من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 10
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 11 - 15:48
الحلقة العاشرة
ب) حكاية عن كيف عمق مارتينوف بليخانوف "
كم ظهر عندنا في الآونة الأخيرة من أمثال للومونوسوف اشتراكيين-ديموقراطيين!" - هذا ما قاله ذات مرة رفيق من الرفاق مشيرا إلى الميل الغريب لدى الكثيرين من الميالين إلى "الإقتصادية"، إلى أن يكتشفوا "بعقولهم هم" الحقائق العظمى (من نوع أن النضال الإقتصادي يضع العمال أمام مسألة حرمانهم من الحقوق) مغفلين في الوقت نفسه بعنجهية العباقرة الأفذاذ، كل ما أعطاه التطور السابق للفكرة الثورية وللحركة الثورية.
ومن هؤلاء الأفذاذ لومونوسوف-مارتينوف. ألقوا نظرة على مقاله: "القضايا المباشرة" تروا كيف يتوصل "بعقله هو" إلى ما سبق لآكسيلرود أن قاله منذ أمد بعيد (والذي يصمت عنه كل الصمت طبعا هذا اللومونوسوف)، وكيف يأخذ، مثلا، يفهم أنه لا يمكننا أن نتجاهل روح المعارضة لدى هذه أو تلك من فئات البرجوازية ("رابوتشييه ديلو"، العدد 9، ص ص 61، 62، 71.
قارن ذلك بـ"جواب" هيئة تحرير "رابوتشييه ديلو" على آكسيلرود، ص ص 22، 23-24)، الخ.. ولكنه – واحسرتاه - لم يزد على أن "يتوصل"، على أن "يأخذ"، لأنه ما يزال جد بعيد عن فهم أفكار آكسيلرود إلى حد أنه يتكلم عن "النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة".
طيلة ثلاث سنوات (1898-1901) حشدت "رابوتشييه ديلو" قواها لفهم آكسيلرود، ومع ذلك… مع ذلك لم تفهمه بعد! ولعل منشأ ذلك كون الاشتراكية-الديموقراطية "كشأن البشرية" لا تضع نصب عينيها على الدوام إلا المهام الممكنة التحقيق؟ ولكن ميزة أمثال هذا اللومونوسوف لا تتلخص فقط في كونهم يجهلون أشياء كثيرة (ولو اقتصر الأمر على ذلك لكانت نصف مصيبة!)، بل أنهم لا يعلمون أنهم جاهلون، وهذه مصيبة حقا، وهذه المصيبة تحفزهم على أن يأخذوا على الفور بـ"تعميق" بليخانوف. يقول لومونوسوف-مارتينوف: "لقد تغيرت أمور كثيرة مذ كتب بليخانوف الكتاب المذكور ("مهام الاشتراكيين في مكافحة المجاعة في روسيا"). فالإشتراكيون-الديموقراطيون الذين قادوا نضال الطبقة العاملة الإقتصادي طيلة عشر سنوات… لم يتسن لهم بعد أن يقيموا تكتيك الحزب على أساس نظري واسع. أما الآن فقد نضجت هذه المسألة.
وإذا ما أردنا إقامة مثل هذا الأساس النظري وجب علينا، حتما، أن نعمق لدرجة كبيرة تلك المبادئ التكتيكية التي طرحها بليخانوف فيما مضى… يجب علينا اليوم أن نحدد الفرق بين الدعاية والتحريض بشكل يختلف عن تحديد بليخانوف" (وقد ذكر مارتينوف لتوه كلمات بليخانوف: "الداعية يعطي كثرة من الأفكار لشخص أو لعدد من الأشخاص، والمحرض يعطي فكرة واحدة أو بضع أفكار ولكنه يعطيها بالمقابل لجمهور كبير من الأشخاص"). "وبودنا أن نفهم من الدعاية الشرح الثوري للنظام الحالي بأكمله أو لبعض مظاهره، سواء جرى ذلك بشكل يفهمه أفراد أو جمهور كبير من الناس، فلا فرق. ونفهم من التحريض بمعنى الكلمة الدقيق (كذا!) نداء الجماهير إلى بعض أعمال ملموسة، مساعدة البروليتاريا على التدخل الثوري المباشر في الحياة الإجتماعية". إننا نهنئ الاشتراكية-الديموقراطية الروسية – والعالمية - باصطلاحات جديدة، مارتينوفية، أكثر دقة وعمقا. فقد كنا نعتقد حتى الآن (مع بليخانوف وجميع قادة حركة العمال العالمية) أن الداعية، إذا ما أخذ مثلا مسألة البطالة نفسها، ينبغي له أن يشرح الأزمات وطبيعتها الرأسمالية وأن يبين أسباب حتميتها في المجتمع الراهن، وأن يبين ضرورة تحويله إلى مجتمع اشتراكي، الخ.. وبكلمة ينبغي له أن يعطي "كثرة من الأفكار" كثيرة لدرجة لا يمكن أن يستوعبها بمجموعها، دفعة واحدة، غير عدد من الأشخاص قليل (نسبيا). أما المحرض فإنه، إذ يتكلم عن المسألة نفسها، يأخذ أبرز مثل يعرفه مستمعوه أكثر من غيره من الأمثال، لنقل مثلا موت عائلة عامل عاطل عن العمل بسبب المجاعة أو انتشار التسول الخ.، ويوجه جميع جهوده استنادا إلى هذا الواقع الذي يعرفه الجميع، لإعطاء "الجمهور" فكرة واحدة: فكرة التناقض غير المعقول بين تزايد الغنى وتزايد الفقر، باذلاَ جهده لكي يثير في الجمهور الإستياء والسخط من هذا الظلم الفاضح، تاركا للداعية مهمة الشرح الكامل لهذا التناقض.
ولذلك يعمد الداعية بالدرجة الأولى إلى الكلمة المطبوعة، ويعمد المحرض إلى الكلمة الحية. ولا تتطلب من الداعية الصفات نفسها التي تتطلب من المحرض. فنحن نصف مثلا كاوتسكي ولافارغ بأنهما من الدعاة، ونصف بيبل وغيد بأنهما من المحرضين. وما تعيين ميدان ثالث، وظيفة ثالثة للنشاط العملي، وظيفة تتلخص في "نداء الجماهير إلى بعض أعمال ملموسة" إلا الحماقة الكبرى، لأن "النداء" بوصفه عملا على حدة إما أن يكون لا محالة التتمة الطبيعية للبحث النظري ولكراس الدعاية ولخطاب التحريض، وإما أن يكون عملا تنفيذيا صرفا. وفي الحقيقة، لنأخذ مثلا نضال الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان الحالي ضد الرسوم الجمركية المفروضة على الحبوب. النظريون يكتبون الأبحاث عن السياسة الجمركية "منادين"، مثلا، إلى النضال من أجل المعاهدات التجارية ومن أجل حرية التجارة، والداعية يقوم بالعمل نفسه في مجلة، والمحرض في خطابات أمام الجمهور. و"الأعمال الملموسة" التي تقوم بها الجماهير في هذه الحالة هي عبارة عن توقيع عرائض إلى الريخستاغ تطالب بعدم زيادة الرسوم المفروضة على الحبوب. والنداء إلى هذا العمل يصدر بصورة غير مباشرة عن النظريين والدعاة والمحرضين، وبصورة مباشرة عن العمال الذين يطوفون بهذه العرائض على المعامل والبيوت.
ويستنتج من "اصطلاحات مارتينوف" أن كلا من كاوتسكي وبيبل كليهما من الدعاة، وأن حاملي العرائض من المحرضين
. أليس كذلك؟ إن مثل الألمان هذا قد ذكرني بالكلمة الألمانية “Verballhornung” أي حرفيا "البلهرة" من كلمة بالهورن. ويوحنا بالهورن ناشر عاش في القرن السادس عشر في ليبزيغ. وقد قام بنشر كتاب الألفباء، وفيه، كالمعتاد، رسوم بينها صورة ديك، ولكن الديك ظهر في هذا الرسم بدون شوكتين على رجليه ومع بيضتين إلى جانبه. وقد أضاف الناشر على الغلاف كلمات: "طبعة منقحة ليوحنا بالهورن". ومنذ ذلك الحين والألمان يصفون بالبلهرة كل "تنقيح" هو في الواقع نقيض التحسين. ويتذكر المرء عفو الخاطر بالهورن هذا عندما يرى كيف "يعمق" أضراب مارتينوف بليخانوف… لِمَ "اخترع" صاحبنا اللومونوسوف هذه البلبلة؟ ذلك لكيما يبين أن "الإيسكرا"، "كشأن بليخانوف منذ عقد ونصف من السنين، لا ترى من الأشياء غير وجه واحد" (ص 39).
"في "الإيسكرا" نرى مهام الدعاية تدفع إلى المقام الثاني، في الآونة الحاضرة على الأقل، مهام التحريض" (ص 52).
وإذا ما ترجمنا هذه العبارة الأخيرة من لغة مارتينوف إلى لغة البشر (لأنه لم يتسن للبشرية بعد أن تتبنى الاصطلاحات التي اكتشفها مارتينوف حديثا) تكون النتيجة ما يلي: في "الإيسكرا" نرى مهام الدعاية السياسية والتحريض السياسي تدفع إلى المقام الثاني مهمة "مطالبة الحكومة بإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة" "تبعث الأمل بنتائج حسية معينة" (أو المطالبة بإصلاحات إجتماعية، إذا سمح لنا بأن نستخدم ولو مرة أخرى الإصطلاحات القديمة للبشرية القديمة التي لم ترتفع بعد إلى مستوى مارتينوف). ليقارن القارئ هذه الفكرة بالقطعة البليغة التالية: "إن ما يثير استغرابنا في هذه البرامج" (برامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين) "كونها تضع في المقام الأول على الدوام مزايا عمل العمال في البرلمان (غير الموجود عندنا) وتهمل بصورة تامة (من جراء نيهيليتها الثورية) أهمية اشتراك العمال في المجالس التشريعية لأرباب المعامل، المختصة بشؤون المعامل، وهي موجودة عندنا… أو على الأقل اشتراك العمال في المجالس البلدية…".
إن واضع هذه القطعة البليغة يعرب بصورة أقرب إلى الصراحة والوضوح والجلاء عن نفس الفكرة التي توصل إليها لومونوسوف-مارتينوف بعقله هو. وواضع هذه القطعة البليغة هو ر.م. في "الملحق الخاص ل"رابوتشايا ميسل"" (ص15).
يتبع