|
التحليق بعيدا في فضاءات الحلم
فاطمة العتابي
الحوار المتمدن-العدد: 8185 - 2024 / 12 / 8 - 22:02
المحور:
الادب والفن
فاطمة العتابي/ قاصة وأكاديمية
يسير مجدا كأن خيوط الشمس الذهبية تجذبه نحوها، هي نفسها الشمس الحارقة التي يعرفها منذ سنين، غير أنها اليوم بدت صديقة ودود تهبه الأمن والطمأنينة. ها هو ذا مثل كل عام في هذا الموعد يسير نحو الأرض التي نزف فوقها عرقه، وشيئا من روحه، وأحلامه. الأرض التي تكومت فوقها بيادر الحنطة الذهبية الهشة، غير أنه هذه المرة يمشي سراعا كمن يحدوه الأمل في أن يحظى بشيء أكثر من السابق، السابق الذي كان يذهب كله للملاچ تسديدا لديون لا يعرف كيف تراكمت مع مرور السنين، والأدهى أنه لا يعرف كيف يتخلص منها؟ فكر بشفتيها القرمزيتين ويديها الصغيرتين الناعمتين، ربما ستجلب له هذه البنت الخامسة الحظ كما قالت أمه مواسية له. فليتفاءل إذن، ألم يقولوا: تفاءلوا بالخير تجدوه! كان يضع مسحاته على كتفه، وللمرة الأولى يشعر بأنها لا تثقل عليه، ربَّما لأنه بالأمس مع اقتراب خطواته المتعبة من المنزل وقعت صرخاتها في أذنيه، بعد أن انزلقت من بطن أمها إلى الأرض، حينما كانت مشغولة بسجر التنور قبل أن تغيب الشمس استعدادا لعودته من الأرض. قالت له أمه (وفي كلام الوالدين كل البركة): - بسم الله ولادتها سهلة وليدي، وأجت مبرگعة . كانت وقتها مشغولة بلف الصغيرة بالخرقة التي هُرعت بها ابنته الكبرى التي لم تتجاوز سنواتها العشر، وقربها الغشاء الذي ولدت الطفلة داخله، سيكون لهذا الغشاء المبارك شأن في التداوي وأخذ البركة؛ لذا عليها أن تحفظه بصورة صحيحة كي لا يتلف. في البداية، ومثل أي رجل شرقي متعب شعر بالحزن من قدوم الطفلة، فقد كان ينتظر مولودا صبيا قد يعينه على ما بقي من أيامه، ويحمل اسمه من بعده ليخلده، في فكرة توارثها البشر خلفا عن سلف، وهم لا يعلمون لم عليهم أن يخلِّدوا أسماءهم؟! ولاسيما في حياة شقية كهذه! لهذا سبقت روحه خطواته حينما سمع صراخها؛ لعله يجد البشرى بالولد الذكر، ولكنه بعد سماع كلمات أمه تلك، أخذت حماسته تتبدد، مثل غيمة صيفية لاحقتها خيوط الشمس فبددتها عنوة. وصل كالعادة باكرا إلى الأرض التي انتشرت فوقها بيادر الحنطة الذهبية، فوجد رفاقه الفلاحين، وبعضا من رجال الملاچ الذين جاؤوا لحراسة المحصول مازالوا نائمين على أبعاد مختلفة. صاح بصوت جذل حينما وقعت عيناها على أحد الفلاحين، وهو يستيقظ مقاوما التعب والنعاس: - الله يساعدهم، صبَّحكم الله بالخير. ردَّ الفلاح عليه مرحبا، فقال هو سائلا: - ما إجة الوزَّان ؟ - لا والله بعده. قال الفلاح ثم أردف، وهو يتململ: - ما يتأخر هواي، على جية. راحت عيناه تدوران في المكان بشغف على غير العادة، ففي الأعوام السابقة كان الحزن يجلل وجهه، حينما تقع عيناه على البيادر الذهبية التي لا أمل له بالحصول عليها أو على بعضها...كان منظر الحنطة ينشيه كأي مزارع، فلونها الذهبي يبعث فيه أملا كما تبعث شمس الشتاء الدفء في القلوب المقرورة. لم يمض وقت طويل حتى وصل الوزَّان ،الذي قال مصبحا: - ها أخوان الله يساعدكم. فردوا عليه وهم ينهضون أذانا بالتجهز للعمل. أما هو، فراح مع مساعده يعدان أدواتهما لوزن الحنطة، وتقسيمها بين الفلاح والملاچ الذي كان قد أرسل سرگاله مع بعض رجاله بدلا منه. لم يمض وقت طويل حتى بدأ العمل، راح الوزان يقسم محاصيل الفلاحين مع الملاچ، في الوقت الذي كان الـسرگال يفتل شاربه، وهو يهمس للوزان بين حين وآخر ثم يعلو صوته بضحكة بطرة؛ تشي بانتصاره وسيده على هذه الفئة المتعبة من البشر. وعلى الرغم من أنه لاحظ أنَّ رفاقه الفلاحين لم ينالوا من محاصيلهم إلا الشيء القليل، مازال هناك أمل مشوب بالوجل يداعب قلبه الصادي. ظل يدور حول بيادره الذهبية ويمني نفسه بأنَّ نصفها أو ربعها سيكون له في هذا العام. ثم يعود صدره إلى الانقباض حينما يرى ما يتبقى لرفاقه الفلاحين بعد أن يأخذ الملاچ حصته وديونه عليهم. يردد التميمة المعتادة في نفسه: - الله كريم... الله كريم إنها الطفلة الخامسة، فلابد من أن يأتي الخير كله معها، هكذا قالت أمه العجوز، ثم إنها ولدت مبرقعة بسهولة ويسر بينما كانت أمها تسجر التنور للخبز، مثل هذه الولادة تشي بمستقبل سهل مبارك، نعم.. نعم ... هكذا بقي يفكر في نفسه، وهو يدور شاردا بذهنه متفحصا بيادر حنطته، حتى إنه لم يتنبه إلى الوزَّان والسرگال اللذين كانا قد اقتربا من بيادره، فصاح الوزَّان: - الله يساعدك أبو فضيلة... كرر التحية ثانية وثالثة فلم يسمعه، عندها اقترب منه السرگال فوكزه بجنبه بالخيزرانة التي كانت بين يديه وهو يضحك مقهقها: - أهووو أبو فضيلة..... بدت منه حركة التفاتة توحي بأنه قد فوجئ بهما، فقال الوزان: - وين رحت عنا واحنة نسلم وما ترد. قال: - أعذروني بالي مشغول بالأهل أمس ولدت. فقال السرگال: - ولد إن شاء الله!؟ - بنية. فسأل السرگال: - چم بنية صارن؟ - خمسة. فرد السرگال متعاطفا: - أنا أخوك ! أطرق متظاهرا بأنه يصلح أحد البيادر خوفا من انهيار سنابلها، في الوقت الذي أخذ الوزان يزنها الواحدة تلو الأخرى بمساعدة رجال الملاچ. كان السرگال كعادته يفتل شاربه، أو يدندن بأغنية غير مفهومة الكلمات، ربما بدت غير مفهومة الكلمات لأبي فضيلة وحده، فقد كان باله مشغولا ببيارده، وجهد العام الذي يرآه تذروه الرياح شيئا فشيئا، كانت انقباضة قلبه تزداد كلما وزن الوزان بيدرا جديدا، في حين كان السرگال يتمدد، وهو يسند رأسه بكفه تحت لهيب الشمس الحارقة قرب إحداها، ودفتره ملاصقا لصدره. تمنى في تلك اللحظة أن يصل لهيب حرارة الشمس إلى ذلك الدفتر المخيف، الذي بدا له كمسخ مرعب، فيما بدا القلم المنغرس بين صفحاته كلسان أفعى تخرجه متحفزة للدغ فريستها الوجلة. كاد قلبه يتوقف وهو يفكر في ذلك، فقد تطاير عقله بين عدة جهات، بين كلام أمه وتطمينها الذي يراه على وشك الذهاب مع الريح، وبين ميزان الوزان وبيادره التي يراها تتحول من ذهبية إلى رماد يتلاشى أمام عينيه، وبين دفتر السرگال المخيف، وشاربه المقرف. - آه... خرجت من أعماق قلبه هذه التنهيده، فهو نفسه لم يعرف إن كانت تنهيدة أمل أم يأس، فبينما كان باله مشغولا بكل ذلك، لمح حبوب القمح وبعض السنابل الضعيفة في شقوق الأرض، تذكر أنه قد تعمد أن يتركها بين شقوق أرضه بنصيحة من أمه، لكي يستطيعوا جمعها بعد أن ينتهي اقتسام الحنطة بينه وبين الملاچ. كان شعاع تلك الحبوب الذهبية النائمة بين الشقوق يصل إلى عينيه وقلبه؛ كأنها كنوز علي بابا في المغارة، كيف لا وهي قد تملأ كيسا يسد رمق شهر أو اكثر. ارتسمت البسمة على محياه بعفوية، فكر لا بأس أن يبعد تفكيره وعينيه منها؛ لكي لا يلاحظ السرگال فرحته الخفية، ولكن السرگال كان قد تنبه لابتسامته تلك فهالته، إذ اعتاد أن يرى على وجوه الفلاحين الوجل والحزن الذي يشي بنصره هو وسيده، فقال وهو مازال على جلسته تلك: - خيرك؟ لم يجبه بشيء متظاهرا بأنه ينظر إلى البعيد، ولكنه فوجئ بالملاچ يقترب مع رجاله، فنهض السرگال الذي فوجئ بمجيئه هو الآخر بسرعة كبيرة، وقال وهو يقترب منه بسرعة أكبر كأنه طير انتفض من وحش كاسر فاجأه: - أهلا محفوظ تعبت نفسك، إحنة كلنا هنا نقوم بالواجب وأكثر. فقال الملاچ: - والنعم منكم متقصرون. ثم التفت إلى أبي فضيلة، فقال له: - شو لا هلا ولا مرحبا، أبو فضيلة زعلان علينا لو شنو. فقال السرگال قبل أن ينبس أبو فضيلة ببنت شفة: - ضايج يالمحفوظ اجته بنية وصارن خمسة. وأشار بيده في وجه أبي فضيلة مباعدا بين أصابعه للدلالة على الرقم خمسة. لكن الملاچ قال على نحو غير متوقع موجها كلامه للوزان الذي كاد ينهي عمله: - عوفه هذا البيدر عوفه. توقف الوزان امتثالا للأمر من دون أن يعلم لم أمره بذلك، في حين التفت أبو فضيلة لينظر إلى بيادره، التي أشعر أنه لن ينال منها شيئا، أما السرگال فحينما سمع كلام الملاچ، قال: - خير محفوظ؟! لم يجبه الملاچ، بل وجَّه كلامه إلى أبي فضيلة، وهو يشير إلى البيدر بيده التي كان ممسكا بها مسبحته المكونة من حبات عقيق يماني كبيرة: - هذا إلك، صوغة البنية الجديدة. ثم قال للسرگال: - وگع دينه كله. من شدة فرحة أبي فضيلة بذلك ودهشته لم يعلم كيف وصل إلى الملاچ ليحتضنه ثم يقبل رأسه ويديه، في حين بقي السرگال فاغرا فاه وهو ينظر بعينين مستغربتين. ضحك الملاچ وهو ينظر إلى السرگال، وقال له: - چنك ما رضيت، بُدِّلَّك تاخذها إلك مو. فتلعثم السرگال، وقال: - حلالك محفوظ أني ما أطمع بيه. فقهقه الملاچ رافعا رأسه بزهو إلى السماء، ثم حرك يده ملوحا بمسبحته في الهواء أمارة على انتهاء الحديث والزيارة معنا، وقال وهو يلتفت مغادرا: - تظل عدكم العافية. لم يكن أبو فضيلة قد استفاق بعد من هول الصدمة، حينما أحس بخيزرانة السرگال تربت على كتفه بهدوء، وهو يقول له بنبرة حسود: - هاي البنية الجديدة عدها كل الحظ، بعد شتريد المحفوظ اطَّاها صوغة من حلاله بس أجت للدنيا ووگع إلك ديونك. وكأنه أفاق من غيبوبة، قال بفرح غير مكترث للسرگال الحسود: - إي والله راح أسميها (حظهن)، والله گالت أمي بيها كل البخت هالبينة المبرگعة. - ومبرگعة النوب؟! إيه ليش لا... قال السرگال وهو يهز رأسه ويحرك عينيه بحسد وحسرة. لم يكن أبو فضيلة يشعر بمن حوله حقيقة، لقد كان محلقا في عالم لم يكن يوما يخطر على باله، ها هي ذي المولودة الجديدة تأتي له بالحظ الوفير، فمنذ اليوم الأول لها قد جلبت له الحظ، فترك له الملاچ الذي لم يأمل منه يوما أي خير، بيدرا كاملا، فضلا عن حبات القمح والسنابل الضعيفة التي تعمد هو تركها بين شقوق الأرض! لم يستطع كبح جماح نفسه التي كانت تحلق بعيدا في فضاءات الحلم، كأنها طير فر على حين غفلة من قفصه، شعر أن روحه تخرج من جسده وترفرف حول بيدره الوحيد؛ كأنه درويش يدور بثوبه الفضفاض حول نفسه، فيما أخذت الحبوب الذهبية تتطاير من بين شقوق الأرض التي كانت قد رقدت فيها، وتلفه في فرح؛ كأنها تراقصه وتشاركه فرحته التي قد لا تتكرر مرة أخرى.
#فاطمة_العتابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية شموئيل وحلم إيشو الرباب
-
مقطوعة
-
الإمام علي رائد الوحدة الإسلامية
-
مقطوعتان
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|