من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 7
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 7 - 20:15
الحلقة السابعة
ج) "جماعة التحرير الذاتي"(61) و"رابوتشييه ديلو"
إذا كنا حللنا بهذا التفصيل افتتاحية العدد الأول من "رابوتشايا ميسل" التي لا يعرفها غير القلائل والتي كادت تنسى في الوقت الحاضر، فذلك لأنها أفصحت قبل الجميع وبشكل أوضح من الجميع عن ذلك السيل العام الذي خرج فيما بعد إلى وضح النهار جداول صغيرة لا تحصى. لقد كان ف. أ. على تمام الحق عندما قال ممتدحا العدد الأول من "رابوتشايا ميسل" وافتتاحيتها أنها كتبت "بحمية وشدة" ("ليستوك "رابوتنيكا""، العدد 9-10، ص49).
إن كل إنسان واثق من رأيه ويعتقد أنه آت بجديد يكتب "بحمية"، يكتب بشكل يعرب عن نظراته بجلاء. ولا يخلو من "الحمية" غير الناس الذين اعتادوا الجلوس بين كرسيين. وليس غير هؤلاء من يستطيع أن يمتدح في الأمس حمية "رابوتشايا ميسل" وأن يهاجم اليوم خصومها "لحميتهم في الجدال".
ودون أن نتوقف عند "الملحق الخاص لـ"رابوتشايا ميسل"" (وسيتأتى علينا أن نستشهد فيما يأتي في شتى المناسبات بهذا المؤلف الذي يفصح عن أفكار "الإقتصاديين" بأكثر ما يمكن من الانسجام) نتناول فقط باختصار "نداء جماعة تحرير العمال الذاتي" (آذار- مارس - سنة 1899، وقد أعيد نشره في "ناكانونيه"(62) بلندن، العدد 7 تموز- يوليو- سنة 1899). يقول واضعو هذا النداء وهم على تمام الحق أن "روسيا العمال لا تفعل الآن غير أن تستيقظ وتتلفت حولها وتتناول بصورة غريزية أول وسيلة من وسائل النضال تقع عليها يدها"؛ ولكنهم يخلصون من ذلك إلى نفس الاستنتاج غير الصحيح الذي خلصت إليه "رابوتشايا ميسل"، ناسين أن الغريزة هي عدم الوعي (العفوية) بالذات الذي ينبغي للإشتراكيين أن يخفوا لمساعدته، وأن "أول وسيلة تقع عليها يدها" من وسائل النضال هي على الدوام، في المجتمع الراهن، وسيلة النضال التريديونيونية، وأن أول إيديولوجية "تقع عليها يدها" هي الإيديولوجية البرجوازية (التريديونيونية).
ثم إن واضعي هذا النداء لا "ينكرون" كذلك السياسة، إنما هم يقولون فقط (فقط!) في أثر السيد ف.ف. أن السياسة هي بناء فوقي ولذلك "ينبغي للتحريض السياسي أن يكون بناء فوقيا للتحريض على النضال الاقتصادي، ينبغي أن ينمو على صعيد هذا النضال وأن يسير في أثره". أما "رابوتشييه ديلو" فقد بدأت نشاطها مباشرة بـ"الدفاع" عن "الإقتصاديين". فبعد أن نطقت "رابوتشييه ديلو" بكذب جلي في عددها الأول بالذات (العدد1، ص ص 141-142) زاعمة أنها "لا تعلم عن أي الرفاق الشباب تكلم آكسيلرود" الذي حذر "الإقتصاديين" في كراسه المعروف•، اضطرت في مجرى احتدام الجدال مع آكسيلرود وبليخانوف بصدد هذا الكذب إلى الإعتراف بأنها "أرادت عن طريق التظاهر بالدهشة أن تدفع هذه التهمة الباطلة عن جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين الأحدث سنا في الخارج" (اتهام آكسيلرود "للاقتصاديين" بضيق الأفق). والواقع أن هذا الاتهام كان صحيحا كل الصحة، وأن "رابوتشييه ديلو" كانت تعلم حق العلم أن الاتهام ينال فيمن ينال عضو هيئة تحريرها ف. ا. وأقول في هذا الصدد أن آكسيلرود كان على تمام الحق في هذا الجدال وأن "رابوتشييه ديلو" كانت على تمام الخطأ في تفسير كراسي: "مهام الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس".
فقد كتبت هذا الكراس سنة 1897، أي قبل ظهور "رابوتشايا ميسل" وعندما كنت أعتقد وكان يحق لي آنذاك أن أعتقد أن التفوق للاتجاه الأولي الذي اتجهه "إتحاد النضال" في سانت بطرسبورغ، والذي حددت خصائصه آنفا. وقد كان هذا الإتجاه متفوقا في الحقيقة حتى منتصف سنة 1898 على الأقل
ولذلك كان لا يحق لـ"رابوتشييه ديلو" على الإطلاق أن تستشهد في دحضها لوجود "الإقتصادية" وخطرها، بكراس يعرض نظرات حلت محلها في سانت بطرسبورغ خلال سنتي 1897-1898 النظرات "الإقتصادية".
بيد أن "رابوتشييه ديلو" لم تقتصر على "الدفاع" عن "الإقتصاديين"، ولكنها كانت هي نفسها تنزلق على الدوام إلى أخطائهم الأساسية. ومصدر هذا الانزلاق هو الفهم الملتبس للموضوعة التالية من برنامج "رابوتشييه ديلو": "إن أهم ظاهرة في الحياة الروسية، الظاهرة التي من شأنها أن تكون العامل الرئيسي في تحديد مهام (حرف التأكيد لنا) الإتحاد وطابع نشاطه في مضمار المطبوعات هي في رأينا حركة العمال الجماهيرية (حرف التأكيد لـ"رابوتشييه ديلو") التي ظهرت في السنوات الأخيرة". لا مراء في أن الحركة الجماهيرية ظاهرة في منتهى الأهمية. ولكن كل القضية هي في كيفية فهم "تحديد المهام" من قبل هذه الحركة الجماهيرية.
إذ يمكن أن يفهم ذلك على وجهين: يمكن أن يفهم إما بمعنى تقديس عفوية هذه الحركة، أي جعل دور الاشتراكية-الديموقراطية مجرد دور خادم لحركة العمال كما هي (هكذا تفهم ذلك "رابوتشايا ميسل" و"جماعة التحرير الذاتي" و"الإقتصاديون" الآخرون) وإما بمعنى أن الحركة الجماهيرية تفرض علينا مهام جديدة، نظرية وسياسية وتنظيمية، أعقد بكثير من المهام التي كان يمكننا أن نكتفي بها في المرحلة التي سبقت ظهور الحركة الجماهيرية. وقد كانت "رابوتشييه ديلو" ولا تزال تميل إلى المفهوم الأول بالضبط، لأنها لم تقل قط شيئا معينا عن أية مهام جديدة، بل كانت تحاكم على الدوام كما لو كانت هذه "الحركة الجماهيرية " تخلصنا من ضرورة الإدراك الواضح لما تطرحه من مهام ومن ضرورة القيام بهذه المهام. وحسبنا أن نذكر بأن "رابوتشييه ديلو" كانت تعتبر من غير الممكن أن توضع مهمة إسقاط الحكم المطلق كمهمة أولى لحركة العمال الجماهيرية، وأنها هبطت بهذه المهمة (باسم الحركة الجماهيرية) إلى مستوى النضال من أجل أقرب المطالب السياسية ("الجواب"، ص25). لنترك جانبا مقال محرر "رابوتشييه ديلو" ب. كريتشيفسكي في العدد 7 - "النضال الإقتصادي والسياسي في الحركة الروسية"، هذا المقال الذي كرر نفس الأخطاء، ولننتقل مباشرة إلى العدد 10 من "رابوتشييه ديلو". لن نحلل طبعا اعتراضات ب. كريتشيفسكي ومارتينوف على "زاريا" و"الإيسكرا" واحدا واحدا، إذ لا يهمنا هنا إلا الموقف المبدئي الذي وقفته "رابوتشييه ديلو" في العدد 10. لن نحلل مثلا الأمر الغريب التالي وهو أن "رابوتشييه ديلو" ترى "تناقضا أساسيا" بين هذه الموضوعة: "إن الاشتراكية-الديموقراطية لا تقيد يديها، لا تقيد نشاطها بأي مشروع أو أسلوب يوضع سلفا من مشاريع أو أساليب النضال السياسي، فهي تعترف بجميع وسائل النضال على أن تتلاءم وقوى الحزب الواقعية" الخ. ("الإيسكرا"، العدد 1). وبين الموضوعة التالية: "إذا لم توجد منظمة قوية متمرسة بالنضال السياسي وتحسن القيام به في جميع الظروف والمراحل فلا يمكن أن يكون موضع بحث أي مشروع للعمل، متماسك الأجزاء، موضح بمبادئ ثابتة، وينفذ باستقامة، مشروع يستحق وحده من دون سائر المشاريع تسميته بالتكتيك" ("الإيسكرا"، العدد 4).
إن الخلط بين الاعتراف المبدئي بجميع وسائل النضال، بجميع المشاريع والأساليب، على أن تكون ملائمة، وبين المطالبة في ظرف سياسي معين بالاسترشاد بمشروع ينفذ باستقامة، - إن هذا الخلط، إذا كنا نريد الحديث عن التكتيك، هو أشبه بالخلط بين اعتراف الطب بجميع طرق العلاج مع مطالبته باتباع طريقة معينة لمعالجة مرض معين. ولكن القضية كلها في كون "رابوتشييه ديلو" المصابة هي نفسها بالمرض الذي سميناه نحن بتقديس العفوية، لا تريد أن تعترف بأية "طرق علاج" لهذا المرض. ولذلك توصلت إلى اكتشاف فذ، وهو أن "التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها" (العدد 10، ص 18)، وأن التكتيك هو "سير نمو مهام الحزب التي تنمو مع نمو الحزب" (ص 11، حرف التأكيد لـ"رابوتشييه ديلو"). هنالك كل الإمكانيات لأن تصبح هذه الحكمة الأخيرة من الحكم المشهورة، لأن تصبح ذكرى "لاتجاه" "رابوتشييه ديلو" يعجز الدهر عن محوها. فعلى سؤال: "إلى أين نسير؟" تجيب الجريدة القائدة: الحركة هي مجرى تغير المسافة بين نقطة الانطلاق والنقطة التالية للحركة. إن هذا التفكير العميق منتهى العمق ليس من الطرائف وحسب (ولو كان الأمر كذلك لما كان خليقا بالوقوف عنده)، إنما هو أيضا برنامج اتجاه بأكمله: هو البرنامج الذي أعرب ر.م. (في "الملحق الخاص لـ"رابوتشايا ميسل"") بكلمات: المرغوب فيه هو النضال الممكن، والممكن هو الذي يجري في هذه البرهة. إنه بالضبط اتجاه الإنتهازية التي لا تعرف الحدود والتي تتكيف بصورة سلبية تبعا للعفوية. "التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها!" ولكن هذا افتراء على الماركسية، إنه تحويل لها إلى صورة شوهاء تشبه تلك التي عارضنا بها الشعبيون(63) في حربهم علينا. إن هذا بالضبط تثبيط لمبادرة المناضلين الواعين وهمتهم، في حين أن الماركسية، على العكس من ذلك، حافز هائل لمبادرة الاشتراكي-الديموقراطي وهمته، فهي تكشف أمامه أوسع الآفاق، واضعة تحت تصرفه (إن أمكن التعبير) القوى الهائلة، قوى الملايين العديدة من أبناء الطبقة العاملة الناهضين "بصورة عفوية" إلى النضال! إن تاريخ الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بأكمله زاخر بالمشاريع التي وضعها هذا أو ذلك من القادة السياسيين، مشاريع تبرز بصيرة البعض وصحة نظراته السياسية والتنظيمية وتكشف عن قصر نظر البعض الآخر وأخطائه السياسية.
فعندما اجتازت ألمانيا انعطافا من أكبر الإنعطافات في تاريخها - تشكيل الإمبراطورية وفتح الريخستاغ ومنح الحق الانتخابي العام- كان لدى ليبكنخت مشروع للسياسة الاشتراكية-الديموقراطية والعمل الاشتراكي-الديموقراطي بوجه عام، وكان لدى شفيتزر مشروع آخر. وعندما انقض على الاشتراكيين الألمان القانون الاستثنائي، كان ثمة مشروع لدى موست وهاسيلمان المستعدين للدعوة صراحة إلى العنف والإرهاب، وكان ثمة مشروع آخر لدى هوخبيرغ وشرام ولدى برنشتين (جزئيا) الذين حاولوا وعظ الاشتراكيين-الديموقراطيين بأن القانون جاء نتيجة لشدتهم غير المعقولة وثوريتهم، وبأنه ينبغي عليهم أن ينالوا المغفرة بحسن السلوك؛ وكان ثمة مشروع ثالث لدى الذين أعدوا العدة لنشر جريدة سرية وحققوا ذلك(64). وعندما يلقي المرء نظرة إلى الوراء بعد انقضاء سنوات عديدة على انتهاء النضال حول مسألة اختيار الطريق الواجب اتباعه، وبعد أن قال التاريخ كلمته الأخيرة بصدد صحة الطريق الذي وقع عليه الاختيار، لا يصعب عليه طبعا أن يبرهن على عمق تفكير بقوله أن مهام الحزب تنمو مع نمو الحزب نفسه. ولكن الاكتفاء بعمق التفكير هذا في وقت البلبلة، في الوقت الذي يهبط فيه "النقاد" و"الإقتصاديون" الروس بالاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى التريديونيونية ويدعو فيه الإرهابيون بقوة إلى قبول "تكتيك-مشروع يكرر الأخطاء السابقة، - أقول أن الاكتفاء بمثل هذا العمق في التفكير في مثل هذا الوقت، يعني تسجيل المرء على نفسه "شهادة فقر حال". وفي الوقت الذي أصيب فيه كثيرون من الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس بنقص المبادرة والهمة على وجه الدقة، بنقص "المدى في الدعاية السياسية والتحريض السياسي والتنظيم السياسي"، بالنقص في "مشاريع" تنظيم العمل الثوري على نطاق أوسع - إن القول في مثل هذا الوقت أن "التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها" لا يعني ابتذال الماركسية نظريا وحسب، بل يعني أيضا جر الحزب عمليا إلى الوراء.
تعلمنا "رابوتشييه ديلو" بعد ذلك أن "واجب الإشتراكي-الديموقراطي الثوري ليس إلا تعجيل التطور الموضوعي بعمله الواعي، لا إلغاءه أو الاستعاضة عنه بالمشاريع الذاتية. و"الإيسكرا" تعرف كل ذلك من الناحية النظرية. ولكن الأهمية الكبرى التي تعيرها الماركسية، بحق، للعمل الثوري الواعي تحملها عمليا، نتيجة لنظرتها الجامدة إلى التكتيك، على التقليل من أهمية العنصر الموضوعي أو العفوي في التطور" (ص18). وها نحن مرة أخرى أمام تشويش نظري خارق خليق بالسيد ف. ف. وشركائه. بودنا أن نسأل فيلسوفنا: بم يمكن أن يتجلى "التقليل من أهمية" التطور الموضوعي لدى واضع المشاريع الذاتية؟ واضح أن ذلك يتجلى في كونه يغفل أن هذا التطور الموضوعي ينشئ أو يقوي، يهلك أو يضعف هذه أو تلك من الطبقات أو الفئات أو الجماعات، من الأمم أو مجموعات الأمم الخ.، مشترطا بذلك هذه أو تلك من تكتلات القوى السياسية العالمية ومواقف الأحزاب الثورية الخ.. ولكن خطأ مثل هذا الواضع لا يكون، والحالة هذه، التقليل من أهمية العنصر العفوي، بل، بالعكس، التقليل من أهمية العنصر الواعي، إذ ينقصه "الوعي" لفهم التطور الموضوعي فهما صحيحا. ولذلك فإن مجرد الكلام عن "تقدير الأهمية النسبية" (حرف التأكيد لـ"رابوتشييه ديلو") للعفوية والوعي يكشف عن انعدام "الوعي" انعداما تاما.
فلئن كان الوعي الإنساني يستطيع بوجه عام فهم بعض "عناصر التطور العفوية" فإن عدم تقديرها على الوجه الصحيح يعادل "التقليل من أهمية عنصر الوعي". أما إذا كان الوعي عاجزا عن فهمها، فنحن إذن لا نعرفها وليس بوسعنا أن نتكلم عنها. فعم يتكلم، إذن، ب. كريتشيفسكي؟ إذا كان يعتبر "المشاريع الذاتية" التي وضعتها "الإيسكرا" مغلوطة (وهو يعلنها، على وجه الدقة، مغلوطة)، فقد كان عليه أن يبرز ما تغفله هذه المشاريع بالضبط من الوقائع الموضوعية وأن يتهم "الإيسكرا" لهذا الإغفال بعدم كفاية الوعي، بـ"التقليل من أهمية عنصر الوعي"، إذا استعملنا تعابيره. أما إذا كان غير راض عن المشاريع الذاتية ولا توجد لديه براهين غير الكلام عن "التقليل من أهمية العنصر العفوي" (!!) فهو لا يفعل أكثر من أن يبرهن بذلك أنه (1) من الناحية النظرية يفهم الماركسية à la كارييف وميخايلوفسكي وأضرابهما الذين سخر منهم بلتوف(65) بما فيه الكفاية، وأنه (2) من الناحية العملية راض كل الرضى عن "عناصر التطور العفوية" التي ساقت ماركسيينا العلنيين إلى البرنشتينية واشتراكيينا-الديموقراطيين إلى "الإقتصادية" وأنه "مغيظ حانق" على الناس المصممين على صرف الاشتراكية-الديموقراطية الروسية عن طريق التطور "العفوي" مهما كلفهم الأمر.
وتأتي بعد ذلك أشياء مسلية جدا. "كما أن الناس سيستمرون في التكاثر على طريقة الأجداد بالرغم من كل النجاحات التي توصلت إليها العلوم الطبيعية، كذلك فإن ولادة نظام اجتماعي جديد - بالرغم من كل نجاحات العلوم الإجتماعية ونمو المناضلين الواعين- ستظل في المستقبل أيضا وبالدرجة الأولى نتيجة للانفجارات العفوية" (ص 19). وكما جاء في حكمة الأجداد: من ذا الذي نقصه العقل من أجل أن ينجب أطفالا، كذلك يقول "الإشتراكيون المحدثون" (à la نرسيس توبوريلوف(66)) في حكمتهم: لن ينقص أحد العقل من أجل الاشتراك في ولادة عفوية لنظام اجتماعي جديد. ونحن نعتقد أيضا أن أحدا لن ينقصه العقل. فلمثل هذا الإشتراك حسب المرء أن يستسلم "للإقتصادية" عندما تسود "الإقتصادية" وأن يستسلم للإرهابية عندما تنشأ الإرهابية. وهكذا، في ربيع هذه السنة، عندما كان من الهام جدا التحذير من الولع بالإرهاب، وقفت "رابوتشييه ديلو" وقفة الحائر أمام مسألة "جديدة" بالنسبة إليها. والآن، بعد مضي نصف سنة، عندما فقدت المسألة حدتها، تقدم لنا في وقت معا تصريحا: "نحن نعتقد أن مهمة الاشتراكية-الديموقراطية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون الوقوف في وجه تعاظم الميول الإرهابية" ("رابوتشييه ديلو"، العدد 10، ص 23)، وقرار المؤتمر: "يعتقد المؤتمر أن الإرهاب الهجومي المنتظم ليس في حينه" ("مؤتمران"، ص 18). يا له من وضوح ومن ترابط! لا نقف في وجهه، ولكننا نعلن أنه ليس في حينه - ونعلن بشكل يجعل "القرار" لا يشمل الإرهاب الدفاعي وغير المنتظم. ولا بد من الإعتراف بأن هذا "القرار" لا ينطوي على أي خطر وهو معصوم من كل خطأ، كما يعصم من الخطأ من يتكلم لكي لا يقول شيئا! ولوضع مثل هذا القرار لا يحتاج المرء إلا لأمر واحد: أن يحسن التمسك بذيل الحركة. وعندما سخرت "الإيسكرا" من إعلان "رابوتشييه ديلو" مسألة الإرهاب مسألة جديدة •،
غضبت آنئذ "رابوتشييه ديلو" وهاجمت "الإيسكرا" متهمة إياها قائلة: "إن "الإيسكرا" تطمع بصورة لا يتصورها العقل في أن تفرض على المنظمة الحزبية حلا لمسائل تكتيكية وضعه فريق من الكتاب المهاجرين منذ خمس عشرة سنة ونيف" (ص 24). ويا له، في الحقيقة، من ادعاء، يا له من غلو في عنصر الوعي: حل المسائل سلفا من الناحية النظرية لكيما يصار فيما بعد إقناع المنظمة والحزب والجماهير بصحة هذا الحل!• وكم يختلف الحال إذا اقتصر المرء على اجترار أشياء سبق قولها، وعلى الخضوع لكل "إنعطاف" سواء في اتجاه "الإقتصادية" أو في اتجاه الإرهابية، دون فرض أي شيء على أحد. ولا تحجم "رابوتشييه ديلو" حتى عن تعميم هذه الوصية العظمى لحكمة الحياة وتتهم "الإيسكرا" و"زاريا" بأنهما "تعارضان الحركة ببرنامجهما بوصفه روحا تحوم فوق هيولى لا صورة لها" (ص 29). فبم يتلخص، إذن، دور الاشتراكية-الديموقراطية إن لم يتلخص في أن تكون "روحا" لا تحوم فوق الحركة العفوية وحسب، بل ترفع هذه الحركة إلى مستوى "برنامجها"؟ لا يمكنه على كل حال أن يتلخص في الإنجرار في ذيل الحركة: فهو أمر في أحسن الحالات لا يفيد الحركة بشيء، وفي أردأ الحالات يسبب لها أكبر الضرر. أما "رابوتشييه ديلو"، فإنها لا تكتفي بالسير على هذا "التكتيك-الحركة" بل تجعل منه مبدأ بحيث يصبح الوصف الأصح لاتجاهاتها لا الإنتهازية، بل الذيلية (من كلمة ذيل). ولا بد من الإعتراف بأن الناس المصممين كل التصميم على السير دائما وأبدا خلف الحركة بصفة ذيل لها يأمنون على أنفسهم بصورة أكيدة وإلى الأبد من "التقليل من أهمية عنصر التطور العفوي".
وهكذا يتضح لنا أن الخطأ الأساسي الذي يقترفه "الإتجاه الجديد" في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية هو تقديس العفوية، هو عدم فهمه أن عفوية الجماهير تتطلب منا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين قدرا كبيرا من الوعي. وكلما ارتفع نهوض الجماهير العفوي واتسعت الحركة، كلما ازدادت بأسرع بما لا يقاس الحاجة إلى قدر كبير من الوعي في عمل الاشتراكية-الديموقراطية النظري والسياسي والتنظيمي. وقد جرى نهوض الجماهير العفوي في روسيا (وما يزال يجري) بسرعة ظهرت معها الشبيبة الاشتراكية-الديموقراطية غير مستعدة للقيام بهذه المهام العظمى. وعدم الاستعداد هذا هو مصيبتنا العامة، مصيبة جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس. لقد تعاظم نهوض الجماهير واتسع باستمرار واطراد، وهو فضلا عن أنه لم يتوقف في الأماكن التي بدأ فيها، أخذ يشمل مناطق جديدة وفئات جديدة من السكان (فتحت تأثير حركة العمال، اشتد الغليان بين الطلاب والمثقفين بوجه عام وحتى بين الفلاحين).
أما الثوريون فقد تأخروا عن هذا النهوض: ب"نظرياتـ"ـهم وبنشاطهم، ولم يفلحوا في تشكيل منظمة دائمة تعمل دون انقطاع، وقادرة على قيادة الحركة بكاملها. لقد أشرنا في الفصل الأول إلى أن "رابوتشييه ديلو" قد حطت من مهامنا النظرية ورددت "عفويا" الشعار الشائع -"حرية النقد": إن الذين رددوا هذا الشعار لم يتحلوا بما يكفي من "الوعي" لأن يفهموا التضاد التام بين موقف "النقاد" الإنتهازيين وموقف الثوريين في ألمانيا وفي روسيا. وفي الفصول التالية سنبين كيف تجلى تقديس العفوية هذا في نشاط الاشتراكية-الديموقراطية التنظيمي وفي مهامها السياسية.
يتبع