أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حمدي سيد محمد محمود - الإبادة المنسية: جرائم الاستعمار الألماني في ناميبيا (1904-1908)















المزيد.....

الإبادة المنسية: جرائم الاستعمار الألماني في ناميبيا (1904-1908)


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8187 - 2024 / 12 / 10 - 12:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


شهد العالم عبر تاريخه الطويل العديد من الفصول المظلمة التي تكشف الوجه القبيح للبشرية حين تُقادها أطماع السلطة والجشع والتوسع الاستعماري. ومن بين هذه الفصول المروعة، تبرز مأساة شعبَي الهيريرو والناما في ناميبيا مطلع القرن العشرين، حيث ارتكبت القوات الاستعمارية الألمانية واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ الحديث. لم تكن تلك المذابح مجرد مواجهة عسكرية أو صراع على الموارد، بل كانت عملية منظمة للإبادة الجماعية استهدفت اقتلاع شعبين بأكملهما من جذورهما، بهدف فرض الهيمنة المطلقة على الأرض والموارد، وهو ما يمثل أحد أبكر النماذج للإبادة الجماعية في العصر الحديث.

في ذلك الزمان الذي تنافست فيه القوى الأوروبية على تقاسم ثروات إفريقيا، تحولت ناميبيا، بجغرافيتها القاسية وصحاريها الشاسعة، إلى ساحة لجرائم تجاوزت حدود الوحشية. استباحت القوات الألمانية الأرض والسكان، وشرعت في تنفيذ سياسات ممنهجة تهدف إلى طرد شعبي الهيريرو والناما من أراضيهم ومحو هويتهم الثقافية والاجتماعية. بدأت المأساة بانتفاضات شعبية سعت إلى استعادة الكرامة المهدورة، لكن الرد الألماني كان أكثر قسوة مما يتخيله العقل البشري.

أصدر القادة العسكريون الألمان أوامر الإبادة الجماعية، ودُفعت قبائل بأكملها نحو الموت جوعًا وعطشًا في صحراء كالاهاري القاحلة. ومن لم يهلك في الصحراء، وجد نفسه في معسكرات اعتقال قاسية، حيث نُهبت أجساد المعتقلين حتى الموت، واستُخدمت رفاتهم لاحقًا في تجارب علمية عنصرية، لتصبح هذه الممارسات مقدمة لما سيشهده العالم لاحقًا في المحرقة النازية.

إن المذبحة التي حدثت في ناميبيا بين عامي 1904 و1908 ليست مجرد قصة منسية في صفحات التاريخ، بل هي شاهد حي على عنصرية الاستعمار الأوروبي ووحشيته التي دمرت ثقافات وقبائل بأكملها باسم التمدن والتقدم. واليوم، وبعد أكثر من قرن على هذه الإبادة الجماعية، يظل هذا الحدث جرحًا غائرًا في الذاكرة الإنسانية، يستدعي منا جميعًا أن نتأمل في دروسه وأن نُطالب بالعدالة لأولئك الذين فقدوا حياتهم وكرامتهم وأرضهم.

في هذا السياق، نسعى إلى تسليط الضوء على تفاصيل المذابح الألمانية في ناميبيا، وفهم أبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية، واستكشاف تداعياتها التي امتدت لتشكل نموذجًا للفظائع التي يمكن أن يرتكبها الإنسان حين تغيب الإنسانية عن قراراته. كيف يمكن للعالم أن يستوعب هذه الفصول الدامية؟ وما الذي يجب فعله لتحقيق العدالة التاريخية؟ هي أسئلة تتجاوز التاريخ لتخاطب ضمير الإنسانية جمعاء.

المذابح التي ارتكبها الألمان في ناميبيا في عام 1904

السياق التاريخي

في عام 1884، خلال مؤتمر برلين لتقسيم إفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية، حصلت ألمانيا على منطقة جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا الحالية) كجزء من مستعمراتها. بدأت ألمانيا بتنفيذ سياسات استعمارية تهدف إلى السيطرة الكاملة على الأراضي والموارد الطبيعية في المنطقة، مما أثار استياء السكان الأصليين من شعبي الهيريرو والناما.

كانت القبائل المحلية تعتمد بشكل كبير على الزراعة وتربية المواشي. ومع بدء الاستيطان الألماني، تم تجريد هذه القبائل من أراضيها ومصادرة ماشيتها، مما أدى إلى مجاعات وانتشار الفقر بينهم. بالإضافة إلى ذلك، واجه السكان الأصليون معاملة وحشية من المستوطنين الألمان، بما في ذلك العمل القسري والاغتصاب والتعذيب.

اندلاع الانتفاضة

في يناير 1904، قاد شعب الهيريرو بقيادة زعيمهم صامويل ماهاريرو انتفاضة ضد المستعمرين الألمان. تزامنت هذه الانتفاضة لاحقًا مع تحركات مشابهة من شعب الناما بقيادة زعيمهم هيندريك ويتبوي. استهدفت القبائل المحلية البنية التحتية الألمانية والقوات الاستعمارية، وتمكنت في البداية من تحقيق بعض النجاح.

رد الفعل الألماني

أرسلت الحكومة الألمانية الجنرال لوثار فون تروثا لقمع الانتفاضة. اشتهر فون تروثا بعقيدته العسكرية القاسية، وكان هدفه الأساسي القضاء على شعبي الهيريرو والناما بشكل كامل.

في أغسطس 1904، بعد معركة ووتر بيرغ، تم دفع الهيريرو نحو صحراء كالاهاري القاحلة. أصدر فون تروثا أمر الإبادة (Vernichtungsbefehl) الذي نص على قتل أي فرد من الهيريرو يتم القبض عليه، سواء كان رجلًا أو امرأة أو طفلًا. أدى ذلك إلى ترك الآلاف من الهيريرو يموتون جوعًا وعطشًا في الصحراء، حيث كانت القوات الألمانية تراقب منابع المياه لمنع السكان الأصليين من الوصول إليها.

الإبادة والفظائع المرتكبة

أوامر الإبادة الجماعية:

نص أمر فون تروثا صراحة على إبادة الهيريرو، حيث جاء فيه: "يجب على كل هيريرو مغادرة البلاد. أي هيريرو يُقبض عليه داخل الحدود الألمانية، سواء كان مسلحًا أو غير مسلح، سيُقتل".

المعسكرات القسرية:

بعد انتهاء العمليات العسكرية، أنشأت السلطات الألمانية معسكرات اعتقال قسرية للعمل القسري. كانت الظروف في هذه المعسكرات كارثية، حيث تعرض المعتقلون للتعذيب وسوء التغذية والأمراض. ومن أشهر هذه المعسكرات "جزيرة القرش" (Shark Island)، التي كانت بمثابة معسكر موت حقيقي.

الإبادة الثقافية:

تم تدمير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية لشعبي الهيريرو والناما.
مصادرة الأراضي والماشية بشكل كامل لصالح المستوطنين الألمان.
تم استخدام الأحياء والأموات في تجارب علمية عنصرية لتأكيد نظريات تفوق العرق الأبيض.

حصيلة الكارثة

قُتل حوالي 80% من سكان الهيريرو (قرابة 65,000 شخص من أصل 80,000).
قُتل حوالي 50% من سكان الناما (قرابة 10,000 شخص).
أصبحت الإبادة الجماعية في ناميبيا أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وكانت نموذجًا لما سيحدث لاحقًا في المحرقة النازية (الهولوكوست).
الاعتراف والاعتذار

الموقف الألماني:

في العقود اللاحقة، كانت ألمانيا بطيئة في الاعتراف بمسؤوليتها عن هذه الجرائم. لم يُصدر اعتراف رسمي حتى عام 2004، عندما اعترفت الحكومة الألمانية بأن ما حدث كان إبادة جماعية.
في عام 2021، قدمت ألمانيا اعتذارًا رسميًا وتعهدت بتقديم مساعدات مالية بقيمة 1.1 مليار يورو لدعم التنمية في ناميبيا، لكنها رفضت تقديم تعويضات فردية.

النقد والمطالب

يرى بعض الناميبيين أن المساعدات المالية غير كافية، وطالبوا بتعويضات مباشرة لذوي الضحايا وإعادة الممتلكات المصادرة.

الانعكاسات العالمية

أصبحت المذابح الألمانية في ناميبيا رمزًا للوحشية الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا. سلطت الضوء على السياسات الإمبريالية التي استخدمت القوة والعنف لتدمير الثقافات المحلية. كما لعبت دورًا في تعزيز النقاش حول العدالة التاريخية والاعتذار عن الجرائم الاستعمارية.

باختصار، تعتبر مذابح ناميبيا (1904-1908) جرحًا عميقًا في تاريخ الإنسانية، وهي تذكير بضرورة مواجهة جرائم الماضي بصدق وشجاعة. ورغم الاعتذار الألماني، يظل الجدل قائمًا حول كيفية تحقيق العدالة للضحايا وذويهم بعد أكثر من قرن على هذه الأحداث.


تظل مذابح شعبي الهيريرو والناما في ناميبيا شاهداً دامغاً على وحشية الاستعمار واستعداده لإبادة شعوب بأكملها في سبيل تحقيق مصالحه. إنها ليست مجرد جريمة عابرة، بل تمثل نموذجاً صارخاً لما يحدث حين تسود عقلية التفوق العنصري ويُهمَّش الآخر المختلف ثقافياً وإنسانياً. لقد كان ما جرى في ناميبيا خلال الأعوام 1904-1908 مأساة مروعة، لم تقتصر على القتل الجماعي، بل امتدت لتدمير الهوية الثقافية والاجتماعية، وتجريد الشعوب من حقها في الوجود، وكأنها إعلان صريح بأن الطغيان قادر على محو التاريخ إذا لم يُقاوم.

اليوم، وبعد أكثر من قرن على تلك الفصول السوداء، يواجه العالم مسؤولية أخلاقية وتاريخية تستوجب ألا يُطوى هذا الملف في صفحات النسيان. إن الاعتراف بالمأساة ومحاسبة القوى الاستعمارية عن جرائمها ليس مجرد واجب تاريخي، بل هو خطوة أساسية لتحقيق العدالة وإعادة الاعتبار لأولئك الذين أُبيدوا بلا ذنب. كما أن إحياء هذه الذكرى المأساوية يضعنا أمام تساؤلات عميقة حول مفاهيم الإنسانية والعدالة في عصرنا الحديث: كيف يمكن تجاوز إرث الظلم التاريخي؟ وما الذي يمكن فعله لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في أي بقعة من العالم؟

إن مأساة ناميبيا ليست مجرد درس في التاريخ، بل هي جرس إنذار دائم يُذكّرنا بمدى هشاشة القيم الإنسانية إذا ما خضعت لقوى الهيمنة والاستغلال. إنها دعوة لإعادة التفكير في علاقة الإنسان بالسلطة، بالأرض، وبالآخر المختلف. إننا حين نسلط الضوء على هذه الأحداث، لا نعيد فتح الجراح القديمة عبثاً، بل نسعى لشفائها من خلال مواجهة الحقيقة، والاعتراف بالمسؤولية، والعمل على بناء عالم أكثر عدالة وإنسانية.

وفي النهاية، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل يكفي الاعتذار أو المساعدات الاقتصادية لمداواة الجروح التي خلفتها تلك الإبادة؟ أم أن تحقيق العدالة يتطلب خطوات أعمق تعيد الحقوق المسلوبة، وتضمن للأجيال الحالية والمقبلة أن ما حدث في ناميبيا لن يتكرر مرة أخرى؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تتطلب التزاماً عالمياً بمواجهة التاريخ بشجاعة، والانتصار لكرامة الإنسان في كل زمان ومكان.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إرادة الشعب أساس الحكم العادل: قراءة في فكر جان جاك روسو
- إرادة القوة بين نيتشه وهايدغر: جدلية الوجود والتحرر في الفلس ...
- من حليف استراتيجي إلى عبء سياسي: هل تتخلى روسيا عن نظام بشار ...
- صراع البقاء: نظام الأسد بين القوة العسكرية والتحولات الإقليم ...
- منهج الفينومينولوجيا: استكشاف الحقيقة عبر تجربة الوعي
- نحو مؤسسات نزيهة: معركة مكافحة الفساد وبناء الشفافية في العا ...
- الأخلاق السياسية في الفلسفة الغربية: بين الإلزام الأخلاقي وح ...
- الدولة العميقة في الجزائر: قوة خفية تشكل مصير الأمة
- الاغتراب في الفلسفة الأوربية: جدلية الذات والعالم في سياق ال ...
- الوضعية المنطقية: فلسفة العقلانية الصارمة بين طموح العلم وحد ...
- الدولة العميقة: السلطة الخفية التي تحدد مسار الحكومات
- الحياة والقوة في فكر أمبرتو إيكو: قراءة في التفاعل بين الأخل ...
- إشكالية العقل والإيمان: الغزالي في مواجهة تاريخية مع ابن سين ...
- الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية: تأملات في جدلية القضاء وا ...
- إرادة الحياة: بين الزهد والتحدي في فلسفة شوبنهاور ونيتشه
- أزمة المعنى في الفلسفة الحديثة: جدل العدمية والبحث عن الغاية
- علم الله الأزلي وخلق القرآن: قراءة فلسفية في عقيدة المعتزلة
- العدالة التربوية في العالم العربي: تحديات الواقع وآفاق التغي ...
- الأمم المتخيلة: تفكيك جذور القومية وإعادة تشكيل الهوية في عص ...
- الشريعة والقانون: النظرية الإسلامية في ظل التحولات المعاصرة


المزيد.....




- جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال ...
- الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا ...
- فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز ...
- سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه ...
- مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال ...
- جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
- قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
- البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة ...
- مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
- -الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حمدي سيد محمد محمود - الإبادة المنسية: جرائم الاستعمار الألماني في ناميبيا (1904-1908)