|
قراءة في كتاب -الوالي والولي-
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 18:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
صدر عن مؤسسة الانتشار العربي كتاب الدكتور جعفر نجم نصر "الوالي والولي، التشيع السياسي ومجتمع اللادولة" 2020، جزئين بكتاب واحد، الجزء الاول يحمل عنوان "جينالوجيا الأمامة" والجزء الثاني يحمل عنوان "ايديولوجيا الأمامة" يتناول مشكلة ازمة الدولة العربية عموما والعراقية خصوصا من الماضي الى الزمن الحاضر مقترحا البدائل في نهاية الكتاب. يبدأ الكتاب بمدخل عام بجينولوجيا الامامة منوها الى ان الحديث عن الافكار والمعتقدات الدينية وجذورها مسألة في غاية الدقة والصعوبة، لأنها تتحدث عن الميتافيزيقا التي تجسدت في التاريخ كمعتقدات او ممارسات تعبدية ما آنفك التاريخ الديني يقدسها، والتي تماهت كلياً مع الثقافة. وهنا يكون الحديث عن الفاعليين الدينين الذين فاتهم ان جل مقدساتهم في اصلها صنيعة الثقافة. وهنا تأتي الجينولوجيا كيما تقيم عملية مفاصلة بين الميتافيزيقا والتاريخ، عبر ارجاع هذه العقائد الى اصولها، مجردة اياها من برقعها القدسي.(نصر، 2020: 11) ان البحث في مصادر الإمامة يكشف بشريتها، وانها صناعة الفاعليين الدينين الذين سحبوا الدين الى دائرة مصالحهم الذاتية بالقوة او السلطة التي يملكونها ثم انتجوا من تلك المعرفة الوليدة خطاباً خاصاً بها، وبذلك غدت الحقائق المصنوعة لها جمهورها الذي يتصف به الخطاب ويعيد صوغنة عقائده كلها.(نصر، 2020: 13) فالإمامة ليست مجرد حقيقة دينية، نتتبع بداياتها ونزيح طبقات الركام المعرفي والايديولوجي الذي اصطبغت به، بل ان المسألة على وفق منظور الفوكوي لها علاقة بالقوة العسكرية التي صنعت المعرفة الاولى الخاصة بالإمامة عبر الحماسة الثورية والتنظيم الحركي، فضلاً عن القوة المعرفية، وسطوة الفقهاء الذي بسلطاتهم الدينية استطاعوا انتاج خطاب رسمي مُدغم بالمدونات التي عدت رسمية. ان المعرفة الدينية ليست محايدة ابداً، وهي في الوقت نفسه لاتمتلك لنفسها سلطة ذاتية، إلا من خارجها، اي من خلال القائمين على انتاجها وتوليدها، وبعد امتلاكها او لنقل ادعاء الحقيقة تصبح بعدئذ اداة للهيمنة بيد صنّاعها. (نصر، 2020: 15) ولهذا ليس من المستغرب ان نجد خطاب الحقيقة يرتهن بشروط حياتية قوامها الاقتصاد، فالأمر هو دائما عبارة عن ثالوث (السلطة_المعرفة_الثروة) ويمكن ان نقارب ما تقدم ذكره مع اعمال الدولة البويهية والدولة الصفوية لأنها اسهما في صناعة عمل مؤسسي مدعوم لتوليد الحقائق الدينية عن موضوعة الإمامة واسهما في تثبيت معالم عقيدة كاملة بنيت الكثير من مروياتها على ارث حركات وفرق مغالية. وليس من المستغرب كما نرى لاحقا ان الكثير من المدونات الروائية والفقهية والكلامية تدعي الحقيقة اجبرت عبر السلطة على ان تؤسس منطقاً دينياً لايمكن الخروج عنه. (نصر، 2020: 17) الفصل الاول: "التشيع بين المجتمع والدولة" معظم الاسلاميين الشيعة والسنة على السواء يعانون اضطراباً واضحاً في فهمهم لمصطلح الدولة، وذلك حينما يدمجونه في رؤيتهم الدينية الخاصة بكل فريق، فبينما السنة يدمجونه في مفهوم الخلافة، فإن الشيعة يدمجونه في مفهوم الإمامة. ولكنه سيثير الكثير من الغموض والالتباس عند كل مطلع على مدونات الفريقين الفقهية والكلامية. ولكم ماهو المعيار الضابط لفهم مصطلح الدولة؟ لا اعتقد ان الجذور اللغوية او الاصطلاحية يمكن ان تكون كافية، إذ ان الممارسات العملية او تطبيقات الشؤون السياسية ممكن ان تكون مصدراً جوهرياً للتزود المعرفي. فضلاً عن مراجعة الإرث الديني لكلا الفريقين. (نصر، 2020: 19) من الواضح ان العرب لم يعرفوا الدولة ككيان سياسي، مستقل له معالم وحدود جغرافية واضحة، وتشريعات مقننة، بل نلحظ لديهم وجود سلطة بمعنى الزعامة القبلية. وحتى دولة النبي كانت عرضية وليست جوهرية، لأن النبي كل جل مسعاه منصبا على الدعوة وترسيخ معالم الاسلام. (نصر، 2020: 20، 21) ان الذي استقر لدى عقلية التسنن السياسي: هي ان اللقب السياسي والديني يمثل ذاته دليلا على شرعيته صاحبه حتى لو كانت بالمغالبة والمنازعة والمكايدة. ان اي دعوة دينية سياسية لإقامة حكم اسلامي، ماهي الا عملية استرجاع لتلك الخلافة الاسلامية التي سقطت. ان هنالك صلة وطيدة بين الخلافة بالمعنى السياسي، والمسألة الدينية. (نصر، 2020: 24) أما الذي استقر في عقلية التشيع السياسي: 1_ان الرئاسة الدينية والسياسية للإمام هي شأن إلهي محض. 2_ان الرئاسة الدينية هي من حق الإمام المعصوم حصراً. 3_ان اي دعوة دينية_ سياسية لايمكنها ان تخرج عن دائرة الإمامة. ونلاحظ ان اجراء عملية المقارنة بين العقلين السياسيين الشيعي والسني يحيلنا الى النظام المعرفي لهما والذي صاغهما. (نصر، 2020: 26، 27) ان المجتمع الإمامي يتأتى من كونه يعيش حالة المعارضة الدائمة والقطيعة المستمرة مع الأنظمة الحاكمة، وهو بذلك كان يحمل سمات مجتمع اللادولة. يقابله في الوقت نفسه المجتمع السني الذي كان يحيا ضمن مساراته البنائية سياقات مجتمع اللادولة ولكن على صعيد ضعف الدولة وتخلخل سلطتها المستمر. وهكذا فإننا إزاء مجتمع اللادولة ولكن ضمن طرازين متصارعين. (نصر، 2020: 31) لقد اشار الكثير من الباحثين الى هشاشة الدولة العربية المعاصرة. ومن ابرز هذه العوامل انطلاق الدولة الاسلامية من واقع الدولة وواقع العشائر والقبائل المتعددة، حديثة العهد بالدين وبوحدة السياسية. ويتعرض الانصاري الى نقاط في غاية الدقة في ضعف الدولة العربية التي عانت من: 1_قطيعة سياسية بين امصارها ومدنها بسبب الصحراء. 2_ضعف الوسط الحضري على حساب قوة الوسط البدوي. 3_ان الدولة العربية الاسلامية لم تكن تملك ارادتها المستقلة بالحكم او بالدفاع. (نصر، 2020: 33، 34) ان مشاهد الهشاشة وحالة اللادولة ترتبط بالمنظور المغاير بعدم قدرة الدولة على ادارة مؤسساتها الاقتصادية والخدمية، بل وفي استمرارية الصراعات الداخلية التي ترقى بعضها الى مستوى الحرب الاهلية، ونستطيع ان نوجز براهين ماتقدم: 1_كانت بغداد طوال سنوات كثيرة ابان الحكم العباسي مهددة بمخاطر الفيضانات والحرائق. 2_كانت المدينة ضعيفة على الصعيد الاقتصادي، فلم تستطيع توفير التموين الغذائي لسكانها، فلهذا كانت ازمات الحنطة تفضي الى مشاهد سلب ونهب. 3_اتساع فئة المهمشين الذين سيطروا احيانا على السلطة، واخذ الاتاوات من السكان. (نصر، 2020: 37) 4_كانت بغداد وتاريخها مشحون بالثورات الشعبية وكانت محركاتها الدين والسياسة. اذن خلف السلطة الرمزية للخلافة كانت هنالك سلطات دينية تتمدد ضمن مجتمعات معزولة تجترح بعيداً عن سياسات السلطة وانظمة في ظل مجتمعات اللادولة التي كان يقودها في المجتمع الإمامي. اما في المجتمع الصوفي فكان يتزعمها ويقودها الولي الصوفي. (نصر، 2020: 39) ان الشيعة وعلى مدى قرون عاشوا هاجسين: 1_المعارضة السياسية لأنها غير شرعية مادام اس السلطة غير معصوم. 2_ان الخلاص من الانظمة السياسية لن يطول مادامت العقيدة المهدوية نابضة بالحياة. ولكن هذين الهاجسين تم كسرهما على فترات متباعدة إذ ان: الهاجس الاول تم كسره عبر الشروع في التأسيس لولاية الفقيه. الهاجس الثاني تم كسره عبر ظهور الشخصيات التي تدعي المهدوية داخل الوسط الشيعي. (نصر، 2020: 44، 45) ان مجتمع اللادولة كان هو الحاضنة الاجتماعية والثقافية والسياسية للتشيع السياسي العراقي بسبب الخصوصية الايكولوجية العراقية والعربية عموماً، وبسبب التنظيم الاجتماعي العصبوي القائم على القبيلة. ان مجتمع اللادولة يؤكد على منطق اللامركزية في الحكم من جهة وعلى توزيع السلطان من جهة اخرى، فضلاً عن كونه يعني الرقابة الاجتماعية من الاسفل وليس من الاعلى (الدولة). (نصر، 2020: 48) الفصل الثاني: يشر الكاتب الى ان الايكولوجيا العراقية الى اليوم ومنذ فجر حضاراته العديدة تحتاج الى مجتمع الدولة المهيمنة بدلاً من مجتمع اللادولة فضلاً عن ان البنى الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية كانت ومازالت لايمكن ان تُمنح الرقابة الاجتماعية وتوزيع السلطات من الاسفل بعضها مع بعضها الآخر. (نصر، 2020: 49) ويمكن اعتبار ظاهرة الفيضانات المستمرة احد العوامل الجوهرية التي صاغت الحضارة الرافدينية آنذاك وسمتها بسمات خاصة طغت على سكانها في شتى المجالات ولعلها هي التي اسهمت في ايجاد سياقات مجتمع اللادولة. ان الذهنية العراقية لم تملك الاعتداد الكافي بنفسها. وهذا الامر انعكس اكثر عبر احتمائها بالمجتمع وشبكاته الدموية، ولما كانت الطبيعة قلقة وضاغطة كانت الدولة العراقية حينذاك عاكسة لذلك وهذا على عكس الجغرافية المصرية. ان العقل السياسي العراقي وبنشأته الاولى لم يكن يتحرك بمعطى بشري محض، اي أنه أمام قسوة الطبيعة ارتفع من دائرة الأرض، الى دائرة الكون التي تعني بالضرورة اعتقاداً دينياً مرتهناً بالقوى الالهية. وهذا يعني ان الدولة ضعيفة امام زحف الاعتقادات الخاصة بالمجتمع، ولكن الادهى هو ان الدولة نفسها تحمل عقيدة المجتمع. وبعبارة اخرى إن خصوصية الدين والتدين في حضارة الرافدين هي التي سمحت بولادة مجتمع اللادولة، فضلاً عن استقلالية المدن التي تضمنت ذلك النسق الديني والتصارع الذي احتدم فيما بينها، ولد سقفا عاليا لإيجاد نموذجين متجاورين من السلطة القهرية ذات النظام الأروائي التسلطي، الى جانب الفضاء المديني الرحب الذي استند الى حيز الجماعة الدينية. (نصر، 2020: 51) اذن مجتمع اللادولة انبثق من امرين هي الايكولوجيا الطبيعية والخصوصية الدينية. ان الجغرافيا الدينية التي تتمازج مع ما اصطلح عليه مجتمع اللادولة الرافدينية كانت الكوفة بالنسبة لها وعاء الصهر الثقافي الجديد الذي اعادت صياغته هذه التمازجات بطريقة اسلامية عربية. (نصر، 2020: 57، 58) ودون ان تختفي النزعتان الجوهريتان، وهي نزعة التصارع المستمر بين الرعاة والفلاحين، والنزعة الثانية هي الولع في الجدل الديني. (نصر، 2020: 60) وكان العنصر الديني الجماعي هو الطاغي في الكوفة. وفي ضوء هذه الجغرافيا الدينية والثقافية ظهر التشيع. (نصر، 2020: 61) في الجانب التنظيمي كانت سمة مجتمع اللادولة الطاغية في مجتمع الكوفة تدفع بإضعاف التمدد والتشيع الاجتماعي للإمام. (نصر، 2020: 62) وعلى الرغم من قوة الصيغ التنظيمية وسعتها داخل الكوفة، الا انها لم تنجح في توطيد سلوك حضري، اذ ان التصارع بين السلطات المدينة مع طغيان حضور القبائل كانت احد الأمور التي افضت الى مجتمع اللادولة. هذه التجانسية العصبوية/القبلية والتنظيم الداخلي كأنما أشبه بمجتمع سياسي مصغر. مع سائر معارفها في الثقافة الخاصة، يجعلها تستغني عن المدينة الى حد كبير، ولكنها في الجوانب الجبائية الخراجية تُسترد الى احضان المدينة. ولعل باجتماع هذه العوامل كلها لم يستطع العرب ان يوحدوا انفسهم في دولة، في ظل اكتفائهم بالوضع القبلي، ولكن نعتقد ان تحولهم الى الكيان السياسي/الدولة العربية الاسلامية لم يكن امراً قاراً ونهائياً عندهم. (نصر، 2020: 65) ولعل دخول الموالي او الايرانيين عموما في الجغرافيا الدينية للتشيع، يمثل عنصراً جوهرياً ليس في ثورة المختار فحسب، بل دورهم في حركة التشيع عموماً الى يومنا هذا بلا شك، ولعل نضرة الموالي للمختار اسهمت في اجهاز حركته لان الامر رفضته اغلب القبائل العربية.(نصر، 2020: 70) لقد قام المختار بصناعة التشيع السياسي الذي سعى عبره الى اجتراح مجتمع اللادولة عبر اضعاف النخب القيادية آنذاك. وجمع الانصار حوله. ان حركة المختار تجلت بإعادة إنتاج التشيع في ذاته بعد ان ادمجت البعد الديني في البعد السياسي(نصر، 2020: 72، 73) واصل الإمام الصادق وخلفاؤه تجميد المضمون السياسي للإمامة الدينية، وجرى ترشيح هذا الموقف عملياً ونظرياً، فعلى المستوى السياسي نجده متبلوراً في سياقين: الاول رفض الدعوات الى التمرد على السلطات القائمة. الثاني التساهل في الموقف مع الدعاة الى الرضا عن آل محمد الذين قصروا دعوتهم على الجانب السياسي، مقابل التشدد مع الذين ادعوا الإمامة الدينية. اما على المستوى النظري، فقد كان اعاد الصادق تجديد مفهوم الإمامة من زوايا مختلفة تؤدي بمجموعها الى استبعاد الشق السياسي منها: الزاوية الاولى وهي حصر المحتوى الديني والاخلاقي في الإمامة الدينية. الزاوية الثانية وهي تقرير عبثية السعي الى السلطة. الزاوية الثالثة وهي استبدال الاختيار بالنص والبيعة بالمعرفة. (نصر، 2020: 81،82) الفصل الثالث: التشيع وجغرافية الغلو ما ان سكن العراق بعد الزلزلة التي احدثها الفتح، واستقرت الدولة وبدأ وجه الأمة الإسلامية يتلون بألوان الشعوب التي انخرطت فيها، وخفت حدة حواجز اللغة، وتنامت العلاقات الادارية والتجارية والثقافية بين المسلمين وغير المسلمين، حتى بدأ المخزون البابلي يطفوا على السطح وبالعربية احياناً. (نصر، 2020: 87) وبوجه عام توارثت الكوفة لاإرادياً تلك التوجهات الغنوصية (المدائينية والبابلية) لاسيما ان الفرس الموالي كانوا احد العناصر الديمغرافية التي اخذت مساحة واسعة في التمدد داخل التشيع. (نصر، 2020: 92) ان مصدر الغلو جاء باثر الجغرافيا الدينية الغنوصية ولم يأت عن طريق الترجمة. (نصر، 2020: 97) وبعد نفي وجود ابن سبأ ونفي المعجزات المنسوبة للإمة. ان الصراع الديني السياسي الذي شهدته القرون الثلاثة الاولى من حياة الأمة والضغوط والاضطهاد الذي تعرضوا له هم واشياعهم هو الأمر الذي دفع المحبين والغلاة على اجتراح المعاجز. ولكن يظل المناخ الديني العام (الغنوصي) فضلاً عن قوة العقل الديني الجمعي المتحكم في عقول الشيعة وهم يستسلمون لأصوات الغلاة. (نصر، 2020: 115) كان الإسلام المدني معايراً للإسلام المكي لأسباب كثيرة، كان على رأسها وجود اليهود اصحاب القوة الثقافية والدينية، والأهم من هذا اصحاب شريعة متكاملة. (نصر، 2020: 124) الفصل الرابع: الغنوصية والمجتمع الإمامي والفرس كيف تسلل الغلاة الى صفوف الشيعة؟ وكيف وضعوا بعض مروياتهم المغالية بالأئمة وبالإمامة الدينية والسياسية في داخل المدونة الشيعية. (نصر، 2020: 141) ان الحديث عن الشخصيات التي نسجت الغلو يعني اننا نتحدث عن فئتين هما النساجون اي الفئة التي اختلقت العقائد وجاءت بالآراء الدينية بحق الإمامة، والفئة الثانية المتلقون وهي تعبر عن الجموع الشيعة. لقد اثار التشيع الموالي للفرس، ومازال يثير الكثير من المناقشات والجدالات حول هذا التشيع الفارسي وأثره في نسج الغلو، وكيف ان الغنوصية الايرانية وجدت صداها في الكوفة. (نصر، 2020: 143) ان هذا التشيع السياسي الذي انطلق بقوة بعد واقعة الطف، وصولاً الى التمهيد للدولة العباسية، كان المسؤولون عنه بشكل مباشر من الفرس المتشيعين، اما العرب المتشيعون ولاسيما اهل الكوفة فلقد مل اغلبهم ذلك التشيع الذي يقترن دائما بالثورة والعنف. واتخذوا لانفسهم طريقاً خاصاً بهم. ان الغلاة يتفقون في امرين جوهريين، اذ يقول معظمهم بالتناسخ، اي عودة الروح في جسد آخر، ويقولون بالرجعة. (نصر، 2020: 153، 154) ولكن على صعيد شيعة الكوفة كان ينشط اتجاه اخر، وكانت الغنوصية الصوفية الشيعية على الرغم من اعتزالها الحياة السياسية الا انها لم تسلم من التأثيرات الغنوصية الفارسية. (نصر، 2020: 156) ظهر الكثير من الغلاة حول الإمام محمد الباقر وحول ولده، فمن البيانية الى المغيرية الى الخطابية ثم العجلية.. وكان الأئمة يعلنون البراءة منها. ان هذه الحركات المغالية كانت تتناسل عقائدياً بشكل مستمر، فما ان يقضى على احدها حتى يقوم على اشلائها فرقة اخرى. ولم تنجح جهود الأئمة في القضاء على هؤلاء الغلاة. والملاحظ ان هذه الموجه الاعتقادية لم تكن معارضة من الأئمة فحسب بل من فقهاء الامامية بتلك العصور(نصر، 2020: 159، 161) ان النظرتين اللتين شاعتا في الوسط الشيعي حول أصل الإمامة وهما: نظرية العلماء الأبرار ونظرية الأئمة المعصومين جاءتا جراء الصراع المحتدم بين المفوضة/الغلاة وبين المقصرة او الذين ينظرون الى الأئمة نظرة بشرية. فالنظرية الاولى هي الغالبة بين الشيعة حتى اواخر القرن الهجري الرابع والتي ترفض مقايسة الأئمة بالنبي، أما النظرية الثانية فهي المترسخة الآن لدى الشيعة عموماً منذ مطلع القرن الهجري الخامس حتى اليوم والتي تماهي بين الائمة والنبي. ان انتصار النظرية الثانية هو انتصار للإمامة السياسية التي ترفض الأئمة الدعوة اليها والقول بها او مناصرة من يقوم باسم إمامهم. (نصر، 2020: 164، 165) والى هنا ينتهي الجزء الأول من الكتاب. في الجزء الثاني من الكتاب "ايديولوجيا الإمامة" يبين المؤلف في المدخل العام ان اللاهوت على خلاف الايديولوجيا يحيل الى المقدس بعده اصلا له، فضلاً عن كونه يمثل العقائد التي تسعى لان تتحكم في مفاصل الحياة الاجتماعية برمتها، وعلى خلاف ذلك فان الايديولوجيا التي هي شأن بشري كانت تسعى للتحكم في مفاصل الحياة الاجتماعية ايضا لكنها تكيف نفسها ضمن سياقات اجتماعية، بخلاف اللاهوت الذي يسعى دائما لمصادرة منابع الفكر التي تنافسه. ان جوهر ما يتصفان به هو انهما يدعيان امتلاك الحقيقة المطلقة ويقدمانها الى المؤمنين بهما عبر صيغ واشكال مختلفة. ان اللاهوت النبوي يختلف عن اللاهوت التنظيمي اذ ان الاخير يمثل اشتغالات الورثة حول نصوص النبي وغدا مفسرا فيما بعد. اما اللاهوت النبوي فهو لاهوت الانفتاح والتعددية الذي تسعى الى روضنة المجتمع اكثر من تنظيم المجتمع وتسيسه. (نصر، 2020: 178) ومن ثم كانت الايديولوجيا هي الساعية نحو مصادرة كل الحقائق لمصلحة ماتدعيه فضلاً عن سعيها المحموم نحو الوصول الى السلطة. واذا كان اللاهوت التنظيمي ذو النزعة الايديولوجية يسعى لابتلاع اللاهوت النبوي لمصلحة توجهاته التنظيمية للمجتمع برمته، فان هذا يفضي الى عملية التغيير الاجتماعي على نطاق مجتمعي واسع. (نصر، 2020: 179، 180) ونحن نكتب ماتقدم ليس من باب الحزن على المالات، ان الانتقال من المعرفة الدينية التي تعتمد على النبي الى امن يلائم روح العصر هو ضرورة حياتية لابد منها في ظل المتغيرات الانسانية، ولكن الذي نؤشر عليه هنا نحن وكثيرون هو خطورة ان تكون الايديولوجيا الدينية هي الوريث لتجربة النبي، اذ اننا ندعو الى ان نكون الوريث افقاً معرفياً دينياً من داخل المؤسسة الدينية ومن خارجها من المثقفين او اكاديميين يملكون الادوات والرؤى المناسبة لإنتاج تلك المعرفة الدينية التي تتقاطع كلياً ونهائياً مع افق الأدلجة الدينية. ان السؤال المحوري هل للدولة اصل في الاسلام؟ ام انها كانت عرضا جاءت في سياقات تنظيم حياة المسلمين؟ ان اهمية هذه الاسئلة تأتي لأنها منبع ما تشبثت به ايديولوجيات الاسلام السياسي. (نصر، 2020: 182) ان الاسلام كان دائما يتحرك على وفق ثوابت الذي لم يشتمل على كل مايخص المتغيرات ومنها مسالة الدولة، إلا بنحو توجيهي اخلاقي لا اكثر ولا اقل. (نصر، 2020: 183) ان الحديث عن موضوعة الدولة في الاسلام يعني ضمنا الحديث عما يمكن توصيفه بأنه ايديولوجيا آنذاك، وهذا يتقاطع كلياً مع النسق المعرفي للقرآن والسنة النبوية. ولكن الاشكال الذي حصل في طريقة تفكير الاسلاميين حول الجانب السياسي في الاسلام، جعل منهم لايقيمون التمايز بين الايديولوجيا والدولة والنسق المعرفي والنص القرآني. (نصر، 2020: 184) كانت مسألة الخلافة بعد وفاة النبي تعبيراً حقيقياً عن صعود المد الايديولوجي الذي أول تجربة النبي حسبما يشتهي بأدوات قبلية واضحة، وكانت تحدو اصحاب هذا المد طلب الغنيمة حتى لو كانت بالمعنى اللامادي. وهنا يطل الشيعة وهم يحملون العقيدة لتقديم رؤاهم حول ذلك العصر، استنادا الى احقية الإمام على الخلافة، ونشير الى فكرة جوهرية وهي ان الامام عليا يمثل الوريث بالمعنى الاخلاقي لا اكثر ولا اقل. (نصر، 2020: 186، 187) ان التعالي الشيعي الاشعري بالإمامة إلى أن تكون من الله، إنما يرتبط بموقف كل منهما من الانسان في العمق، فاذا اضطر الشيعة ياساً من الناس الذين تنكروا لإمامهم الى مخاصمتهم والتعالي بالإمامة، لذلك، الى ان تكون شأناً إلهياً لادخل للناس فيه ابداً. (نصر، 2020: 197) يمكن القول بان وصول التأويل في تاريخ الاسلام الايديولوجي قد شكلت جدلية الصراع بين الظاهر والباطن. (نصر، 2020: 198) وعلى المستوى السياسي واصل الإمام الصادق وخلفاءه رفض الدعوات الى التمرد على السلطات القائمة، والتساهل مع الدعاة الى الرضا عن آل محمد الذين قصروا دعوتهم على الجانب السياسي، مقابل التشدد مع الذين يدعون الإمامة الدينية. اما على المستوى النظري، فقد اعاد الصادق تحديد مفهوم الإمامة بحيث تؤدي الى استبعاد الشق السياسي. (نصر، 2020: 199) فسعى الى تجزئة وظائف الإمامة، فتنصرف كامل القيمة الدينية الى الوظيفة الدينية التي تتضمن الدعوة والارشاد والزعامة الروحية، بينما تعد الرئاسة وظيفة متخارجة عن الإمامة. وحقيقة الامر ان الشيعة استندوا في نهاية مالاتهم الى الغنوصية التي تحكمت في مسارات الفكر الشيعي الى يومنا هذا. ان الشيعة ظلوا على مدى قرون طويلة ينظرون الى انفسهم بوصفهم أقلية سياسية داخل العراق على الرغم من ديمغرافيتهم واسعة النطاق، فضلاً عن كونهم ينظرون الى انفسهم بوصفهم جماعة دينية مهمشة. (نصر، 2020: 201، 200) وبعد عام 2003 ووصول الشيعة الى الحكم عبر احزابهم الدينية نجد ان المعادلات التعريفية تغير فيها الكثير. اذ اخذ يعرفون بوصفهم اصحاب سلطة. اما المتحرك الآخر فهو السلطة الفرعية وذلك لان ولاءاتهم الحزبية الايديولوجية بعد عام 2003 بدأت تأخذ حيزاً أكبر من الولاء لسلطة المرجع, اما على صعيد الهوية الاجتماعية فما زال الشيعة يقدمون انفسهم بوصفهم جماعة دينية متمايزة عن الجميع(نصر، 2020: 203) اما على صعيد الهوية السياسية فان الشيعة مازالوا يعيشون دهاليز الذاكرة الموتورة على الرغم من نيلهم السلطة وكتابة الدستور ذي الروح الشيعية. ولكن هويتهم السياسية الجديدة فرضت معطيات جديدة للشيعة: 1_قدموا انفسهم بوصفهم الاكثرية الديمقراطية والسياسية. 2_قدموا انفسهم بوصفهم صناع الدولة العراقية الجديدة. 3_قدموا انفسهم بوصفهم الطائفة المغيبة عن المشهد السياسي ولذلك وجب اعادة النظر في ارثهم الاجتماعي. (نصر، 2020: 204) في ظل ملامح التباين يطل علينا ثلاثة اتجاهات لتعريف الشيعة بعد الوصول الى السلطة، وان كان هذا هناك اتجاه جديد هو التمأسس الشيعي، اي بناء المؤسسات السلطوية والادارية من جهة، اما الاتجاهان السابقان فهما: اتجاه التمرجع الطاعة المستمرة للفقهاء، والاتجاه الاخير هو الطقوسيات. والصدام الحاصل في التعريف الشيعي الجديد هو بين الاتجاه التمأسس والتمرجع. وينبغي الاشارة اليه ان هنالك نوعا من التشيع هو التشيع الايدولوجي الذي يعبر عن مجموعة من الافراد التي اعادت صياغة الاسلام الشيعي في قوالب ايديولوجية تصب مصلحتها الفئوية الساعي الى الوصول الى السلطة.. وهي بعد ذلك تغولت على حساب قواعدها الجماهيرية. (نصر، 2020: 206) في الفصل الاول "صيرورات الادلجة السياسية، انقسامية التشيع" يعتمد الكاتب على نظرية ارنست غلنر في المجتمع الانقسامي، ان جوهر اطروحات غلنر القائمة على النظرية الانقسامية تبنى على اشكالية فقدان المركزية السلطوية لكل القوى لكن رغم ذلك، يظل التنظيم الاجتماعي قائماً. (نصر، 2020: 208) واطروحات غلنر لاتنطبق على الجماعات القبلية بل يتجاوز ذلك لينطبق على الانقسام الحضري الذي تجسد في ظاهرة المحلة/الحي الديني. (نصر، 2020: 210) ان المرتكز الجوهري هو ان البنية الانقسامية في المجتمع العراقي ينعكس بالضرورة في الكيان السياسي، الذي اخذ التصارع في سبيلها مأخذاً كبيراً. اذ ان بقاء اغلب هذه القوى ضمن الاطار الجماعاتي الخاص دون ان تتحول جماعة سياسية تسهم في انشاء دولة قوية ذات سلطة موحدة. ان العصبية العشائرية والدينية والاثنية شكلت المنطق الوحيد الذي يسهم في تعزيز الانقسامية. (نصر، 2020: 212) يرى غلنر ان اهم مؤسسة دينية مميزة للإسلام الريفي القبلي هو وجود ولي رجل صالح، وبالتالي فهؤلاء يقدمون التفسير المنطقي لمسالة عدم تحلل النظام الى فوضى عارمة. (نصر، 2020: 213) ان هذه الوساطة التي تتقمصها شخصيات دينية بعينها نجدها لدى الشيعة الريفيين والحضريين. فالفقهاء الشيعة على تماس مباشر مع جماهيرهم. وهذا يعني ان الحدود بين نصوص الفقهاء الشيعة وطهرانيتهم وتقواهم العقلانية، وطقوسية الجماهير وتشيعهم وتعبدهم الشعبي، تكاد تكون هلامية. وفي ثنايا العقيدة الاستشهادية الخاصة بالشيعة لاتكمن ثلاثية النص/الإمام/الطقس فحسب، بل يكمن المحرك الايدولوجي الاكبر لهذه الطائفة، وذلك لان عنصري الشهيد والاستشهاد دائما التفاعل في المخيال الشيعي ومواريثهم الثقافية والدينية، ومن ثم يسهل تحريك الجماهير من افق النصوص الى افق الشهيد. (نصر، 2020: 217) الفكرة الجوهرية التي نصل اليها هي ان الغزو القبلي العسكري للمدن، سيكون موجودا ولكن بشكل جديد وهي العصبية الدينية بدل العصبية القبلية التي ستتحرك من اطراف المدن الشيعية بالاتفاق سياسياً مع الفقهاء، وستغدو اجهزة الدولة بأيديهم. (نصر، 2020: 219) اذا كان الفقيه يمثل الحد الفاصل بين التفسير الشعبي والتفسير الايدولوجي للدين. الا ان الموقف السياسي والممارسة الاجتماعية الثقافية لاتعبأ بضرورات الدائرة المعرفية التي تخرج منها الفقيه. (نصر، 2020: 222) وهذا ما نلمسه من خلال جدليات اساسية على رأسها عمليات التحديث والحداثة، ولعل أولى النقاط الجوهرية في مسألة الانشغال بالهم الطائفي اكثر من الانشغال بها ككتله انسانية تواجه المتغيرات الكونية المتسارعة التي تركز على العقلانية في سائر الممارسات الاجتماعية، اولاها الدين والسلطة او لنقل برؤية اوسع عقلانية الدولة. ان التراجع البندولي العام في الاسلام، وفي الاسلام الشيعي، ليس معتمداً على الولادة السريعة في خطية التوحيد والشرك، بل ان المسألة متأصلة في البنية الاجتماعية والثقافية العامة للمجتمعات الاسلامية على العموم، وفي ضمنها المجتمع العراقي. لعل النخبوية العالمة الشيعية هي التي اقتربت اكثر من الايمان القاعدي، وذلك بوصفها مسؤولة عن الطائفة، اذ ان الرجوع الى الفقيه هي عملية رجوع الى نمطية مجمل الشأن الاجتماعي العام، وليست حكراً على الشأن الديني. ان الفقهاء حالياً ليست لديهم الرغبة الحقيقية في تنقية الطقوسيات الشيعية، بإرجاعها الى منابعها النصية، ومن ثم فهم واصحاب الايمان الشعبي في كثير من الاحيان يصبح لديهم نقاط مشتركة. وهذا يؤشر الى ان مشروع الحداثة لاسيما منطقها العقلاني يكاد يكون غائباً عن الفقهاء على الرغم من ان هؤلاء الفقهاء يعيشون في مدن تحتضن مجتمعاً برجوازياً شيعياً. (نصر، 2020: 226، 227) الا ان تأثير الفقهاء سيظل منوطاً بالمشروعية الثقافية التي تحتكرها، والتي يصاحبها عادة احتكار للقوة الايديولوجية الدينية التي تستظل بسلطة الفقهاء. (نصر، 2020: 228) وعلى الرغم من تلك السلطة الفعالة التي تمتلكها رجال الدين، الا ان مآلات الامور اصبحت مختلفة في بعض جوانبها، لاسيما انشغالهم الدائم بالطائفة، فضلاُ عن غياب رؤى حداثوية لديهم. ان جل مانريد ان نقوله هو ان مشروع الحداثة الذي كان من الضروري ان يترافق الدولة الحديثة، ارتد القهقري، ليتقدم الفقهاء المتحالفون مع العشائريين، فضلا عن تسليم القيادة للجيل الصاعد من التنظيمات الايديولوجية الشيعية، وبذلك يكون الفقهاء اختزلوا العقيدة بالايديولوجيا، والنص بالطقس، والمدنية بالترييف الديني. (نصر، 2020: 229،230) في المبحث الثاني المعنون "اوهام الاسلمة" يقول المؤلف لم تواجه الحركات الدينية العراقية مسالة العلمانية على مستوى التماس المباشر الا بعد عام 2003، اذ فرضت التحولات السياسية الجديدة في العراق ضرورة تفعيل عمليات العلمنة على المستوى السياسي وعلى المستوى الحياتي. في مقابل ذلك كانت الحركات الدينية مازالت تحلم في الدولة الدينية، مما جعل من مسيرة تشكيل الدولة تنتقل من افق العلمنة الى افق الأسلمة عبر بوابة الدستور، ولكن هذا الأمر افضى الى ضياع الافقين وذلك بعد أن تثبتت معالم الدولة الطائفية. وللبحث في جذور المسألة العلمانية لدى هذه الحركات الدينية كان لابد من الرجوع الى مرتكزات الحزب النظرية (مؤسس حزب الدعوة). (نصر، 2020: 232) تعتمد الحركات الاسلامية على مقولة هي ان الاسلام دين ودولة، فهم يقدمون مفهوم الحاكمية ازاء مفهوم العلمانية، ويرون ان النظام السياسي الذي تتبعه النظم الاجتماعية الاخرى يجب ان يقوم على الشريعة الدينية وعلى تحكيم النص الديني. (نصر، 2020: 237) ان اغلب الحركات الاسلامية سنية كانت او شيعية اعتمدت على اطروحات منظريها الاوائل وظلت موالية لتلك الاطروحات على الرغم من تقادم الزمن واختلاف الأطر الاجتماعية التي صيغت ووضعت فيها تلك الاطروحات. (نصر، 2020: 238) ان الصدر يقدم الاسلام على القاعدة التي تمثل امرين مهمين الشريعة ونظريات الحياة والمجتمع. ومن يخالف ذلك فانه يمثل الكفر، انه يقدم ثنائية خطيرة لا ثالث لها، دولة اسلامية ازاء دولة كافرة، وهو بهذا اقترب كثيراً من اطروحات سيد قطب. (نصر، 2020: 241) انتقلت اغلب الحركات الدينية العراقية من اجواء المعارضة للنظام السابق الى اجواء الاعداد النفسي والعقائدي والتنظيمي لكي تلج الى الحكم والسلطة. وكان هاجس الكثير من هذه الحركات كان يتحرك صوب طبيعة وشكل النظام السياسي القادم، والذي حتى وان كان ديمقراطياً فإنه لابد ان يظل في خانة الشريعة الاسلامية وبعيداً عن العلمنة. ولكن العقبة الكبرى التي اصطدمت بها الحركات الدينية بعد انهيار النظام هي الديمقراطية التي لم يستطيعوا ان يلتفوا عليها او يبتلعوها ايديولوجياً. (نصر، 2020: 245) فكانت عملية الانتقال الصعبة الديمقراطية الفعلية تصطدم بالبعد الطائفي، مما جعل هذه الحركات تتحرك ضمن مجالات الدولة الطائفية في ظل لعبة الديمقراطية الفضفاضة التي لم تكتمل دائرتها بالعلمنة الذي يعني انتاج المواطنة الفعلية التي تريدها الديمقراطية كمآل نهائي. مما جعل طرح العلمانية في فضاءات طائفية بمثابة الكفر، لان حراك الطائفية السياسية له ما يشرعنه دينيا، ولأنه يكسب الجماهير ويثبت السلطة لأصحاب الحركات الدينية التي وجدت في الجماهير المكبوتة حصناً آمنا للعبث بجوهر الدولة وركنها الرئيس وهو العلمنة. (نصر، 2020: 246، 247) ولعل اصرار الحركات الدينية على جعل الدستور العراقي ذات صبغة اسلامية طاغية، تنم عن عمليات الأسلمة تلك، وذلك لقطع الطريق على التوجهات العلمانية ومرتكزاتها. ان الديمقراطية الحقيقية بدون شعارات طائفية ستسقط الوعي الزائف لدى الجماهير، اما العلمانية ستكشف الموارد المالية لتلك الاحزاب والحركات الدينية، ولكن الذي يحول دائما دون ذلك هو استمرار الازمات الداخلية والصراع الطائفي، والعامل الأقليمي، وغياب الوعي. (نصر، 2020: 248، 249) يتحدث المؤلف في الفصل الثاني عن المجتمع الإمامي وأدلجة العقائد. دارساً الظاهرة المهدوية والتصوف، باعتبارهما ضمن مسارات ادلجة الإمامة فالعقيدة المهدوية ادلجت عبر الحركات الاجتماعية ثم سحب الامر على العرفان الذي اسماه بالعرفنة، ويلاحظ ان كليهما يركز على موضوعة الخلاص والمنقذ في ان واحد. في الفصل الثالث الموسوم "التشيع السياسي وابتلاع الآخر" يتحدث عن المخيال الطائفي ويبدأ بمقدمة يعتبر ان هذا المخيال احد ابرز الموجهات الثقافية التي تحكم العقل العراقي بجانبيه الديني والسياسي، وذلك برصفه المنبع الرئيس لكل التصورات والافكار والمواقف الملازمة لأي تفاعل بين الطائفتين، ولأنه لم يعد منبعاً لمجموع العقائد الدينية والاجتماعية الخاصة بكل طائفة، بل اصبح مخزوناً ثقافياً لكل ممارسة طائفية تسعى لتحقيق اهداف الطائفة سياسياً واجتماعياً. ولقد احتل هذا المخيال مساحة واسعة من حيث التأثير في ذهنيات العراقيين وتوجيههم سنة وشيعة، وبالتالي بات حاضراً ومستحضراً لديهم دائماً في أي تفاعل أو تواصل اجتماعي. (نصر، 2020: 297) وهنا يطل المخيال الطائفي بوصفه قاعدة العمل الرئيس التي تستحضر الصور المجروحة في الذاكرة الجماعية لهذه الطائفة او تلك لتبرير مشروعها الطائفي لتحقيق مصالحها. وهذا المخيال لايمكن زحزحته او تغييره، لأنه قد تمت عملية اجتراحه في ظروف خاصة ارتبطت بسياقات زمانية لايمكن الرجوع إليها، ولكن يمكن إعادة النظر فيها عبر اجراء التأويل المعاصر لها. (نصر، 2020: 302، 303) من معين هذا المخيال انبجس المخيال الطائفي الذي عبر عن تحول الاهداف الطائفية الى مشروع سياسي سلطوي تجسد بكيان سياسي يرسخ الطائفية ويمارسها عبر تشريعات الدولة ومؤسساتها. ولعل هذا المخيال الطائفي انقضى حضوره السياسي ولكن مازالت اثاره قائمة، تلك الآثار التي يمكن مواجهتها الا عبر ثقافة التسامح وبناء مخيال وطني. (نصر، 2020: 303) ولأجل مواجهة هذا المخيال والسيطرة عليه توجيهه بوصفه مخيالاً بكراً لاسيما بالنسبة للأجيال الناشئة، فانه ينبغي التدخل للسيطرة على الثقافة الطائفية التي تنهل جل معطياتها من المخيال الطائفي الديني والسياسي. (نصر، 2020: 303) ان جوهر ظاهرة التصنيف الاجتماعي يقوم على الافتراضات الاتية: _ادراك اعضاء الجماعة الداخلية ان الاعضاء الآخرين من هذه الجماعة اكبر تشابها معهم من اعضاء الجماعة الخارجية. _الميل الى رؤية الجماعة الخارجية اكثر تجانساً من الجماعة الداخلية. _ان عملية تصنيف الافراد الى الجماعة الداخلية، والجماعة الخارجية تؤدي الى اتجاهات اكثر تفضيلاً وتأييد تجاه اعضاء الجماعة الداخلية، واتجاهات اقل تفضيلاً تجاه الجماعة الخارجية. (نصر، 2020: 305) ومن الخصائص التمايزية بين الجماعة الداخلية والجماعة الخارجية هي: _ان عضوية الجماعة الاثنية هي عضوية طوعية. _التزاوج الداخلي بين افراد الجماعة الاثنية. في خضم هذه التصنيفات تنشأ من جراء ذلك عملية التنميط الاجتماعي اي صور او سمات نمطية عن الآخر. (نصر، 2020: 306) اذا كان التعصب يشير الى الاحكام المسبقة نحو الآخرين والمصحوب بمشاعر سلبية نحوهم، فان ذلك يمنحنا صورة شبه مكتملة عن تلك الاحكام المسبقة بين شيعة العراق وسنته والتي تحول دون اجراء حوار وطني شامل بينهما. (نصر، 2020: 309) ان المخيالين السني والشيعي قد انبثقا من المخيال الأم الا وهو المخيال الإسلامي المعبر عن التجربة الدينية الرئيسية والتي جعلتهما يتزودان بالمعطيات الدينية الرئيسية بينهما. اما جوهر خلافتهما فقد بدأ بعد وفاة النبي. (نصر، 2020: 309) ومن داخل هاتين الحدثتين المفارقتين في الزمن، الحاضرة في المخيال الطائفي لكلا الطائفتين، نشأت الصور الذهنية عن حقين متنازعين (الإمامة، الخلافة) (نصر، 2020: 310) فمن معين الصراع الاجتماعي السياسي على السلطة نشأت الاحكام المسبقة بمظهرها الديني لتغدوا منبعاً جوهرياً لمخيالهما الطائفيين. (نصر، 2020: 312) وفي هذه الاجواء تحديداً دخلنا في بدايات ما نستطيع ان نسميه الدولة الطائفية التي كانت هي الحاضنة الرئيسية التي ترعى المخيال السني الطائفي والمخيال الشيعي الطائفي. (نصر، 2020: 313) ان الاحكام المسبقة محكومة دائما وابداً بالصراع الديني والسياسي الذي تقف فيه الطائفتان بمثابة الخصمين اللذين يبحثان عن ثغرات الآخر وعيوبه كلها. (نصر، 2020: 314) ان هذه الاحكام المسبقة تحكم بقبضتها على العقل السياسي العراقي والفاعليين السياسين ويسايرهم في هذه الاحكام سائر فئات الجمهور السني والشيعي، والادهى ان يتم تأسيس الدولة العراقية الجديدة على أسس المحاصصة الطائفية، مما رسخ من الاحكام المسبقة وجعل مخيال كل واحدة منها يجد صورة جديدة تضاف للصور القديمة. (نصر، 2020: 317) ان المرتكز الرئيس الذي يمكن الانطلاق نحو سيناريو للوصول الى الحوار الوطني يشترط مطالب على صعيد الممارسة الذهنية والواقعية ولكل الفاعلين الاجتماعيين، وعلى راسهم الذين يمسكون بزمام السلطة، هذه المطالب تتكون من: 1_الاعتراف الفعلي بوجود التنوع الديني، الذي هو المنطلق الرئيس نحو الايمان بالتعددية السياسية. والامر الآخر لابد من الاعتراف بوجود الطائفية في العراق، منذ مراحل تاريخية، لان عملية الاعتراف تلك تسهل إنشاء ثقافة التجاوز والتسامح. (نصر، 2020: 318) ويجب تفكيك المنظومة العقائدية واعادة بنائها خصوصاً حديث الفرقة الناجية المشكوك في صحته شكاً كبيراً. (نصر، 2020: 320، 321) ويجب ترسيخ ثقافة التسامح كمقدمة لنبذ الاحكام المسبقة، فقوة المخيال الطائفي لايمكنه أن يقود إلى دولة معاصرة لأن من بديهيات الدولة المعاصرة هو الولاء لمؤسسات الدولة ودستورها، ولايمكن لهذا الولاء اقامته وثقافة التكاره والتكفير قائمة مستمرة. (نصر، 2020: 322) كيف يمكن اقامة ثقافة التسامح بدل ثقافة التكاره والمغايرة؟ اولا: البدء بالتعارف من جديد على اسس عمل مشتركة هو الايمان بالوطن للانتقال الى المواطنة في ظل دولة العدالة الاجتماعية. ثانياً: التقارب الاجتماعي لأجل التقريب الديني، وذلك لأن الفهم الديني يعد المولد الأكبر للأحكام المسبقة التي تقضي على اية فرصة لنشر ثقافة التسامح. ثالثاً: اعادة تعريف الفرد العراقي ليس بوصفه الطائفي بل بوصفه مواطناً ينتمي الى مجتمع مدني. وذلك بتجريد الايديولوجيات الدينية من هيمنتها الاجتماعية. (نصر، 2020: 326) في المبحث الثاني "النزعة الانفصالية/حلم الاقليم الشيعي" يرى الكاتب ان النزعة الانفصالية في ثقافة العراق لها منابع قديمة وحديثة ويطرح اسئلة عن اسبابها هل هي الجغرافيا ام الاستعمار ام مصالح بعض الشخصيات؟ اليست الفيدرالية في احد اوجهها حلاً بديلاً لفشل معادلة الأمة الدولة من جهة، وتراجع العدالة الاجتماعية؟. وبعد ان يمعن الكاتب في الواقع العراقي لم يجد مايسمى بالشخصية العراقية، ولعل مرد ذلك هو البعد الثقافي في تأطيراته البيئية المختلفة، والذي عزز بعمق مسألة تعدد الأثنيات والاديان والمذاهب. (نصر، 2020: 328، 329) ولهذا ان الوقوف على الشأن الثقافي العام في مناطق العراق وجغرافيته المتباينة هو الحل الأمثل، وذلك لأنه لو كان في الأصل الحد الادنى من المشتركات في اسلوب السلوك لما وجدنا بروز نزعة الانفصال. (نصر، 2020: 330) ان التأطير العصبوي يستمد مادته الاساسية من اطروحات ابن خلدون، ولكن كيف للمجتمع العصبوي ان يستمر في ظل وجود الدولة التي هي الوعاء الاجتماعي المفترض الجامع لكل تلك العصبيات المتنوعة؟ اليس هذا مؤشر على عجز الكيان السياسي؟ ان العراق عاش ومازال يعيش في ظل تلك العصبويات المختلفة، التي طغى عليها اللون الديني الطائفي إلا انها مازالت تحمل سمات الانقسامية التي تتمظهر في عصبيات مختلفة. (نصر، 2020: 333، 334) ان الشعور الدائم بعدم وجود دولة صاحبة سياسة سلطوية تملي اشتراطاتها وتنفذ قوانينها بصرامة وبجدية يحسب حسابها، في ظل عدالة اجتماعية تشرعن لها ممارسة للقوة، ظل مصاحبا العراقيين لقرون خلت. ولكنه شعور تأسس منذ تأسيس الدولة العراقية 1921. (نصر، 2020: 339) وكان العراق عشية بناء الدولة كثرة من التجمعات التي لديها مصالح متضاربة. ومن الواضح ان كل هذه الشظايا ارادت أن تثبت حقوقها وحتى جغرافيتها الاثنية، بمعزل عن الجميع، إذ كان هاجس الخوف من الدولة الوليدة هو المهمين على ذهنهم. (نصر، 2020: 341) لقد اتفق الكثير من الباحثين ان الدولة العراقية كانت دولة طائفية، وتوقع المحللون ان تظهر نزعات انفصالية من سلطة بغداد. (نصر، 2020: 342) ان حضور العامل الاقليمي والدولي من الشأن العراقي في ظل جماعات اثنية وعرقية ودينية ومذهبية لم تثق بحكم مركزي ولم توله الطاعة، كانت الفيدرالية الحلم الاثير بدل الأمة المختلقة، ولهذا وجدنا ان الأثنيات الزاحفة الى الخارج من جهة، والزاحفة نحو الأقلمة من جهة اخرى وجدت المناخ السياسي لها للفيدرالية عشية غزو العراق 2003. (نصر، 2020: 345) في الفصل: الرابع "المجتمع المدني والمحاولة الاخيرة" يكتب المؤلف في مقدمة المبحث الاول ان الكثير كتب عن موضوع الهوية، ولكن الصراع على الهوية بين المد الديني والمد المدني لم تول اهمية تذكر. (نصر، 2020: 351) ان الصراع بين المدن متأصل في بنية الثقافة السياسية العراقية. ان العراق مثل أي بلد عربي يعد هويته ممثلة بأديانه، واذا كانت القبيلة وروابط الدم هي المنبع الاول لتعرف الفرد العراقي على ذاته، إلا أن الأديان هي الشكل اللاحق للانتساب. (نصر، 2020: 352) ان جذور الأزمة التي نجم عنها فيما بعد الصراع بين المد الديني والمد المدني يرجع الى اشكالين محوريين هما: اولا: غياب فكرة الدولة بالمعنى الحديث. ثانيا: ضعف المدينة وتلونها بلون طائفي ريفي ايديولوجي. (نصر، 2020: 356) من الواضح ان ترييف السلطة ونهاية المجتمع المدني وصعود المد الديني هو عبارة عن مجموعة من الظواهر المنتشرة عربياً. ان ترييف السلطة في العراق أحيا كل الولاءات التقليدية العصبوية والمذهبية وذلك عبر دعمه المباشر واللامباشر لها. (نصر، 2020: 360) وهذا الامر يعني بطبيعة الحال ضعف الهوية السياسية التي يتم تولديها من قبل قاعدتها الجوهرية المجتمع المدني الذي يكون منتجاً وحارساً لها لكي تتحقق عمليات الديمقراطية. ان التغيير الذي حدث مباشرة بسقوط النظام السابق جعلت الاسلاميين يتصدون للمشهد السياسي بقوة هائلة. (نصر، 2020: 361) ان الشيء الذي جعل المد الديني يأخذ هذا الحيز الكبير هو عدم وجود مجتمع مدني في العراق قبل سقوط النظام الذي انهى اي وجود لمجتمع مدني. ما جعل الساحة السياسية في العراق ممهدة لصعود المد الديني الى السلطة وهيمنتهم المباشرة على صناعة مؤسسات الدولة. (نصر، 2020: 362) لكن العقبة الكبرى التي اصطدم بها المد الديني هي الديمقراطية. لان الالتزام بالديمقراطية يكاد يكون مستحيلاً وذلك لان هويتهم الدينية هي الحاضرة في اي ممارسة اجتماعية وسياسية على السواء متأتية من المجتمع الديني. (نصر، 2020: 363) وهذا الامر بطبيعة الحال هو على عكس المجتمع المدني واسسه وقواعده وذلك لان اذا كان المجتمع الديني المنتج للهوية الدينية فان مآلاته النهائية ستنتج المؤمن او المتدين، وهذا على عكس الهوية السياسية المتولدة من المجتمع المدني الذي ينتج المواطنة او المواطن. وبهذا النحو فان صراعات الفعل الديني المسيس مع الفعل السياسي المٌعلمن ستكون خاضعة لصدام ايديولوجي. ولكن الفضاء الحقيقي لهذا الصراع هو المدينة، فعلى الرغم من كونها قادرة على استيعاب صراعات المد الديني والمد المدني، الا انها في نهاية الامر لا تستطيع إلا ان تنتصر ببنيتها وفضائها المدني لمصلحة المد المدني. (نصر، 2020: 363) ان مآلات المواطنة هي توليد الديمقراطية التي تعبر عن ارادة مواطنين يقررون القوانين المتلائمة مع اسلوب حياتهم ومع التغيرات كافة ضمن نطاق مدنهم. وهذا بخلاف المجتمع الديني الذي يتواصل مع نقيضه وخصمه الفعلي اي الديمقراطية المسؤولة عن التشريعات والقوانين. وهنا نجد صداها في اصرار المد الديني على فرض الاسلام بوصفها مصدراً وحيداً للشريعة. (نصر، 2020: 364) ان المد الديني لايرضى هذه القراءة المدنية للشريعة، بل يحاول جمع الثابت والمتغير في إناء واحد هو الدستور، ولعل لهذا الامر مضامين سلطوية. ان هوية المد الديني تدور في الأشكال الجماعاتية لأنها تعبر عن موروثات ثقافية من جهة وتعكس حالة انفعالية من جهة اخرى تتمثل في الشعور الولائي. (نصر، 2020: 367) اما هوية المد المدني فهي الاشكال التطوعية لأنها تعبر عن حالة مواطنة تسعى لأن تعبر عن رؤيتها السياسية والثقافية والاجتماعية ضمن سياقات الفضاء العمومي الذي تنتجه آليات المجتمع المدني لتعبر عن مصالحها المشتركة برؤية عصرية بعيدة عن السلطة الابوية. (نصر، 2020: 367) وفي ظل سياقات تصنيفية كهذه يكون اصحاب المد الديني ينتمون الى شكل من الهويات المتناقضة مع ابسط شروط التحول الحداثوي وفي كل المجالات، ولا سيما المجال السياسي. (نصر، 2020: 367) وهذا بخلاف المواطنة التي هي دائما سيالة في انفتاحها واعلائها من قيمة وعي الفرد التي تسعى لان تظل دائما تولد القراءات المتعدد للنص المقدس وبالتالي تنتج مجتمع التعددية الدينية والسياسية. وهذا بخلاف اصحاب المد الديني الذي يمثلون ما اصطلح عليه الارادة المستقلة وهي التي تبتنى على الفكر، وعلى القراء وعلى المفهوم، انها لاتفهم إلا من المستقبل وهو وحده الذي تتعلق به. (نصر، 2020: 368) اذن لدينا هويتان هوية دينية ماضوية تريد ان تبتلع السياسي لمصلحة الديني لكي يكون جزءاً من المقدس الذي تشتغل عليه وبه، وبين هوية سياسية مستقبلية تؤسس على الحاضر بناءاتها لأجل المدنية من دون أن تتجاوز المقدس لنزوعها إلى هوية مؤنسنة لأن أصل تمخضات المقدس هو لمصلحة الإنسان، فضلاً عن كونها صيغت في المدينة. (نصر، 2020: 368) الخاتمة: هذا التلخيص لايغني عن قراءة الكتاب الذي كان محاولة مخلصة من المؤلف لتشخيص علة المشكلة السياسية العراقية المعاصرة، وايجاد حلول لها بالرجوع تاريخيا للبدايات الاولى. فهو حين يفتتح الكتاب بجينولوجيا الإمامة كاشفاً بشريتها وعلاقتها بالسلطة متخذاً من المنظور الفوكوي مجهراً لها. وينطلق المؤلف في تشريح رؤية الأسلام السياسي للدولة مبينا ان كلاهما (منظري السنة والشيعة) يعيشان مجتمع اللادولة ضمن طرازين متصارعين. بل ويرجع بالزمن الى فجر الحضارات العراقية ويرى ان مجتمع اللادولة انبثق من الايكولوجيا الطبيعية والخصوصية الدينية. ان الجغرافيا الدينية التي تتمازج مع ما اصطلح عليه مجتمع الدولة الرافدينية كانت الكوفة بالنسبة لها وعاء الصهر الثقافي الجديد الذي اعادت صياغته هذه التمازجات بطريقة اسلامية عربية. وفي الجانب التنظيمي كانت سمة اللادولة في مجتمع الكوفة التي انبثق منها التشيع العراقي الذي كان الائمة فيه يدعون الى الامامة الدينية دون الامامة السياسية. فسمة اللادولة ليست حالة طارئة لازمت الدولة بعد عام 2003 لكنها ترجع الى فجر الحضارات العراقية الى يومنا هذا. في الجزء الثاني من الكتاب يقيم الفصل بين اللاهوت والايديولوجيا، ويقرر ان الاسلام لم يشتمل على كل مايخص المتغيرات ومنها الدولة، إلا بنحو توجيهي اخلاقي. بعد ذلك يستخدم المؤلف نظرية المجتمع الانقسامي التي تنعكس في الكيان السياسي الذي بقي ضمن الأطار الجماعاتي الخاص دون ان تتحول الى جماعة سياسية تسهم في انشاء دولة ذات سلطة موحدة. ويرى ان الفقهاء الشيعة سيظلون منوطين بالمشروعية الثقافية التي تحتكرها والتي يصحبها عادة احتكار للقوة الايديولوجية الدينية التي تستظل بسلطة الفقهاء. ان مشروع الحداثة ارتد القهقري ليتقدم الفقهاء المتحالفون مع العشائريين، فضلاً عن تسلم القيادة للجيل الصاعد من التنظيمات الشيعية الايديولوجية. وبذلك يكون الفقهاء اختزلوا العقيدة بالايديولوجيا، والنص بالطقس، والمدينة بالترييف الديني. ينتقل المؤلف الى مشكلة الاسلام السياسي مع العلمنة والديمقراطية، لأنها تسعى الى اقامة الدولة الطائفية عبر اسلمة الدستور، ماجعل لعبة الديمقراطية فضفاضة. يركز الؤلف بعد ذلك على المخيال الطائفي باعتباره المخزن المحرك للصور السلبية عن الآخر، والذي يمكن مواجهته (المخيال السلبي) بثقافة التسامح وبناء مخيال وطني. ان المرتكز الاساسي للانطلاق لسيناريو للوصول الى حوار وطني يتكون من الاعتراف الفعلي بوجود التنوع الديني كمنطلق للتنوع السياسي، والاعتراف بوجود الطائفية، وتفكيك المنظومة الدينية، وترسيخ ثقافة التسامح. ويختم المؤلف بالمقارنة بين الهوية المدنية والهوية الدينية، ويرى ان الهوية المدنية تنتج المواطنة والمواطن والديمقراطية المتلائمة مع اسلوب حياة الناس، بخلاف المجتمع الديني الذي يتواصل مع نقيضه اي الديمقراطية والمتناقض ايضا مع ابسط شروط التحول الحداثوي لاسيما المجال السياسي. بعكس المواطنة التي هي في سيالة انفتاحها واعلائها من قيمة وعي الفرد وتنتج مجتمع التعددية الدينية والسياسية. الخلاصة ان حالة اللادولة فرضتها الجغرافية او الدين او الايديولوجيا هي حالة استمرت من الماضي الى الحاضر، والتنابذ الاجتماعي المخزون بالمخيال الطائفي السبيل الى الخلاص منه هو المجتمع المدني الذي ينتج المواطن والديمقراطية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: د.جعفر نجم مصر، الوالي والولي، التشيع السياسي ومجتمع اللادولة، 1/2، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الاولى، 2020.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرب غزة والعالم
-
ماذا لو كنت رئيسا للعراق
-
السفير الاخير للأغنية العراقية
-
قراءة في كتاب -يقين بلا معبد-
-
حرب غزة وتوازن الردع
-
حرب غزة واعادة رسم عملية السلام
-
ملاحظات على حرب غزة
-
شهادة جندي عراقي على حرب 2003
-
هوامش اجتماعية على احتلال العراق
-
اجتماعيات الطقس الشيعي بالعراق (-زيارة الإمام الكاظم- انموذج
...
-
خواطر سياسية في الشأن العراقي
-
الحسد في المجتمع العراقي المعاصر
-
الألٌوهَةً في علم الاجتماع
-
افكار حول تظاهرات الشباب
-
المِلكية في المجتمع العراقي الحديث
-
تصورات اجتماعية حول تظاهرات الشباب
-
مدخل اجتماعي لأسباب قيام تظاهرات الشباب في تشرين
-
افكار حول تظاهرات الشباب (تشرين)
-
مدخل اجتماعي لدراسة الإلحاد في المجتمع العراقي المعاصر*
-
أزمة العراق الاجتماعية المعاصرة
المزيد.....
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|