من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 6


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 6 - 14:36     

الحلقة السادسة

ب) تقديس العفوية. "رابوتشايا ميسل"
قبل أن ننتقل إلى مظاهر هذا التقديس في المطبوعات نذكر الواقع التالي البليغ في دلالته (وقد بلغنا من المصدر المذكور أعلاه) والذي يلقي بعض الضوء مبينا كيف ولد ونما بين الرفاق العاملين في بطرسبورغ الخلاف بين الإتجاهين اللذين ظهرا فيما بعد في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. في أوائل سنة 1897 أتيح لفانييف ولبعض رفاقه أن يشتركوا، قبل إرسالهم إلى المنفى، في اجتماع خاص(52) التقى فيه "الشيوخ" و"الشباب" من أعضاء "إتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة". وقد دار الحديث بصورة رئيسية حول التنظيم وبوجه خاص حول "النظام الداخلي لصندوق العمال"، النظام الذي نشر بصيغته النهائية في العدد 9-10 من ليستوك "رابوتنيكا"(53) (ص46). وقد ظهر على الفور خلاف كبير واحتدم الجدل بين "الشيوخ" ("الديسمبريين" كما كان يلقبهم آنذاك الإشتراكيون-الديموقراطيون في بطرسبورغ مازحين) وبين بعض "الشباب" (الذين تعاونوا فيما بعد بنشاط مع "رابوتشايا ميسل"). وقد دافع "الشباب" عن الأسس الرئيسية للنظام الداخلي بصيغته المنشورة. وقال "الشيوخ": ليس هذا ما نحتاج إليه قبل كل شيء، إنما نحتاج إلى توطيد "إتحاد النضال" لكيما يصبح منظمة ثوريين تخضع لها مختلف صناديق العمال وحلقات الدعاية بين الشباب-الطلبة، الخ.. وغني عن القول أنه لم يخطر ببال المتجادلين أن يروا في هذا الخلاف فاتحة الإفتراق، بل اعتبروه على العكس شيئا منعزلا وطارئا. ولكن هذا الواقع يبين أن نشوء "الإقتصادية" وانتشارها لم يحدثا في روسيا كذلك بدون نضال ضد الاشتراكيين-الديموقراطيين "الشيوخ" (الأمر الذي كثيرا ما ينساه "الإقتصاديون" الحاليون). وإذا كان هذا النضال لم يترك في أكثر الحالات آثارا "وثائقية"، فالسبب الوحيد في ذلك أن تركيب الحلقات العاملة كان يتغير بسرعة كبيرة جدا وأنه لم تتكون أية استمرارية، فلم تسجل بالتالي اختلافات وجهات النظر في أية وثيقة. إن ظهور "رابوتشايا ميسل" قد أخرج "الإقتصادية" إلى وضح النهار، ولكن ليس دفعة واحدة أيضا. ينبغي للمرء أن يكوّن فكرة واضحة عن ظروف عمل العديد من الحلقات الروسية وقصر آجالها (ولا يستطيع ذلك إلا الذي جرب الأمر بنفسه) لكيما يفهم مدى الصدفة في نجاح أو إخفاق الإتجاه الجديد في مختلف المدن، وكيف أن أنصار هذا "الجديد" وخصومه على السواء، كانوا عاجزين مدة طويلة، عاجزين تماما عن تحديد ما إذا كان هذا إتجاهاً أصيلا حقا، أو أنه مجرد تعبير عن النقص في استعداد بعض الأشخاص. ونقول على سبيل المثال أن الاشتراكيين-الديموقراطيين بأكثريتهم الكبرى حتى لم يعرفوا شيئا على الإطلاق عن الأعداد الأولى من "رابوتشايا ميسل" المطبوعة على الرونيو؛ وإذا كنا نستطيع الآن أن نستشهد بافتتاحية عددها الأول، فما ذلك إلا بفضل إعادة نشرها في مقالة ف. إ. (54) ("ليستوك "رابوتنيكا" العدد 9-10، ص 47 وما يليها) الذي لم يلبث طبعا أن كال المديح بإفراط - بإفراط تجاوز المعقول - للجريدة الجديدة التي تختلف اختلافا بينا عن الجرائد ومشاريع الجرائد التي ذكرناها أعلاه•. وخليق بنا أن نقف وقفة عند هذه الإفتتاحية ما دامت قد أفصحت بمثل هذا الوضوح عن كامل روح "رابوتشايا ميسل" و"الإقتصادية" بوجه عام. بعد أن قالت الإفتتاحية أن ساعد صاحب الكم الأزرق(55) أعجز من أن يوقف تطور حركة العمال تستطرد قائلة: "... إن حركة العمال مدينة بمثل هذه الحيوية لكون العامل نفسه قد أخذ في النهاية مصيره على عاتقه بعد أن انتزعه من أيدي القادة"؛ ومن ثم تعالج هذه الفكرة الأساسية من جميع الوجوه. والواقع أن القادة (أي الاشتراكيين-الديموقراطيين منظمي "إتحاد النضال") قد انتزعتهم الشرطة، كما يمكن القول، من أيدي العمال؛ هذا بينما توضع القضية بشكل يبدو منه أن العمال قد ناضلوا ضد هؤلاء القادة وتحرروا من نيرهم! وبدلا من النداء للسير إلى أمام، إلى توطيد التنظيم الثوري، وتوسيع النشاط السياسي، ارتفعت الدعوة للإرتداد إلى الوراء، إلى النضال التريديونيوني وحده. وأُعلن أن " الأساس الإقتصادي للحركة يحجبه النزوع إلى عدم نسيان المثل الأعلى السياسي على الإطلاق"، وأن شعار حركة العمال هو "النضال من أجل الحالة الاقتصادية" (!) أو، وهو الأحسن، "العمال للعمال"؛ وأُعلن أن صناديق الإضرابات هي "أهم بالنسبة للحركة من مئة منظمة أخرى" (قارنوا هذا القول العائد لتشرين الأول (أكتوبر) سنة 1897 بجدال "الديسمبريين" و"الشباب" في أوائل سنة 1897) الخ.. ثم إن صيغاَ من نوع: ينبغي أن نضع في المقام الأول لا "نخبة" العمال، بل العامل "المتوسط"، العامل العادي أو من نوع: "السياسة تسير دائما بطواعية خلف الإقتصاد" الخ..، الخ.، قد غدت على الموضة وأصبح لها تأثير لا يقهر في الشبيبة التي انجرت إلى الحركة والتي لا تعرف من الماركسية في أكثر الحالات غير فقرات في صياغتها العلنية. وقد كان هذا تحطيما تاما للوعي من قبل العفوية، من قبل عفوية أولئك "الاشتراكيين-الديموقراطيين" الذين كرروا "أفكار" السيد ف.ف.، من قبل عفوية أولئك العمال الذين أغرتهم الحجة القائلة بأن زيادة كوبيك على روبل أغلى وأعز من كل اشتراكية وكل سياسة وأنه ينبغي لهم أن يقوموا "بالنضال مدركين أنهم إنما يناضلون لا من أجل أجيال مقبلة ما، بل من أجل أنفسهم ومن أجل أولادهم" (افتتاحية العدد 1 من "رابوتشايا ميسل"). إن أمثال هذه العبارات قد كانت على الدوام السلاح المحبب للبرجوازيين في أوروبا الغربية الذين - من كرههم للإشتراكية - انصرفوا بأنفسهم (على غرار "الاشتراكي-السياسي" الألماني غيرش) إلى غرس التريديونيونية الإنكليزية في تربتهم الوطنية قائلين للعمال أن النضال النقابي فقط هو نضال لأنفسهم ولأولادهم، لا لأجيال مقبلة ما مع اشتراكية مقبلة ما. وها نحن نرى السادة أضراب "ف.ف. رجل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية" يكررون الآن هذه العبارات البرجوازية. ومن الهام أن نشير هنا إلى ثلاثة أمور ستفيدنا جدا في تحليلنا اللاحق للخلافات الراهنة. أولا، إن ما تحدثنا عنه بصدد تحطيم الوعي من قبل العفوية قد حدث كذلك بشكل عفوي. ويبدو ذلك من قبيل التلاعب بالألفاظ، ولكنه - ويا للأسف! - الحقيقة المرة. إنه لم يجر عن طريق نضال سافر بين مفهومين متعارضين كل التعارض وانتصار أحدهما على الآخر. بل عن طريق "انتزاع" الدرك للثوريين "الشيوخ" بعدد يتزايد باستمرار وعن طريق بروز عدد يتزايد باستمرار من "الشباب" أضراب "ف.ف. رجل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية". إن كل من اشتم هواء الحركة الروسية المعاصرة، ولا أقول اشترك فيها، يعلم خير العلم أن الأمر كان كذلك على وجه الضبط. وإذا كنا نلح مع ذلك إلحاحا خاصا على أن يدرك القارئ إدراكا تاما هذا الواقع المعروف من الجميع، وإذا كنا، قصد الإيضاح، إن جاز القول، نورد معطيات عن "رابوتشييه ديلو" في طورها الأول وعن الجدال الذي قام بين "الشيوخ" و"الشباب" في أوائل سنة 1897 - فما ذلك إلا لوجود أناس يتبجحون بـ"ديموقراطيتـ"هم مستغلين جهل الجمهور الواسع (أو الشباب الحديثي السن) لهذه الحقيقة. ولنا عودة إلى ذلك. ثانيا، يمكننا، مذ ظهرت "الإقتصادية" لأول مرة في المطبوعات، أن نلاحظ ظاهرة فريدة وبليغة في دلالتها من حيث فهم جميع الخلافات القائمة بين الاشتراكيين-الديموقراطيين في الوقت الحاضر، وهي أن أنصار "الحركة العمالية الصرف"، أنصار أوثق الارتباط "العضوي" (تعبير "رابوتشييه ديلو") بالنضال البروليتاري، خصوم جميع المثقفين غير العمال (حتى ولو كانوا مثقفين اشتراكيين) يضطرون في الدفاع عن مواقفهم إلى الإلتجاء إلى حجج "التريديونيونيين - فقط" البرجوازيين. وهذا ما يبين لنا أن "رابوتشايا ميسل" قد أخذت منذ ظهورها تطبق - عن غير وعي- برنامج "Credo" ("الكريدو"). كما يبين هذا (وهو ما لا تستطيع "رابوتشييه ديلو" أن تفهمه) أن كل تقديس لعفوية حركة العمال، كل انتقاص من دور "عنصر الوعي"، دور الاشتراكية-الديموقراطية، يعني - سواء أراد المنتقص أم لم يرد، فليس لذلك أقل أهمية- تقوية نفوذ الإيديولوجية البرجوازية في العمال. إن كل من يتحدث عن "تقدير أهمية الإيديولوجية بأكثر مما تستحق"، عن المغالاة في دور عنصر الوعي• الخ.، يتصور أن الحركة العمالية الصرف تستطيع بحد ذاتها أن تصنع لنفسها وأنها ستصنع لنفسها بالتأكيد إيديولوجية مستقلة، وأن ذلك لا يتطلب غير قيام العمال "بانتزاع مصيرهم من أيدي القادة". ولكن هذا خطأ فاحش. وبالإضافة إلى ما قلناه آنفا، نثبت هنا كلمات ك. كاوتسكي التالية الهامة والعميقة في صدقها، هذه الكلمات التي قالها بصدد مشروع البرنامج الجديد للحزب الاشتراكي-الديموقراطي النمساوي: "يحسب كثيرون من نقادنا المحرفين أن ماركس قد أكد أن التطور الإقتصادي والنضال الطبقي لا يخلقان ظروف الإنتاج الإشتراكي وحسب، بل يخلقان مباشرة أيضا وعي (إشارة التأكيد لكاوتسكي) ضرورته. وها هم هؤلاء النقاد يعترضون بأن إنكلترا، البلاد الأكثر تطورا من الناحية الرأسمالية، هي أبعد الجميع عن هذا الوعي. إن مشروع البرنامج يفسح مجالا للظن بأن اللجنة التي وضعت البرنامج النمساوي تشارك وجهة النظر هذه، التي يزعم أنها ماركسية أرثوذكسية، والتي يدحضها المثال المشار إليه. فقد جاء في المشروع: "بمقدار ما تتزايد البروليتاريا نتيجة للتطور الرأسمالي، تزداد اضطرارا إلى النضال ضد الرأسمالية وتحصل على إمكانية هذا النضال. وتصل البروليتاريا إلى إدراك" إمكانية الاشتراكية وضرورتها. وعلى هذا الأساس يبدو الوعي الاشتراكي نتيجة مباشرة محتومة للنضال الطبقي البروليتاري. وهذا غير صحيح على الإطلاق. صحيح أن الاشتراكية، بوصفها مذهبا، تستمد جذورها من العلاقات الإقتصادية الراهنة كشأن النضال الطبقي البروليتاري سواء بسواء، وأنها كالنضال الطبقي البروليتاري تنبثق من النضال ضد ما تسببه الرأسمالية للجماهير من فقر وبؤس. غير أن الاشتراكية والنضال الطبقي ينبثقان أحدهما إلى جانب الآخر، لا أحدهما من الآخر. إنهما ينبثقان من مقدمات مختلفة. فالوعي الإشتراكي الراهن لا يمكنه أن ينبثق إلا على أساس معارف علمية عميقة. وبالفعل أن العلم الإقتصادي الحديث هو شرط من شروط الإنتاج الإشتراكي، شأنه، مثلا، شأن التكنيك الحديث سواء بسواء. والحال أن البروليتاريا، بالرغم من كل رغبتها، لا تستطيع أن تخلق لا هذا ولا ذاك، فكلاهما ينشأ عن التطور الإجتماعي الحديث. هذا وان العلم ليس بيد البروليتاريا، بل بيد المثقفين البرجوازيين (حرف التأكيد لكاوتسكي): فالاشتراكية الحديثة نفسها قد انبثقت هي أيضا في رؤوس بعض أعضاء هذه الفئة، وقد نقلها هؤلاء إلى أكثر البروليتاريين تطورا من الناحية الفكرية، الذين أخذوا بعد ذلك يدخلونها في نضال البروليتاريا الطبقي حيث تسمح الظروف. وعلى ذلك كان الوعي الاشتراكي عنصرا يؤخذ من الخارج (von auben Hineigetragenes) وينقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي، لا شيئا ينبثق منه بصورة عفوية (urwûchsig). ولهذا قيل في برنامج هينفيلد القديم، بحق تماما، أن مهمة الاشتراكية-الديموقراطية هي أن تحمل إلى البروليتاريا (حرفيا: تملأ البروليتاريا) وعي وضعها ووعي رسالتها. ولم تكن هناك من حاجة إلى ذلك، لو كان هذا الوعي ينبثق من النضال الطبقي من تلقاء نفسه. أما المشروع الجديد فقد أخذ هذه الفكرة من البرنامج القديم وربطها بالصيغة المثبتة أعلاه، الأمر الذي قطع بصورة تامة مجرى التفكير...". ولما كان من غير الممكن حتى أن تكون ثمة إيديولوجية مستقلة تصنعها جماهير العمال نفسها في مجرى حركتها موضع بحث• فلا يمكن أن تطرح المسألة إلا بالشكل التالي: إما إيديولوجية برجوازية وإما إيديولوجية اشتراكية. وليس ثمة وسط بينهما (لأن البشرية لم تصنع إيديولوجية "ثالثة"، أضف إلى ذلك أنه في مجتمع تمزقه التناقضات الطبقية، لا يمكن أن توجد على الإطلاق أية إيديولوجية خارج الطبقات أو فوق الطبقات). ولذلك فإن كل انتقاص من الإيديولوجية الاشتراكية وكل ابتعاد عنها هو في حد ذاته بمثابة تمكين للإيديولوجية البرجوازية وتوطيد لها. ويتحدثون عن العفوية. ولكن التطور العفوي لحركة العمال يسير على وجه الدقة في اتجاه إخضاعها للإيديولوجية البرجوازية، يسير على وجه الدقة وفق برنامج "Credo" ("الكريدو")، لأن الحركة العمالية العفوية هي التريديونيونية. هي Nur-Gewerkschaftlerei. وما التريديونيونية غير إخضاع العمال فكريا للبرجوازية. ولذا فإن واجبنا، واجب الاشتراكية-الديموقراطية، هو النضال ضد العفوية، هو النضال من أجل صرف حركة العمال عن نزوع التريديونيونية العفوي إلى كنف البرجوازية وجذبها إلى كنف الاشتراكية-الديموقراطية الثورية. ولذلك فإن عبارة واضعي الرسالة "الإقتصادية" في العدد 12 من "الإيسكرا"، هذه العبارة القائلة بأن جميع جهود الإيديولوجيين الأكثر إلهاما لا يمكنها أن تخرج حركة العمال عن الطريق الذي حدده لها تفاعل العناصر المادية والبيئة المادية، تعادل تماما التخلي عن الاشتراكية. ولو كان هؤلاء الكتاب قادرين على إمعان الفكر فيما قالوه، حتى النهاية، بصورة منطقية وبدون خوف، كما ينبغي أن يفعل كل من يبرز إلى مسرح النشاط الأدبي والاجتماعي، لما بقي عليهم أن يفعلوا غير "وضع أيديهم التي لا ضرورة لها على صدورهم الفارغة" و... ترك المسرح للسادة أمثال ستروفه وبروكوبوفيتش الذين يجرون حركة العمال في اتجاه "أهون السبل"، أي في اتجاه التريديونيونية البرجوازية، أو للسادة أمثال زوباتوف الذين يجرونها في اتجاه "إيديولوجية" الإكليروس والدرك.(59) تذكروا مثل ألمانيا. ما هي الخدمة التاريخية التي أداها لاسال لحركة العمال الألمانية؟ هي أنه صرف هذه الحركة عن طريق التريديونيونية التقدمية وطريق التعاونية الذي كانت تتجه إليه بصورة عفوية (بمساعدة لطيفة - قدمها أمثال شولتزه - ديليتش وأضرابهم. وقد تطلب القيام بهذه المهمة شيئا لا يشبه إطلاقا الانتقاص من أهمية العنصر العفوي والتكتيك-الحركة وتفاعل العناصر والبيئة وهلم جرا. لقد تطلب الأمر نضالا لا يعرف الهوادة ضد العفوية. ولم يمكن مثلا تحويل سكان برلين من العمال من دعامة للحزب التقدمي إلى حصن من خير حصون الاشتراكية-الديموقراطية إلا نتيجة نضال كهذا استمر سنين طويلة، وطويلة جدا. وهذا النضال لم ينته أبدا حتى الآن (كما قد يحسب الناس الذين يأخذون تاريخ الحركة الألمانية عن بروكوبوفيتش وفلسفتها عن ستروفه). فالطبقة العاملة الألمانية ما تزال حتى الآن منقسمة، إن صح التعبير، بين بضع إيديولوجيات: فثمة قسم من العمال متحد في نقابات العمال الكاثوليكية والملكية، وثمة قسم آخر متحد في نقابات هيرش-دونكر(60) التي أسسها البرجوازيون من أنصار التريديونيونية الإنكليزية، وقسم ثالث متحد في النقابات الاشتراكية-الديموقراطية. وهذا القسم الثالث هو أكبر بما لا يقاس من سائر الأقسام. ولكن الإيديولوجية الاشتراكية-الديموقراطية لم تستطع أن تحصل على هذا التفوق ولا تستطيع أن تحتفظ به إلا بالنضال المستمر ضد جميع الإيديولوجيات الأخرى. وقد يتساءل القارئ: لماذا إذن كانت الحركة العفوية، حركة الإتجاه نحو أهون السبل، تؤدي على وجه الدقة إلى سيطرة الإيديولوجية البرجوازية؟ ذلك لمجرد كون الإيديولوجية البرجوازية، من حيث منشؤها، أقدم من الإيديولوجية الاشتراكية بكثير، ولأنها وضعت بصورة أكمل من جميع الوجوه، ولأنها تتصرف بوسائل للنشر أكثر بما لا يقاس. وكلما كانت الحركة الاشتراكية حديثة في بلد من البلدان، كلما كان ينبغي أن يشتد تبعا لذلك، النضال ضد جميع المحاولات لتوطيد الإيديولوجية غير الاشتراكية، كلما كان ينبغي أن يشتد الحزم في تحذير العمال من نصحاء السوء الذين يصرخون ضد "المغالاة في تقدير أهمية عنصر الوعي" الخ… إن واضعي الرسالة "الإقتصادية" يرعدون ويبرقون في جوقة واحدة مع "رابوتشييه ديلو" ضد عدم التسامح الذي يميز الحركة في عهد طفولتها. ونحن نجيب على ذلك: أجل، إن حركتنا تجتاز حقا عهد طفولتها، ولكيما يشتد ساعدها بسرعة، ينبغي لها أن تُعدى حتما بعدوى عدم التسامح حيال الناس الذين يعيقون نموها بتقديسهم العفوية. ليس من شيء أسخف وأكثر ضررا من أن نجعل من أنفسنا شيوخا اجتازوا منذ عهد بعيد جميع مراحل النضال الفاصلة! ثالثا، يبين لنا العدد الأول من "رابوتشايا ميسل" أن اسم "الإقتصادية" (الذي لا نفكر طبعا بالعدول عنه، لأن هذا اللقب قد رسخ بشكل من الأشكال) لا يفصح بالدقة الكافية عن جوهر الإتجاه الجديد. ذلك أن "رابوتشايا ميسل" لا تنكر النضال السياسي إنكارا تاما: فالنظام الداخلي للصندوق، النظام المنشور في العدد 1 من "رابوتشايا ميسل"، يتحدث عن النضال ضد الحكومة. كل ما في الأمر أن "رابوتشايا ميسل" تحسب أن "السياسة تسير على الدوام بخنوع في أثر الإقتصاد" (أما "رابوتشييه ديلو" فتغير هذه الصيغة مؤكدة في برنامجها أن "النضال الإقتصادي وثيق الصلة في روسيا، أكثر مما في أية بلاد أخرى، بالنضال السياسي"). وصيغتا "رابوتشايا ميسل" و"رابوتشييه ديلو" هاتان غير صحيحتين بتاتا إذا فهمنا من كلمة السياسة – السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. فكثيرا ما يحدث لنضال العمال الإقتصادي أن يكون على صلة (وإن لم تكن وثيقة) بالسياسة البرجوازية، بالسياسة الدينية، الخ.، كما سبق أن رأينا. وتكون صيغة "رابوتشييه ديلو" صحيحة إذا فهمنا من كلمة السياسة –السياسة التريديونيونية، أي الطموح المشترك بين جميع العمال إلى الحصول من الدولة على تدابير ما للتخفيف من المصائب التي تلازم وضعهم، ولكنها لا تزيل هذا الوضع، أي أنها لا تقضي على خضوع العمل لرأس المال. وهذا الطموح هو في الحقيقة مشترك بين التريديونيونيين الإنكليز الذين يقفون من الاشتراكية موقف العداء وبين العمال الكاثوليك والعمال "الزوباتوفيين" الخ.. ثمة سياسة وسياسة. وهكذا نرى أن موقف "رابوتشايا ميسل" من النضال السياسي أيضا ليس موقف إنكار له بمقدار ما هو موقف تقديس لعفويته، تقديس لعدم وعيه. فهي إذ تعترف تماما بالنضال السياسي الذي ينبثق بصورة عفوية من حركة العمال نفسها (أو الأصح: بتمنيات العمال ومطالبهم السياسية) ترفض كل الرفض أن تضع بصورة مستقلة سياسة اشتراكية-ديموقراطية خاصة تتفق والمهام العامة للاشتراكية والظروف الروسية الراهنة. وسنبين فيما يلي أن "رابوتشييه ديلو" تقترف كذلك هذا الخطأ.
يتبع