ولكن العامل الإشتراكي-الديموقراطي، العامل الثوري (وعدد هؤلاء العمال في تزايد مستمر) سيرد بسخط على جميع هذه الحجج عن النضال من أجل مطالب "تبعث الأمل بنتائج حسية"، الخ.
، لأنه سيفهم أن ذلك ليس غير شكل جديد الأغنية القديمة، أغنية الكوبيك المضاف إلى الروبل. إن هذا العامل سيقول لمن يسدون له النصائح في "رابوتشايا ميسل" و"رابوتشييه ديلو": إنكم تخطئون أيها السادة في إزعاج أنفسكم هذا الإزعاج بتدخلكم هكذا في أمور نعالجها بأنفسنا وبتهربكم من واجباتكم الحقيقية. فليس من الفطنة إطلاقا أن تقولوا أن واجب الاشتراكيين-الديموقراطيين هو إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، فذلك ليس إلا بداية، وما هو بمهمة الاشتراكيين-الديموقراطيين الرئيسية، لأنه، في العالم كله، بما في ذلك روسيا، ليس من النادر أن تكون الشرطة هي البادئة في إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي، فيأخذ العمال أنفسهم في تبين الجانب الذي تسانده الحكومة.
والواقع أن "نضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة"، هذا النضال الذي تمتدحونه كما لو كنتم قد اكتشفتم أمريكا ثانية، يقوم به في المناطق الروسية المنسية العمال أنفسهم ممن سمعوا عن الإضرابات ولكنهم، على ما يبدو، يجهلون كل شيء عن الاشتراكية. والواقع أن "نشاطـ"ـنا، نحن العمال، الذي تريدون أنتم جميعا أن تؤيدوه، بوضع المطالب الملموسة التي تبعث الأمل بنتائج حسية هو نشاط موجود فينا. ونحن أنفسنا، في عملنا المهني اليومي الطفيف، كثيرا ما نضع هذه المطالب الملموسة دون أية مساعدة من قبل المثقفين. ولكن مثل هذا النشاط لا يكفينا.
فنحن لسنا بأطفال يمكن إطعامهم من حساء السياسة "الإقتصادية" وحدها؛ نحن نريد أن نعرف كل ما يعرفه الآخرون، نريد الإطلاع على تفاصيل أوجه الحياة السياسية جميعها، وأن نشترك بنشاط في كل حادث سياسي مهما كان.
وهذا يتطلب من المثقفين أن يقللوا من تكرار ما نعرفه نحن أنفسنا، وان يكثروا من إعطائنا ما لم نتوصل إلى معرفته، ما لا نستطيع أبدا أن نتوصل إلى معرفته من تجربتنا المعملية و"الإقتصادية" - ونعني المعرفة السياسية. تستطيعون أنتم، معشر المثقفين، أن تحصلوا على هذه المعرفة، وإنكم لملزمون بأن تقدموها لنا بأكثر مما فعلتم إلى اليوم بمئة بل بألف مرة، على أن لا تقدموها فقط بشكل محاكمات وكراريس ومقالات (هي في حالات كثيرة - واعذرونا على صراحتنا!- مملة بعض الشيء) بل حتما بشكل تشهير حي بما تفعله بالذات حكومتنا وطبقاتنا السائدة في هذا الظرف بالذات في جميع ميادين الحياة. هلموا إذن للقيام بواجبكم هذا بهمة أكبر وأقلوا من الكلام عن "رفع مستوى نشاط جماهير العمال".
فنشاطنا أكثر مما تظنون بكثير. فنحن نعرف كيف ندعم بالنضال السافر في الشارع حتى المطالب التي لا تبعث الأمل بأية "نتائج حسية"! لستم أنتم المدعوين لـ"رفع مستوى" نشاطنا، لأن النشاط بالذات هو ما ينقصكم أنتم. أقلوا من السجود أمام العفوية وأكثروا من التفكير برفع مستوى نشاطكم أنتم، أيها السادة!
يتبع