هل الاشتراكية نظرية علمية؟
عبدالرحمن مصطفى
2024 / 12 / 4 - 13:20
مفهوم الاشتراكية العلمية يتضمن فكرة أن يخضع المجتمع للقوانين والحتمية كما هو الحال بالنسبة للطبيعة ،وبهذا تتميز الاشتراكية العلمية عن الاشتراكية الطوباوية في الأساس الذي قامت عليه ،فالاشتراكية العلمية تعتمد على القوى الحقيقية الفاعلة في المجتمع وهي الطبقات ،وهذه الفكرة الأساسية في رؤية كارل ماركس وفردريك انجلز لقلب النظام الرأسمالي ،وهم بذلك افترقوا عن الاشتراكيين الخياليين الذين كانوا يتوسلون طرق أخرى للتغيير كشارل فورييه وسان سيمون وروبرت أوين ،بالاعتماد على وسائل الدعاية والتأثير والإقناع ،والإيمان بقدرة الفكر على إحداث التغيير لدى هؤلاء المفكرين كان امتدادا لرؤية فلاسفة التنوير في قدرة العلم والفكر المستنير على إحداث التغيير في المجتمع والتخلص من الجهل والاستغلال.
فالاشتراكية العلمية بذلك تتبنى فلسفة للتاريخ وهذه الفلسفة لخصت في مقدمة البيان الشيوعي التي تتضمن رؤية ماركس وانجلز للتاريخ باعتباره صراعا للطبقات منذ الأزل باستثناء فترة الشيوعية البدائية التي لم تتمايز فيها الطبقات وكان الأفراد يتعاونون فيما بينهم ويقسمون أعمالهم بالاعتماد على قدراتهم كتقسيم العمل بين الرجال والنساء أو تقسيم العمل بالاعتماد على الأعمار.
قوننة المجتمع تعني ضمنا إمكانية دراسته علميا ومن هذه الدراسة يمكن استخلاص طرق تغيير المجتمع بالاعتماد على القوى الفاعلة فيه ،وماركس تصور أن طبقة البروليتاريا هي الفاعلة المستقبلية في التاريخ والتي ستزيح الطبقة البرجوازية من الحكم ومن توجيه الاقتصاد ،وانتصار البروليتاريا هو نتيجة حتمية كما صُور ذلك في البيان الشيوعي فتعميم نمط الانتاج الرأسمالي على مختلف قارات العالم يعني أن الرأسمالية ستتحول الى نمط عالمي وستعجز حينها عن تصدير أزماتها خارجاً ،فعندما يسود نمط الانتاج الرأسمالي جميع دول العالم ،ستحدث أزمة فائض انتاج في جميع الأسواق ولن يكون حل هذه الازمة إلا بتطبيق الاشتراكية العلمية أي انتصار الطبقات العاملة في مختلف دول العالم .
وماركس كان مؤمنا أن نمط الانتاج الرأسمالي سيسود جميع دول العالم ،لكنه لم يتوقع أن سيادة هذا النمط ستكون متفاوتة بين البلدان في قدراتها الانتاجية وفي تقسيم العمل الخاص بها ،فالرأسمالية في الهند من وجهة نظر ماركس ستصبح مماثلة للرأسمالية في انجلترا وألمانيا والسويد وجميع الدول المتقدمة وهنا مقتل الرأسمالية ،فعندما تتوحد الأسواق تصبح أزمة فائض الانتاج أو انخفاض معدل الأرباح (وهذه صياغة أخرى لأزمة فائض الانتاج ) أزمة عالمية وسيسود الكساد جميع أسواق العالم وهذا سيفتح الطريق لسيطرة الطبقة العاملة ،لكن هذا لم يحدث فعليا وشيوع نمط الانتاج الرأسمالي تبعه نمط جديد لتقسيم العمل ،تتخصص فيه الأطراف في انتاج السلع الأولية والزراعية ،بينما تتخصص المراكز في انتاج السلع المعمرة والسلع الانتاجية والتي تحتاج الى تقنية عالية في انتاجها ،وفعليا تتولى شركات أجنبية من دول المركز استخراج الموارد الطبيعية في دول الأطراف وتنقل أرباحها الى دول المركز وهذا ما يحدث في عالم اليوم .
مفهوم الاشتراكية العلمية مرتبط بالتالي بطبقة البروليتاريا ،وحتمية انتصارها في العالم وخلقها لنظام اجتماعي واقتصادي جديد ،وهذه كانت فكرة ماركس وما يميزه عن الاشتراكيين الذين سبقوه كسان سيمون ،فالاشتراكية عنده منوطة بانتصار البروليتاريا ،وبالتالي لايمكن أن تترافق الاشتراكية مع تخلف نمط الانتاج ، أو أن تظهر الاشتراكية كنتاج لرغبة أفراد نخبويين مثلا وتحشيدهم للسكان بصرف النظر عن وجود طبقة البروليتاريا من عدمها في عملية التغيير داخل المجتمع .والاشتراكية العلمية تقتضي بالتالي أن تظهر الاشتراكية أولا في دول المركز ثم تنتشر لاحقا في الدول الطرفية في العالم .
مع ذلك ، جاءت تجارب القرن العشرين مخالفة لفكرة الاشتراكية العلمية ،فهي لم تكن نتاج لثورات بروليتارية ،بل ثورات يغلب عليها الطابع الفلاحي وقطاعات غير منتجة كحالة الجنود والضباط الروس الذين تمردوا على النظام القيصري في روسيا ، أو حالة المعدمين والمشردين في المدن الروسية وكما سماها كارل ماركس طبقة البروليتاريا الرثة وبتحريض من نخب سياسية وفكرية ،لعل تجربة البروليتارية كطبقة منظمة كانت أكثر وضوحا في بريطانيا والتي أفرزت أحزابا عمالية تطالب بالإصلاح التدريجي للرأسمالية والانتقال الى الاشتراكية دون ثورات ،فكانت توجهات الطبقة العاملة البريطانية نقابية مطلبية ولم تهدف الى أن تتنازع السلطة سياسيا مع الطبقات الحاكمة ،في أوروبا القارية على العكس ،نشأت النقابات العمالية من الأحزاب السياسية الثورية ،لأن النظام الرأسمالي كان مختلفا وأقل تدرجا في أوربا القارية مما كان عليه الحال في بريطانيا .
لهذا الدرس الأهم للتجارب الاشتراكي في القرن العشرين ؛ يكمن في أن العلاقة اللازمة المفترضة بين الاشتراكية والطبقة العاملة هي علاقة وهمية أو غير ضرورية ، فالاشتراكية قد تظهر كنتيجة لثورات طبقات أخرى غير الطبقة العاملة كما حدث في روسيا والصين ، وبفعل تحريض من أفراد من الطبقة الوسطى ،فلو تُرك الأمر للصراع بين الطبقة العاملة ونقابتها وبين الطبقة البرجوازية ،لربما اقتصر الأمر على الصراع المطلبي النقابي ولم يتعدى تلك المطالب وقد لا يتطور الى صرع سياسي على الحكم وتوزيع الفائض ، وهذه احد أهم النقائص في مذهب الاشتراكية العلمي ولازالت التيارات الماركسية التروتسكية تبشر بالثورة البروليتارية دون تبصر ومعرفة للطابع الطبقي الجديد في مختلف دول العالم فقد يكون هناك طبقة عاملة كبيرة في الصين كما في أوروبا الغربي وأمريكا ،لكن كثير من دول العالم الثالث لا تتوفر على هذا الشرط المفترض لتطور الاشتراكية فهناك دول يغلب الطابع الموسمي المؤقت على عمالتها أي أغلب القوى العاملة تمارس أعمال غير رسمية ومؤقتة فضلا عن غلبة الانتاج الريفي في الكثير من دول العالم الثالث .
والدرس الآخر من التجارب الاشتراكية في القرن العشرين ؛ هو أن الاشتراكية قد تظهر وينادى بها كنتيجة مختلفة عن مجرد الصراع الطبقي الداخلي بين البروليتاريا والبرجوازية ، فظروف التخلف في روسيا هي التي ساهمت في نجاح تحقق الاشتراكية فيها ، فالظروف الصعبة وحالة الحرمان التي عانى منها الروس بعد الحرب العالمية الأولى استدعت تغييرا راديكاليا مختلفا بصورة مطلقة عن اصلاح النظام أو اجراء بعض التغييرات الشكلية عليه ، ففشل روسيا في الاندماج الطبيعي في العولمة بأن تدخلها وتنافس فيها كما هو الحال بالنسبة للدول الغربية هو سبب مهم في تطور الاشتراكية في روسيا .
فالاشتراكية هي الحل عندما تنغلق نافذة الحلول ،والاشتراكية تنضج في الظروف التي يكون فيها احتمال ظهور نظام رأسمالي شبه مستحيل فيظهر شكل مشوه للرأسمالية لا يمت بصلة للرأسماليات العريقة في الدول الغربية ،وفي هذا نظرية الراحل سمير أمين في تطور نمط الانتاج الجديد في الدول الطرفية في المنظومة القديمة وليس في الدول المركزية ،كما حدث في أوربا الإقطاعية التي كانت تمثل جزء من الأطراف في المنظومة السابقة على الرأسمالية ،وكانت منطقة الشرق الأوسط والهند والصين تمثل المركز ،فكانت المناطق الأخيرة تملك منظومة خراجية كانت فيها الدولة حاضرة بقوة في تنظيم الاقتصاد والمجتمع ،بينما كان العكس في أوروبا حيث كان الحكم الملكي ضعيف في مواجهة الإقطاعيات الريفية ولم يتغير الحال الا في فترة متأخرة وبعد نضوج شروط تطور الرأسمالية .
ومن هذا يمكن فهم التجارب الاشتراكية في القرن العشرين ،فالاشتراكية ظهرت في البلدان الطرفية في النظام الرأسمالي وليس في دول المركز وهي وجدت حيث فشلت الرأسمالية في دول حساسة من ناحية موقعها الجيوسياسي ولا تحتمل تجريب حلول متعددة قبل الشروع في الحل الراديكالي (الاشتراكي)
من هنا يمكن فهم الفكرة الخاطئة التي ربط ماركس بموجبها بين الاشتراكية والبروليتاريا ،فهناك شروط أهم من وجود طبقة بروليتارية قوية للشروع في انجاز الهدف الاشتراكي ،كما أن التطور الميكانيكي من الرأسمالية الى الاشتراكية بمجرد نضوج الطبقة البروليترية قد لايكون تفسيرا مقنعا للتجارب الاشتراكية في القرن العشرين ، فالعامل الإرادوي بمعنى رغبة أطراف وجهات معينة في بناء نظام اشتراكي هي عامل مهم أيضا من هنا يمكن فهم الطبيعة الطبقية لقادة الثورة البلشفية الذين انحدروا من فئات الطبقة المدنية أو الريفية الوسطى ،كما هو الحال بالنسبة للثورة الصينية أما القادة البروليتاريين فيمكن أن نجد مثالهم في قاد النقابات العمالية في بريطانيا وغيرها من الدول وهم يفضلون الإصلاحات على الخيار الثوري كما هو الحال مثلا بالنسبة للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي لم ينحدر من الطبقة الموسطة بل هو بروليتاري فعلا مع ذلك يشرع في سياسات اصلاحية وليست ثورية على العكس مثلا في حالة جمال عبد الناصر الذي انحدر من الطبقة المتوسطة مع ذلك قام بتطبيق سياسات اشتراكية راديكالية في فترة حكمه ،لهذا هناك عوامل أخرى لإنجاز الهدف الاشتراكي غير توفر الشرط البروليتاري ومعرفة هذه العوامل هو المفتاح لإنجاز الهدف الاشتراكي .