الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
محمد حسام
2024 / 12 / 4 - 21:19
كتبت هذه المقالة بناء على العرض الذي قدمه الرفيق محمد حسام في الجامعة الشيوعية الثورية 2024 “قوة الأفكار”، وفيه يشرح جذور القضية الفلسطينية، كما يتناول الفصائل الفلسطينية، والتي فشلت جميعها في دفع النضال الفلسطيني إلى الأمام بسبب مشاريعها البرجوازية القومية والرجعية، بالإضافة إلى تناوله للمجتمع الإسرائيلي وسيرورة بناءه، والرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية.
إن القضية الفلسطينية قضية مركزية بالنسبة للماركسيين في المنطقة والعالم، وهي قضية جدية ومعقدة، كما إنها مرتبطة بشكل وثيق بسيرورة الصراع الطبقي في المنطقة والعالم.
لهذا لا مجال هنا للحلول السهلة والطرق المختصرة كما يتمنى الكثيرون، ونحن منهم بالطبع كنا نود لو أن هناك مثل هذه الحلول السهلة والطرق المختصرة، لكن الحقيقة والواقع يظهران عكس ذلك. إن هذه الطرق والحلول التي انزلق وما زال ينزلق إليها الكثيرون تحت ضغط الأحداث، والتي يُفتن بها ويتذيلها كثير من العُصب اليسارية، قد أثبت التاريخ أنها لا توفر طرقًا مختصرة حقًا كما ظن مستخدميها، بدليل مرور أكثر من 76 عامًا والقضية الفلسطينية ما تزال في نفس المأزق.
وقد أعادت المجزرة الصهيونية بحق غزة المستمرة منذ أكثر من عام الآن النقاشات النظرية في اليسار إلى الواجهة من جديد، على الأقل بين الفئات الأكثر تقدمًا من العمال والشباب الثوري، خصوصًا مع الغطرسة الصهيونية التي تعربد في المنطقة، والتي تلعب دورها المعتاد بصفتها القوة الأكثر رجعية ودموية في المنطقة، والعامل الرئيسي المزعزع للاستقرار فيها. وما تثبته الأحداث منذ 7 أكتوبر 2023 هي حقيقة أن إسقاط الدولة الصهيونية، في نهاية المطاف، هو شرط ضروري لاستقرار المنطقة وإسقاط الرأسمالية فيها وبناء فدرالية اشتراكية.
كما أُعيد طرح أسئلة محورية حول القضية الفلسطينية، من أهمها: كيف وصلنا إلى الوضع المتأزم الحالي؟ هذا بعدما أثبتت كل الفصائل البرجوازية (القومية والإسلامية) فشلها في دفع القضية الفلسطينية إلى الأمام. أين ذهب البديل الاشتراكي للقضية الفلسطينية؟ وما هو الطريق للمضي قدمًا للأمام؟
لمحة تاريخية
قبل أكثر من 100 عام، أعلنت الحكومة البريطانية عن طريق وزير خارجيتها آرثر بلفور في عام 1917 علنًا عن وطن قومي لليهود في فلسطين وسيلة لإبقاء المنطقة منقسمة.
بوجه عام، منذ عام 1921 فصاعدًا أنشأت بريطانيا سلسلة كاملة من الدول العربية المصطنعة التي تحكمها أنظمة ملكية إقطاعية ورجعية. لقد اقتطعت الحكومة البريطانية أرضًا شرق نهر الأردن في عام 1921، وأُطلق عليها اسم المملكة العربية الأردنية الهاشمية، وأعطتها للملك عبد الله، الجد العميل الأكبر للعميل الملكي الحالي. كما شكلت بريطانيا، بمساعدة نشطة من الولايات المتحدة، بين عامي 1921 و1971 ممالك استبدادية ليس فقط الأردن، وإنما أيضًا المملكة العربية السعودية (1932) والكويت (1961) وسلطنة عمان (1970) ومملكة البحرين (1971) وقطر (1971) والإمارات العربية المتحدة (1971)، بالإضافة إلى إعطاء الاستقلال الرسمي لبلدان المنطقة -سواء طوعًا أو قسرًا تحت وقع نضال الشعوب التي انتزعت الاستقلال الرسمي- مع التأكد من تنصيب أنظمة وحكومات عميلة للإمبريالية في جوهرها. لقد أدى ذلك إلى تقطيع الجسد الحي لشعوب المنطقة وخلق أدوات في يد الإمبريالية.
لقد بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948 مع إعلان إنشاء دولة إسرائيل. في الحقيقة، فقد بدأت العمليات الصهيونية المجرمة قبلها بعقود منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد تكثفت منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وهو ما تمخض عنه إعلان الأمم المتحدة تقسيم أراضي فلسطين التاريخية بين العرب واليهود عام 1947 في خيانة تاريخية للشعب الفلسطيني واصطفاف واضح مع المشروع الصهيوني الاحتلالي.
وبالمناسبة، فقد أيد ستالين والبيروقراطية الحاكمة في الاتحاد السوفيتي حينها [1] قرار التقسيم وإنشاء دولة إسرائيل، على عكس سياسة لينين وتروتسكي اللذان رفضا بشدة الدعاية الصهيونية الرجعية طوال حياتهما. وتبعت كل الأحزاب الشيوعية الرسمية حتى العربية منها الجريمة الستالينية، وهو ما كان له تأثير مدمر على الأحزاب الشيوعية في فلسطين والمنطقة وأفقدها مصداقيتها في أعين الجماهير، وأضاع تراكم أكثر من عقدين من العمل الشيوعي في المنطقة.
وقد لعبت الإمبريالية أقذر أدوارها في فلسطين، وسمحت سنوات بهجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين للتخلص من اليهود الذين كانوا يلعبون دورًا راديكاليًا في بلدانهم الأصلية، وزرع الانقسام في فلسطين وإذكاء الكراهية القومية.
صحيح أنه لم يكن هدف الإمبريالية البريطانية إنشاء إسرائيل بشكل واعٍ في البداية، وإنما كانت تلعب باستمرار باليهود والعرب على حد سواء لاستمرار تحكمها في الوضع واستمرار بقائها عسكريًا لسنوات طويلة بحجة وجود خلافات قومية. ولكن في نهاية المطاف، فقد سمحت سياستهم للقادة الصهاينة بتنفيذ مخططاتهم واللعب على التناقضات بين القوى الإمبريالية والعالمية المختلفة. وما زالت وسوف تظل تدعم الإمبريالية وما يسمى “المجتمع الدولي” إسرائيل للنهاية، وهو ما ظهر في المذبحة المستمرة في غزة منذ أكثر من عام حتى الآن.
إضافة إلى ذلك، فقد فاقم هذا الوضع انعدام وجود أحزاب شيوعية حقيقية قوية في فلسطين والمنطقة تُفرغ الحركة الصهيونية من مضمونها عن طريق كسب فقراء اليهود المهاجرين حديثًا لفلسطين وقتها عن طريق سياسة طبقية أممية ومهاجمة القادة الصهاينة. ما حدث هو العكس، فالأحزاب الكبيرة التي كانت موجدة حينها إما أحزاب تسمي نفسها زورًا بالـ”شيوعية” تدور في فلك روسيا الستالينية التي تخلت عن كل المحتوى الأممي للماركسية ودافعت عن تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل، وإما أحزاب قائمة على سياسة قومية ودينية لم تكن في الحقيقة تصب إلا في مصلحة مخطط القادة الصهاينة، ومساعدتهم في تشكيل ثم ترسيخ عقلية القلعة المحاصرة واللعب الدائم على وتر الاضطهاد المزمن والخوف من الإبادة.
بالطبع، فإن من وجهة نظر الشيوعيين الحقيقيين إنشاء دولة إسرائيل هو عمل رجعي بشكل كلي ولا توجد ذرة من التقدمية فيه [2]. إن قيام دولة إسرائيل له كثير من التبعات الإجرامية، منها المجازر في حق الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم، وإدخال المنطقة كلها في نفق مظلم وطويل من العنف، ووضع الفقراء والمضطهَدين في مواجهة بعضهم البعض، كما حل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني عن طريق نصب “مصيدة دموية” لليهود في الشرق الأوسط كما توقع تروتسكي في ثلاثينيات القرن العشرين.
وقد أكد التاريخ صحة هذا التوقع حيث في خلال أول خمسين سنة فقط من عُمر إسرائيل شهدت خمس حروب رئيسية، كما العديد من الحروب الصغيرة طوال تاريخها القصير، وهي الآن منغسرة في حرب عدوانية منذ أكثر من عام ضد عدة بلدان في المنطقة، وسوف تستمر في الدوران في دوامة الحرب والعنف. وبدلًا من أن تكون واحة سلام وأمان اليهود تحولت إسرائيل إلى معسكر مسلح مبني على الخوف الدائم ومحاطة بشعوب معادية لها. فبعد أكثر من 76 عامًا على إنشاء إسرائيل أصبحت أقل أمانًا لليهود الإسرائيليين من أي وقت مضى.
واستمرت المأساة أكثر من 76 عامًا حتى الآن، حيث شهدنا تاريخًا طويلًا من المجازر والجرائم والبشاعات والتهجير بفعل آلة قمع واضطهاد وقتل لا ترحم ولا تتوقف، إنها جهاز إنتاج فوضى ومآسي يعمل باستمرار. تتجلى هنا أزمة المسألة القومية في أبشع صورها وبشكل ملموس ويومي وأكثرها استمرارية.
للأسف لا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء، إن الواقع الآن أن لدينا مجتمعًا إسرائيليًا، وأقلية قومية في المنطقة هم الإسرائيليون، وهي أقلية تلعب دورًا أكبر من حجمها وتضطهِد شعبًا آخر. هذا هو الواقع الذي ينبغي لنا أن نتعامل معه. لقد قُدر لنا أن نكون نحن من نحل المسألة اليهودية التي ظلت مستمرة لقرون مرة واحدة وإلى الأبد.
البرجوازية القومية وخيانة التحرر الوطني الفلسطيني
لقد خاض الشعب الفلسطيني نضالًا حازمًا طوال الـ76 عامًا الماضية. إنها تضحيات مهولة وشجاعة منقطعة النظير، مع معاناة دائمة من التهجير والمجازر والحصار والخيانة، ولم يزدهم هذا إلا صلابة وعنادًا. إن موقفنا بشكل واضح هو: نحن مع نضال الجماهير الفلسطينية من أجل التحرر بشكل كامل، وضد الدولة الصهيونية على طول الخط ونهدف لإسقاطها.
لكن أصبح من الواضح للجميع الآن دخول النضال الفلسطيني في مأزق منذ سنوات طويلة، فبرغم كل شيء لم يصل النضال الفلسطيني إلى أي من أهدافه، وهذا لسبب بسيط: إن الشجاعة وحدها ليست كافية. للأسف الشديد لقد ظل نضال الجماهير الفلسطينية فرسية في أيدي القيادة البرجوازية.
لقد عانت الجماهير الفلسطينية من صدمة مهولة وطويلة استمرت حوالي 20 عامًا بعد الهزيمة الثقيلة في النكبة عام 1948. وبعد انقشاع غيوم الصدمة تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، وهذا برعاية الأنظمة العربية، والنظام الناصري بشكل أساسي. ومنذ حينها ظلت القيادة الفلسطينية أداة في يد أنظمة المنطقة الخائنة، وانتقلت من يد إلى أخرى وضُربت من يد ومن أخرى، وفي النهاية أحرقت نفسها.
وانطلاقًا من القومية الضيقة، والتزامًا برعاية الأنظمة العربية الرجعية التي ظلت تستخدم القضية الفلسطينية من أجل التحكم في جماهيرها المتعاطفة مع فلسطين من جانب ومساومة الإمبريالية من جانب آخر، تم تقزيم هدف منظمة التحرير الفلسطينية من الثورة إلى سراب قومي ضيق، ما يشبه أسطورة “رمي إسرائيل في البحر”.
في الحقيقة، إن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات -ومن قبله ومن بعده بالطبع- ليس فقط لم تكن قادرة على خوض نضال ثوري يمكن أن يهزم الاحتلال، ولكن أيضًا لم تستطع أن تستغل تعاطف جماهير المضطهَدين في البلاد العربية المجاورة مع الشعب الفلسطيني ونضاله وتحوله لفعل ثوري ونضالي، وهذا بسبب عمالتها لأنظمة المنطقة ومنظورها القومي الضيق.
ونتيجة عدم الفهم المادي للطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي والطريقة الصحيحة للتأثير فيه وكيفية هزيمة الدولة الصهيونية، وتبعتهم في ذلك الطريق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اليسارية، شرعوا في حملة من “الكفاح المسلح”، مثل: التفجيرات والرصاص العشوائيين والاغتيالات وعمليات اختطاف الطائرات.
لقد كان هدفهم الضغط على الدولة الصهيونية بتلك التكتيكات، وأكثرهم مثالية كان يود إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وأن تختفي الدولة الصهيونية بين ليلة وضحاها بسبب تلك الضربات.
بغض النظر عن النوايا التي لا شك أنها كانت صادقة في مجملها، لكن كما يُقال: الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. إن هؤلاء لم يفهموا ويدركوا شيئًا واحدًا بسيطًا: إن الخوف عادة لا يُقسم المجتمعات، خصوصًا مجتمع مثل المجتمع الإسرائيلي بُنى أساسًا على الخوف من الإبادة.
ببساطة فإن الشعارات والوسائل التي لا تعمل على كسر الوحدة المجتمعية والطبقية للمجتمع الإسرائيلي، وكل هجوم بالقنابل أو الرصاص أو الصواريخ العشوائيين أنتج تأثيرًا معاكسًا داخل إسرائيل، ودفع السكان الإسرائيليين وراء القادة الصهاينة أكثر، وهو ما ساعد الطبقة السائدة الصهيونية في التعمية على أي تناقضات وأزمات داخلية. لقد ساعد هذا في تقوية الطبقة السائدة في إسرائيل ودولتها الصهيونية وليس إضعافها.
وهذا هو سبب معارضتنا للأساليب الاستبدالية المسلحة، هي ليست معارضة من باب النزعة السلمية المنافقة أو معارضة أخلاقية سخيفة وإن “كل الدم حرام”، فالماركسيين لا يقاربون التاريخ من وجهة نظر أخلاقية نهائيًا، وإنما لأن هذه الوسائل لا تؤدي إلى إضعاف الدولة بالعكس أنها تقويها، وتساعد في إشعال موجات الهستيرية الشوفينية الدموية، وتاريخ القضية الفلسطينية كله خير دليل على ذلك.
ولكي لا يساء الفهم، إننا الشيوعيين أبدًا لسنا على الحياد في تلك القضية. نحن مع حق الشعب الفلسطيني في التحرر والدفاع عن نفسه بكل الوسائل المتاحة له، بما فيها الوسائل المسلحة، لا سواء ضد هجمات الدولة الصهيونية أو عصابات المستوطنين الفاشية.
إن الأممية الشيوعية الثورية تقف دائمًا بشكل حازم وثابت ومطلق مع المظلومين ضد الظالمين، أيًا كانت طبيعة المظلومين، ولا نساوي أبدًا بين عنف الظالمين والمظلومين بأي شكل من الأشكال، فكما قال تروتسكي: “فقط خصيان جديرون بالاحتقار يقولون لنا أنهم متساوون أمام محاكم الأخلاق” [3]. فما نحن بصدده ليس نزاعًا بين قوتين متكافئتين، بل صراعًا مستمرًا لعقود بين طرف ظالم وطرف مظلوم، والشعب الفلسطيني هو المظلوم في تلك المعادلة، ونحمل الدولة الصهيونية وحدها مسؤولية كل الدماء التي سالت طوال الـ76 عامًا الماضية، بالإضافة إلى التي سوف تسيل في السنوات القادمة.
لكن عندما نتحرك للهجوم يجب أن نستخدم الوسائل والتكتيكات التي توصلنا لهدفنا حقًا وتضعف عدونا فعلًا، التي ليست بالطبع التكتيكات التي اتبعتها فتح والجبهة الشعبية وكل منظمة التحرير الفلسطينية. لقد كان هذا طريقًا محكومًا عليه بالفشل، خسرنا فيه خيرة شباب وطليعة الجماهير الفلسطينية في أساليب ومغامرات عقيمة ليست فقط لم تجلب نتائجها المرجوة وإنما أتت بنتائج عكسية، ولم تفعل سوى أن دفعتنا من هزيمة لأخرى.
وبعد أكثر من عقدين من الانخراط في تلك الحرب العقيمة فجأة تمخض الجبل فولد فأرًا. انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الطرف الآخر من معادلة الإرهاب الفردي وهو الانتهازية. ودخلت في مباحثات مع الدولة الصهيونية برعاية الإمبريالية وأنظمة المنطقة الخائنة.
لكن وبينما كانت القيادة الفلسطينية في الخارج -بقيادة ياسر عرفات– تتحرك فعلًا نحو نوع من التعامل مع دولة إسرائيل كان هناك شيء ما يتطور تحت السطح في المجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. لقد اندلعت الانتفاضة الأولى بشكل عفوي في أواخر عام 1987 [4]، هذا في الوقت الذي سقطت فيه الجماهير الفلسطينية داخل فلسطين من حسابات قادة منظمة التحرير، واعتمدوا بدلًا من ذلك على فرق المقاتلين المنعزلين في معسكرات دول الجوار.
لقد هزت الانتفاضة الأولى الدولة الصهيونية، وقد عارضها قادة منظمة التحرير الفلسطينية في البداية. حتى أنها خلقت أزمة داخلية في إسرائيل، حيث لأول مرة في التاريخ الإسرائيلي القصير انتشرت حينها حركة مناهضة للتجنيد في الجيش الصهيوني بكثافة. وقد كانت الحركة للمناهضة للتجنيد خلال حرب لبنان 1982 هي ما مهدت الطريق لذلك.
إن هذه الحركة الجماهيرية المقاومة التي كانت خارج يد القيادة البرجوازية في البداية كانت أنصع صفحات النضال الفلسطيني وأكثرها ديمقراطية. لم تشهد فقط الانتفاضة أطفال صغار بالعصي والحجارة يستولون على قوة الجيش الإسرائيلي، وإنما شهدت أيضًا إنشاء مجالس شبابية مسلحة لحماية المناطق والقرى الفلسطينية المحررة، بالإضافة إلى لجان أخرى لتسيير الشؤون المجتمعية والحياتية، وإضرابات عمالية وعصيانات مدنية. هذا هو العنف الذي ندافع عنه وندفع من أجله: عنف الجماهير الثوري!
والأهم أن كان للانتفاضة في يوم واحد تأثير أكبر من 25 عامًا من التفجيرات والاغتيالات من مجموعات المقاتلين المنعزلين والعمل الاستبدالي المسلح، الذي لم يستطع هؤلاء المقاتلين برغم بسالتهم المهولة بواسطته إجبار الدولة الصهيونية على تقديم أي تنازل شكلي، فضلًا عن كونه جديًا، نتيجة عملياتهم العسكرية.
لقد أدت الانتفاضة الجماهيرية إلى استقطاب الموقف بشكل حاد وأظهرت ما يمكن أن يحققه العمل الجماهيري، وأجبرت الإمبريالية على إعادة حسباتها وتغيير تكتيكاتها.
إن هذا الوضع المتفجر دفع الإمبريالية لمحاولة احتواء الحركة الفلسطينية، وهو ما حدث بمساعدة أنظمة المنطقة والقيادة الفلسطينية في فتح ومنظمة التحرير التي استغلت فراغ قيادة الانتفاضة في الداخل، وبدأت مسيرة اتفاقيات أوسلو التي مثلت خيانة لكل تاريخ نضال الشعب الفلسطيني. حيث حافظت إسرائيل بموجبها على سيطرتها على جزء كبير من الضفة الغربية، وهو ما سمح لها بالاستمرار في خطة زيادة المستوطنات، بالإضافة إلى السيطرة الاقتصادية الخانقة على الشعب الفلسطيني، لا سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
هكذا انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من العمى المسلح الاستبدالي للانتهازية، ومن عقلية “رمي إسرائيل في البحر” إلى مقاعد سلطة أمنها لهم الاحتلال لكي لا يتحمل عبء السيطرة المباشرة على ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية. إن هؤلاء الخونة قبلوا تلك الوظيفة ليرتاحوا من “الكفاح المسلح” و”النضال” الذي نصبوا أنفسهم قادة له عنوة، بمساعدة ودفع الحكومات العربية. لقد تحولوا من محتكري التحدث بأسم النضال الفلسطيني إلى متحكري التفاوض والتجارة مع الدولة الصهيونية. لقد انتقلوا من أكثر ممثلي “الكفاح المسلح” تصلبًا إلى قامعين للشعب الفلسطيني وعملاء للدولة الصهيونية.
وبنظرة موضوعية وبشكل مادي، مع الوضع في الاعتبار الاختلال الكبير في ميزان القوى العسكرية والاقتصادية، كان هذا مسارًا حتميًا تحت القيادة البرجوازية لمنظمة التحرير وفتح التي لا ترى حلًا إلا داخل حدود النظام الرأسمالي وترتيبات القوى الدولية، تلك القوى التي لا تنظر للمضطهَدين إلا بصفتهم بيادق في لعبة التقسيم العالمي، وفي نفس الوقت تنظر لإسرائيل بوصفها قاعدتها الأساسية في المنطقة. هذا في حين أنه لم يكن في منظور تلك القيادة نهائيًا إشعال حركة ثورية في المنطقة لإسقاط الأنظمة الرأسمالية وإنجاز تحول ثوري إقليمي يمتد لفلسطين.
البرجوازية الإسلامية الأصولية تسير على نفس الخط
كانت الحركة الفلسطينية تاريخيًا في مجملها حركة علمانية وقومية بجناح يساري قوي، وتأثير الأيدلوجية الإسلامية عليها كان طفيفًا. ولكن مع هزيمة المشروع القومي وأنظمة “التحرر الوطني” في المنطقة بداية من أواخر ستينيات القرن العشرين مع النكسة عام 1967 وبزوغ التيار الإسلامي بعدها، واحتراق منظمة فتح في مسار المساومات والخيانة بعد استخدامها في السيطرة على الانتفاضة الأولى، وطبعًا مع الهمجية والوحشية الصهيونية المستمرة، برزت حركة حماس للوجود.
وبالمناسبة، لقد دعمت أنظمة الخليج في البداية حماس بعد اصطفاف فتح مع صدام حسين في حرب الخليج، كما سهلت إسرائيل تمرير هذا الدعم لحماس[5] لتكون ثقلًا موازنًا لياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، واليسار الفلسطيني، أي من أجل تقسيم الحركة الفلسطينية على أسس رجعية، واستمرت في تمرير التمويل لحماس من أجل فصل غزة عن الضفة الغربية. ولكن كالعادة انقلب السحر على الساحر.
لقد بنت حركة حماس لسنوات شعبيتها على أنها “الـ”مقاومة الوحيدة في فلسطين، أو “الـ”مقاومة الأكثر مبدئية وحزمًا في فلسطين، ونافست ثم قاتلت فتح الملوثة بالخيانة على قيادة الجماهير الفلسطينية. بالطبع نحن نتفهم دوافع الدعم المقدم لها من طرف الجماهير، فالجماهير الفلسطينية في غزة التي تُقصف بالطائرات الصهيونية، وفي الضفة الغربية تقتل في الشوارع برصاص الجيش الصهيوني والمستوطنين الفاشيين، لا ترى سوى حركة حماس حامٍ لها ضد الدولة الصهيونية.
إن السياسية -مثل الطبيعة- لا تقبل الفراغ، ففي ظل استمرار غياب بديل شيوعي ثوري استطاعت حركة حماس استغلال الانبطاح والخيانة والعمالة الواضحين لقادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية لتطرح نفسها بصفتها الطرف الوحيد القادر على مجابهة الدولة الصهيونية والتعامل معها بندية في زمن الانبطاح، فمن الطبيعي في ظل تلك الظروف أن تحظى بتأييد الجماهير الفلسطينية.
إضافة إلى ذلك، فقد تبنت حماس دعاية شعبوية مناهضة للإمبريالية والغرب. لكن طبعًا فإن ذلك الوجه المعادي للإمبريالية الذي تصدره للجماهير الفلسطينية والعربية هو وجه دعائي وغير حقيقي نهائيًا. لقد سعت حماس لعقد تفاهمات مع القوى الإمبريالية منذ فترة طويلة، وتقديم نفسها بديلًا للورقة التي تم حرقها في اتفاقية أوسلو: حركة فتح. وعملت على تقليص برنامجها الأصلي ذو الفجاجة الإسلامية الأصولية بالتدريج لكي يتم قبولها في المجتمع الدولي. بل الأكثر من ذلك، فقد سعت حماس لعقد تفاهمات مع الدولة الصهيونية نفسها، ولولا عجرفة الطبقة السائدة الصهيونية وحاجتها لوجود حماس “الإسلامية” في موقع العدو لكان هناك اتفاق بين حماس وإسرائيل فعلًا.
والوثيقة السياسية للحركة الصادرة في عام 2017 [6]، التي كانت تتويجًا لمسار طويل استمر سنوات من تقليم أظفار الحركة من جانب المجتمع الدولي والقوى الإقليمية، التي تُقر فيها بقبولها دولة فلسطينية على حدود 1967 على أساس القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، هي دليل على أن حماس أرادت أن تثبت حسن نواياها للقوى الإمبريالية والدولة الصهيونية بقبولها ما يُسمى حل الدولتين على أساس “القانون الدولي”، الذي ليس حلًا وإنما سراب. إن تلك الدولة الفلسطينية حتى وإن نشأت طالما إنها على أساس رأسمالي فإنها سوف تولد ميتة، في وضع مشابه لوضع السلطة الفلسطينية العميلة في رام الله الآن. لقد جربت فتح ذلك الطريق من قبل!
إن حماس لا توفر أي حل للأمام بالنسبة للقضية الفلسطينية لأنها لا ترى حلًا إلا في إطار النظام الرأسمالي، مثل فتح. بينما الواقع على العكس من ذلك، إن أي حل للقضية الفلسطينية داخل إطار النظام الرأسمالي وما يُسمى “المجتمع الدولي” سوف يتضمن القتل والقهر والاضطهاد والتهجير للشعب الفلسطيني. هذا بجانب إن حماس تعتمد على “الحكومات العربية والإسلامية” في تمويلها وتجهيزها، لهذا من الصعب تصور أنها من الممكن أن تصل إلى نتائج أفضل من فتح.
وما يزيد الوضع تعقيدًا هو الإيديولوجية الرجعية الدينية الإسلامية للحركة التي تلغي إمكانية قدرتها على إشعال حركة ثورية جماهيرية في المنطقة، كما تلغي إمكانية قدرتها على توفير نموذج بديل عن الدولة الصهيونية لكل من يعيش على أراضي فلسطين التاريخية.
لنقولها صراحة: إن حركة حماس، وكل الحركات الإسلامية الأخرى مثل الجهاد الإسلامي وغيرها، عقبة في طريق نضال الشعب الفلسطيني ضد الدولة الصهيونية. إنها قوى رجعية تغذي الدولة الصهيونية، والتي بدورها تعززها هي الأخرى. إن تصوير الصراع كصراع ديني بين اليهود والمسلمين حول الأرض المقدسة لا يساعد في الحقيقة إلا اليمين الصهيوني في مسعاه لتغذية عقلية القلعة المحاصرة والسيطرة على المجتمع الإسرائيلي.
إن أساليب تلك الحركات الإسلامية الدعائية والتكتيكية والجنون الأصولي المسلح لا يؤدي إلا إلى تصليب قاعدة اليمين الصهيوني. إن هذا هو ما حدث منذ الانتفاضة الثانية 2000-2002 التي اندلعت بسبب خيبة الأمل من مسار تفاوض أوسلو واستولت حماس على قيادتها، التي طُبعت بتفجيرات الحافلات والأسواق والرصاص العشوائي، وانتقالًا لإطلاق الصواريخ العشوائية. وهو ما يستغله دائمًا العناصر الأكثر شططًا في اليمين الصهيوني لتدعيم وجودهم وتصليب عقلية القلعة المحاصرة أكثر فأكثر، كما لتنفيذ مزيد من المجازر بحق الفلسطينيين بسهولة أكبر. ولو أن تلك الوحوش الصهيونية لا يحتاجون مبرر لمواصلة قتلهم وذبحهم وتهجيرهم للفلسطينيين.
كما يخدم اليمين الصهيوني بدوره القوى الإسلامية الرجعية عن طريق توجيه ضربات إليها وتصويرها كأنها المدافع عن الشعب الفلسطيني. لقد رأينا هذا يحدث عام 2021 [7] مع أحداث حي الشيخ جراح عندما أمر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو باقتحام المسجد الأقصى في شهر رمضان من أجل جر حماس للرد، ثم توجيه ضربات لحماس لتحويل مركز الأحداث من القدس ومدن الداخل إلى غزة، وهو ما جلب تأييدًا وشعبية متزايدة حينها لحركة حماس. ونرى نفس الشيء يحدث الآن بعد العملية العسكرية القوية التي شنتها حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، حيث إن حرب الإبادة البشعة التي تشنها الدولة الصهيونية الإجرامية على قطاع غزة [8] لا تفعل سوى أنها تزيد من شعبية ونفوذ حماس وبقية الفصائل الإسلامية، ليس فقط في فلسطين ولكن في المنطقة كلها. مجددًا نرى المعادلة المتحققة في المنطقة منذ عقود تنتصب أمام أعيننا: الرجعية تغذي بعضها وتحتاج بعضها.
لكن هنا هناك نقطة مهمة يجب أن تكون واضحة: إننا لا نقول، ولا يجب أن نقول أو نتوهم، إن الحركات الإسلامية هي التي تجلب العدوان الصهيوني على غزة أو فلسطين برمتها، بل هو شيء متأصل في المشروع الصهيوني الذي يريد أن يبتلع فلسطين التاريخية بكاملها. إن قول وإدعاء أن الحركات الإسلامية أو القومية أو غيرها من الحركات الفلسطينية هي سبب العدوان الصهيوني يوقعنا في معسكر الدعاية الصهيونية والإمبريالية مباشرة.
ولكننا نقول في نفس الوقت إن الحركات الإسلامية لن تجلب التحرر. إن الطبيعة الرجعية والبرجوازية لتلك الحركات الإسلامية تزيد من تأزم الوضع وتدفع النضال الفلسطيني إلى طريق مسدود. إنها قوى رجعية لا توفر أي طريق للأمام، وكل همهم أن يستبدلوا فتح بأنفسهم مفاوضين أساسيين مع الدولة الصهيونية، وممثلين لمصالح البرجوازية الفلسطينية، ووكلاء للبرجوازية الإقليمية والعالمية.
إن تلك الحركات الإسلامية تتبنى أيديولوجية دينية في غاية الرجعية، وتقسم البشر على أساس الدين، كما إنها لا تعادي النظام الرأسمالي بالعكس هي جزء منه وتود أن تحظى باعترافه بها. بالإضافة إلى إنها تتلقى دعم الأنظمة الديكتاتورية والرأسمالية في المنطقة، مثل إيران وسوريا وقطر وغيرهم، إنها مرتهنة بهم وتستعملهم تلك الدول أوراق قوة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.
بالتالي فإن تلك التنظيمات هي النسخة الإسلامية والدينية من فتح ليس أكثر، فزيادة على أنهم يتبنون مشروع رأسمالي فهم ينطلقون من منطلقات إسلامية دينية ورجعية ايدلوجيًا، كأننا لم تكفينا مصيبة فأتتنا مصيبتان. وسوف يثبتون فشلهم إن تولوا السلطة بالطبع، وهو ما ظهر في غزة منذ وقوعها تحت سيطرة حماس منذ عام 2007. إنهم عاجزون عضويًا عن إسقاط الاحتلال مثل بقية الفصائل البرجوازية.
البرجوازية الصغيرة اليسارية والنفق المسدود
لقد تشكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من رحم حركة القوميين العرب، ونتيجة ميل أكثر يسارية بعد صدمة هزيمة أنظمة “التحرر الوطني” في النكسة عام 1967. ولكنها من البداية اتبعت النموذج الماوي الذي كان منتشرًا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، خصوصًا في البلدان المستعمَرة والمستعمَرة سابقًا.
وقد اجتذبت الجبهة منذ نشأتها أنظار الشباب الثوري واليساري في فلسطين وكل بلدان المنطقة بخطاباتها النارية، كما تضحيات أعضائها المهولة والبطولية، بالإضافة إلى مقالاتها وشعاراتها ذات النكهة اليسارية والاشتراكية.
لقد تحولت الجبهة الشعبية في سنوات قليلة إلى نقطة مرجعية لكثير من الشباب الثوري في المنطقة. وكان من المفترض أن تشكل البديل الثوري للجماهير الفلسطينية عن الفصائل البرجوازية المختلفة: فتح، وحماس التي ظهرت لاحقًا.
لكن تلك الشعارات الاشتراكية للجبهة الشعبية لم تكن تُعبر عن سياسات واستراتيجيات اشتراكية وماركسية حقًا. لقد لحقت الجبهة الشعبية فتح في مسارها اختيار العمليات العسكرية وفرق المقاتلين المنعزلين في معسكرات ومخيمات دول الجوار حقلًا أساسيًا للعمل الثوري واستراتيجية للتحرير، وهو ما كان طريقًا محكومًا عليه بالفشل منذ البداية.
إن لبُ تلك الاستراتيجية هي فكرة إن الطليعة الثورية يجب أن تتقدم الجماهير في مواجهة الدولة لتحفيز الجماهير، وهذا طبعًا ليس عن طريق الصراع الطبقي في فلسطين والمنطقة الذي يعلو أحيانًا ويخبو أحيانًا أخرى ولا ينضبط دائمًا للحركية المفرطة والرغبة في الحلول السريعة، ولكن عن طريق التفجيرات والاغتيالات، أي حرب عصابات أو “الحرب الشعبية طويلة الأمد” كما يحبون أن يسموها. إن هذه ليست فكرة جديدة، بل هي فكرة قديمة لطالما ظلت موجودة على هامش الحركة الثورية والعمالية، وقد كانت موجودة أيام لينين عند الناردونيين.
لقد كان الناردونيون هم الفصيل السياسي الأكبر في روسيا في القرن التاسع عشر، وكانوا يعتمدون بشكل أساسي على الطلبة والمثقفين والفلاحين، وكانت وسائلهم تتمركز حول الاغتيالات والتفجيرات، لدرجة أنهم اغتالوا القيصر نفسه، لكنهم لم يكونوا يؤمنون بالحركة العمالية والجماهيرية وقدرتها على تغيير المجتمع.
هذا بالرغم من صدق نوايا كثير من الناردونيين وعظيم بطولاتهم وتضحياتهم، حيث ترك هؤلاء الشباب بيوتهم ودراستهم وأعمالهم من أجل أن يلتحقوا بمعسكرات الناردونيين في الريف من أجل هدف ثوري وسامٍ وهو إسقاط القيصرية الروسية الغاشمة الجاثمة على صدر الشعب الروسي لمئات السنين. فمنهم من فقد حياته بالموت المباشر في عمليات عسكرية، ومنهم من قضى نحبه في ظلام سجون القصيرية المروعة، أو في وحشة المنفى وصقيع سيبيريا، أو حتى من الجوع.
ورغم صدق نوايا كثير من هؤلاء الشباب الشجاع والبطل، إلا أن لينين وتروتسكي [9] والعديد من الماركسيين الروس كانوا دائمًا ما يهاجمون الحركة الناردونية هجومًا شرسًا للغاية. ليس بسبب الجانب التقدمي المتمثل في روح التضحية والشجاعة عند الشباب الناردونيين بالطبع، ولكن بسبب نقاط ضعفها الجوهرية والكبيرة. التي من أكبرها إنها كانت تضع نفسها مكان الجماهير، وتستبدل الحركة الجماهيرية وأساليب نضالها بالقنابل والرصاص.
لقد كان الماركسيون الروس يصفون الناردونيين بأنهم “ليبراليين يحملون قنابل”. فمن جانب، إن الليبراليين يتحدثون بأسم “الشعب” لكنهم يرونه أجهل من أن يعمل على إصلاح المجتمع أو يشترك في إدراته، وليذهب فقط مرة كل أربع أو خمس سنوات للانتخابات ويترك بعدها الليبراليون المتخصصون في الحكومة والبرلمان يقومون بالمهام الصعبة. وعلى الجانب الآخر، فإن الناردونيين يحتقرون البرلمان ويتحدثون بأسم “الثورة” ليس فقط “الشعب”، لكنهم يرون أن الشعب خامل وكسول ولهذا يحتاج لمحفز عن طريق الأعمال العسكرية “ذات الصدى”.
وفي كلتا الحالتين يتم تخفيض دور الجماهير لمجرد متلقٍ سلبي ينتظر التحرير من الخارج. ولهذا فتلك السياسة، التي كان يسميها لينين سياسة “الإرهاب الفردي”، هي سياسة رجعية سواء نجحت أو فشلت، لأنها تميل لخفض وعي العمال بدورهم وقدرتهم على التغيير الثوري الواعي للمجتمع. وفي حالة الفشل، نتيجة اختلال ميزان القوى أو أي سبب آخر، يؤدي هذا إلى هزيمة رهيبة وتعزيز لجهاز القمع وليس إضعافه، وبذلك دفع الحركة الجماهيرية للوراء.
يمكننا أن نجد كثيرًا من التشابهات بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والحركة الناردونية في روسيا في القرن التاسع عشر. حيث نجد في الحالتين خطابًا ثوريًا استطاع أن يجذب طليعة الشباب الثوري المناضل الذي يريد أن يجد حلًا “الآن”، وميراث طويل من التضحيات المهولة، كما شجاعة منقطعة النظير، وجذوة مقاومة مشتعلة ودماء أريقت بإيمان عميق بالنصر.
لقد لجأت الجبهة الشعبية لنفس التكتيكات بنفس العقلية والدوافع، إنها الرغبة في العثور على طرق مختصرة لاستنهاض الجماهير، وهذا عن طريق القنابل والرصاص، بالإضافة إلى خطف الطائرات بالطبع.
ومن أجل ذلك تم تشكيل فرق المقاتلين في معسكرات دول الجوار، كانت أول نتائجها أن جعلت الجبهة الشعبية رهينة بسياسات تلك الدول: عراق وسوريا البعث وليبيا القذافي وغيرهم، يعلو نجم الجبهة عندما ترضى عنها تلك الأنظمة ويخبو عندما تغضب عليها. وهذا نتاج السياسة الاستبدالية للجبهة، أنها وضعت نفسها بدلًا من الحركة الجماهيرية. ومع الوقت تم تقزيم دور الجماهير في نظر الجبهة الشعبية لمجرد داعمين للمقاتلين، وليس هم القوة الأساسية والوحيدة القادرة على تغيير المجتمع كما يرى الماركسيون الحقيقيون “أن تحرر الجماهير هو بفعل الجماهير نفسها” كما قال ماركس.
بالإضافة إلى أن نتيجة بقايا النظرة القومية في الجبهة الشعبية جعلتهم يراهنون على الأنظمة العربية “التقدمية” و”الوعي العروبي”، ويُعد ما يُسمى “محور الممانعة والمقاومة” اليوم، الذي تسير خلفه الجبهة هو امتداد لنفس السياسات والرهانات.
ويستطيع المرء أن يجد في كل كتابات الجبهة، بما فيها البرنامج السياسي الصادر في عام 2022 [10]، النكهة القومية “العروبية” التي تغطي على التناقضات الطبقية الداخلية في بلدان المنطقة وفلسطين، وهو ما جعل الجبهة الشعبية تتذيل فتح في فترة وحماس والجهاد في فترة أخرى، والأنظمة العربية المختلفة.
إن كل هذا نتاج خطأ الجبهة النظري الأساسي الذي لا يرى أن التحرر الوطني الفلسطيني مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتحول الاشتراكي في المنطقة، أي يتبعون صورة أخرى لما تسمى بنظرية الثورة على مرحلتين، وهي نظرية ستالينية أدت لهزيمة عشرات الثورات. وبالتالي هذا دفع الجبهة للدخول في تحالفات سياسية مع ما تسميه البرجوازية “التقدمية” و”الوطنية” بحجة أن الهدف الحالي هو هدف التحرر الوطني وليس الثورة الاشتراكية.
لقد تذيلت الجبهة البرجوازية لأنه لا بديل آخر أمامها بعد أن أسقطت الطبقة العاملة في فلسطين والمنطقة من حساباتها، لا سواء كانت تلك البرجوازية قومية (مثل أنظمة “التحرر الوطني” وفتح في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بل وحتى نظام بشار الأسد حتى الآن [11]) أو برجوازية إسلامية (مثل حماس والجهاد وحزب الله وإيران حاليًا)، وهو ما يجلب على الجبهة دائمًا الخسائر تلو الخسائر.
إنها سياسة تعاون طبقي لا تؤدي إلى شيء سوى الهزيمة. هذا بدلًا من الالتزام بالسياسة الماركسية اللينينية الحقيقية القائمة بشكل أساسي ومبدئي على الاستقلال السياسي للطبقة العاملة. لم يدرك قادة الجبهة الشعبية أنه لا حلول للقضية الفلسطينية في ظل النظام الرأسمالي وداخل الحدود القومية الضيقة لفلسطين التاريخية، بل الحل يتطلب تغييرًا ثوريًا إقليميًا يتمد لفلسطين.
ورغم العديد من الشعارات والمقالات الخاصة بالجبهة وقادتها التي كانت تتحدث عن الاستعمار والرأسمالية وضرورة ربط النضال الفلسطيني بنضال جماهير المنطقة لكن لم يكن في منظورهم أي تصور حقيقي لكيفية حدوث ذلك، بخلاف الشعارات. الحقيقية إنها كانت تراهن بضيق أفق على ضغط جماهير المنطقة لكي تسمح الحكومات للجبهة باستخدام أراضيها منصة انطلاق للهجمات على إسرائيل، أو دخول تلك الأنظمة في حرب ضد إسرائيل مثلما حدث من قبل ليس أكثر، وليس بوصفها مشروعا ثوريًا إقليميًا وأمميًا واحدًا. كما لم تعمل على الارتباط بجماهير المنطقة في البلدان المتواجدة فيها، وهو ما كان دائمًا يجلب للحركة الفلسطينية غضب الأنظمة دون ارتباط الجماهير بالنضال الفلسطيني ارتباطًا نشطًا.
وهذا ما ظهر في مجزرة أيلول/سبتمبر الأسود عام 1970 في الأردن، التي حدثت بعد خطف الجبهة الشعبية لثلاث طائرات مدنية غربية وإجبارها على الهبوط في الأردن، ثم تفجيرها لاحقًا. إن هذه العملية العسكرية التي كانت تهدف إلى إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية وبعض السجون الغربية مقابل المدنيين على الثلاث طائرات أدت إلى اصطدام المقاومة الفلسطينية بالنظام الملكي الأردني الذي كان يخشى الصدام مع إسرائيل نتيجة استخدام المقاومين الأراضي الأردنية نقطة انطلاق لعملياتهم ضد إسرائيل، كما كان يخشى في نفس الوقت من تنامي المزاج الثوري بين الجماهير في الأردن المتأثرة بالمقاومة الفلسطينية.
لقد استغلت الملكية الأردنية العميلة تلك العملية العسكرية لتصفية وجود الحركة الفلسطينية في الأردن، ونتيجة عدة أخطاء ارتكبتها الفصائل الفلسطينية نجح الملك في استغلالها لحشد قطاعات متعددة من المجتمع الأردني ضد المقاومة، خصوصًا القطاعات الأكثر تخلفًا. لقد ذُبح خلال تلك المذبحة آلاف الفلسطينيين، وكان في قدرة الجبهة الشعبية والحركة الفلسطينية أن تُسقط الملكية الأردنية بالتواصل مع الطبقة العاملة والجماهير الأردنية، التي يشكل الفلسطينيون جزءً وازنًا منها بالفعل.
لكن هذا لم يحدث، واختارت الجبهة الشعبية، متبعة في ذلك فتح ومنظمة التحرير، عدم الدخول في صدام مباشر مع الملكية الأردنية الهاشمية تحت دعوى “عدم التدخل في سياسة دول الجوار” و”عدم ضرب الأشقاء”، وهي سياسة انتهجتها كل الحركة الوطنية الفلسطينية طوال تاريخها.
وهكذا ولدت الجبهة الشعبية ميتة لأنها تخلت عن النظرية الماركسية، ولم تؤسس نفسها على أساس الصراع الطبقي لا سواء في فلسطين أو في بلدان المنطقة المختلفة، ولم تر وتثق أن الحركة الجماهيرية -التي لها منطقها الخاص الذي يجب فهمه- قادرة على إسقاط الاحتلال وتغيير المجتمع، إن توفرت على القيادة الثورية.
وبدلًا من ذلك استبدلت الجبهة الشعبية الحركة الجماهيرية بنفسها وانفصلت عنها فتم حصارها، وفي ظل اعتماد السلاح كسياسة وحيدة تم اغتيال مناضليها وقادتها وتم أسر شبابها وكوادرها، كما خانتها حكومات المنطقة التي كانت توفر لها المأوى والتمويل والحماية. فبدون الاعتماد والاستناد على النظرية الماركسية الصحيحة لم تستطع الجبهة الشعبية الإبحار عبر أمواج تعقيدات الصراع الطبقي، والتي هي شديدة التعقيد في المنطقة.
فوصلت لطريق مسدود حتى اضمحلت تمامًا، وأصبحت مجرد ظل شاحب لما كانت عليه في الماضي “المجيد”، لدرجة أنها تخلت عن النضال من أجل الاشتراكية حتى ولو بالكلمات فقط. بالرغم من كل هذا، ما زالت الجبهة الشعبية تضم بين صفوفها العديد من الشباب الثوري المناضل، لا سواء في غزة أو الضفة الغربية أو الداخل أو المخيمات، وما زال هؤلاء الشباب الثوري يناضلون ضد الاحتلال ومن أجل الحرية، ويدفعون أرواحهم ثمن ذلك النضال، والذين يُجرى إهدار طاقاتهم وإمكاناتهم ودمائهم بسبب نفس الخط السياسي التاريخي للجبهة، الذي أصبح الآن أكثر شحوبًا وتذيلًا من ذي قبل.
لقد أهدرت أجيال كاملة في منطقتنا أعمارها وطاقاتها بحثًا عن طرق مختصرة، وخسرنا في ذلك الطريق وتلك التكتيكات خيرة شباب وطليعة فلسطين والمنطقة.
طبيعة المجتمع الإسرائيلي وسيرورة بناءه
من الضروري إن كنا نود فعلًا أن نقدم حلًا حقيقيًا وقابلًا للتنفيذ للقضية الفلسطينية أن نفهم المجتمع الإسرائيلي وسيرورة بنائه. إن اليهودية ديانة وليست قومية، والقادة الصهاينة كانوا مدركين لذلك، ولهذا احتاجوا لرابط قوي ويبدو منطقيًا لربط اليهود المتناثرين حول العالم المختلفين الشخصيات والخلفيات الطبقية والأفكار والثقافات والأهداف والمشارب في مشروع واحد، ولهذا لجئوا إلى اليوتوبيا الرجعية المتمثلة في العودة إلى “أرض الميعاد”. وخلف تلك الدعاية الدينية الرجعية تقف مصالح الرأسمالية الصهيونية.
وفي البداية لم تكن لهذه الدعاية الصهيونية الرجعية إلا تأثيرًا محدودًا للغاية بين اليهود الذين كانوا جزءً من مجتمعاتهم الأصلية في البلدان المختلفة. إن ما أوجد الأساس الحقيقي لإنشاء إسرائيل هو الاضطهاد المزمن لليهود في أوروبا الذي انتهى بالمحرقة النازية، التي وفرت بدورها الحجة السياسية والقوة البشرية المكونة من مئات الآلاف من اليهود الذين يبحثون عن مكان “آمن” للعيش فيه بعد الحرب العالمية الثانية. نستطيع أن نقول إن إنشاء دولة إسرائيل واحتلال فلسطين كانوا نتيجة غير مباشرة لهزيمة الثورة الألمانية وانتصار النازية الذي جاء على جثتها.
وتقاطع هذا مع مصالح الإمبريالية بشكل عام، والإمبريالية الأمريكية على وجه الخصوص التي رأت في إنشاء إسرائيل إمكانية وجود نظام تابع لها في الشرق الأوسط غير المستقر للغاية، في مواجهة الاتحاد السوفيتي والإمبريالية البريطانية المتداعية، خصوصًا مع تعزز أهمية الشرق الأوسط للإمبريالية بشكل عام بسبب احتياطياته النفطية.
لقد قدمت بريطانيا والولايات المتحدة، القوى الإمبريالية المهيمنة حينها، دعمًا اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا للنظام الإسرائيلي بشكل متزايد كحصن منيع ضد الثورة في المنطقة. حيث أصبحت إسرائيل أكبر متلقٍ للمساعدات من أي دولة في العالم. إن المساعدات من أمريكا والتعويضات الألمانية وحدهما، بالإضافة إلى الإعانات المقدمة من اليهود الأغنياء من خارج إسرائيل، حولوا إسرائيل في سنوات قليلة إلى القوة الأقوى اقتصاديًا وعسكريًا في المنطقة.
إرساء دعائم الرأسمالية الإسرائيلية
لقد بُنيت الرأسمالية في إسرائيل في ظروف شديدة التعقيد والاستثنائية. لم يكن هناك في البداية برجوازية إسرائيلية ولا طبقة عاملة، ولا حتى إحساس قومي مشترك بين اليهود الذين قدموا من مختلف أرجاء العالم حديثًا إلى فلسطين واستوطنوا فيها. وهنا لعب جهاز الدولة الإسرائيلي المنشأ حديثًا الدور الريادي في إنشاء المجتمع الإسرائيلي. ذلك الجهاز الذي بُني بشكل كامل على أكتاف حاملي السلاح والعصابات الصهيونية التي شكلت قلب الجيش الإسرائيلي.
وبعد النكبة والتهجير القسري للفلسطينيين في عام 1947-1948 والإعلان عن قيام دولة إسرائيل كانت الطبقة السائدة الإسرائيلية الوليدة بحاجة إلى تشكيل طبقة عاملة كبيرة جديدة. وسرعان ما أدركوا أن هذه القاعدة الكبيرة من الطبقة العاملة يمكن تشكيلها من اليهود الذين نجوا من معسكرات الموت النازية في أوروبا. وهكذا شجعت الدولة الإسرائيلية الهجرة غير المقيدة في عام 1950، لقلب التفوق الديموغرافي لمصلحة الإسرائيليين، خصوصًا بإصدار قانون “أملاك الغائبين” سيء الذكر والأثر [12].
لقد جاء مئات الآلاف من المهاجرين إلى إسرائيل خلال العقد التالي، بما في ذلك حوالي 300 ألف يهودي من شمال أفريقيا والشرق الأوسط في الدفعة الأولى، والذين تم التعامل معهم كيهود درجة ثانية في إسرائيل. كان هؤلاء هم اليهود الذين بدؤوا يعانون الاضطهاد في البلدان العربية نتيجة إعلان قيام دولة إسرائيل، وتكثف ذلك الاضطهاد بعد النكسة عام 1967.
وهذا يتحمل مسؤوليته الأنظمة العربية “القومية” التي كانت تبحث عن كبش فداء لتحميله مسؤولية هزيمتها في حرب 1948 ثم في حرب 1967، بجانب المنظمات والأحزاب الإسلامية الرجعية، مثل الإخوان المسلمين، التي خلطت وساوت بين اليهودية والصهيونية، كما الأحزاب الشيوعية العربية التي لم تتصدى لتلك الرجعية المزدوجة. إن هذا ضاعف فعليًا عدد سكان إسرائيل بشكل مطرد في سنوات قليلة.
كانت السمتان البارزتان للاقتصاد الإسرائيلي خلال هذه الحقبة هما المعدلات المرتفعة للنمو السكاني، بسبب الهجرة الجماعية لليهود من أوروبا والشرق الأوسط، والنمو السريع للناتج القومي الإجمالي الذي كان الاقتصاد الإسرائيلي قادرًا على تحقيقه نتيجة دعم الإمبريالية السخي وغير المحدود، بمعدل سنوي متوسط قدره 10.4% بين عامي 1948-1972. لقد كانت الفترة منذ إعلان دولة إسرائيل وحتى أوائل ومنتصف سبعينيات القرن الماضي مرحلة فاصلة في إرساء دعائم الرأسمالية والدولة القومية الإسرائيلية، وإيذانًا بترسيخ وجود إسرائيل في المنطقة بصفتها حقيقة واقعة.
لم تكن مهمة إنشاء الرأسمالية الإسرائيلية، وبذلك الطبقة العاملة الإسرائيلية والمجتمع كله، سهلة إطلاقًا. فلقد كانت مهمة تكوين طبقة عاملة جديدة في إسرائيل تتجاوز قدرة الطبقة البرجوازية التي كانت ما تزال صغيرة الحجم. لقد كان على الطبقة السائدة أن تتعامل مع استيعاب الهجرة الجماعية، ونظرًا لنقص رأس المال لم تكن تلك الطبقة الصغيرة والحديثة وذات العظام الهشة قادرة حتى على توفير الطعام أو الملابس أو المأوى أو العمل لهؤلاء المهاجرين الذين ظلوا يتوافدون باستمرار. وهنا وقعت مهمة التعامل مع تلك المشاكل على عاتق قطاع الدولة من الاقتصاد.
ومن المفارقات في مسألة إنشاء الرأسمالية في إسرائيل، إن الحركة العمالية ومنظماتها (حزب العمل والهستدروت بشكل أساسي) هي التي وفرت أساسًا متينًا لبناء الاقتصاد الإسرائيلي. حيث لم يكن الهستدروت، وهو الاتحاد النقابي الإسرائيلي، مجرد نقابة في البداية على الأقل. لقد كان في كثير من الحالات مالكًا لشركات تقدم العديد من الخدمات المختلفة، والمشغل الرئيسي في إسرائيل بعد الدولة لفترة طويلة. وبسرعة أصبح إحدى أقوى المؤسسات في إسرائيل، جنبًا إلى جنب مع الدولة والوكالة اليهودية.
باختصار، كانت الدولة هي القوة الدافعة للرأسمالية في إسرائيل. هذا وضع لم يكن له علاقة بـ”الاشتراكية الإسرائيلية” وكل الترهات التي كانت منتشرة في بعض الأوقات في الاتحاد السوفيتي الستاليني أو في بعض الدوائر اليسارية في الغرب الناتجة عن هيمنة الدولة على الاقتصاد، والتي كان يروج لها قادة الهستدروت أنفسهم بشكل خاص عن طريق الكيبوتسات (التعاونيات الزراعية اليهودية) التي لعبت دورًا أساسيًا في إنشاء إسرائيل، وإنما كان وضع مشابه إلى حد بعيد لسيرورة بناء الرأسمالية في مصر في العهد الناصري، وهو رأسمالية الدولة.
لقد كانت مرحلة النمو الاقتصادي الإسرائيلي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين هي التي وضعت الأساس المادي لإرساء دعائم الوعي القومي الإسرائيلي. فقدرة الدولة الصهيونية على توفير مستوى معيشة لجماهيرها أعلى من جماهير بقية دول المنطقة وانتصارها في عدة حروب متتالية جعل الجماهير الإسرائيلية مستعدة للدفاع عن تلك المكاسب بأي ثمن، خصوصًا عندما تتعرض لتهديد خارجي يضرب على وتر الخوف من الإبادة المتجذر في وعي اليهود في إسرائيل.
وتماشيًا مع بقية العالم الرأسمالي، بجانب طبعًا عوامل الإجهاد الحربي، واجهت إسرائيل أزمة اقتصادية من بعد حرب أكتوبر 1973 واستمرت حتى منتصف الثمانينيات. على عكس المرحلة الأولى فقد انخفض حينها نمو الناتج القومي الإجمالي بين عامي 1973 و1985 إلى حوالي 2% سنويًا، مع عدم وجود زيادة حقيقية في نصيب الفرد من الإنتاج. في الوقت نفسه خرج معدل التضخم عن السيطرة ووصل إلى 445% عام 1984. وقد تخللت هاتان المرحلتان ثلاث أزمات في أعوام 1975 و1983 و1984 حيث واجهت إسرائيل صعوبات جمة في موازنة سداد العجز. كان هذا إعلانًا عن وصول مشروع رأسمالية الدولة في إسرائيل إلى حدوده، ذلك المشروع الذي كان يديره حزب العمل والهستدروت، أي ما يسمى بـ”اليسار” الصهيوني.
لقد وضعت الحكومة الإسرائيلية المنتخبة حديثًا حينها بقيادة حزب الليكود اليميني الذي فاز في الانتخابات في يوليو 1985 برنامج طوارئ للسيطرة على الأزمة الاقتصادية، وبدأ التحول إلى ما يُسمى “الاقتصاد الحر”، وهو النظام الرأسمالي بوضعه الطبيعي. منذ حينها استمر الانتقال إلى الرأسمالية الاحتكارية بأقصى سرعة وفُتحت الأبواب أمام التجارة العالمية وخصخصة مختلف الشركات والمؤسسات المالية المملوكة للدولة.
حول الطبقة العاملة الإسرائيلية ومثالية “اليسار العربي”
الآن أصبح الوضع مختلفًا في إسرائيل. إن هناك طبقة برجوازية إسرائيلية راسخة، في وضع مشابه بشكل كبير لوضع رعاتها الدوليين في الغرب. إن المثال الإسرائيلي هو مثال غريب وغير تقليدي واستثنائي للغاية لإنشاء الرأسمالية، وكان طريقا محفوفًا بالمخاطر حقًا.
لكن الوجه الآخر للعملة هو حقيقة أنه من أجل خلق مثل هذه الرأسمالية المتقدمة كان من الضروري أيضًا خلق طبقة عاملة إسرائيلية. ففي نهاية المطاف إسرائيل ليست الفردوس على الأرض، ولا الملاذ الآمن لجميع اليهود، وبالطبع ليست “أرض الميعاد” التي كتبها الله لليهود، وإنما هي مجتمع رأسمالي يحمل تناقضاته وله سيرورة حركته، والتي تتأثر بالطبع بالأحداث في المنطقة والعالم.
إن الاعتقاد الذي شاع وما زال للأسف بين الأحزاب والمنظمات “الشيوعية” في المنطقة والعُصب اليسارية الأخرى حول أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع متناسق ومتحاب ولا يحمل تناقضات طبقية هو اعتقاد خاطئ وغير مادي، وإنما مبني على الانطباعات العاطفية، وكما قال انجلز واصفًا النزعات القومية في الحركة الإيرلندية: “بالنسبة لهؤلاء النبلاء فإن الحركة العمالية برمتها بدعة محضة”.
وللأسف فإن هؤلاء “المثقفون” للغاية يقفون بهذا التحليل في صف الدولة الصهيونية التي تدعي الاستثناء التاريخي لإسرائيل والإسرائيليين، كما تدعي أن لجميع اليهود نفس المصالح بغض النظر عن انقساماتهم ومصالحهم الطبقية المتناقضة.
كما رأينا فإن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع رأسمالي تم بناؤه في ظروف شديدة التعقيد والاستثنائية على الحجة الكاذبة المتمحورة حول المصالح الموحدة للشعب اليهودي التي تتجاوز المصالح الطبقية، ومن أجل الحفاظ على هيمنة الرأسمالية الإسرائيلية على المجتمع وكبح التناقضات الداخلية وتطور الصراع الطبقي فيه يُجرى تعميم حالة العسكرة الدائمة وخلق حروب دائمة وتغذية عقلية القلعة المحاصرة لخلق حالة اصطفاف دائم داخل المجتمع على أسس قومية ودينية.
نحن نعتقد عكس ما يعتقده أغلبية يسار المنطقة إن لم يكن جله إن لم يكن كله. إننا نر أن هناك طبقة عاملة وصراع طبقي في إسرائيل، وإن المصالح الطبقية لهذه الطبقة يمكن أن توفر أرضية للنضال المشترك مع الجماهير الفلسطينية وجماهير المنطقة في المستقبل، في ظروف معينة ومع درجة تطور سياسي معين ليس بناءً على مستوى تطور الطبقة العاملة الإسرائيلية حاليًا بالطبع.
بالمناسبة إن هذا هو الخطر الأكبر على الدولة الصهيونية. وهو ما يدركه القادة الصهاينة أنفسهم، ولهذا عملوا تاريخيًا على فصل العمال اليهود الإسرائيليين عن العمال الفلسطينيين حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل، وجعلوا العضوية في الهستدروت حصرية على العمال اليهود لإداركهم خطورة النضال المشترك للعمال الفلسطينيين والإسرائيليين على مشروعهم الصهيوني ودولتهم.
صحيح كما هو بادٍ للعيان إن الأيديولوجية الصهيونية مسيطرة على الطبقة العاملة الإسرائيلية، وهذا ما يجعل الانطباعيين قصيري النفس والنظر يظنون أن هذا الوضع سوف يستمر أبد الدهر. لكن هكذا هو حال كل المجتمعات الطبقية في كل مكان وزمان. لكن بالنسبة لنا نحن الماركسيون هذا ليس مستغربًا، فالأيديولوجية السائدة في أي مجتمع هي أيديولوجية الطبقة السائدة، التي هي طبقة صهيونية في تلك الحالة، وتزرعها تلك الطبقة في أذهان الجماهير في المدارس والجامعات وقنوات التلفزيون ودور العبادة…إلخ. ولفترات طويلة تبدو الطبقة السائدة وأيديولوجيتها راسخة ومسلمًا بها من جانب الجماهير، لكن التناقضات الطبقية والمجتمعية تتراكم تحت السطح إلى أن تصل للنقطة الحرجة التي تتعارض فيها مع الوضع الراهن. ونفس السيرورة تنطبق على المجتمع الإسرائيلي، كما كل المجتمعات الأخرى، حتى وإن كان يبدو اليوم عكس ذلك.
والزاوية الثانية من التصورات المثالية لليسار هي زاوية رؤية الإسرائيليين لأنفسهم. إن الانطلاق من حقيقة أن قطاعًا كبيرًا من المجتمع الإسرائيلي ينظرون لأنفسهم أنهم متفوقون إثنيًا أو قوميًا أو دينيًا وأنهم يعرفون أنفسهم طبقًا للانتماء القومي أو الإثني وليس الطبقي للوصول لاستنتاج مفاده الجزم باستحالة توفر الظروف للنضال المشترك في المستقبل هو أساس مثالي بحت لا علاقة له بالمادية الجدلية نهائيًا، التي هي أول قواعدها أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي وليس العكس.
فقد يظن الإنسان في نفسه أنه تعبير عن الإنسان الأعلى ويتجول ليقتل الناس يمينًا ويسارًا، يضطهدهم ويقمعهم طيلة فترة تاريخية كاملة، لكن هذا لا يعني أنه ينتمي فعلًا للجنس الآري أو شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس، وسوف يخضع في النهاية لسيرورة النظام الاجتماعي الكلي طال الزمن أو قصُر.
ثم تأتي فكرة إن الطبقة العاملة الإسرائيلية استفادت من الاحتلال ومن ثم من المستحيل أن تُوجد تناقضات طبقية حادة داخل المجتمع الإسرائيلي، وبالرغم من صحة هذه الفكرة على المستوى العيني ولكنها خاطئة في جوهرها لأنها تغفل طبيعة النظام الرأسمالي وأزماته.
كما إننا بنفس المنطق نستطيع أن نحاكم الطبقة العاملة في البلدان الإمبريالية الغربية التي استفادت على المستوى العيني ولفترة من الزمن من النهب الإمبريالي للبلدان المتخلفة والتابعة، تلك الدول التي غزت عسكريا واقتصاديا بلدان أخرى، لكن هذا لا يغير من حقيقة إننا نراهن على سيرورة الصراع الطبقي في الغرب وعلى الطبقة العاملة، تلك الطبقة العاملة في الغرب التي كان وما زال يُرسل منها جنود لغزو بلدان أخرى حتى اليوم، بخلاف الهيمنة الاقتصادية، ومع ذلك نراهن على الطبقة العاملة الأمريكية والإنجليزية وغيرهم من الدول الإمبريالية.
بالطبع هناك اختلافات بين المجتمعات المختلفة، لكن في النهاية تحليلنا ينبني على راهننا على الطبقة العاملة في كل المجتمعات. قد تتغير تكتيكات الشيوعيين والطبقة العاملة من بلد لآخر نتيجة البنية الفوقية (أفكار وحقل سياسي وثقافة عامة وخبرات مشتركة وانطباعات…إلخ)، لكن التحليل الطبقي المادي يوصلنا إن الهدف هو استيلاء الطبقة العاملة على السلطة.
إننا نعتقد أن كون المجتمع رأسمالي هذا سبب وجيه وحجة كافية لجعل الماركسيين يراهنون على الطبقة العاملة إن امتلكت الوعي الطبقي والأممي، وهذا رهين بسيرورة الصراع الطبقي من جانب ووجود حزب شيوعي ثوري من جانب آخر، وهذه هي مهمة الشيوعيين الثوريين.
إن ما ساعد في إشاعة وتفاقم تلك التصورات المثالية في يسار وجماهير المنطقة حول المجتمع الإسرائيلي ليس فقط قدرة الدولة الصهيونية على احتواء الصراع الطبقي بالعسكرة والتنازلات لمدة طويلة، ولكن أيضًا عدم بروز صوت ماركسي أممي قوي من داخل إسرائيل، وخيانة اليساريين الإسرائيليين في حزب العمل، أو ما يُسمى بـ”اليسار الصهيوني”، وهو ليس أكثر من جناح “يساري” للطبقة السائدة الصهيونية يُخضع المصالح الطبقية للطبقة العاملة للمصالح الصهيونية داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل، بالإضافة إلى خيانة قادة المنظمات العمالية في الهستدروت، وهم كانوا صهاينة أقحاح طوال تاريخهم، وحتى كثيرًا ما وقفوا ضد التحركات العمالية للعمال اليهود الإسرائيليين أنفسهم عندما تعارضت مع مصالح الطبقة السائدة.
إن هذا “اليسار” الصهيوني مسؤول مسؤولية مباشرة عن الإحتلال واضطهاد وقمع الفلسطينيين، مثله مثل اليمين الصهيوني تمامًا، هذا إن لم يكن أكثر مسؤولية منه، حيث إننا نستطيع أن نقول إن “اليسار” الصهيوني كان في العقود الأولى على الأقل هو العمود الفقري للمشروع الصهيوني برمته.
بالإضافة إلى ضعف اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل، وهذا لأنه يسار إصلاحي في مجمله لا يتبنى سياسة طبقية وثورية تهدف لإسقاط الطبقة السائدة الصهيونية، وإنما طوال فترات تاريخية كاملة دفع ذلك اليسار من أجل مطالب إصلاحية وديمقراطية مجردة مثل: “الديمقراطية للجميع” أو “أطفال غزة وبئر السبع يريدون الحياة”…إلخ، وهي كلها مطالب مهمة بالطبع يجب النضال من أجلها لكن يجب أن ترتبط ببرنامج ثوري لإسقاط الدولة الصهيونية وتغيير المجتمع.
يمثل اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل طيفًا واسعًا من الأفكار: من الستالينية والأناركية، مرورًا بالاصلاحية، ووصولًا لتمجيد القومية العربية في مواجهة الصهيونية، وهو تصور نابع من عقدة الذنب في أغلبه.
بالإضافة إلى العديد من المجموعات الصغيرة التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر، وبعضها انصرف بالفعل عن العمل الثوري والسياسة الماركسية الحقيقية ليذهب إلى الحقل “الحقوقي” وجمعيات “رفع الوعي” و”التعايش” و”رفض التجنيد” دون خطاب وبرنامج ثوري، بل اعتمادًا على الدوافع الإنسانية في الغالب. وقد كان وما زال بعض هؤلاء منخرطين في نضالات “يومية” مشرفة تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني لكن مع التخلي بشكل عام عن منظور الثورة، لا سواء داخل إسرائيل أو في الشرق الأوسط.
لقد انتهى الحال بذلك اليسار المعادي للصهيونية والهامشي إلى طريق مسدود دون ربط المطالب الديمقراطية ببرنامج يتحدى مصالح الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية ودولتها الصهيونية. لأن محاولة إقناع الطبقة السائدة الإسرائيلية بتلك المطالب ومحاولة خلق رأسمالية أكثر إنسانية هو وهم. إن الاحتلال والقمع والاضطهاد والحروب والاستغلال ليست نتائج عرضية متعلقة ببعض الأشخاص الأشرار في السلطة الصهيونية ولكنها تعبير وحشي عن مصالح الطبقة السائدة الإسرائيلية.
القادم في إسرائيل يختلف عما مضى
إن الوضع الحالي للمجتمع الإسرائيلي مختلف تمامًا ويعيش استقطابًا حادًا، ويحمل في طياته كثيرًا من التناقضات الطبقية، والتي تعبر عن نفسها أحيانًا في شكل تناقضات فكرية وأزمات سياسية، ويحمل أيضًا انفجارات مستقبلية. وتحت وقع الأزمة الرأسمالية الحالية سوف تضطر الطبقة السائدة في إسرائيل لشن مزيد من الهجمات على مستوى معيشة الجماهير هناك، الذي بدأ ينخفض أصلًا. وهنا سوف تبرز كل التناقضات التي ظلت مختفية طيلة حقبة تاريخية كاملة إلى السطح، وبدأت فعلًا تصعد للسطح.
وأعتقد أن بعض الأرقام ستكون مفيدة في هذا الصدد: إن إسرائيل الآن لم تعد تلك الدولة التي تتكون بشكل رئيسي من المهاجرين حديثًا مثل الماضي، برغم أن المهاجرين الحديثين ما يزالون يشكلون جزءً وزانًا من المجتمع الإسرائيلي وما زالت سياسة الهجرة اليهودية والاستيطان المستمر في الضفة الغربية سياسة مركزية بالنسبة للدولة الصهيونية، لكن انقلبت الكفة عن الماضي، حيث إن أكثر من 75% من اليهود الموجودين في إسرائيل اليوم ولدوا فيها، وأكثر من نصف الإسرائيليين هم أبناء لأحد أبوين على الأقل مولود في إسرائيل [13]، هذا بجانب غلبة اللغة العبرية على المجتمع وليس اللغات الأصلية للأجداد التي بدأ العديد في الأجيال الجديدة في عدم تعلمها من الأساس.
هذا يعني إننا نتحدث الآن عن قومية لها سمات مشتركة ولغة مشتركة وأرض مشتركة وتاريخ مشترك مرتبط بالأرض، حتى وإن كانت أرض مسروقة وتاريخًا قصيرًا نسبيًا. الواقع أن هناك الآن مجتمعًا إسرائيليًا له ديناميكيته وسيرورة حركته التي يجب فهمها والتعاطي معها.
ويعيش أكثر من 20% من الإسرائيليين في ظل الفقر [14]، أي حوالي 2 مليون شخص، وخُمس الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر بالفعل، حيث يُجبر العديد من كبار السن على الاختيار بين الدواء والغذاء. وهناك 1 من كل 5 إسرائيليين [15] يواجه صعوبات كبيرة في تحمل نفقات المعيشة، أي 26% من السكان، بجانب أن 30% من السكان “يشعرون” أنهم فقراء. إن هذه الأرقام تتزايد في أوساط فلسطينيي الداخل بالطبع نتيجة التمييز والاضطهاد الممنهج الممارس ضدهم. هذا في الوقت الذي فيه 77% [16] من الـ500 شخص الأغنى في إسرائيل هم من أصحاب المليارات. كل هذا بدون التأثيرات الاقتصادية التي لم تظهر بعد بشكل كامل للحرب المستمرة حتى الآن، حيث تعرض الاقتصاد الإسرائيلي لضربة قوية، خصوصًا في مجالي البناء والزراعة. إن إسرائيل فعلًا من أكثر البلدان لا مساواة في العالم.
إن هذا هو الأساس المادي الذي يجب أن يراهن عليه ويعمل من أجله التيار الماركسي، الذي يجب أن يعمل على خلق جسر طبقي يربط العمال والفقراء الفلسطينيين بالعمال والفقراء الإسرائيليين في نضال مشترك من أجل إسقاط الدولة الصهيونية الرأسمالية. قد يبدو هذا سيناريو مستبعدًا حاليًا نتيجة الأحداث المتسارعة ونيران الحرب التي لا تهدأ، والتي نقف فيها دائمًا إلى جانب الشعب الفلسطيني ضد الدولة الصهيونية، لكن يجب أن تظل الاستراتيجية الطبقية والأممية هي استراتيجية أي تيار ماركسي حقيقي في فلسطين/إسرائيل.
إن الأزمة الرأسمالية تضرب إسرائيل بالفعل، وسوف تضربها أكثر في المستقبل القريب، وما يساعد الطبقة السائدة الصهيونية على لجم الصراع الطبقي الداخلي ليس الاستثناء الإسرائيلي ولا الرابطة اليهودية المقدسة وإنما نيران الحرب التي يشعلونها بين الفينة والأخرى ويستفيدون منها، بجانب دعم الإمبريالية الدائم لهم. ولكن مع ضرب الأزمة لكل أركان الكوكب، بما في ذلك في الدول الإمبريالية التي تدعم إسرائيل، وانفتاح آفاق التطورات الثورية في البلدان الغربية مجددًا بعد عقود من الخمول أصبح من الواضح أن المستقبل سيكون مليئًا بالمفاجآت غير السارة للصهاينة.
هذا بجانب التطورات الثورية في الشرق الأوسط المشتعل، التي بالطبيعة يتأثر بها الداخل الإسرائيلي. وكما قلنا في البداية فإن حل القضية الفلسطينية يعتمد بشكل كبير على السيرورة الثورية في المنطقة والعالم. إن انتصار ثورة اشتراكية في إحدى بلدان المنطقة، بشكل خاص البلدان الرئيسية والمفاتيح الثلاث (مصر وتركيا وإيران)، سوف يسرع تلك السيرورة، حيث سيكون لها تأثير مهول على المجتمع الإسرائيلي نفسه، ونضع هذا في صلب استراتيجيتنا لحل القضية الفلسطينية، ووسيلة أساسية للتأثير في المجتمع الإسرائيلي.
ورأينا بالفعل النذر القليل من ذلك التأثير في الموجة الثورية عام 2011 التي تأثر بها المجتمع الإسرائيلي [17]، وخرجت مظاهرات في شوارع تل أبيب تهتف “مبارك، الأسد، بيبي نتنياهو” [18] و”امشي أو ناضل مثل مصري”، وترفع نفس شعار الثورة المصرية “ارحل” ولكن هذه المرة ضد نتنياهو، فلنا أن نتخيل حجم تأثير ثورة اشتراكية ناجحة بخطاب أممي وثوري على المجتمع الإسرائيلي. إن الطبقة العاملة في مختلف بلدان الشرق الأوسط هي الطرف الوحيد الراغب والقادر فعلًا على مساعدة التحرر الوطني الفلسطيني.
قد ترد علينا بعض العُصب اليسارية بأن المظاهرات الإسرائيلية المناهضة للحكومة، سواء التي تمت في عام 2011 أو في عام 2023 وما بينهما، تحدث غالبًا بمعزل عن المطالبة بحقوق الفلسطينيين وتحدث من أجل مطالب إسرائيلية حصرًا، لذا فهي غير مهمة للنضال الفلسطيني كما يدعون!
لكن حتى لو اعتبرنا أن هذا هو حال تلك المظاهرات، وهو فعلًا صحيح بشكل أكبر في المظاهرات حول التعديل القضائي [19] بشكل خاص أكثر من مظاهرات 2011، حيث يسيطر على هذه المظاهرات الأخيرة الأحزاب الليبرالية الصهيونية واليسار الصهيوني. لكن برغم هذا فإن تلك طريقة مثالية للغاية في التفكير وغريب أن تصدر من أشخاص يدعون تبينهم للماركسية.
بالنسبة لنا هذا تطور مهم يجب الانتباه له. والأزمة حول قانون التعديل القضائي في إسرائيل كانت دليل على أن حدود المشروع الصهيوني بدأت تظهر ملامحه، مع وجود انشقاقات حادة بين الطبقة السائدة الإسرائيلية نفسها، وهذا بدوره سوف ينتقل بالتدريج إلى المجتمع بأسره من أعلاه إلى أسفله. إن التعبئة التي حدثت في شوارع إسرائيل علامة مهمة يجب الانتباه لها، حتى لو كانت الاحتجاجات ذات طابع رجعي عمومًا، وهي كذلك بالفعل. هذا على الرغم من وجود قطاع ضئيل فيها رفع شعارات مناهضة للاحتلال والمجزرة المنظمة التي نفذتها حينها عصابات المستوطنين الفاشيين في قرية حوارة في الضفة الغربية. تمامًا كما يجب الانتباه إلى التعبئة الأخيرة التي طالبت الحكومة الإسرائيلية بالموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار [20] الذي خربه نتنياهو مرارًا وتكرارًا، وهذه مسألة منقسم المجتمع الإسرائيلي حولها بشدة.
على أي حال، يجب على الشيوعيين الإسرائيليين والفلسطينيين الاشتباك مع الاحتجاجات الإسرائيلية بشكل عام وكشف نفاق الطبقة السائدة الإسرائيلية “الديمقراطي” وإجرامها، والعمل على تقسيمها على أساس طبقي عن طريق ربط القضايا الطبقية والسياسية في إسرائيل بالنضال الفلسطيني من أجل التحرر، ومشروع ثوري من أجل إسقاط الدولة الصهيونية.
نحن لسنا رومانسيين ومثاليين وندرك أن الوعي القومي الصهيوني متجذر وصعب الاختراق، لكننا ندرك في نفس الوقت أنه ليس مستحيل الاختراق. إن الوعي البشري بطبيعته محافظ ويتمسك بقوة بالأفكار والنظم المألوفة له، لكنه قابل للتغيير نتيجة تغيرات درامية في الواقع. ونضع نصب أعيننا حقيقة إن الطبقة العاملة في إسرائيل هي طبقة عاملة حديثة نسبيًا، وفي بداية سيرورة التعلم بوعي أممي وطبقي منخفض للغاية، ولذلك فهي تحتاج إلى وقت ودرجة عالية من ضغط الأزمة الرأسمالية كما ضغط الأحداث الثورية في المنطقة والعالم لكي تنهض لمساءلة النظام، وتستطيع أن تتخلص من هيمنة الأيديولوجية الصهيونية عليها لتصل بعدها إلى استنتاجات ثورية.
كنا نود لو كان هناك إمكانية لتسريع تلك السيرورة، ولكن للتاريخ منطقه الخاص ووتيرة حركته التي تحددها العديد من العوامل التي لا تسير وفق أهوائنا ولا يستطيع أحد أن يتحكم فيها.
ونرد على تلك العُصب كما رد لينين بازدراء على هذه التصورات الساذجة:
“كان من المتوقع أن تنتظم صفوف جيش في مكانٍ ويقول “نحن للدفاع عن الاشتراكية” وآخر تنتظم صفوفه في مكانٍ ثانٍ ويقول “نحن للدفاع عن الإمبريالية” وهكذا تكون الثورة الاجتماعية!!”
ما تطلبه وتتمناه العصب اليسارية والمثاليون أن تنتظم من اللاشيء صفوف جيش من الإسرائيليين يقولون: “نحن للدفاع عن الفلسطينيين” وآخر تنتظم صفوفه في مكانٍ ثانٍ ويقولون: “نحن للدفاع عن الصهيونية والإمبريالية الإسرائيلية” وهكذا ستتحرر فلسطين! لكن هذا التصور الساذج لا يمت للماركسية ولفهمها المادي للمجتمعات والوعي وطريقة تطورهما بأي صلة إطلاقًا.
إننا نرد على من يقول أو يرغب أو يتصور هذا رد لينين الذي كتبه في الفقرة التي تلتها في كتابه “حق الأمم في تقرير مصيرها” [21]:
“إن من يتصور ثورة اجتماعية نقية لن يعيش ليراها، إن مثل هذا الشخص يتحدث كثيرًا عن الثورة دون أن يفهم معناها.“
البديل الشيوعي
لقد حان الوقت للخروج منذ ذلك المأزق التاريخي الذي تعيش في ظله الجماهير الفلسطينية وتتجرع مرارته وتدفع ثمنه غاليًا. ولهذا يجب علينا طرح برنامج مغاير عن كل البرامج البرجوازية التي أثبتت فشلها، كما أنتجت واقعًا يكاد تبدو فيه كل الآمال متلاشية أمام الجماهير الفلسطينية بعد أن دُفعت من هزيمة لأخرى ومن نكبة لأخرى. لقد حان الوقت للخروج من ذلك الطريق المسدود الذي أضاع كثيرًا من الفرص المهمة وقضى على كثير من الشباب الفلسطيني البطل والشجاع.
يُقال لنا إننا يجب أن نقبل بقيادة البرجوازية بشكلها الإسلامي في حماس للنضال الفلسطيني لأنهم الفصيل الأكبر الذي يحمل السلاح في مواجهة الدولة الصهيونية الآن، تمامًا كما كان يُقال من قبل حول ضرورة قبول قيادة البرجوازية في شكلها القومي في فتح بنفس الحجة. ويُقال لنا أن نقد حماس الآن يساوي نقد النضال المسلح، ولكننا لا نقبل تلك المعادلة الابتزازية فنحن مع النضال المسلح للجماهير الفلسطينية، ونرى أن الحل لهزيمة الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الصهيوني على غزة والضفة ولبنان هو تنظيم الجماهير الجماهير وتسليحها ورفع وعيها بمهامها التاريخية، وليس تشكيل فرق مسلحة منعزلة عنها وذات مشروع برجوازي قاصر ورجعي، ومهمة الشيوعيين الفلسطينيين بالتحديد هي توفير ذلك البديل للجماهير.
لو كان هناك حزب ثوري في غزة الآن لكان أعلن التعبئة العامة وفتح باب التطوع ودعا لتنظيم الجماهير وتسليحهم منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني، وليس حصر السلاح في يد مجموعات منعزلة عن الجماهير. ونقول إن هناك طرف آخر بخلاف حماس وفتح، أي الفصائل البرجوازية، يجب أن نعتمد عليه وهو الوحيد القادر على قيادة النضال الفلسطيني نحو النصر: الطبقة العاملة في فلسطين والمنطقة والعالم.
يجب العمل على تشكيل مجالس شعبية وعمالية في كل حي ومكان عمل وجامعة ومخيم، وفرق مسلحة عمالية وشعبية تكون مرتبطة بها وتخضع لرقابتها، وليس العمل الاستبدالي المسلح وتشكيل حركات ومليشيات مسلحة محدودة منفصلة عن الجماهير وذات مشروع برجوازي رجعي وتضع نفسها فوق الجماهير وفي الغالب تخون الجماهير، أي تلك الاستراتيجية التي لم تجلب أي فوائد على الإطلاق للقضية الفلسطينية.
إن موقفنا ليس له علاقة إطلاقًا بأي نزعة سلمية سخيفة أو دعوة للفلسطينيين لكي تُراق دماؤهم في صمت فداءً لنمو الوعي الطبقي والأممي لدى العمال الإسرائيليين، بل نؤكد على حق الفلسطينيين المشروع والضروري في الدفاع عن أنفسهم وأرضهم وحقهم ووطنهم في مواجهة الدولة الصهيونية وقطعان المستوطنين الفاشيين، بما في ذلك بالوسائل المسلحة بالطبع.
ولكن الطريق الصحيح لفعل ذلك هو النضال الجماهيري وأساليبه، وهو الانغراس في الجماهير والدفع نحو تنظيمها ورفع وعيها بمهامها التاريخية وزيادة ثقتها بنفسها، وبناء قيادة شيوعية ثورية تتبنى سياسة وخطابًا ثوريًا وأمميًا. لا بديل عن ذلك الطريق مهما بدا صعبًا وشاقًا. إن على الشعب الفلسطيني -بدءً بطليعته- أن يدرك أن تحرره في يده هو فقط، وأنه يجب ألا يثق إلا في قواه الذاتية. وفي هذا الصدد يجب أن نستعيد كل تراث الانتفاضات الجماهيرية الفلسطينية مثل الانتفاضة الأولى. إن تلك الانتفاضات الجماهيرية وحدها هي القادرة على دفع النضال الفلسطيني إلى الأمام، كما على إشعال حركة ثورية في المنطقة.
إن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية والرأسمالية في المنطقة هو خطوة مهمة وأساسية بل وهي مفتاح طريق تحرير الجماهير الفلسطينية وإسقاط الدولة الصهيونية. لو انتصرت ثورة اشتراكية في الأردن أو مصر -على سبيل المثال- سوف يوفر هذا قوة مهولة للحركة الفلسطينية (سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا)، وباستخدام سياسة طبقية وأممية يمكن شق المجتمع الإسرائيلي على أسس طبقية وإسقاط الدولة الصهيونية. فلنتخيل فقط التأثير المزلزل لإسقاط الرأسمالية وقيام دولة عمالية في مصر تدعو عمال المنطقة والعالم للنهوض والنضال ضد النظام الرأسمالي ووضع حد لميراث الإمبريالية الدموي الهمجي.
إن أهم وأكبر مساعدة يمكن للشيوعيين والطبقة العاملة أن يقدموها للنضال الفلسطيني وتحرير فلسطين هو التعجيل بسقوط الأنظمة العربية الرأسمالية والديكتاتورية العميلة التي لطالما خانت وباعت الشعب الفلسطيني بقدر خيانتها وقمعها وسرقتها لشعوبها نفسها، بالإضافة إلى إسقاط القوى الإمبريالية التي تدعم إسرائيل. إن هذا سوف يغير موازين القوى بشدة لصالح الشعب الفلسطيني لأول مرة منذ النكبة.
وهنا يجب على النضال الفلسطيني أن يبحث عن نقاط الضعف داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه كما نقاط الدعم له، بدءً بالفلسطينيين داخل الخط الأخضر الذين بدؤوا في التحرك والنضال في السنوات الماضية بعد فترة من الخمول، والذين يشكلون جزءً من الطبقة العاملة داخل إسرائيل، بجانب شرائح من الشباب الإسرائيلي الذين بدأوا ينفرون من الدولة الصهيونية، خصوصًا مع اعتمادها المتزايد على المستوطنين وعصابتهم الفاشية نتيجة أزمتها وحالة الاستقطاب العامة داخل المجتمع الإسرائيلي، ويكونون هؤلاء جسر العبور للطبقة العاملة الإسرائيلية التي هي القوة الوحيدة القادرة على تسديد الضربة القاضية للطبقة السائدة الصهيونية ودولتها الصهيونية.
وفي هذه النقطة فلنصدم مجددًا أصدقاءنا “المثقفين” للغاية و”اليساريين” و”الثوريين” جدًا: إن الحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع منقسم طبقيًا مثل جميع المجتمعات الأخرى، وهناك صراع طبقي وأزمة اجتماعية بدأت تظهر معالمها هناك، وهذا يجب أن يكون في صلب تفكير أي تيار ماركسي يهدف لفهم الواقع لتغييره، وليس الانجراف مع العاطفة والتماهي مع الدعاية الصهيونية بالحديث عن الاستثناء الإسرائيلي، أو الذهاب إلى ما هو أسوأ من ذلك والوقوع في مستنقع تمجيد القومية العربية والحديث عن استثناء المعاناة العربية.
فلنعلنها بوضوح: إن شق المجتمع الإسرائيلي على أسس طبقية وكسب الطبقة العاملة في إسرائيل لصف الثورة وإنجاح ثورة اشتراكية هناك -كما في المنطقة- هو شرط أساسي لحل القضية الفلسطينية بشكل ثوري وديمقراطي ونهائي. إننا نعول على كسب الطبقة العاملة الإسرائيلية لصف الثورة بصفته الحل الوحيد والخطوة النهائية الضرورية لهزيمة الدولة الصهيونية، ولا يوجد حل آخر. إنها ضرورة عملية وليست مسألة تنفيذ مُثل عليا، لأنه في النهاية لا بد من كسر الوحدة الطبقية والمجتمعية التي تُقيم على أساسها الطبقة السائدة الإسرائيلية دولتها الصهيونية الإجرامية وتفجير المشروع الصهيوني من الداخل، مع ضغط أحدث الخارج المركزي من أجل زلزلة المجتمع الإسرائيلي.
لكن هذا رهين بشيء واحد: بناء منظمة شيوعية ثورية حقيقية على أراضي فلسطين التاريخية. يقع على عاتق الشيوعيين في إسرائيل مهمة كبرى وهي تحطيم أسطورة المجتمع الإسرائيلي المصمت الصهيوني الذي لن يتغير، وإعطاء الدليل لجماهير المنطقة -بدءً بالجماهير الفلسطينية بالطبع- أن هناك حلفاء ورفاق داخل المجتمع الإسرائيلي يهدفون حقًا لإسقاط الدولة الصهيونية وتغيير المنطقة بأسرها، وأن يوفروا الظروف الملائمة للشيوعيين الفلسطينيين الأمميين الداعين لخلق واقع جديد بالتحالف مع الطبقة العاملة الإسرائيلية.
يجب أن يرفع الشيوعيون في إسرائيل شعار كارل ماركس: “إن شعبًا يضطهد شعبًا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرًا”، وأن يفهموا الطبقة العاملة في إسرائيل أن مسألة التحرر الوطني الفلسطيني بالنسبة لهم “ليست مسألة عدالة مجردة أو مشاعر إنسانية، بل هو الشرط الأول لتحررهم الاجتماعي هم أنفسهم”، وهو ما يظهر دائمًا في استخدام الطبقة السائدة الإسرائيلية العمال والفقراء الإسرائيليين في قمع وقتل الفلسطينيين، وفي الزج بهم في مغامرات عدوانية ضد مختلف بلدان المنطقة، واستغلال حالة الحرب الدائمة في تشتيت أنظار الجماهير الإسرائيلية عن أعدائهم الطبقيين وأسباب معاناتهم الحقيقة، كما في مهاجمة ظروف حياتهم. وسوف يظهر ذلك أكثر مع اشتداد أزمة الرأسمالية الإسرائيلية.
إن صيحة الماركسي الألماني العظيم وشهيد الطبقة العاملة كارل ليبكنخت: “العدو الأساسي في الداخل“ [22] هي ما يجب على الشيوعيين في إسرائيل أن ينقلوه للطبقة العاملة الإسرائيلية. إننا نوجه نداءً إلى العمال الإسرائيليين للنضال ضد الرأسماليين الإسرائيليين والدولة الصهيونية والانضمام إلى إخوانهم وأخواتهم في المنطقة والعالم – بدءً بالعمال الفلسطينيين – في نضالنا جميعًا ضد الرأسمالية والإمبريالية. [23]
يجب أن يتبنى الشيوعيون الإسرائيليون سياسة مناضلة تبرز التناقضات الطبقية داخل المجتمع الإسرائيلي وتتحدى الطبقة السائدة ومصالحها ودولتها، وتتبنى خطابًا طبقيًا يعمل على إضعاف تأثير الأيديولوجية الصهيونية على الطبقة العاملة والشباب الإسرائيليين، وربط ذلك بالنضال الفلسطيني من أجل التحرر.
وهنا يجب أن ننظر في مسألة انفصال الكيانين (الفلسطيني والإسرائيلي) والتنسيق فيما بينهما داخل إطار دولة اشتراكية واحدة أو اتحادهما تحت حكومة اشتراكية واحدة “من النهر إلى البحر” من البداية طبقًا للظروف حينها في ظل الثورة الاشتراكية، وطبقًا لموقف الطبقة العاملة الإسرائيلية والطبقة العاملة الفلسطينية، وطبقًا لمصالح الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية العالمية.
إن الواقع الحالي يوصلنا إلى استنتاج وحيد: لا بد من وجود كيانين بحكومتين ينسقان مع بعضهما البعض داخل إطار دولة اشتراكية واحدة، وهذا بسبب ميراث الحرب الطويلة والشكوك المتبادلة، لكن يجب في تلك الحالة تقليص الحدود السياسية والقانونية إلى أدنى حد ممكن لتمهيد الطريق لإزالتها في المستقبل، وقد يتطلب الأمر جيل أو جيلين من الازدهار والتنمية والتثقيف والدعاية لكي يختفي ذلك الميراث الوحشي من المجتمع، وهذا بدوره يجب أن يتم بحذر ومراعاة حساسية وتعقيد المسألة.
وقد تتوفر الظروف الملائمة في المستقبل وتفاجأنا الجماهير ولا نضطر لفصل الكيانين، ويتم إنشاء نظام اشتراكي واحد بحكومة واحدة “من النهر إلى البحر”، وهذا هو الأفضل بالطبع لكنه ليس الاحتمال الأكبر في ظل الظروف والمعطيات الحالية التي توصلنا لاستنتاج مفاده ضرورة وجود فترة انتقالية على شكل فدرالية اشتراكية.
في النهاية، لا يوجد حل للقضية الفلسطينية داخل الحدود الضيقة للنظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية، وهذا حال كل القضايا القومية العالقة في العالم حتى اليوم، بل يجب تجاوزه من أجل نظام فدرالي اشتراكي يتم توفير فيه أكبر قدر ممكن من الحكم الذاتي للفلسطينيين والإسرائيليين، ويتمتع فيه الجميع بالحقوق الدينية واللغوية والثقافية، ويتم ضمان فيه حرية الحركة والتنقل، كما يتم العمل على ضمان مستويات معيشة إنسانية ووظائف للجميع ورعاية صحية مجانية عالية الجودة وتعليم مجاني عالي الجودة، بالإضافة إلى إطلاق برنامج للتحديث والتصنيع، خصوصًا في المجتمع الفلسطيني الذي ظل في حالة تخلف صناعي واجتماعي بفعل الدولة الصهيونية.
هذا على قاعدة الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزيًا وديمقراطيًا القائم على الاستغلال والتوزيع العادل للموارد، وبناءً على هذا سيتم توفير الأرضية لعودة الفلسطينيين المهجرين للبلاد إن أرادوا. يجب أن يتم بناء نظام يعمل على إزالة الفوارق بين الفلسطينيين والإسرائيليين واجتثاث كل الأحقاد القومية والشكوك المتبادلة ليحل محلهم التضامن والتعاون والإخاء في ظل فدرالية اشتراكية بين جميع من يعيش على أراضي فلسطين التاريخية، تكون جزءً من فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفدرالية اشتراكية عالمية. وكل هذا يلزمه العمل على بناء منظمة شيوعية ثورية حقيقية قائمة على النظرية الماركسية الصحيحة، وأساليب عملها العمالية والجماهيرية، التي هي النظرية الوحيدة القادرة على توفير مخرج حقيقي للشعب الفلسطيني من براثن وأهوال الاحتلال. هذا ما نناضل من أجله وندعوكم للانضمام إلينا من أجل تحقيقه. انضموا إلى الأممية الشيوعية الثورية.
يسقط الاحتلال الإسرائيلي!
الحرية لفلسطين!
من أجل وحدة نضال عمال وشباب المنطقة!
يا عمال العالم اتحدوا!
من أجل فدرالية اشتراكية في فلسطين التاريخية، جزءً من فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجزءً من فدرالية اشتراكية عالمية!
محمد حسام
1 ديسمبر/كانون الأول 2024
الهوامش:
[1] مسؤولية ستالين في إنشاء إسرائيل وعواقبه الوخيمة – فريد ويستون.
[2] رايتنا طاهرة: التروتسكيون البريطانيون عارضوا تقسيم فلسطين عام 1948 – الفرع البريطاني للأممية الشيوعية الثورية.
[3] كتاب أخلاقنا وأخلاقهم – ليون تروتسكي.
[4] الماركسيون والدعوة إلى الانتفاضة: ما الذي يعنيه ذلك؟ – فريد ويستون.
[5] حماس وإسرائيل: أصدقاء وأعداء – جون جوردون.
[6] الوثيقة السياسية لحركة حماس2017
[7] أوقفوا قصف غزة! أنهوا الاحتلال! من أجل تعبئة أممية لدعم النضال الفلسطيني! – بيان الأممية الشيوعية الثورية.
[8] بيان الأممية الشيوعية الثورية: فليسقط النفاق! من أجل الدفاع عن غزة! – بيان الأممية الشيوعية الثورية.
[9] لماذا يعارض الماركسيون الإرهاب الفردي؟ – ليون تروتسكي.
[10] البيان الختامي لأعمال المؤتمر الوطني الثامن للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين
[11] الجبهة الشعبية في تهنئة للأسد: لن ننسى وقوفكم المبدئي إلى جانب فلسطين. أدعوكم للاستماع إلى حديث نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جميل مزهر في قناة الميادين.
[12] قانون أملاك الغائبين.. أداة إسرائيلية للسيطرة على أملاك الفلسطينيين المهجرين. أدعوكم لسماع أغنية ريم بنا “الغائب” التي تتناول هذا القانون الجائر.
[13] Vital Statistics: Latest Population Statistics for Israel.
[14] Poverty rates in Israel are among the highest – opinion.
[15] 1 in 5 Israelis lived below the poverty line in 2021 – report.
[16] More Israelis are poor as gap widens between haves, have-nots.
[17] Arab revolution reaches Israel – next step, a general strike! – Walter Leon.
[18] Israelis Chant: “Mubarak, Assad, Bibi Netanyahu”.
[19] إسرائيل: الإصلاح القضائي لنتنياهو يقسم المؤسسة الحاكمة ويثير احتجاجات هائلة – بن كوري.
[20] انفجار الغضب ضد نتنياهو في إسرائيل: “دماء الرهائن على يديه” – خورخي مارتن.
[21] حق الأمم في تقرير مصيرها – لينين.
[22] The Main Enemy Is At Home! (Leaflet, May 1915) – Karl Liebknecht.
[23] ناضلوا ضد الإمبريالية والحروب! يا عمال العالم اتحدوا! – بيان الأممية الشيوعية الثورية.