من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 8


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 8 - 15:57     

الحلقة الثامنة

III-السياسة التريديونيونية والسياسة الاشتراكية-الديموقراطية
لنبدأ مرة أخرى بامتداح "رابوتشييه ديلو".
لقد نشر مارتينوف في العدد 10 من "رابوتشييه ديلو" مقالا عن الخلافات مع "الإيسكرا" بعنوان "أدب التشهير والنضال البروليتاري". وقد صاغ جوهر هذه الخلافات بقوله: "لا يمكننا أن نقتصر على مجرد التشهير بالأوضاع التي تعترض طريق تطوره (تطور حزب العمال). بل ينبغي علينا أن نستجيب كذلك لمصالح البروليتاريا العاجلة والراهنة" (ص 63).
"... "الإيسكرا"... هي في الواقع جريدة للمعارضة الثورية تشهر بأوضاعنا، والسياسية منها بصورة رئيسية... أما نحن فنعمل وسنعمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري" (نفس المصدر).
لا يسعنا إلا أن نعرب لمارتينوف عن الإمتنان لصيغته هذه. فهي تكتسب أهمية عامة كبرى، لأنها، في الجوهر، لا تشمل خلافاتنا مع "رابوتشييه ديلو" وحسب، بل تشمل بوجه عام جميع الخلافات القائمة بيننا وبين "الإقتصاديين" بصدد مسألة النضال السياسي. لقد بينا فيما سبق أن "الإقتصاديين" لا ينكرون "السياسة" إنكارا مطلقا، ولكنهم ينزلقون على الدوام من المفهوم الاشتراكي-الديموقراطي عن السياسة إلى المفهوم التريديونيوني. وبالصورة نفسها ينزلق مارتينوف.
ولذلك نريد نحن أن نأخذه هو بالذات نموذجا لأخطاء "الإقتصادية" في هذه المسألة. وسنسعى لكي نبين أنه لن يحق لا لواضعي "الملحق الخاص لـ"رابوتشايا ميسل"" ولا لواضعي بيان "جماعة التحرير الذاتي" ولا لواضعي الرسالة "الإقتصادية" المنشورة في العدد 12 من "الإيسكرا" أن يلومنا لهذا الإختيار.
أ) التحريض السياسي وتضييق الإقتصاديين له يعلم الجميع أن اتساع نضال العمال الروس الإقتصادي واشتداده قد سارا جنبا إلى جنب مع نشوء "أدب" التشهير الإقتصادي (الذي يتناول حياة المعامل والحياة المهنية). فالموضوع الرئيسي في "المناشير" كان التشهير بالأوضاع السائدة في المعامل. وسرعان ما ظهر بين العمال شغف حقيقي بالتشهير. وما أن رأى العمال حلقات الاشتراكيين-الديموقراطيين تريد وتستطيع أن تقدم لهم نوعا جديدا من مناشير تقول الحقيقة كاملة عن حياتهم البائسة وعن عملهم المرهق إلى حد لا يطاق وعن حرمانهم من كل حق، حتى أخذوا يمطرون الرسائل، إن جاز التعبير، من المعامل والمصانع. وقد كان هذا "الأدب التشهيري" يحدث صدى عظيما لا يقتصر على المصنع الذي يشهر هذا المنشور أو ذاك بأوضاعه، بل يتعداه إلى جميع المعامل التي تبلغها أصداء الوقائع المشهر بها.
ونظرا لوجود سمات كثيرة مشتركة بين احتياجات العمال ونكباتهم في مختلف المعامل والمهن، كانت "الحقيقة عن الحياة العمالية" تفتن لب الجميع. وقد نما بين أكثر العمال تأخرا شغف حقيقي بـ"طبع بنات أفكارهم"، وهو شغف نبيل بشكل جنيني من أشكال الحرب ضد النظام الإجتماعي الراهن كله القائم على النهب والظلم. وفي معظم الحالات كانت هذه "المناشير" في الواقع إعلانا للحرب، لأن التشهير كان يثير العمال بشدة ويدفعهم إلى المطالبة المشتركة بإزالة المظالم الفظيعة ويجعلهم على استعداد لدعم مطالبهم هذه بالإضرابات. وقد اضطر أصحاب المصانع أنفسهم في نهاية الأمر إلى أن يروا في هذه المناشير إعلانا للحرب بحيث أفقدتهم في الكثير من الحالات الرغبة في انتظار الحرب نفسها. وكان التشهير، كما هو الحال دائما، يكتسب قوته لمجرد ظهوره، ويحرز أهمية ضغط معنوي كبير. فقد حدث غير مرة أن كان مجرد ظهور المنشور كافيا لتلبية جميع المطالب أو بعضها. وبكلمة، لقد كان التشهير الإقتصادي (المعملي) وما يزال وسيلة هامة للنضال الإقتصادي. وسيحتفظ بأهميته هذه ما بقيت الرأسمالية التي تدفع العمال بالضرورة إلى الدفاع عن أنفسهم.
ففي أرقى البلدان الأوروبية يحدث حتى الآن أن يكون التشهير بظروف عمل فظيعة في "مهنة" متلاشية أو في أي فرع من فروع العمل المنزلي لا يسترعي انتباه أحد، حافزا ليقظة الوعي الطبقي ولبدء النضال المهني وانتشار الاشتراكية•. إن الأكثرية الكبرى من الاشتراكيين الديموقراطيين الروس كانت في الآونة الأخيرة منصرفة بكليتها تقريبا إلى تنظيم عمل التشهير هذا في المعامل. وحسبنا أن نتذكر "رابوتشايا ميسل" لكيما نرى إلى أي حد بلغ انصرافهم هذا، فقد نسوا أن هذا النشاط بحد ذاته ليس بعد، من حيث الأساس، نشاطا اشتراكيا-ديموقراطيا، بل نشاط تريديونيوني فقط. فالتشهير لم يشمل في الجوهر غير العلاقات بين العمال وأصحاب العمل في مهنة معينة، ولم يسفر إلا عن نتيجة واحدة، وهي أن الذين يبيعون قوة عملهم قد تعلموا كيف يبيعون هذه "البضاعة" بفائدة أكبر وكيف يناضلون ضد المشتري على صعيد المساومة التجارية الصرف. وكان بالإمكان أن يصبح هذا التشهير (شريطة أن تستفيد منه منظمة الثوريين بصورة ملائمة) نقطة انطلاق للنشاط الاشتراكي-الديموقراطي وجزءا منه لا يتجزأ. ولكنه كان بالإمكان أيضا أن يؤدي (وفي ظروف تقديس العفوية يؤدي لا محالة) إلى النضال "المهني فقط" وإلى حركة عمالية غير اشتراكية-ديموقراطية.
فالاشتراكية-الديموقراطية لا تقود نضال الطبقة العاملة في سبيل شروط أفضل لبيع قوة العمل وحسب، بل كذلك في سبيل القضاء على النظام الاجتماعي الذي يرغم المعدمين على بيع أنفسهم إلى الأغنياء. إن الاشتراكية-الديموقراطية تمثل الطبقة العاملة لا في علاقاتها مع فئة معينة من أصحاب الأعمال وحسب، بل أيضا في علاقاتها مع جميع الطبقات في المجتمع الراهن، ومع الدولة بوصفها قوة سياسية منظمة. يتضح من ذلك أن الاشتراكيين-الديموقراطيين، فضلا عن أنهم لا يستطيعون الاقتصار على النضال الاقتصادي، لا يمكنهم أيضا أن يسمحوا بأن يستغرق تنظيم التشهير الاقتصادي القسم الأكبر من نشاطهم. يجب علينا أن نعمل بنشاط على تربية الطبقة العاملة سياسيا، على تنمية وعيها السياسي. والآن، بعد أول هجوم تشنه "زاريا" و"الإيسكرا" على "الاقتصادية" "يوافق الجميع" على ذلك (وإن كانت موافقة البعض لا تتعدى القول كما سنرى الآن). قد يسأل سائل: بم ينبغي أن تتلخص التربية السياسية؟ هل يمكن الاقتصار على الدعاية إلى فكرة عداء الطبقة العاملة للحكم المطلق؟ كلا، طبعا. فليس يكفي أن نبين للعمال ما يحيق بهم من ظلم سياسي (كما لم يكن كافيا أن نبين لهم التضاد بين مصالحهم ومصالح أصحاب العمل). إن من الضروري أن نقوم بالتحريض بصدد كل مظهر ملموس من مظاهر هذا الظلم (كما كنا نتناول بتحريضنا مظاهر الظلم الاقتصادي الملموسة). ولما كان هذا الظلم يمس شتى طبقات المجتمع على اختلافها، ولما كان يتجلى في مختلف ميادين الحياة والنشاط - المهنية والعامة والخاصة والعائلية والدينية والعلمية الخ.، الخ.، أفليس من الواضح أننا لن نقوم بمهمتنا، مهمة إنماء وعي العمال السياسي، إن لم نأخذ على عاتقنا أمر تنظيم التشهير بالحكم المطلق تشهيرا سياسيا شاملا؟ ذلك لأننا إذا كنا نريد أن يتناول تحريضنا هذا الظلم في مظاهره الملموسة، فينبغي فضح هذه المظاهر (كما أن التحريض الاقتصادي كان يقتضي فضح الفظائع في المعامل)؟ الأمر واضح كما يبدو. ولكن يبدو هنا بالذات أن ضرورة تطوير الوعي السياسي من كل النواحي لا يقرها "الجميع" إلا بالقول. وهنا بالذات يظهر أن "رابوتشييه ديلو"، مثلا، عدا أنها لم تأخذ على عاتقها مهمة تنظيم (أو المبادرة إلى تنظيم) التشهير السياسي الشامل، أخذت تجر إلى الوراء "الإيسكرا" التي بادرت إلى القيام بهذه المهمة. اسمعوا هذا: "إن نضال الطبقة العاملة السياسي لا يعدو أن يكون" (وفي الحقيقة يعدو أن يكون) "الشكل الأكثر تطورا وسعة وفاعلية للنضال الاقتصادي" (برنامج "رابوتشييه ديلو"، "رابوتشييه ديلو"، العدد 1، ص3).
"تواجه الاشتراكيين-الديموقراطيين الآن المهمة التالية: كيف نضفي على النضال الإقتصادي نفسه، بقدر الإمكان، طابعا سياسيا" (مارتينوف في العدد 10، ص42). "النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى النضال السياسي النشيط" (قرار مؤتمر "الإتحاد"(67) و"التعديلات": "مؤتمران"، ص11 و17). إن "رابوتشييه ديلو"، كما يرى القارئ، زاخرة بكل هذه الأفكار منذ نشوئها حتى "التعليمات" الأخيرة "إلى هيئة التحرير". وجميعها تعرب، كما هو ظاهر، عن نظرة واحدة إلى التحريض والنضال السياسيين. انظروا إلى وجهة النظر هذه من زاوية الرأي السائد لدى جميع "الإقتصاديين" والقائل أنه ينبغي للتحريض السياسي أن يتبع التحريض الإقتصادي. فهل صحيح أن النضال الإقتصادي هو بوجه عام  "الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل" لجذب الجماهير إلى النضال السياسي؟ كلا، ليس هذا بصحيح على الإطلاق. إن جميع مظاهر الإضطهاد البوليسي والطغيان الاستبدادي بشتى أشكالها، لا المظاهر المرتبطة بالنضال الإقتصادي وحده، هي وسيلة لمثل هذا "الجذب يمكن استعمالها" بشكل ليس أقل سعة على الإطلاق. إن "الزيمسكييه ناتشالنيكي"(68)، والقصاص الجسدي بالفلاحين، وارتشاء الموظفين، ومعاملة الشرطة "للعامة" في المدن، ومكافحة الجياع، وقمع مساعي الشعب إلى النور والمعرفة، والتفنن في جباية الضرائب، وملاحقة الشيع الدينية، وترويض الجنود ومعاملة الطلاب والمثقفين الليبراليين معاملة الجنود- إن جميع هذه المظاهر والألوف الأخرى من مظاهر الإضطهاد المشابهة غير المرتبطة ارتباطا مباشرا بالنضال "الإقتصادي"، لماذا ينبغي أن تعتبر بوجه عام وسائل ومناسبات للتحريض السياسي ولجذب الجماهير إلى النضال السياسي "ذات إمكانيات للإستعمال" أقل سعة؟ الصحيح هو العكس تماما: فحالات الإضطهاد البوليسي الناشئة عن النضال المهني بالضبط ليست دون شك غير قلة قليلة من مجموع حالات الحياة التي يتألم فيها العامل (لنفسه أو لقريبه) من الاستبداد والطغيان والعنف. فلماذا إذن نضيق سلفا إطار التحريض السياسي ونصف بـ"إمكان الإستعمال على أوسع شكل"، وسيلة واحدة من وسائله ينبغي أن توجد إلى جانبها - بالنسبة للاشتراكي-الديموقراطي- وسائل أخرى "ذات إمكانيات للاستعمال" ليست عموما بأقل سعة؟ لقد كتبت "رابوتشييه ديلو" منذ عهد بعيد (منذ سنة خلت!…): "أن المطالب السياسية المباشرة تصبح في متناول فهم الجماهير بعد إضراب واحد أو بعد بضعة إضرابات على الأكثر"، "أن تستخدم الحكومة الشرطة والدرك" (العدد 7، ص15، آب-أغسطس – سنة 1900). إن نظرية المراحل الإنتهازية هذه قد رفضت الآن من قبل "الإتحاد" الذي يتنازل أمامنا معلنا أنه "لا ضرورة إطلاقا للقيام منذ البدء بالتحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي وحده" ("مؤتمران"، ص11).
يتبع