من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 4
عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 4 - 20:12
الحلقة الرابعة
د) إنجلس وأهمية النضال النظري "الجمود العقائدي، الجمود المذهبي"، "تحجر الحزب - العقاب المحتوم لتقييد الفكر بالعنف"- هؤلاء هم الأعداء الذين ينقض عليهم كالفرسان أنصار "حرية النقد" في "رابوتشييه ديلو". ويسرنا نحن أن تطرح هذه المسألة على بساط البحث، وكل ما نقترحه هو أن نتممها بسؤال آخر: من هم الحكام؟ أمامنا إعلانان عن صدور مطبوعات. أحدهما "برنامج صحيفة "رابوتشييه ديلو"، لسان حال اتحاد الاشتراكيين الديموقراطيين الروس" (نسخة من العدد الأول من "رابوتشييه ديلو"). والثاني هو "إعلان عن إستئناف إصدار مطبوعات فرقة "تحرير العمل""(41). وكلاهما يحمل تاريخ سنة 1899، أي حين كانت "أزمة الماركسية" قد طرحت على بساط البحث منذ زمان بعيد. وماذا نرى؟ في النشرة الأولى، نجهد أنفسنا عبثا في البحث عن إشارة إلى هذه الظاهرة وعن عرض واضح للموقف الذي تنوي أن تتخذه الصحيفة الجديدة من هذه المسألة. ولا نجد كلمة عن العمل النظري ومهامه الملحة في الظرف الراهن لا في هذا البرنامج ولا في ملاحقه التي أقرها المؤتمر الثالث لـ"ـلإتحاد" في سنة 1901(42) ("مؤتمران: ص ص 15-18). لقد تجنبت هيأة تحرير "رابوتشييه ديلو" المسائل النظرية طيلة هذا الوقت، مع أن هذه المسائل قد استرعت اهتمام جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين في العالم بأسره. أما الإعلان الثاني فعلى العكس من ذلك: إنه يشير في البدء إلى ضعف الإهتمام بالناحية النظرية خلال السنوات الأخيرة ويطلب بإلحاح "انتباها يقظا حيال الناحية النظرية في الحركة البروليتارية الثورية" ويدعو إلى "توجيه نقد لا هوادة فيه إلى الميول البرنشتينية وغيرها من الميول المعادية للثورة" في حركتنا. والأعداد التي صدرت من "زاريا" توضح كيف نُفذ هذا البرنامج. وهكذا نرى أن العبارات الطنانة عن تحجر الفكر، وما إلى ذلك، تخفي وراءها عدم الإهتمام بتطوير الفكر النظري والعجز عن تطويره. وما مثال الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس إلا دليل جلي على ظاهرة أوروبية عامة (أشار إليها الماركسيون الألمان أيضا منذ أمد بعيد) وهي أن حرية النقد الذائعة الصيت لا تعني استبدال نظرية بأخرى، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة ووليدة التفكير، تعني المذهب الإختياري وانعدام المبادئ. ولا بد لكل مطلع على وضع حركتنا الواقعي، وإن جزئيا، من أن يلاحظ أن انتشار الماركسية الواسع قد رافقه بعض الإنحطاط في المستوى النظري. فبسبب النجاحات العملية التي أحرزتها الحركة وبسبب أهميتها العملية، انضم إليها كثيرون ضعيفون جدا أو صفر من حيث الإعداد النظري. ولذلك يمكننا أن نتبين مبلغ ما تظهر "رابوتشييه ديلو" من قلة ذوق عندما تستشهد، على غرار المنتصرين، بعبارة ماركس: "إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دستة من البرامج"(43). إن تكرار هذه الكلمات في مرحلة الإضطراب النظري يشبه صراخ من يصرخ: "إن شاء الله دايمه!" عند رؤية جنازة. أضف إلى ذلك أن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته بصدد برنامج غوتا(44) حيث يندد بشدة بالمذهب الإختياري في صياغة المبادئ. فقد كتب ماركس إلى زعماء الحزب: إذا كانت هنالك من حاجة إلى الإتحاد، فاعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، ولكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و"التنازل" النظري. هذه هي فكرة ماركس. وها نحن نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية! لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالإنتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا. وتزداد أهمية النظرية بالنسبة للإشتراكية-الديموقراطية الروسية لثلاثة أسباب كثيرا ما ينسونها، هي: أولا، أن حزبنا ما يزال في دور التكوين، ما يزال في دور تشكيل سيماء وجهه وهو ما يزال بعيدا عن أن يصفي الحساب مع اتجاهات الفكر الثوري الأخرى التي تهدد بإخراج الحركة عن الطريق القويم. ففي الآونة الأخيرة، على وجه الضبط، نشاهد، بالعكس، انتعاش الإتجاهات الثورية غير الاشتراكية-الديموقراطية (كما تنبأ اكسلرود بذلك "للإقتصاديين" منذ أمد بعيد). وفي هذه الظروف يمكن لخطأ يبدو لأول وهلة "غير ذي شأن" أن يسفر عن أوخم العواقب، وينبغي للمرء أن يكون قصير النظر حتى يعتبر الجدال بين الفِرَق والتحديد الدقيق للفروق الصغيرة أمرا في غير أوانه أو لا داعي له. فعلى توطد هذا "الفرق الصغير" أو ذلك قد يتوقف مستقبل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية لسنوات طويلة، طويلة جدا. ثانيا، إن الحركة الاشتراكية-الديموقراطية هي حركة أممية في جوهرها. وذلك لا يعني فقط أنه يتعين علينا أن نناضل ضد الشوفينية في بلادنا. بل ذلك يعني أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى. ولبلوغ ذلك لا يكفي مجرد الإطلاع على هذه التجربة أو مجرد نسخ القرارات الأخيرة. إنما يتطلب هذا من المرء أن يمحص هذه التجربة وأن يتحقق منها بنفسه. وكل من يستطيع أن يتصور مبلغ اتساع وتشعب حركة العمال المعاصرة، يفهم مبلغ ما يتطلبه القيام بهذه المهمة من احتياطي من القوى النظرية والتجربة السياسية (والثورية أيضا). ثالثا، لم يسبق أن طرحت أمام أي حزب اشتراكي في العالم مهام كالمهام الوطنية المطروحة أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. وسنتناول فيما يأتي من البحث الواجبات السياسية والتنظيمية التي تلقيها على عاتقنا مهمة تحرير الشعب كله من نير الحكم المطلق. وبودنا فقط أن نشير هنا إلى أنه لا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بنظرية الطليعة. وإذا شاء القارئ أن يكون لنفسه فكرة واضحة لحد ما عن معنى ذلك، فليتذكر أسلاف الاشتراكية-الديموقراطية الروسية من أمثال هرتسين وبيلينسكي وتشيرنيشيفسكي والكوكبة الرائعة من ثوريي العقد الثامن، فليفكر بالأهمية العالمية التي يكتسبها الأدب الروسي في الوقت الراهن، فليفكر… ولكن ذلك يكفي! ولنورد هنا ملاحظات كتبها إنجلس سنة 1874 عن أهمية النظرية في الحركة الاشتراكية-الديموقراطية. إن إنجلس لا يعترف بشكلين اثنين في نضال الاشتراكية-الديموقراطية العظيم (سياسي واقتصادي) - كما جرت العادة عندنا- بل يعترف بثلاثة أشكال واضعا في مصاف الشكلين المذكورين النضال النظري. وما توصيته لحركة العمال الألمانية التي كانت قد توطدت عمليا وسياسيا، إلا بليغة العبرة من وجهة نظر المشاكل والمناقشات الراهنة بحيث نحسب أن القارئ لن يلومنا إذا ذكرنا مقطعا طويلا من مقدمة لكراس "Der deutsche Bauernkrieg" الذي غدا منذ وقت طويل من الكتب النادرة جدا: "يمتاز العمال الألمان عن عمال بقية أوروبا، بميزتين هامتين. الأولى انتماؤهم إلى أعرق شعب أوروبي في النظرية واحتفاظهم بالملكة النظرية التي فقدتها تماما، أو كادت، الطبقات المدعوة "بالمثقفة" في ألمانيا. فالاشتراكية العلمية الألمانية وهي الاشتراكية العلمية الوحيدة التي وجدت حتى الآن، ما كانت لتوجد قط لولا الفلسفة الألمانية التي سبقتها، وبوجه خاص فلسفة هيغل. ولولا الملكة النظرية لدى العمال لما تغلغلت الاشتراكية العلمية في دمائهم إلى هذا الحد الذي نراه الآن. ويبين لنا مبلغ عظمة هذه المزية، من جهة، عدم الإكتراث بأي نظرية، الذي هو سبب من الأسباب الرئيسية التي تجعل حركة العمال الإنكليزية تتقدم بهذا البطء بالرغم من التنظيم الرائع في بعض الحرف؛ ويبين لنا ذلك، من جهة أخرى، ما نراه من اضطراب وتردد بذرتهما البرودونية(45) في شكلها البدائي بين الفرنسيين والبلجيكيين، وبشكلها الكاريكاتوري الذي أعطاها إياه باكونين بين الإسبانيين والإيطاليين. والمزية الثانية هي كون الألمان قد اشتركوا في حركة العمال بعد الجميع تقريبا. وكما أن الاشتراكية الألمانية النظرية لن تنسى أبدا أنها تستند إلى سان سيمون وفوريه وأوين - المفكرين الثلاثة الذين يقفون، بالرغم من كل الطابع الخيالي الطوبوي في تعاليمهم في مصاف أعظم الأدمغة التي عرفتها جميع الأزمنة، والذين كانوا السابقين بصورة عبقرية إلى كثرة كبيرة من الحقائق التي نبرهن نحن اليوم على صحتها عمليا، كذلك ينبغي لحركة العمال الألمانية العملية أن لا تنسى أبدا أنها تطورت استنادا إلى الحركتين الإنكليزية والفرنسية وأنه أتيح لها بكل بساطة أن تستفيد مما اكتسبتاه من تجربة كلفتهما غاليا، وأن تتلافى الآن الأخطاء التي كانت آنئذ أمرا لا مفر منه في معظم الحالات. فأي وضع كنا فيه الآن لولا نموذج التريديونيونات الإنكليزية ونضال العمال الفرنسيين السياسي، ولولا الاندفاع العظيم الذي سببته كومونة باريس بوجه خاص؟ لا بد لنا من أن نعترف للعمال الألمان بأنهم استفادوا بمهارة فائقة من مزايا وضعهم. فلأول مرة منذ وجدت حركة العمال يجري النضال بصورة منتظمة في جميع اتجاهاته الثلاثة المنسجمة والمترابطة: الاتجاه النظري والاتجاه السياسي والاتجاه الاقتصادي العملي (مقاومة الرأسماليين). وفي هذا الهجوم المركز، إن أمكن القول، تكمن قوة الحركة الألمانية ومنعتها. بفضل هذا الوضع المفيد، من جهة، وبفضل خصائص الحركة الإنكليزية، التي تنجم من كونها تتطور في ظروف الجزيرة، وقمع الحركة الفرنسية بالقوة، من جهة أخرى، يقف العمال الألمان الآن في طليعة النضال البروليتاري. حَتَّامَ تسمح لهم الأحداث بملء هذا المركز المشرف؟ هذا ما لا يمكن التنبؤ به. ولكن ينبغي لنا أن نأمل بأنهم ما داموا يشغلون هذا المركز، سيقومون كما يجب بالمهام التي يفرضها عليهم. وهذا يقتضي مضاعفة الجهود المبذولة في جميع ميادين النضال والتحريض. وسيكون واجب القادة على وجه الخصوص أن يثقفوا أنفسهم أكثر فأكثر في جميع المسائل النظرية وأن يتخلصوا أكثر فأكثر من تأثير العبارات التقليدية المستعارة من العقيدة القديمة وأن يأخذوا دائما بعين الاعتبار أن الاشتراكية، مذ غدت علما، تتطلب أن تُعامل كما يُعامل العلم، أي تتطلب أن تدرس. والوعي الذي يكتسب بهذا الشكل ويزداد وضوحا، ينبغي أن ينشر بين جماهير العمال بهمة مضاعفة أبدا، كما ينبغي أن يزداد على الدوام تماسك صفوف منظمة الحزب ومنظمة النقابات… … وإذا استمر العمال الألمان في التقدم بهذا الشكل، فإنهم - لا أريد أن أقول أنهم سيسيرون في طليعة الحركة، فليس من مصلحة الحركة على الإطلاق أن يسير عمال أمة ما، دون سائر الأمم، في طليعتها- بل أريد أن أقول أنهم سيشغلون مركزا مشرفا في صفوف المناضلين وسيجدون أنفسهم على أتم الأهبة إذا ما ظهرت على حين غرة محن قاسية أو حوادث عظمى تتطلب منهم مزيدا من الشجاعة والحزم والهمة". لقد ظهرت كلمات إنجلس وكأنها نبوءة. فبعد مضي بضع سنوات واجهت العمال الألمان على حين غرة محن قاسية هي القانون الإستثنائي ضد الاشتراكيين. وقد استقبلها العمال الألمان فعلا وهم على أتم الأهبة وخرجوا منها ظافرين. وستواجه البروليتاريا الروسية محنا أفظع بما لا يقاس؛ ففي انتظارها صراع مع وحش ليس القانون الإستثنائي في بلاد دستورية بالنسبة إليه أكثر من قزم. إن التاريخ يلقي على عاتقنا الآن مهمة مباشرة هي أكثر ثورية من جميع المهمات المباشرة الموضوعة أمام البروليتاريا في أي قطر آخر. وإن إنجاز هذه المهمة، أي تحطيم أقوى حصن للرجعية الأوروبية بل (وهو شيء نستطيع قوله الآن) للرجعية الآسيوية أيضا، سيجعل من البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية. ويحق لنا أن نأمل بالحصول على هذا اللقب المشرف الذي اكتسبه عن جدارة أسلافنا ثوريو العقد الثامن، وذلك إذا استطعنا أن نبث في حركتنا، وهي أوسع وأعمق بألف مرة، مثلما بثوا من تصميم ومن همة لا يعرفان حدودا.
يتبع