قوة الشيوعية
دانيال بن سعيد
2024 / 12 / 10 - 22:44
نشر في موقع Contretemps بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 2010
في مقالة تعود إلى العام 1843 عن “تقدم الإصلاح الاجتماعي في القارة”، رأى الشاب إنغلز (البالغ من العمر 20 سنة) الشيوعية كخلاصة ضرورية نقوم باستنتاجها انطلاقا من الشروط العامة للحضارة الحديثة.
شيوعية منطقية بمجملها، ناتجة عن ثورة عام 1830 حيث عاد “العمال إلى المصادر الحية ودرسوا الثورة الكبرى واستحوذوا بفعالية على شيوعية بابوف”.
بالنسبة للشاب ماركس، على العكس، هذه الشيوعية لم تكن إلا “تجريدا عقائديا”، و”تظهيرا أصليا لمبادئ الإنسانية”. البروليتاريا المولودة كانت “مرمية بين أذرع عقائديي تحررها”، “المِلل الاشتراكية”، وذات نفس ملتبس “تهذي بإنسانية” عن “ألفية الأخوّة العالمية” كـ”إلغاء وهمي للعلاقات الطبقية”. قبل عام 1848، هذه الشيوعية الشبحية خلت من برنامج واضح، ولازمت زمنا تحت أشكال “سيئة التنظيم” للمِلل المساواتية أو للحالمين الأسطوريين.
تجاوز الإلحاد المجرد فرض مادية اشتراكية جديدة التي لم تكن مختلفة عن الشيوعية، “كما أن الإلحاد، بصفته نقضا للإله، هو تطور الإنسانية النظرية، كذلك، فإن الشيوعية بصفتها نقيضا للملكية الخاصة، هي المطلب للحياة الإنسانية الحقيقية”. بعيدا عن كل مناهضة-كهنوتية سوقية، هذه الشيوعية كانت “تطورا لإنسانية عملية” من أجلها لم يكن الأمر يتعلق فقط بصراع مع الاستلاب الديني، إنما مع الاستلاب والبؤس الاجتماعي الحقيقي حيث تتولد الحاجة إلى الدين.
ومن التجربة التأسيسية لعام 1848 المتعلقة بالكومونة، “الحركة الحقيقية” سعت إلى إلغاء النسق المنتشر وتشتيت “الأفكار الثابتة للمِلل” والسخرية من “اللهجة الإلهية لعدم قابلية العلم على الخطأ”. بكلام آخر، الشيوعية، التي كانت فكرة طوباوية أو “شيوعية فلسفية”، وجدت شكلها السياسي. خلال ربع قرن، أكملت الشيوعية انسلاخها: من أشكالها الفلسفية واليوتوبية، إلى شكلها السياسي من خلال التحرر.
1. عبارات التحرر لم تخرج سالمة من قلق القرن الماضي. بإمكاننا القول، كحيوانات الأساطير، أنها لم تمت كلها، لكنها أصيبت إصابات بالغة. الاشتراكية، الثورة، وحتى الأناركية لم تكن أفضل من الشيوعية. الاشتراكية تلطخت: باغتيال كارل ليبكنيخت وروزا لوكسمبورغ، بالحروب الكولونيالية والتعاون مع الحكومة لدرجة فقدان كل محتوى بغية الربح في نهاية المطاف. هي حملة أيديولوجية ممنهجة لتعريف وتفسير وربط الثورة بالعنف والإرهاب. ولكن، عبارات الماضي حاملة الوعود الكبيرة والدافعة إلى الأمام، تلك المتعلقة بالشيوعية تلقت أكبر الأضرار عندما استولى منطق بيروقراطية الدولة والتوتاليتارية. يبقى المجال مفتوحا أمام معالجتها أو تحريرها من الجمود.
2. لهذا، من الضروري، التفكير بما أصبحت عليه شيوعية القرن العشرين. الكلمة والشيء لن يبقيا خارج الزمن والتجارب التاريخية الخاضعة لها. الاستعمال المكثف لدلالة الشيوعية من أجل الإشارة إلى الدولة الليبرالية السلطوية الصينية كان لها وزنا كبيرا لعدد كبير من المحاولات الضعيفة النظرية لنمو فرضية شيوعية. محاولة التملص من اختراعٍ تاريخيّ نقديّ يؤدي إلى تقليص الفكرة الشيوعية إلى “ثابتة” غير زمنية، هي محاولة لتحديدها بأفكار غير محددة للعدالة أو التحرر، وليس إلى شكل محدد للتحرر في زمن سيطرة الرأسمالية. واحدة من الأسئلة البرهانية هو معرفة إذا الطغيان البيروقراطي هو الاستمرار الشرعي لثورة أكتوبر أو هو ثمرة ثورة مضادة بيروقراطية، المؤكد ليس فقط المحاكمات، التطهير، التهجير الجماعي، ولكن من خلال اضطراب السنوات الثلاثين في المجتمع وجهاز الدولة السوفياتية.
3. لا يتم اختراع مفردات جديدة من خلال مرسوم. العبارة تتشكل مع الوقت، من خلال الاستعمال والتجربة. التسليم بالتعريف القائل بأن الشيوعية تتطابق مع الديكتاتورية التوتاليتارية الستالينية، سيكون استسلاما أمام الرابحين المؤقتين، المزج بين الثورة والثورة المضادة البيروقراطية، ورفض الطرق الوحيدة المؤدية إلى الأمل، سيكون ارتكابا لظلم غير قابل للتصحيح تجاه المهزومين، مجهولين أو غير مجهولين، الذين عاشوا بشغف الفكرة الشيوعية وجعلوها حية بوجه الأشكال الكاريكاتورية والمزيفة لها. اللعنة على الذين خرجوا من الشيوعية بخروجهم من الستالينية، الذين لم يكونوا شيوعيين إلا لأنهم ستالينيين! (1)
4. كلمة شيوعية هي التي تحفظ أكثر المعنى التاريخي البرنامجي المتفجر. هي التي تفرض، توزيعا عادلا وبمساواة، المشاركة في السلطة، التضامن المناهض للحسابات الأنانية والمنافسة المعممة، الدفاع عن المصالح العامة للإنسانية، طبيعية وثقافية، توسيع تطبيق المجانية (وقف التسليع) للخدمات المتمثلة بالحاجات الأولية الضرورية، بوجه الافتراس المعمم والخصخصة.
5. هي أيضا الاسم الآخر لقياس الثروات الاجتماعية المتمثل بقانون القيمة والتقييم السلعي. التنافس “الحر واللامتناهي” القائم على “سرقة وقت عمل الآخر”. هي تدعي قياس، الذي لا يقاس وتعميم البؤس من خلال وقت عمل مجرد غير قابل للقياس، علاقة بالإنسان مع الشروط الطبيعية لإعادة إنتاجها. الشيوعية هي الاسم لمعيار آخر للثروة، لتنمية بيئية مختلفة نوعيا من السباق الكمي نحو النمو. منطق تراكم رأس المال لا يهدف فقط إلى تحقيق الأرباح، بالطبع لا يهدف إلى تحقيق الحاجات الاجتماعية، لكنه يهدف، إلى “إنتاج أشكال استهلاك جديدة”، التوسيع المثابر للاستهلاك “من خلال خلق حاجات جديدة وخلق قيم استعمالية جديدة”: “من هنا استغلال الطبيعة الكامل” و”استغلال الأرض بكل الأشكال”. هذه المغالاة الكارثية للرأسمالية تظهر راهنية شيوعية-بيئية راديكالية.
6. سؤال الشيوعية، هو بداية في البيان الشيوعي، ذلك المتعلق بالملكية: بإمكان الشيوعيين أن يلخصوه بمعادلة وحيدة: إلغاء الملكية الخاصة “لوسائل الإنتاج والتبادل لا تعني تماثلها مع الملكية الفردية للسلع الاستعمالية. في كل “الحركات”، “يضعون نصب أعينهم مسألة الملكية، بدرجات قليلة من التطور يمكن الوصول إليها كسؤال أساسي للحركة”. النقاط العشر التي تلخص الفصل الثاني من البيان الشيوعي، سبع منها تعالج مسألة أشكال الملكية: نزع الملكية العقارية، تخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة، فرض ضريبة تصاعدية، إلغاء قانون وراثة وسائل الإنتاج والتبادل، مصادرة أملاك العصاة، مركزة القروض في بنك مركزي، مركزة وسائل النقل في أيدي الدولة ووضع موضع التنفيذ لتعليم عام ومجاني وللجميع، إنشاء مصانع وطنية، استصلاح الأراضي غير المستغلة. هذه الإجراءات تهدف إلى فرض رقابة ديمقراطية سياسية على الاقتصاد، أولوية المصالح العامة على المصالح الأنانية، أولوية المجال العام على المجال الخاص. الأمر لا يتعلق بإلغاء كل أشكال الملكية، إنما “الملكية الخاصة في الوقت الحالي، الملكية البرجوازية”، أنواع التملك القائم على استغلال الناس.
7. بين حقين، حق المالكين بالاستيلاء على السلع المشتركة، وحق المحرومين بالوجود، “فإن القوة هي التي تقرر”، كما يقول ماركس. إن التاريخ الحديث للصراع الطبقي بأكمله، من حرب الفلاحين في ألمانيا إلى الثورات الاشتراكية في القرن الماضي، بما في ذلك، الثورتين الإنكليزية والفرنسية، هو تاريخ لهذا الصراع. ويحل بظهور شرعية معارضة لشرعية المهيمن. باعتباره “شكلا سياسيا للتحرر تم العثور عليه أخيرا”، باعتباره “إلغاء” لسلطة الدولة، وباعتباره انجازا للجمهورية الاشتراكية، توضح الكومونة ظهور هذه الشرعية الجديدة. لقد ألهمت هذه التجربة أشكال التنظيم الذاتي الشعبي والإدارة الذاتية التي ظهرت في الأزمات الثورية: مجال العمال، والسوفيتات، ولجان الميليشيات، والنقابات الصناعية، والكومونات الزراعية، التي تميل إلى نزع مهننة السياسة، وتعديل التقسيم الطبقي للعمل، وخلق الظروف المناسبة لاضمحلال الدولة كهيئة بيروقراطية منفصلة.
8. في ظل حكم رأس المال، فإن أي تقدم ظاهري له نظيره من التراجع والدمار، هو في النهاية يتكون فقط من تغيير شكل العبودية”. فالشيوعية تتطلب فكرة أخرى ومعايير أخرى غير تلك المتعلقة بالعائد والربحية النقدية. بدءا من التخفيض الجذري في وقت العمل القسري وتغيير مفهوم العمل نفسه: لا يمكن أن يكون هناك إشباع فردي في وقت التسلية أو “وقت الفراغ” طالما بقي العمل مغتربا ومشوها في العمل. تتطلب المقاربة الشيوعية كذلك تغييرا جذريا في العلاقة بين الرجل والمرأة: تجربة العلاقة بين الجندر هي أول تجربة لما هو آخر، وطالما استمرت علاقة الاضطهاد هذه، فإن كل كائن مختلف، سواء لناحية ثقافته أو لونه أو التوجه الجندري سيكونون ضحايا لأشكال متعددة من التمييز والهيمنة. يكمن التقدم الحقيقي أخيرا في تطوير وتمييز الاحتياجات التي تجعل من كل شخص كائنا فريدا، يساهم تفرده في إثراء النوع.
9. يتصور المانيفستو الشيوعية على أنها “رابطة يكون فيها التطور الحر لكل فرد شرطا للتطور الحر للجميع”. هكذا تظهر كمبدأ التطور الفردي الحر الذي لا يمكن الخلط بينه وبين سراب الفردية دون فردية خاضعة للامتثالية الإعلانية، ولا مع المساواة الفظة لاشتراكية الثكنات. يساهم تطوير الاحتياجات والقدرات الفريدة لكل شخص في التنمية الشاملة للجنس البشري. وفي المقابل، إن التطور الحر لكل شخص يعني التطور الحر للجميع، لأن التحرر ليس متعة فردية.
10. الشيوعية ليست فكرة نقية، وليست نموذجا عقائديا للمجتمع. إنها ليست اسم نظام دولة، واسم نمط جديد للانتاج. إنها الحركة التي تتجاوز/تقطع النظام القائم بشكل دائم. ولكنها كذلك الهدف الذي يوجهها، انطلاقا من هذه الحركة، ويسمح لها، في مواجهة سياسات من دون مبادئ، وأفعال من دون نتائج، وارتجالات يومية، بتحديد ما يقربنا من الهدف وما يبعدنا عنه. وهي بالتالي، ليست معرفة علمية لناحية الهدف والمسار، إنما هي فرضية تنظيمية استراتيجية. إنها تسمي، بشكل متماسك، الحلم الذي لا يمكن اختزاله بعالم آخر من العدالة والمساواة والتضامن؛ الحركة الدائمة التي تهدف إلى قلب النظام القائم في عصر الرأسمالية؛ والفرضية التي توجه هذه الحركة نحو تغيير جذري في علاقات الملكية والسلطة، بعيدا عن التكيف مع أهون الشرين الذي سيكون أقصر الطرق نحو الأسوأ.
11. إن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والأخلاقية للرأسمالية التي لم تعد تتوقف عند حد إلا على حساب زيادة الإفراط في كل شيء، ما يهدد كل من الجنس البشري والكوكب، تعيد طرح “راهنية الشيوعية الراديكالية” التي استشهد بها بنجامين في مواجهة المخاطر المتزايدة في فترة ما بين الحربين العالميتين.
الهوامش
[1] Voir Dionys Mascolo, A la recherche d’un communisme de pensée, Editions Fourbis, 2000, p. 113.