من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 9
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 9 - 20:11
الحلقة التاسعة
إن هذا الإنكار وحده من قبل "الإتحاد" لقسم من أخطائه السابقة سيبين لمؤرخ الاشتراكية-الديموقراطية الروسية المقبل بصورة أوضح من كل الشروح المطولة، إلى أي درك من الإنحطاط دفع "إقتصاديونا" الاشتراكية! ولكن أية سذاجة يبديها "الإتحاد" إذ يتصور أنه بتنازله عن شكل من أشكال تضييق السياسة يحملنا على القبول بشكل آخر من أشكال تضييقها! ألا نكون أقرب إلى المنطق إذا قلنا هنا أيضا أنه ينبغي القيام بالنضال الإقتصادي على أوسع وجه ممكن، وأنه ينبغي الإستفادة منه على الدوام للتحريض السياسي، ولكن "لا ضرورة إطلاقا" لاعتبار النضال الإقتصادي الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى النضال السياسي النشيط؟ إن "الإتحاد" يرى أهمية في ما أقدم عليه من الإستعاضة عن تعبير "أفضل وسيلة" الوارد في القرار المعني من قرارات المؤتمر الرابع لاتحاد العمال اليهود (البوند)(69) بتعبير "الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل". ونحن في الحقيقة نجد أنفسنا في موقف حرج لو طلب إلينا أن نقول أي القرارين أفضل: فإن القرارين في رأينا هما كلاهما من أردأ ما يكون. فـ"الإتحاد" والبوند ينزلقان هنا (وربما كان ذلك جزئيا عن غير وعي، تحت تأثير العادة) إلى التأويل الإقتصادي، التريديونيوني للسياسة. ولا يتغير شيء في فحوى الأمر إذا تم ذلك بواسطة كلمة "أفضل" أو تعبير "يمكن استعمالها بأوسع شكل". ولو قال "الإتحاد" أن "التحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي" هو الوسيلة التي تستخدم (لا التي يمكن استعمالها) بأوسع شكل لكان على حق بالنسبة لمرحلة معينة في تطور حركتنا الاشتراكية-الديموقراطية. ولكان على حق بالضبط حيال "الإقتصاديين" حيال الكثيرين (إن لم نقل الأكثرية) من المشتغلين في الميدان العملي في سنوات 1898-1901، لأن هؤلاء "الإقتصاديين" المشتغلين في الميدان العملي قد استخدموا في الواقع التحريض السياسي (هذا إذا كانوا يستخدمونه بوجه عام!) على الصعيد الإقتصادي وحده تقريبا.
وقد رأينا أن "رابوتشايا ميسل" و"جماعة التحرير الذاتي" قد اعترفتا بل أوصتا بتحريض سياسي من هذا النوع! وقد كان على "رابوتشييه ديلو" أن تشجب بحزم كون التحريض الإقتصادي المفيد يرافقه تضييق مضر للنضال السياسي. ولكنها أعلنت بدلا من ذلك أن الوسيلة المستخدمة بأوسع شكل (من قبل "الإقتصاديين") هي الوسيلة التي يمكن استخدامها بأوسع شكل! ولا مجال للاستغراب إذا لم يجد هؤلاء الناس من سبيل، عندما ندعوهم "بالإقتصاديين"، إلا أن يصمونا بأقبح النعوت، من نوع "المشعوذين" و"المخربين" و"سفراء البابا" و"المفترين"، وان يشكو أمام الجميع وأمام كل بمفرده مدعين أننا وجهنا لهم إهانة دامية، وأن يصرخوا على نمط من يقسم بالإيمان الغليظة: "لا توجد اليوم أية منظمة اشتراكية-ديموقراطية مذنبة "بالإقتصادية". يا لهؤلاء المفترين الأشرار-الساسة! ألا يحتمل أن يكونوا قد اخترعوا "الإقتصادية" كلها اختراعا لكي يوجهوا إلى الناس الإهانات الدامية لا لشيء إلا لحقدهم على البشر؟ ما هو بلسان مارتينوف المعنى الواقعي الملموس للمهمة التي يضعها أمام الاشتراكية-الديموقراطية: "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه"؟ إن النضال الإقتصادي هو نضال العمال الجماعي ضد أصحاب العمل بغية بيع قوة العمل بشروط مفيدة، بغية تحسين ظروف عمل العمال وظروف حياتهم. وهذا النضال هو بالضرورة نضال مهني، لأن ظروف العمل تختلف اختلافا كبيرا باختلاف المهن، ولذا لا يمكن للنضال بغية تحسين هذه الظروف أن يجري إلا تبعا للمهن (النقابات في الغرب والإتحادات المهنية المؤقتة والمناشير في روسيا، الخ.). إذن، إن إضفاء "الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه" يعني السعي إلى تحقيق المطالب المهنية نفسها، وإلى التحسين نفسه في ظروف العمل المهنية بواسطة "إجراءات تشريعية وإدارية" (كما يقول مارتينوف في الصفحة التالية من مقاله، الصفحة 43). وهذا بالذات ما تقوم به وما قامت به على الدوام جميع نقابات العمال.
تصفحوا مؤلف العالمين الرصينين (والإنتهازيين "الرصينين") الزوجين ويب، تروا أن نقابات العمال الإنكليزية قد وعت وراحت تنفذ منذ عهد جد بعيد مهمة "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه"، وأنها تناضل منذ عهد جد بعيد في سبيل حرية الإضراب، في سبيل إزالة شتى أشكال العقبات الحقوقية القائمة في وجه الحركة التعاونية والنقابية، في سبيل إصدار قوانين لحماية النساء والأطفال، في سبيل تحسين ظروف العمل بواسطة التشريع الصحي والصناعي، الخ.. وهكذا، إن هذه العبارة الطنانة، "الرهيبة" بدويها العميق والثوري: "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه"، تخفي وراءها في الواقع النزوع التقليدي إلى الهبوط بالسياسة الاشتراكية-الديموقراطية حتى مستوى السياسة التريديونيونية! فبذريعة إصلاح ضيق أفق "الإيسكرا" التي تعتبر - ويا للهول - "بث الروح الثورية في العقائد أعلى شأنا من بثها في الحياة" يعرضون علينا النضال من أجل الإصلاحات الإقتصادية على أنه شيء جديد. والواقع أن عبارة "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه" خالية من كل شيء عدا النضال في سبيل الإصلاحات الإقتصادية.
وكان بوسع مارتينوف أن يصل بنفسه إلى هذا الاستنتاج البسيط لو أعمل الفكر قليلا في معنى كلماته. فقد قال موجها مدفعيته الثقيلة إلى "الإيسكرا": "إن حزبنا يمكنه ويجب عليه أن يطالب الحكومة بإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة ضد الاستثمار الإقتصادي، ضد البطالة وضد الجوع، الخ." (ص ص 42-43 من "رابوتشييه ديلو"، العدد 10).
المطالبة بإجراءات ملموسة - ألا يعني ذلك المطالبة بالإصلاحات الإجتماعية؟ وها نحن نسأل مرة أخرى القراء المنصفين: أنفتري على "الرابوتشييه ديلوويين" (وأرجو المعذرة على هذا التعبير الفظ الشائع!) إذا وصفناهم ببرنشتينيين مستترين عندما يعلنون أن خلافاتـهم مع "الإيسكرا" تدور حول ضرورة النضال في سبيل الإصلاحات الإقتصادية؟ إن الاشتراكية-الديموقراطية الثورية قد ضمنت نشاطها وتضمنه على الدوام النضال من أجل الإصلاحات. ولكنها تستخدم التحريض "الإقتصادي" لا لمطالبة الحكومة بمختلف الإجراءات وحسب، بل لمطالبتها كذلك (وقبل كل شيء) بأن تكف عن أن تكون حكومة استبدادية. وهي، عدا ذلك، ترى من واجبها أن تقدم للحكومة هذا الطلب لا على صعيد النضال الإقتصادي وحسب، بل كذلك على صعيد جميع مظاهر الحياة السياسية الإجتماعية بوجه عام.
إنها بكلمة، تخضع النضال من أجل الإصلاحات، بوصفه جزءا من كل، للنضال الثوري من أجل الحرية ومن أجل الاشتراكية. أما مارتينوف فيبعث نظرية المراحل بشكل آخر، محاولا أن يحصر تطور النضال السياسي في طريق، إن جاز القول، اقتصادي، بكل تأكيد. إنه، إذ ينادي، في مرحلة النهوض الثوري، بالنضال من أجل الإصلاحات على أنه "مهمة" خاصة كما يزعم، يجر بذلك الحزب إلى الوراء ويساعد الإنتهازية "الإقتصادية" والانتهازية الليبرالية على حد سواء.
ثم إن مارتينوف، بعد أن ستر، بحياء، النضال من أجل الإصلاحات بالصيغة الطنانة: "إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه"، وضع في المقام الأول وكشيء خاص الإصلاحات الإقتصادية وحدها (وحتى الإصلاحات في داخل المعامل وحدها). ونحن لا ندري لماذا فعل ذلك. ترى أعن سهو؟ ولكنه إن كان لم يقصد الإصلاحات "المعملية" وحدها، فإن كل صيغته التي ذكرناها للتو تفقد عندئذ كل معنى. أو لعله فعل ذلك لأنه يعتقد أن الحكومة لا يمكن ولا يحتمل أن "تتنازل" إلا في الميدان الإقتصادي وحده؟• ولئن كان الأمر كذلك فهذا ضلال غريب: فالتنازلات محتملة وتحدث أيضا في ميادين التشريع الذي يتناول السياط والجوازات والتعويضات عن شراء الأراضي(70) والشيع الدينية والرقابة، الخ. وهلم جرا.
وواضح أن التنازلات "الإقتصادية" (أو التنازلات الكاذبة) هي الأهون على الحكومة والأكثر فائدة لها، لأن الحكومة تأمل أن تكسب بذلك ثقة جماهير العمال. ولهذا بالذات لا ينبغي لنا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين أن نفسح بأي شكل من الأشكال أي مجال للاعتقاد (أو للتوهم) بأن الإصلاحات الإقتصادية هي الأغلى على قلوبنا أو أننا نعتبرها الأهم، الخ.. يقول مارتينوف متحدثا عن الإجراءات التشريعية والإدارية الملموسة التي تقدم بها أعلاه: "إن مثل هذه المطالب لا تبقى كلاما فارغا، لأنها، إذ تبعث الأمل بنتائج حسية معينة، يمكن أن تجد التأييد النشيط لدى جماهير العمال"... نحن لسنا "باقتصاديين" نستغفر الله! كل ما في الأمر أننا نزحف أمام "حسية" النتائج الملموسة بمثل خنوع السادة برنشتين وبروكوبوفيتش وستروفه ور. م . وtutti quanti ! كل ما في الأمر أننا نلمح (مع نارسيس توبوريلوف) إلى أن كل ما لا "يبعث الأمل بنتائج حسية" هو "كلام فارغ"! كل ما في الأمر أننا نفصح بشكل يبدو منه وكأن جماهير العمال ليست أهلا (وأنها، بالرغم من جميع الذين يلقون عليها تفاهاتهم، لم تبرهن على أنها أهل) لأن تؤيد بنشاط كل احتجاج على الحكم المطلق، حتى الاحتجاج الذي لا يبعث فيها أي أمل بنتائج حسية! حسبنا أن نضرب الأمثلة التي ذكرها مارتينوف نفسه عن "الإجراءات" ضد البطالة والمجاعة. فبينما انهمكت "رابوتشييه ديلو"، كما يؤخذ من وعدها، في وضع وتحضير "مطالب لإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة" (بشكل مشاريع قوانين؟)، "تبعث الأمل بنتائج حسية"، عملت "الإيسكرا" التي "تفضل على الدوام بث الروح الثورية في العقائد بدلا من بثها في الحياة" على تبيان الصلة الوثقى التي تربط البطالة بالنظام الرأسمالي بأكمله ونبهت إلى أن "المجاعة زاحفة" وشهرت بالأعمال التي تقوم بها الشرطة "لمكافحة الجياع"(71) وبفظاعة "الأحكام المؤقتة للأشغال الشاقة"(72)، وأصدرت "زاريا" في هذا الوقت في طبعة على حدة بصفة كراس من كراسات التحريض، قسما من "استعراض الوضع الداخلي" يتناول المجاعة. ولكن، رباه، كم كان هؤلاء الأرثوذكس، المصابون بضيق الأفق حتى مخ العظم، كم كانوا في هذه الحالات "محدودي التفكير"، كم كانوا متحجرين صما حيال مقتضيات "الحياة نفسها"! فهم لم يدرجوا في أي مقال من مقالاتهم - ويا للهول - أي مطلب - أتتصورون؟ أي "مطلب ملموس" "يبعث الأمل بنتائج حسية"! يا لهم من جامدي العقيدة تعساء! ألا فليذهبوا وليتتلمذوا على أمثال كريتشيفسكي مارتينوف كي يتعلموا أن التكتيك هو سير النمو، هي سير ما ينمو، الخ.، وأنه ينبغي إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه! "إن لنضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة ("النضال الإقتصادي ضد الحكومة"!!) عدا أهميته الثورية المباشرة، أهمية أخرى تتلخص في كونه يضع العمال على الدوام أمام مسألة حرمانهم من الحقوق السياسية" (مارتينوف، ص 44).
نحن لا نثبت هذه العبارة لكيما نكرر للمرة المئة أو للمرة الألف ما سبق لنا أن قلناه، بل لكيما نقدم لمارتينوف بوجه خاص الشكر على هذه الصيغة الجديدة الرائعة: "نضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة". يا للروعة! بأي نبوغ لا يضارع، وبأية مهارة تُلغى جميع الخلافات الثانوية وجميع الاختلافات في التلاوين بين "الإقتصاديين"، ويُفصح هنا في عبارة مقتضبة واضحة عن جوهر "الإقتصادية" كله ابتداء من دعوة العمال إلى "النضال السياسي الذي يقومون به لمصلحتهم المشتركة بغية تحسين وضع جميع العمال"، ومرورا بنظرية المراحل، ثم انتهاء بقرار المؤتمر عن "الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل"، الخ.. إن "النضال الإقتصادي ضد الحكومة" هو بالضبط السياسة التريديونيونية البعيدة جدا، البعيدة منتهى البعد عن السياسة الاشتراكية-الديموقراطية.
يتبع