من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 5
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 5 - 18:00
الحلقة الخامسة
II-عفوية الجماهير ووعي الاشتراكية-الديموقراطية
لقد قلنا أن حركتنا أوسع وأعمق بكثير من حركة العقد الثامن، وأن من الضروري أن نبث فيها ما اتصفت به الحركة في ذلك الحين من تصميم ومن همة لا يعرفان حدودا. والواقع أنه لم يشك أحد حتى الآن، كما يبدو، في أن قوة الحركة المعاصرة تكمن في استيقاظ الجماهير (وبصورة رئيسية البروليتاريا الصناعية) وفي أن ضعفها يكمن في عدم كفاية وعي ومبادرة القادة الثوريين. بيد أنه قد ظهر في الآونة الأخيرة اكتشاف خارق يهدد بأن يقلب رأسا على عقب جميع النظرات السائدة حتى الآن بصدد هذه المسألة. وهذا الاكتشاف يعود فضله إلى "رابوتشييه ديلو"، التي لم تقتصر في جدالها مع "الإيسكرا" و"زاريا" على اعتراضات حول الجزئيات، بل حاولت أن تحصر "الخلاف العام" في جذر أعمق، في "الإختلاف في تقدير الأهمية النسبية للعنصر العفوي وللعنصر "المنهاجي الواعي". وتصوغ "رابوتشييه ديلو" الإتهام كما يلي:"التقليل من أهمية العنصر الموضوعي أو العفوي في التطور"•. ونحن نجيب على ذلك: إذا كان جدال "الإيسكرا" و"زاريا" لم يعط البتة أية نتيجة غير حفز "رابوتشييه ديلو" إلى أن تذهب بتفكيرها إلى هذا "الخلاف العام"، فإن هذه النتيجة وحدها ترضينا كل الرضى ما دامت هذه الموضوعة عميقة في دلالتها، ما دامت تظهر بهذا الوضوح كل جوهر الخلافات النظرية والسياسية الحالية بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس. ولذا تسترعي مسألة العلاقة بين الوعي والعفوية هذا الاهتمام الكبير العام، وينبغي تناول هذه المسألة بكل تفصيل.
أ) بدء النهوض العفوي
أشرنا في الفصل السابق إلى ولوع الشبيبة الروسية المتعلمة العام في منتصف العقد العاشر بالنظرية الماركسية. وفي ذلك الحين نفسه تقريبا، اتخذت إضرابات العمال مثل هذا الطابع العام بعد الحرب الصناعية المشهورة سنة 1896 ببطرسبورغ(46). وكان انتشار هذه الإضرابات في روسيا من أقصاها إلى أقصاها دليلا جليا على مبلغ عمق الحركة الشعبية الناهضة من جديد. وإذا ما أردنا الحديث عن "العنصر العفوي" فلا بد طبعا من الإعتراف بأن هذه الحركة الإضرابية كانت عفوية بالدرجة الأولى. ولكن هناك عفوية وعفوية. فقد حدثت إضرابات في روسيا كذلك في العقد الثامن وفي العقد السابع (وحتى في النصف الأول من القرن التاسع عشر) ورافقها تحطيم "عفوي" للماكينات وغير ذلك. وإذا قورنت إضرابات العقد العاشر بهذه "المشاغبات"، أمكن وصفها بـ"الوعي" لعظم الخطوة التي خطتها حركة العمال إلى الأمام في هذه الفترة. وهذا ما يوضح لنا أن "العنصر العفوي" ليس في الجوهر غير الشكل الجنيني للوعي. فالمشاغبات البدائية كانت تفصح منذ ذلك الحين عن نوع من استيقاظ الوعي: كان العمال يفقدون إيمانهم القديم بثبات الأوضاع التي ترهقهم وأخذوا… يحسون - ولا أقول يفهمون- ضرورة المقاومة الجماعية ويكفون بحزم عن الخنوع الذليل لأصحاب الأمر والنهي. ولكن ذلك كان على كل حال مظهرا أشبه باليأس والإنتقام منه بالنضال. أما إضرابات العقد العاشر فترينا من ومضات الوعي أكثر بكثير: فقد وضعت مطالب معينة وحسبت مسبقا اللحظة المناسبة وبحثت حوادث وأمثلة معروفة من المناطق الأخرى الخ.. ولئن كانت المشاغبات مجرد إنتفاضات أناس مظلومين، فإن الإضرابات المتوالية كانت مظهرا من مظاهر النضال الطبقي بشكله الجنيني، ولكن بشكله الجنيني لا أكثر ولا أقل. وإذا أخذنا هذه الإضرابات بحد ذاتها، وجدنا أنها كانت نضالا تريديونيونيا، ولم تصبح بعد نضالا إشتراكيا-ديموقراطيا. لقد أفصحت عن بروز التناحر بين العمال وأصحاب الأعمال، ولكن العمال لم يعوا ولم يكن من الممكن أن يعوا التضاد المستعصي بين مصالحهم وبين كل النظام السياسي والإجتماعي القائم، أي أنهم لم يحصلوا على الوعي الإشتراكي-الديموقراطي. وبهذا المعنى ظلت إضرابات العقد العاشر حركة عفوية محضا بالرغم من التقدم الكبير الذي تم بالقياس إلى "المشاغبات". قلنا أن الوعي الإشتراكي-الديموقراطي لم يكن في الإمكان أن يوجد آنئذ لدى العمال، إذ أنه لا يمكن للعمال أن يحصلوا على هذا الوعي إلا من خارج نطاقهم. ولنا في تاريخ جميع البلدان شاهد على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة فقط غير الوعي التريديونيوني، أي الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال، الخ.. أما التعاليم الاشتراكية، فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة، وضعها المثقفون. إن مؤسسي الاشتراكية العلمية المعاصرة، ماركس وإنجلس، ينتسبان أيضا من حيث وضعهما الاجتماعي إلى المثقفين البرجوازيين. وكذلك الأمر في روسيا، فقد انبثق مذهب الاشتراكية-الديموقراطية النظري بصورة مستقلة تماما عن النهوض العفوي لحركة العمال، انبثق بوصفه نتيجة طبيعية محتومة لتطور الفكر لدى المثقفين الاشتراكيين الثوريين. وفي الحقبة التي نتحدث عنها، أي بحلول منتصف العقد العاشر، كان هذا المذهب قد جذب إليه أكثرية الشبيبة الثورية في روسيا فضلا عن أنه قد غدا برنامجا كامل التكوين لفرقة "تحرير العمل". وهكذا كانت توجد في وقت واحد يقظة عفوية لجماهير العمال، يقظة إلى الحياة الواعية وإلى النضال الواعي، وشبيبة ثورية مسلحة بالنظرية الاشتراكية-الديموقراطية كانت تتحرق رغبة في التقرب من العمال. هذا ومن الهام جدا أن نثبت هنا واقعا، كثيرا ما ينسى (ولا يعرفه إلا القليل نسبيا)، وهو أن الرعيل الأول من الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين انصرفوا بحمية في تلك المرحلة إلى التحريض الإقتصادي (آخذين بعين الإعتبار الملاحظات المفيدة حقا والواردة في كراس "في التحريض" الذي كان لا يزال مخطوطة آنئذ)، لم يعتبروه مهمتهم الوحيدة، بل لقد وضعوا أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية منذ البدء أوسع المهام التاريخية بوجه عام ومهمة إسقاط الحكم المطلق بوجه خاص. ونقول على سبيل المثال أن جماعة الاشتراكيين-الديموقراطيين التي أسست في بطرسبورغ "إتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة"(47) قد أعدت منذ أواخر عام 1895 العدد الأول من جريدة اسمها "رابوتشييه ديلو". وكان هذا العدد جاهزا تماما للطبع عندما صادره الدرك أثناء غارة شنها في ليلة 8 إلى 9 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1895 من عند أحد أعضاء الجماعة، وهو أناتولي الكسييفيتش فانييف. ولم تستطع "رابوتشييه ديلو" في شكلها الأول أن ترى النور. وقد رسمت افتتاحية هذه الجريدة (التي يحتمل أن تنتشلها من محفوظات مديرية الشرطة بعد حوالي ثلاثين سنة مجلة كمجلة "روسكايا ستارينا"(48)) المهام التاريخية التي تواجه الطبقة العاملة في روسيا ووضعت على رأس هذه المهام اكتساب الحرية السياسية. ويأتي بعد هذه الافتتاحية مقال: "بِمَ يفكر وزراؤنا؟"، وقد تناول تحطيم الشرطة للجان مكافحة الأمية، ومجموعة من الرسائل لا من بطرسبورغ وحدها، بل أيضا من مناطق أخرى في روسيا (مثلا عن مذبحة العمال في محافظة ياروسلافل(49)). وهكذا فإن هذه "التجربة الأولى" - إذا لم أخطئ - للإشتراكيين-الديموقراطيين الروس في العقد العاشر كانت عبارة عن جريدة ليس طابعها محليا ضيقا، وبالأحرى ليس "باقتصادي"، وقد سعت وراء ربط النضال الإضرابي بالحركة الثورية ضد الحكم المطلق وإلى استنهاض كل من يعاني نير سياسة الظلامية الرجعية إلى تأييد الاشتراكية-الديموقراطية. وليس من مجال للشك لدى كل مطلع على حالة الحركة في ذلك العهد ولو بعض الإطلاع، في أنه كان ينتظر هذه الجريدة انتشار واسع جدا وتأييد تام لدى عمال العاصمة والمثقفين الثوريين. أما إخفاق القضية، فإن برهن على شيء، فقد برهن على أن الاشتراكيين-الديموقراطيين في ذلك العهد كانوا عاجزين عن الإستجابة لمطلب الساعة، بسبب قلة تجربتهم الثورية ونقص استعدادهم العملي. والشيء نفسه ينبغي أن يقال عن "سانت بطرسبورغسكي رابوتشي ليستوك"(50) وبوجه خاص عن "رابوتشايا غازيتا" وعن "بيان" حزب العمال الإشتراكي-الديموقراطي في روسيا(51) الذي تأسس في ربيع 1898. وغني عن القول أنه حتى لا يخطر ببالنا أن نلوم مناضلي ذلك العهد على عدم الإستعداد هذا. ولكن، لكيما نستفيد من تجربة الحركة ولكيما نستخلص من هذه التجربة الدروس العملية، ينبغي لنا أن نفهم كل الفهم أسباب هذه النقيصة أو تلك ومغزاها. ولذا من الأهمية بمكان أن نثبت أن قسما (وربما الأكثرية) من الاشتراكيين-الديموقراطيين المناضلين في سنوات 1895-1898 كانوا يعتبرون، وهم في ذلك على حق، أن من الممكن آنئذ، في مستهل الحركة "العفوية" بالذات، التقدم بأوسع برنامج وأحدّ تكتيك للنضال. ولما كان عدم استعداد أكثرية الثوريين ظاهرة طبيعية تماما، لم يمكن لهذا الأمر أن يستدعي أي خشية جدية. وبما أن تعيين المهام كان صحيحا، وبما أنه قد وجدت الهمة لتكرار المحاولات بهدف تحقيق هذه المهام، فإن الإخفاقات المؤقتة لم تكن أكثر من نصف مصيبة. فالتجربة الثورية والمهارة التنظيمية أمران يكتسبان اكتسابا، والمهم أن يرغب المرء في تربية نفسه على الصفات المطلوبة! والمهم أن يعي المرء النواقص، وهو ما يعادل في العمل الثوري أكثر من نصف إصلاح الخطأ! ولكن نصف المصيبة غدا مصيبة كاملة عندما أخذ هذا الوعي يخبو (وقد كان هذا الوعي قويا جدا لدى العاملين في صفوف الجماعات المذكورة أعلاه)، وعندما ظهر أناس - وحتى صحف إشتراكية-ديموقراطية - مستعدون لأن يجعلوا من النقيصة فضيلة وحاولوا حتى أن يبرروا نظريا خضوعهم الذليل أمام العفوية وتقديسهم لها. وقد آن لنا أن نلخص نتائج هذا الإتجاه الذي يُحَدد، بابتعاد كبير عن الدقة، بتعبير "الإقتصادية" الذي هو أضيق من أن يعبر عن محتوى هذا الإتجاه.
يتبع