من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 3


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 3 - 02:09     

الحلقة الثالثة

ج) النقد في روسيا إن خاصة روسيا الأساسية من الناحية التي نعنيها تتلخص في كون حركة العمال العفوية، من جهة، وانعطاف الرأي العام التقدمي نحو الماركسية، من جهة أخرى، قد تميزا منذ بدئهما بالذات باتحاد عناصر غير متجانسة بتاتا تحت لواء مشترك ومن أجل النضال ضد عدو مشترك (ضد عقيدة اجتماعية سياسية انقضى زمنها). ونحن نعني هنا "الماركسية العلنية"(32) في شهر العسل. وقد كانت هذه، بوجه عام، ظاهرة على درجة من الأصالة بحيث لم يكن هنالك في العقد التاسع أو أوائل العقد العاشر من يمكنه حتى أن يصدق ولو بإمكانها. ففي بلاد يسودها الحكم المطلق، في بلاد ترزح صحافتها تحت أشد القيود، وفي عهد رجعية سياسية حالكة تنقض على أقل نبتة من نباتات السخط والاحتجاج السياسيين - تشق نظرية الماركسية الثورية فجأة لنفسها الطريق في المطبوعات الخاضعة للرقابة، معروضة بلغة رمزية، ولكنها مفهومة لجميع الذين "يهمهم الأمر". فقد اعتادت الحكومة ألا ترى الخطر إلا في نظرية "نارودنايا فوليا" (الثورية)، غير أن تلمح، كما يحدث في المعتاد، مجرى تطورها الداخلي، ومبتهجة لكل انتقاد يوجه إليها. وقد مر وقت طويل (طويل بالنسبة إلينا، نحن الروس) قبل أن تنتبه الحكومة للأمر وقبل أن يتمكن جيش الرقباء والدرك الثقيل من اكتشاف العدو الجديد ومن الإنقضاض عليه. وفي هذه الأثناء كانت الكتب الماركسية تصدر واحدا بعد آخر، والمجلات والجرائد الماركسية تؤسس، وغدا الجميع، بالمعنى الحرفي للكلمة، ماركسيين، وغدا الماركسيون موضع الإطراء والرعاية، وكان الناشرون في ذروة الحماسة من شدة الإقبال على اقتناء الكتب الماركسية. ومفهوم تماما أن يكون قد وجه أكثر من "كاتب مغرور"(33) بين الماركسيين المبتدئين المأخوذين بنشوة النجاح… ويمكن اليوم التحدث عن ذلك العهد بهدوء، كما يتحدث الإنسان عن أمور مضت. ولا يخفى على أحد أن ازدهار الماركسية المؤقت على هامش مطبوعاتنا، قد نشأ عن تحالف المتطرفين مع المعتدلين جدا، وقد كان هؤلاء الأخيرون في جوهر الأمر ديموقراطيين برجوازيين. وهذا الاستنتاج (الذي أثبته بجلاء فيما بعد تطورهم "النقدي") يفرض نفسه فرضا على بعضهم حين كان "التحالف" لا يزال سليما. ولكن إذا كان الأمر كذلك، أفلا يحمل الإشتراكيون-الديموقراطيون الثوريون الذين عقدوا هذا التحالف مع "نقاد" الغد، القسط الأكبر من مسؤولية "الفتنة" التي وقعت بعد ذلك؟ هذا السؤال، مع الجواب عليه بالإيجاب، نسمعه في بعض الأحيان من أناس ينظرون إلى الأشياء نظرة مغالية في الإستقامة. ولكن هؤلاء الناس مخطئون تماما. إذ لا يمكن أن يخشى من الأحلاف المؤقتة، ولو مع أناس لا يركن إليهم، إلا الذين لا يثقون بأنفسهم. ليس يمكن لأي حزب سياسي أن يعيش بدون أحلاف كهذه. وقد كان التحالف مع الماركسيين العلنيين بمثابة أول تحالف سياسي حقا تحققه الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. فبفضل هذا التحالف تم الإنتصار على الشعبية بسرعة خارقة وانتشرت الأفكار الماركسية انتشارا واسعا (ولو بشكل مبسط). هذا، والتحالف لم يعقد بدون أي "شرط". والبرهان: المجموعة الماركسية "وثائق في مسألة التطور الإقتصادي في روسيا"(34) التي أحرقتها الرقابة في سنة 1895. وإذا أمكن مقارنة الإتفاق مع الماركسيين العلنيين في حقل المطبوعات بالتحالف السياسي، فإنه تمكن مقارنة هذا الكتاب بالمعاهدة السياسية. وواضح أن الإنفصال لم يحدث بسبب أن "الحلفاء" قد ظهروا ديموقراطيين برجوازيين. بل بالعكس، فممثلو هذا الاتجاه الأخير هم حلفاء طبيعيون للإشتراكية-الديموقراطية مرغوب فيهم ما دامت القضية تتعلق بمهامها الديموقراطية التي يدفعها إلى المقام الأول الوضع الراهن في روسيا. ولكن الشرط الذي لا بد منه لهذا التحالف هو أن يجد الإشتراكيون الإمكانية التامة ليبينوا للطبقة العاملة التضاد العدائي بين مصالحها ومصالح البرجوازية. هذا في حين أن البرنشتينية والإتجاه "النقدي" اللذين اتجه إليهما أفواجا معظم الماركسيين العلنيين كان من شأنهما أن يسقطا هذه الإمكانية ويفسدا الوعي الإشتراكي بتحقيرهما الماركسية وتبشيرهما بنظرية طمس التناقضات الإجتماعية وإعلانهما بطلان نظرية الثورة الإجتماعية وديكتاتورية البروليتاريا وجعلهما حركة العمال والنضال الطبقي تريديونيونية ضيقة ونضالا "واقعيا" في سبيل إصلاحات طفيفة وتدريجية. وقد كان يعني هذا تماما إنكار الديموقراطية البرجوازية على الاشتراكية الحق في الاستقلال، وبالتالي الحق في الوجود؛ وكان يعني هذا في الواقع النزوع إلى تحويل حركة العمال وهي في بدئها إلى ذيل لليبراليين. وطبيعي أن الإنفصال كان في مثل هذه الظروف أمرا لابد منه. ولكن الخاصة التي "تفردت" بها روسيا تجلت في كون هذا الإنفصال قد آل إلى مجرد إبعاد الاشتراكيين-الديموقراطيين عن المطبوعات "العلنية" الأوسع انتشارا والأقرب إلى متناول الجمهور. فقد اعتصم فيها "الماركسيون السابقون" الذين تجمعوا "تحت شعار النقد" وحصلوا على ما يشبه الإحتكار في "سحق" الماركسية. وسرعان ما أصبحت هتافات: "ضد الأرثوذكسية" و"فلتحيى حرية النقد" (الهتافات التي تكررها الآن "رابوتشييه ديلو") عبارات تطابق الموضة. ولم يصمد أمام هذه الموضة لا الرقباء ولا الدرك، يدلنا على ذلك صدور ثلاث طبعات روسية لكتاب برنشتين(35) الذائع الصيت (الذائع الصيت على طراز هيروسترات) أو امتداح زوباتوف لكتب برنشتين والسيد بروكوبوفيتش وأضرابهما ("الإيسكرا"، العدد 10). وتواجه الاشتراكيين-الديموقراطيين الآن مهمة صعبة بحد ذاتها، زادتها صعوبة إلى حد لا يتصور عقبات خارجية صرف، هي مهمة النضال ضد التيار الجديد. وهذا التيار لم يقتصر على ميدان المطبوعات. فقد رافق الانعطاف نحو "النقد" ميل مقابل من جانب الاشتراكيين-الديموقراطيين العاملين في ميدان التطبيق نحو "الإقتصادية". إن كيفية نشوء وتطور الصلة والتبعية المتبادلة بين النقد العلني و"الإقتصادية" غير العلنية هي مسألة هامة يمكن أن تكون موضوع مقال مستقل. حسبنا أن نشير هنا إلى أن هذه الصلة موجودة دون شك. فالـ"Credo"• المشهور ما كان ليكتسب هذه الشهرة المستحقة لولا أنه قد صاغ بصراحة هذه الصلة وكشف عن غير عمد الإتجاه السياسي الأساسي في "الإقتصادية": ليقم العمال بالنضال الإقتصادي (وكان من الأدق أن يقال: النضال التريديونيوني، لأن التريديونيونية تشمل كذلك سياسة عمالية صرفا)، وليندمج المثقفون الماركسيون مع الليبراليين من أجل "النضال" السياسي. إن النشاط التريديونيوني "في الشعب" قد ظهر تنفيذا للنصف الأول من المهمة، والنقد العلني تنفيذا للنصف الثاني. وقد كان هذا التصريح سلاحا ضد "الإقتصادية" ممتازا لدرجة تحتم معها اختراع "Credo" لو لم يكن "Credo" موجودا. لم يخترع "Credo" اختراعا، ولكنه نشر بدون موافقة واضعيه، وربما رغم إرادة واضعيه. وعلى كل حال فإن كاتب هذه الأسطر الذي ساهم في إخراج "البرنامج" الجديد إلى وضح النهار، قد تأتى له أن يسمع الشكاوي واللوم بسبب أن نظرات الخطباء التي لخصوها على الورق قد وزعت في نسخ ولقبت بالـ "Credo" ونشرت، فوق ذلك في الصحف في وقت واحد مع الإحتجاج! نذكر هذا الحادث لأنه يكشف عن سمة من سمات "الإقتصادية" عندنا تسترعي انتباها كبيرا هي الخوف من العلنية. إنها على وجه الدقة سمة "الإقتصادية" بوجه عام، لا سمة واضعي الـ "Credo" وحدهم: فقد أظهرتها "رابوتشايا ميسل"(37)، أشرف أنصار "الإقتصادية" وأكثرهم صراحة، كما أظهرتها "رابوتشييه ديلو" (التي أغضبها نشر الوثائق "الإقتصادية" في "Vademecum"(38) وأظهرتها لجنة كييف التي لم ترغب منذ نحو سنتين بالسماح بنشر عقيدتها "Profession de foi"(39) في وقت واحد مع الرد المكتوب ضدها، وأظهرها كثيرون وكثيرون من ممثلي "الإقتصادية". إن هذا الخوف من النقد، الذي يظهره أنصار حرية النقد، لا يمكن تفسيره بمجرد المكر (وإن كان المكر يلعب دوره أحيانا: فمن غير المعقول أن تعرض لهجمات الخصوم نبتات اتجاه جديد لم يشتد عودها بعد!). لا. إن أكثرية "الإقتصاديين" ينظرون مخلصين كل الإخلاص (وجوهر "الإقتصادية" نفسه يحملهم على النظر) بعدم رضى إلى كل مظهر من مظاهر المناقشات النظرية والخلافات بين الفرق والمسائل السياسية الواسعة ومشاريع تنظيم الثوريين وما شابه ذلك. "يحسنون صنعا لو أحالوا كل هذا إلى الخارج!" - هذا ما قاله لي ذات يوم أحد "الإقتصاديين" المنسجمين إلى حد كاف، معربا بذلك عن نظرة واسعة الإنتشار (ولنقل مرة أخرى أنها تريديونيونية صرف) مآلها: تهمنا حركة العمال، تهمنا منظمات العمال هنا في منطقتنا، وما عدا ذلك هو من اختلاقات "المذهبيين"، هو "مغالات في تقدير أهمية الإيديولوجيا" حسب تعبير واضعي الرسالة المنشورة في العدد 12 من "الإيسكرا" ترديدا لما جاء في العدد 10 من "رابوتشييه ديلو". نتساءل الآن: نظرا لهذه الخصائص التي يتصف بها "النقد" الروسي والبرنشتينية الروسية، بم كان ينبغي أن تتلخص مهمة الذين أرادوا أن يكونوا خصوما للإنتهازية فعلا، لا قولا فقط؟ كان ينبغي، أولا، الإهتمام باستئناف ذلك العمل النظري الذي لم يكد يبتدئ في عهد الماركسية العلنية والذي ألقي الآن مرة أخرى على عاتق المناضلين السريين؛ فبدون هذا العمل لم يكن بالإمكان نمو الحركة بنجاح. وكان من الضروري، ثانيا، القيام بنضال نشيط ضد "النقد" العلني الذي كان يفسد العقول إفسادا شديدا. وكان من الضروري، ثالثا، النضال النشيط ضد التبعثر والتردد في الحركة العملية بكشف ودحض كل محاولة تبذل، بوعي أو بغير وعي، للحط من مكانة برنامجنا وتكتيكنا. أما أن "رابوتشييه ديلو" لم تقم بالواجب الأول ولا الثاني ولا الثالث، فهو أمر معروف، وسنبين فيما يأتي من البحث بالتفصيل ومن جميع الوجوه هذه الحقيقة المعروفة. وكل ما نريد أن نبينه الآن هو مبلغ التناقض الصارخ بين مطلب "حرية النقد" وخصائص نقدنا الوطني و"الإقتصادية" الروسية. فلنلق إذن نظرة على نص القرار الذي اتخذه "اتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس في الخارج" وأكد به وجهة نظر "رابوتشييه ديلو": "بغية استمرار تطور الاشتراكية-الديموقراطية الفكري نعترف بأن حرية نقد النظرية الاشتراكية-الديموقراطية في المطبوعات الحزبية أمر ضروري تماما، ما دام هذا النقد لا ينافي طابع هذه النظرية الطبقي والثوري" ("مؤتمران"، ص10). والحيثيات: أن القرار "في قسمه الأول يطابق قرار مؤتمر الحزب في لوبك بصدد برنشتين"… إن "جماعة الإتحاد" لطيبة قلوبهم لا يلاحظون أي testimonium paupertatis (شهادة فقر الحال) يسجلون على أنفسهم بهذا النسخ!.. "ولكنه… في قسمه الثاني يقيد حرية النقد إلى حد أكبر مما فعل مؤتمر الحزب في لوبك". وهكذا فإن قرار "الإتحاد" موجه ضد البرنشتينيين الروس؟ وإلا فإن الإستشهاد بلوبك ليس له معنى على الإطلاق! ولكن ليس صحيحا أنه "يقيد إلى حد كبير حرية النقد". فالألمان قد رفضوا بندا بندا بقرارهم في مؤتمر هانوفر تلك التعديلات التي قدمها برنشتين بالذات، بينما بقرارهم في مؤتمر لوبك، وجهوا إنذارا شخصيا لبرنشتين ذاكرين اسمه في القرار. هذا في حين أن المقلدين "الأحرار" عندنا لم يشيروا ولو تلميحا إلى أي مظهر من مظاهر "النقد" الروسي الخاص و"الإقتصادية" الروسية الخاصة. ونظرا لهذا التكتم، يفسح التلميح المجرد إلى طابع النظرية الطبقي والثوري مجالا أكبر بكثير للتأويلات الكاذبة، لا سيما إذا كان "الإتحاد" يرفض إدراج "ما يدعى بالإقتصادية" ضمن الإنتهازية ("مؤتمران". ص8، البند1). ولكننا نقول هذا في سياق الحديث. أما الأمر الرئيسي فهو أن موقف الإنتهازيين حيال الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين يختلف في ألمانيا عنه في روسيا كل الإختلاف. فمن المعروف أن الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين في ألمانيا يريدون المحافظة على ما هو كائن، يريدون المحافظة على البرنامج القديم والتكتيك القديم المعروفين للجميع واللذين شرحهما بجميع تفاصيلهما اختبار عشرات السنين. أما "النقاد" فيريدون إحداث تغيرات؛ ولما كان هؤلاء النقاد أقلية ضئيلة وكانت مساعيهم التحريفية حيية جدا، عرفنا السبب الذي يجعل الأكثرية تكتفي برد "البدعة" ببرود. ولكن النقاد و"الإقتصاديين" عندنا، في روسيا، يريدون المحافظة على ما هو كائن: يريد "النقاد" أن يستمر الناس في اعتبارهم ماركسيين وأن تضمن لهم "حرية النقد" التي استغلوها من جميع الوجوه (لأنهم لم يعترفوا في الجوهر بأي ارتباط حزبي، فضلا عن أنه لم تكن عندنا أية هيئة حزبية يعترف بها الجميع وتستطيع أن "تحد" من حرية النقد ولو بالنصح)، ويريد "الإقتصاديون" من الثوريين أن يعترفوا "بالحقوق الكاملة للحركة في وضعها الراهن" ("رابوتشييه ديلو"، العدد 10، ص 25) أي "بشرعية" وجود ما هو موجود، يريدون أن لا يحاول "الإيديولوجيون" "صرف" الحركة عن الطريق الذي "يحدده تفاعل العناصر المادية والبيئة المادية" ("الرسالة" في العدد 12 من "الإيسكرا")، أن يُعترف بأن من المرغوب فيه القيام بالنضال "الذي يمكن للعمال القيام به في الظروف الراهنة" وأن يُعترف بأن النضال الممكن هو ذلك النضال "الذي يقومون به في الواقع في الظرف الراهن" ("الملحق الخاص لـ"رابوتشايا ميسل""(40)، ص 14). أما نحن، الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين، فنحن، على العكس، غير راضين عن هذا السجود أمام العفوية، أي أمام ما هو كائن "في الظرف الراهن"؛ نحن نطلب تغيير التكتيك الذي ساد في السنوات الأخيرة، ونحن نعلن: "قبل أن نتحد ولكيما نتحد ينبغي في البدء أن نعين بيننا التخوم بحزم ووضوح" (من إعلان عن إصدار "الإيسكرا"). وبكلمة، يتمسك الألمان بوضع الأمور الراهن ويرفضون التغييرات، ونحن نطلب تغيير وضع الأمور الراهن، رافضين السجود أمام الوضع الراهن والتسليم به. إن هذا الفرق "الصغير" هو الأمر الذي لم يلاحظه نساخو القرارات الألمانية "الأحرار"عندنا!
يتبع