|
تنازلاتُ حركةِ التَّحرُّرِ العربيَّةِ الأساسيَّةِ ونتائجُها الكارثيَّةِ
سعود قبيلات
الحوار المتمدن-العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 18:48
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
قدَّمت قوى حركة التَّحرّر الوطنيّ (والقوميّ) العربيَّة، سواءٌ منها ما كان في الحكم أو ما هو في المعارضة، العديدَ من التَّنازلات الأساسيَّة، خلال العقود الماضية.. بلا مقابل، ومِنْ دون وعي بالمسؤوليَّة التَّاريخيَّة. فكان هذا مِنْ أهمِّ العوامل الَّتي قادت إلى النَّتائج الكارثيَّة الَّتي نشهدها الآن.
وأُوجزُ، تالياً، سلسلةَ التَّنازلات تلك:
أولاً: تخلَّت أقسامٌ عديدة مِنْ قوى حركة التَّحرُّر العربيَّة، في مراحل مختلفة، وبمستويات متباينة، عن شعارِها السَّابق المعلن الَّذي ينصُّ على العداء للإمبرياليَّة والصّهيونيَّة والرَّجعيَّة العربيَّة..
ففي ظلّ الطَّفرة النَّفطيَّة، أصبح قسم مِنْ حركة التَّحرُّر العربيَّة «يجامل» الرَّجعيَّةَ ويراعيها، باسم التَّضامن العربيّ وتوحيد الصَّفّ العربيّ وسواهما؛ الأمر الَّذي جعل الرَّجعيَّة تخرج، في النِّهاية، مِنْ عزلتها ومِنْ دائرة الاتِّهام بخيانتها لمصالح الأمّة وحقوقها وقضاياها؛ ثمَّ تنتقل، من الدِّفاع إلى الهجوم، على قوى التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ، باسم الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة، وهي لا تعترف بأبسط أشكال الدِّيمقراطيَّة، أو الحُرِّيَّة.. سواء العامَّة منها أم الشَّخصيَّة..
وقد أدَّى خَلْطُ الأوراق، هذا، إلى تهيئة الظُّروف الملائمة لماكينة الدِّعاية الإمبرياليَّة والنَّفطيَّة التَّابعة لتنجح في تضليل قطاعاتٍ واسعة من الرَّأيّ العامّ العربيّ..
وانخرط بعضُ أطراف حركة التَّحرُّر الوطنيّ العربيَّة في التَّسويات السِّياسيَّة مع العدوّ الصّهيونيّ، وأيَّد البعضُ مسارَ التَّسويات، وسكت آخرون عنها؛ الأمر الَّذي ضرب صدقيَّة موقف العداء الجذريّ للكيان الصّهيونيّ..
وبعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتيّ، غشيت البعضَ موجةُ الأفكار الليبراليَّة الدَّارجة؛ فبهت عداؤه للإمبرياليَّة..
وهكذا، انطفأ شعارُ حركة التَّحرُّر العربيَّة الشَّهير، الَّذي كان يسمُ ملامحَها بالعداء للإمبرياليَّة والصّهيونيَّة والرَّجعيَّة، بمجمله؛ فغابت سمةٌ أساسيَّةٌ مِنْ سمات تميُّزها عن سواها..
ثانياً: فرَّطتْ حركة التَّحرّر العربيَّة، بمبادئ العلمانيَّة والتَّنوير؛ وراحتْ، على النَّقيض مِنْ ذلك، تجامل التَّيَّارات الدِّينيَّة المنغلقة، والأفكار الظَّلاميَّة الماضويَّة، الَّتي تتناقض مع التَّديّن المنفتح والمستنير لحواضر الأمّة العربيَّة.
وفي بلاد الشَّام خصوصاً، حدثت المفارقة التَّالية: حيث، طوال قرنين على الأقلّ، دافع أهالي بلاد الشَّام، مراراً وتكراراً، عن صورة تديّنهم السَّلس المنفتح، في وجه محاولات الوهَّابيَّة غزوهم وفرض فهمها المنغلق للدِّين عليهم بالقوَّة..
ولمَنْ لا يعرف ذلك، نشير، مثلاً، إلى أنَّه في القرن التَّاسع عشر صُدَّتْ حملةٌ عسكريَّةٌ للوهَّابيَّة كانت قد وصلت إلى أبواب دمشق..
وفي مطالع القرن العشرين، شنَّت الوهَّابيَّة حملةً حربيَّةً جديدة (في العام 1922)، على بلاد الشَّام، وصلت إلى جنوب عمّان، فهاجمت منازلَ قبيلة بني صخر في الصَّباح الباكر، وقتلت الكثيرَ مِنْ أبنائها، غدراً وهم نيام، ولم ترحم حتَّى الشُّيوخ والأطفال والنِّساء. لكن، ما لبث مَنْ نجوا مِنْ هذه المجزرة الوحشيَّة، وكذلك أبناء عشائر البلقاء الأخرى، أن جمعوا صفوفهم، وشنّوا هجوماً مضادّاً، ألحقوا خلاله خسائرَ فادحةً بالمهاجمين، وردّوهم على أعقابهم خائبين.
وقد تكرَّر هجومُ الوهَّابيَّين، على بلاد الشَّام، مرَّةً أخرى، في العام 1924؛ حيث وصلوا أيضاً إلى جنوب عمَّان، وتمَّ صدَّهم مجدّداً.
لكن، ما فشلت الوهَّابيَّةُ في تحقيقه بالقوَّة سابقاً، تمكَّنتْ مِنْ تحقيقه، مع الأسف، بالتَّقسيط وبالأساليب النَّاعمة، ابتداءً مِنْ سبعينيَّات القرن الماضي؛ إذ راحت تتسلَّل إلى بلاد الشَّام (وحواضر الأمّة الأخرى)، بوساطة أموال الفورة النَّفطيَّة، الَّتي رتَّبها هنري كيسنجر؛ وبالاستفادة، كذلك، مِنْ تراجع قوى حركة التَّحرّر العربيَّة عن ثوابتها الأساسيَّة. وبعد أنْ تهيَّأت لها الأرضيَّة الملائمة، عادت، في العقدين الأخيرين، إلى فرض نفسها بالعنف والقوَّة.
ثالثاً: تخلَّتْ أقسامٌ كبيرة مِنْ حركة التَّحرُّر العربيَّة عن توجّهاتها الاشتراكيَّة لتتبنَّى مستويات متباينة مِنْ أفكار وبرامج الليبراليَّة المتوحِّشة. وهذا ترك الجماهير الشَّعبيَّة العربيَّة نهباً للدِّعاية الغربيَّة الَّتي تُماهي زوراً وبُهتاناً بين الليبراليَّة بطبعتها الغربيَّة وبين الدِّيمقراطيَّة.
رابعاً: لم تنجح حركة التحرّر العربيَّة، سواء منها ما كان في الحكم أو ما هو في المعارضة، في التوصَّل إلى صيغة ديمقراطيَّة ملائمة، لتأطير عملها السِّياسيّ، وتنظيم العلاقات بين أطرافها، وتوطيد علاقتها بالجماهير.
وإذ أتحدَّث، هنا، عن الدِّيمقراطيَّة، فإنَّني أؤكِّدُ مجدَّداً ما سبق أنْ أوضحتُه مرارا، وهو أنَّ الدِّيمقراطيَّة ليست مفردة محايدة يستفيد بنتائجها الجميع وعلى قدم المساواة، كما يحاول الغرب والليبراليَّون الموالون له أنْ يروِّجوا؛ بل هي ذات معانٍ مختلفة ومتباينة؛ تتحدَّد بمضمونها السِّياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ وبمَنْ هو المستفيد بها..
إذ ثمَّة «ديمقراطيَّة» مصمَّمة لخدمة الشّركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة ووكلائها، ولتثبيت سيطرتها وسيطرتهم، على حساب الأغلبيَّة الشَّعبيَّة ومصالحها. وهذي هي «الدِّيمقراطيَّة» الَّتي يعنيها الغرب ويدعمها..
وثمَّة ديمقراطيَّة مصمَّمة للتَّعبير عن مصالح الأغلبيَّة الشَّعبيَّة؛ وهي، بالضَّرورة، ضدَّ هيمنة الشّركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة ومصالحها، وتترسَّخ بدعائم برنامج التَّحرُّر الوطنيّ.. ومن أمثلتها، ديمقراطيَّات أميركا اللاتينيَّة المستجدَّة، الَّتي يرفضها الغرب ويُحاربُها..
في كُلِّ الأحوال، ما مِنْ بديل لحركة التَّحرُّر العربيَّة؛ فالبرنامج المطروح موضوعيَّاً على جدول أعمال التَّاريخ في بلداننا العربيَّة (وفي بلدان هوامش النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ كُلِّها) هو برنامج التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ.
وكُلُّ ما عدا ذلك، هو عبثٌ في عبث، ويتناقض مع ما يجري في العالم كُلِّه؛ بل هو شيءٌ مِنْ سُخريات التَّاريخ الَّتي تظهر حين يفشل النَّاس في الاستجابة لمقتضيات جدول أعمال التَّاريخ؛ فالقوى المتصدِّرة، الآن، باسم التَّغيير، ليس لديها أيّ برنامج للتَّغيير الضَّروريّ المطروح تاريخيَّاً.. أي التَّحرُّر الوطنيّ والقوميّ؛ وهذا ما سيقودها في النِّهاية إلى الفشل حتماً، ويجعل دورَها في التَّاريخ عَرَضيَّاً.. مهما طال أمده..
ومثل هذا الحدث ليس حدثاً نادراً مع الأسف؛ ومِنْ أمثلة ذلك، عودة آل بوربون إلى السُّلطة في أوروبَّا في أواسط القرن التَّاسع عشر، وانقلاب نابليون الصَّغير الرَّجعيّ..
لكن، هل كان آل بوربون ونابليون الصَّغير هم كلمة التَّاريخ النِّهائيَّة؟ أم أنَّهم كانوا مجرَّد جملة معترضة هامشيَّة؟
والآن، إذا أرادتْ حركة التحرّر العربيَّة أنْ تعود إلى دورها الفاعل وألقها، وتتحمَّل مسؤوليَّاتها تجاه شعوبها وأمَّتها، وتضطلع بالمهمَّات التَّاريخيَّة الملقاة على عاتقها، فليس أمامها إلا أنْ تعود بشجاعة إلى هويَّتها الحقيقيَّة وثوابتها المبدئيَّة، وتستفيد بمعطيات العصر والتَّحوُّلات التَّاريخيَّة، وتؤطِّر نفسَها في إطار ديمقراطيّ عربيّ مشترك، وتقيم تحالفات ثابتة ومبدئيَّة مع جميع قوى التَّحرُّر والدِّيمقراطيَّة في العالم.
#سعود_قبيلات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قريباً.. سيعرف الَّذين فرحوا مع مَنْ فرحوا وما الَّذي فرحوا
...
-
يبذلون لغزَّة الكلام فقط.. وأمَّا فعلهم ففي سوريا..
-
وقف إطلاق النَّار ووحدة السَّاحات وإسناد غزَّة
-
أُمَّةٌ حيَّةٌ.. أُمَّةٌ تُقاوِمُ.. كلمة في ملتقى تونس لدعم
...
-
تقرير من الأمين العامّ للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ إلى اللجنة
...
-
برنامج الحزب الشُّيوعيّ الأُردنيّ الجديد والقضيَّة الفلسطيني
...
-
حوار عن توجُّهات الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ بعد مؤتمره الثَّا
...
-
المؤتمرُ الثَّامنُ (التَّوحيديُّ) للحزبِ الشُّيوعيِّ الأردني
...
-
في «مليح» عرفتُ الماركسيَّة وفي «مادبا» عرفتُ الشُّيوعين الأ
...
-
تحليلٌ مغلوطٌ بقالبٍ طَبقيٍّ زائف!
-
السبول وماياكوفسكي ورامبو وهيمنجواي.. ولعنةُ فائضِ العُمْرِ.
...
-
ناهض حتَّر.. الاغتيال السِّياسيّ تحت ستار تكفيريّ
-
الفوز في معركة خاسرة
-
الفِكرُ اليوميُّ وتداعياتُ الصِّراعِ بين روسيا والأطلسيّ
-
أزمة اليسار ومساعي الشُّيوعيين الأردنيين إلى الوحدة
-
مقابلة عن الحرب في أوكرانيا
-
الدّكتور عبد الطّواهية ورفاقه وديرتنا الأردنيّة
-
الحَيّ والميِّت في البَحر الميِّت
-
أُسامة العجارمة يربط حذاءه ليواصل المشي..
-
دَفْنُ الدّستورِ وخُرافةُ العقدِ الاجتماعيِّ..
المزيد.....
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|