الإسراف الرأسمالي والبعث والنشور - الزمر
طلعت خيري
2024 / 12 / 2 - 08:33
من كتبت له الحياة وبلغ مرحلة الوعي الكامل وأدرك علم الآخرة سواء كان من الكتاب أو من الثقافة العامة فليستعد للاستجواب الأخروي ، فالآخرة ليست بعيدة ، لأننا لن نشعر بالزمن بعد الموت بغض النظر عن طوله أو قصره ، وعلى البالغ ان يتقي يوم الحساب ، فلن تتركك حرا وان تجاهلت البعث والنشور، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، ولكي يحافظ الفكر الوثني الشركي لأهل مكة على الطبقة الرأسمالية من التأثيرات الفكرية الاخروية ، طرح عليها بدائل مجزية عن العذاب كالاستعانة بمصادر تراكم رأس المال مثل الأرصدة المالية وأرباح التجارة والعقارات والثروة الحيوانية ، للطرح أبعاد سياسية منها لمنع الرأسماليين من الامتثال للتهديد والوعيد الأخروي ، واقتصادية للاستمرار في تقديم الدعم المالي لطقوس وشعائر الملائكة بنات الله ، اطلع التنزيل الطبقة الرأسمالية على المصير الأخروي لمنكري البعث والنشور قائلا ، ولو ان للذين ظلموا ما في الأرض جميعا من أمول وكنوز وتجارة وثروة حيوانية ، ومثله ومعه أضعاف مضاعفة ، لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات ما كسبوا، كسبوا هو الكسب المالي من وراء أكاذيب وافتراءات الدين ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{47} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون{48}
تاريخ الأمم الرأسمالية حافل بالمخازي لتصديها للأنبياء والرسل وإنكارها للبعث والنشور الأخروي ، كقوم صالح وشعيب ، أما على مستوى الأفراد، كان قارون مثلا تاريخيا على انهيار تراكم رأس المال ، عرض التنزيل على المجتمع المكي ازدواجية المعاير الاعتقادية التي يتبعها المشرك بالله في الظروف الاقتصادية المتقلبة ، التي تجعل الاعتقاد متلون بين الله وبين الشريك به قال الله ، فإذا مس الإنسان ضر والضر يشمل الانهيار الاقتصادي والهبوط المفاجئ لأسعار العملات وانحباس الأمطار ونفوق الثروة الحيوانية والآفات الزراعية ، فإذا مس الإنسان ضرنا دعنا ، بمعنى دعا الله وحده دون شريك ، ثم إذا خولناه نعمة منا أي فتحنا علية أبواب النعم والرفاهية ، أنكر الله لاجئ الى الشريك لينسب له الانتعاش المعيشي وارتفاع الدخل ، أما الرأسمالي فينسب تراكم رأس المال الى نفسه قائلا ( إنما اوتيته على علم عندي) بمعنى بجهد مني بعد دراسة جدوى المشاريع الاستثمارية ليعكس قدرته العقلية والذهنية في كسب الأموال من المصادر المتعددة ، لاغيا دور المسخرات المادية السماوية والارضية التي ساعدته في جمع المال رد الله عليه قائلا ، بل هي فتنته ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، لا يعلمون ان الانهيار الاقتصادي والمالي والإفلاس يفتك بالأمم والأفراد دون إنذار سابق
فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{49}
الرأسمالية والدين السياسي وجهان لعملة واحدة لهما تاريخ مخزي في استغلال الدين للمصالح الاقتصادية ، كانت قصة قارون الرأسمالي بداية التوافق التاريخي ما بين الدين والسياسة والمال ، راسما للطوائف ثاثير المال والرفاهية على عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر ، ولكي يحمي قارون تراكم رأس المال من الانهيار النقدي المفاجئ حوله الى كنوز، عارضا بعض منها على الذين امنوا من بني إسرائيل ليكشف مدى ذكائه وحنكته في جمع المال ودوره في تحقيق الرفاهية والانتعاش المعيشي ، ولكن ذلك لم يحميه من الانهيار المالي الذي بات دليلا عقائديا للذين تمنوا مال قارون بالأمس ، فلما أصبح وضعهم والمالي أفضل منه بكثير قالوا ، ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا ان مَّن الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ، كانت الأمم الرأسمالية السابقة تردد عبارة (إنما اوتيته على علم عندي) وتعني الرزق من الله ، والمال من أرباح التجارة ، فلما رددها الرأسماليون المكيون ذكَّرهم الله برأسماليين من قبلهم قائلا ، قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ، يكسبون الكسب المالي من الافتراءات والاعتقادات والخرافات والأساطير الدينية ، فأصابهم سيئات ما كسبوا ، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{50} فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{51}
الرزق مصطلح معيشي متواضع تطلقه الطبقة الفقيرة والكادحة على دخلها المحدود الذي تحصل عليه من العمل والمهن والحرف والوظيفة ، أما الرأسمالية لا تعترف بالرزق على انه مصطلح مالي معيشي يلاءم الطبقات الأخرى، منفردة بعبارة طبقية تاريخية (إنما اوتيته على علم عندي) وتعني حديثا ديناميكية الأرباح لمراكمة رأس المال ، بعد الأمثال التاريخية المخزية التي ضربها الله على قارون والأمم الرأسمالية السابقة ، توجه التنزيل الى الرأسمالية المكية التي هي الأخرى تردد عبارة (إنما اوتيته على علم عندي) قائلا ، أولم يعلموا ان الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لا يأت لقوم يؤمنون
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{52}
الكسب اللامشروع والأهواء والرغبات الشخصية والتفكير المفرط بالأرباح بلور سيكولوجيا الإسراف المالي ، لتغطية الرفاهية والملذات الجسدية ، فالزنا وتجارة الجنس والعبيد من مصادر تراكم رأسمال المكي، كان لتهديد العذاب الأخروي ، والأمثال التاريخية التي ضربها الله على الأمم الرأسمالية السابقة ، دورا في إيمان بعض الرأسماليين من أهل مكة ، فاخذوا يستفسرون عن مصير إسرافهم الدنيوي ، خاطبهم الله قائلا ، قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{53}
شرح الله للمؤمنين الرأسماليين آلية المغفرة ليطلعوا على الإجراءات الإيمانية المكملة لها ، مؤكدا لهم ان الإيمان بالله واليوم الأخر غير مجزي عن المغفرة ان استمروا في مزاولة الإسراف على الملذات والأهواء الرغبوية ، فمن إجراءات المغفرة ، أولا - وأنيبوا ، أنيبوا ارجعوا الى ربكم واسلموا له ، اسلموا تعني تسليم كافة أمور الرزق لله دون الإشراك به ، من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ، ولكي تبقى المغفرة سارية المفعول الى يوم الحساب يجب دعمها بالأعمال الإيمانية التي نصت عليها آيات الكتاب ، ثانيا - واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم ، انزل في كتاب القران ، من قبل ان يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ{54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{55}
حذر الله المؤمنين الرأسماليين من تجاهل إجراءات المغفرة أعلاه التي نصت عليها آيات الكتاب المنزل ، رافضا كافة الأعذار التي سيأتون بها يوم الحساب ، ليبرروا أسباب عودتهم الى الكسب اللامشروع ، والإسراف المالي والجسدي على الملذات الدنيوية
قال الله
أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ{56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ{58} بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ{59}